كتاب : مسائل الانتقاد 2 / 2 ابن شرف القيرواني
خاص ألف
2014-05-19
قال: زهير بن ابي سلمى على ما وصفناه به ووصفه غيرنا، من العلو والرفعة، في هذه الصنعة، من مذهبته الحكمية، ومعلقته العلمية:
رأيت المَنايا يا خَبط عَشواءَ من تُصِب ... تُمتْه ومن تُخطئْ يُعمَّر فيهرم
وقد غلط في وصفها بخبط العشواء، على أننا لا نطالبه بحكم ديننا، لأنه لم يكن على شرعنا، بل نطلبه بحكم العقل فنقول: إنما يصح قوله لو كان بعض الناس يموت وبعضهم ينجو، وقد علم هو وعلم العالم، حتى البهائم، ان سهام المنايا لا تخطيء شيءاً من الحيوان حتى يعمها رشقها، فكيف يوصف بخبط العشواء رام لا يقصد غرضا من الحيوان إلا أقصده حتى يستكمل رمياته، في جميع رمياته. وإنما أدخل الوهم على زهير موت قوم عبطة وموت قوم هرماً، وظنوا طول العمر إنما سببه إخطاء المنية، وسبب قصره إصابتها. وهيهات الصواب من ظنه لم يؤخر الهرم إلا أنها قصدته فحين قصدته أصابته. ولو أن الرماة تهتدي كاهتدائها، لملأت أيديها بأقصى رجائها.
وقال زهير أيضاً في مذهبته:
ومَن لا يَذُدْ عن حَوضه بسلاحه ... يُهَدَّم ومن لا يَظلم الناسَ يُظلَم
وقد تجاوز هذا الحق الباطل، وبني قولاً لا ينقصه جريان العادة، وشهادة المشاهدة؛ وذلك أن الظلم وعرة مراكبه، مذمومةٌ عواقبه، في جاهليته وإسلامنا. فحرض في شعره عليه، وإن كان إنما أشار في شعره إلى أن الظالم يرهب فلا يظلم، فهذا قياس ينفسد، واصل ليس يطرد، لكن يرهبه من هو أضعف منه، وربما انتقم منه بالحيلة والمكيدة. وقد يظلم الظالم من يغلبه فيكون ذلك سبب هلاكه مع قباحة السمة بالظلم. والمثل إنما يضرب بما لا ينخرم، وقد كانت له مندوحة واتساع في أن يقول: )يهدم، ومن لا يظلم الناس يظلم( فهذا أصح وأسلم من من لا يظلم ويظلم.
قال أبو الريان: وقال زهير أيضاً، وهو من أطيب شعره وأملحه عند العامة، وكثير من الخاصة، فهاهنا تحفظ وتأمل، ولا يهلك ذلك منهم، الحق أبلج. قال:
تراه إذا ما جئتَه مُتَهلّلا ... كأَنك تُعطيه الذي أنت سائلُه
مدح بها شريفاً أي شريف، فجعل سروره بقاصده كسروره بمن يدفع شيءاً من عرض الدنيا إليه. وليس من صفات النفوس العارفة السامية، والهمم الشريفة العالية، إظهار السرور إلى أن تهلل وجوههم وتسر نفوسهم بهبة الواهب، ولا شدة الابتهاج بعطية المعطي، بل ذلك عندهم سقوط همة وصغر نفس. وكثير من ذوي النفوس النفيسة، والأخلاق الرئيسية، لا يظهر السرور متى رزق مالاً عفواً بلا منة منيل، ولا يد معطٍ مستطيل؛ لأنه عند نفسه أكبر منه، ولأن قدر المال يقصر عنه؛ فكيف يمدح ملك كبير كثير القدر، عظيم الفخر، بأنه يتهلل وجهه ويمتلئ سروراً قلبه، إذا أعطى سائله مالاً. هذا نقض البناء، ومحض الهجاء، والفضلاء يفخرون بضدٍّ هذا، قال بعضهم:
ولستُ بِمِفراح إذا الدهرُ سرَّني ... ولا جَزع من صَرفه المتقلّب
وإنما غرَّ زهيراً وغرَّ المُستحسن بيته هذا ما جبلوا عليه من حب العطاء، وما جرت به عاداتهم من الرغبة في الهبات والاستجداء؛ وليس كل الهمم تستحسن ذلك، ولا كل الطباع تسلك هذا المسالك.
قال أبو الريان: وقال زهير أيضاً يمدح سادةً من الناس فذمهم بأنواع الذم، وأكثر الناس على استحسان ما قال، بل أظن كلهم على ذلك، وهو قوله:
على مُكثِريهم حقُّ من يَعْتريهمُ ... وعند المقلّين السماحةُ والبذْل
فأول ما ذمَّهم به إخباره أن فيهم مُكثرين ومُقلّين. فلو كان مُكثروهم كرماء لبذلوا لمقليهم الأموال، حتى يستووا في الحال، ويشبهوا في الكرم والحال، الذين قال فيهم حسان:
المُلحقين فقيرَهم بغنيِّهم ... والمُشفقين على اليتيم المُرْمل
المُرْمِلُ: القليل المال، وأرمل الرجل: إذا قل زاده. وكما قال غيره:
الخالطينَ فقيرَهم بغنيِّهم؟ ... حتى يعود فقيرُهم كالكافي
وكما قالت الخرنق:
الخالطينَ لُجينَهم بنُضارهم ... وذوي الغِنى منهم بذي الفَقْر
وكما قالت الخرنق:
الخالطينَ لُجينَهم بنُضارهم ... وذوي الغِنى منهم بذي الفَقْر
فهذا كله، وأبيك، غاية المدح، النقي من القدح. ثم استمع ما في هذا البيت سوى هذا من الخلل والزلل. قال:
على مُكثريهم حقُّ مَن يعتريهمُ ... وعند المُقلِّين السماحةُ والبذْلُ
ففي هذا القسم الأول عيوبٌ على المكثرين منهم، منها أنهم ضيعوا القريب كما قدمنا، ورعوا حق الغريب، وصلة الرحم أولى ما بديء به. ومن مكارم العرب حميتها لذوي أنسابها، وذبها عن أحسابها؛ والأقرب فالأقرب، وما فضل عن ذلك فللأبعد. ثم أخبر أن المكثيرين ليس يسمحون بأكثر من الاستحقاق في قوله: على مُكثريهم حقُّ من يعتريهمُ ومن أعطى الحق فإنما أنصف ولم يتفضل بما وراء الإنصاف، والزيادة على الإنصاف أمدح. ثم أخبر في البيت أن المقلين على قدر قصور أيديهم أكرم طباعاً من مكثريهم على قدرهم في قوله: وعند المقلين السماحةُ والبذْل والبذْل مع الإقلال مدح عظيم وإيثار، والسماحة أعطاء غير اللازم، فمدح بشعره هذا من لا يحظى منه بطائل، وذم الذين يرجو منهم جزيل النائل؛ وهذا غاية الغلط في الاختيار، وفي ترتيب الأشعار. ولزهير غير هذا من السقطات لولا كلفة الاسقتصاء. هذا على اشتهاره بأنه أمدح الشعراء، وأجزل الوافدين على الأشراف والأمراء؛ وسيتعامى المتعصب له عن وضوح هذا البيان، وسينكر جميع هذا البرهان؛ ويجعل التفتيش عن غوامض الخطأ والصواب استقصاء وظلماً، ومطالبة وهضما، وزعم أن جميع الشعر لو طلب هذه المطالبة لبطل صحيحه، وانعجم فصيحه، والباطل الذي زعم، والمحال الذي به تكلم؛ فالسليم سليم، والكليم كليم، وإنما سمع المسكين أن أملح الشعر ما قلت عباراته، وفهمت إشاراته؛ ولمحت لمحه، وملحت ملحه؛ ورققت حقائقه، وحققت رقائقه؛ واستغني فيه بلمحه الدالة، عن الدلائل المتطاولة؛ وأمثال هذا الكلام، في استعمال النظام. فتوهم أن خلل الشعر وزلله وضعف أركانه، وتناقض بنيانه، وانقلاب لفظه لغو، وانعكاس مدحه عجو؛ إذا خلا مما قدمنا من الأوصاف المستحسنة، من لمح إشاراته، وملح عباراته، فعامل هذا الصنف، بعطفك عنهم للعطف، ورفعك عليهم الأنف، وأعرض عنهم بالفكر والذكر، كبراً وإن لم تكن من أهل الكبر.
وفيما أطلعتك عليه من شعر هذين الفحلين، والمتقدمين القديمين، ما يغني عن التفتيش على سقطات سواهما، فقس على ما لم تره بما ترى، واعلم أن كل الصيد في جوف الفرا.
قال أبو الريان: ومن عيوب الشعر اللحن الذي لا تسعه فسحة العربية، كقول الفرزدق:
وعَضّ زمانٌ يابن مروان لم يَدَعْ ... من المال إلا مُسحتاً أو مجلفُ
فرفع )مجلفاً( وحقه النصب. وقد تحيل له بعض النحويين بكلام كالضريع، لا يسمن ولا يغني من جوع، وكقول جرير بن الخطفى:
ولو ولدتْ فُقيرةُ جروَ كَلبٍ ... لسُبّ بذلك الجرو الكلابَا
فنصب )الكلاب( بغير ناصب. وقد تحيّل أيضاً بعض النحويين على وجهٍ، الإقفاء أحسن منه، فاحذر هذا ومثله. وإياك وما يعتذر منه بفسيح من العذر، فكيف بضيق ضنك.
قال: ومما يعاب به الشعر، ويستهجنه النقد، خشونة حروف الكلمة، كقول جرير:
وتقولُ بَوزَعُ قد دببتَ على العصا ... هلاً هزِئْتِ بغيرنا يا بَوْزَعُ
وهذا البيت في قصيدة من أحلى قصائد جرير وأملحها، وأجزلها وأفصحها، فثقلت القصيدة كلها بهذه اللفظة.
وللفرزدق أيضاً لفظات خشنة الحروف كهذه تجدها في شعره. قال: ويكره النقاد تعقيد الكلام في الشعر وتقديم آخره وتأخير أوله، كقول الفرزدق:
؟وما مثله في الناس إلاّ مملّكاً ... أبو أمه حيّ أبوه يُناسبه
يمدح به إبراهيم بن هشام المخزومي، وهو خال هشام بن عبد الملك. فمعنى هذا الكلام أن إبراهيم بن هشام ما مثله في الناس حي إلا مملك. يعني هشاماً أبا أمه، أي جد هشام لأمه أبو إبراهيم هذا الممدوح، فهو خاله أخو أمه، فهو يشبهه في الناس لا غير، وهذا غاية التعقيد والتنكيد، وليس تحته شيء سوى أنه شريف كابن أخته شريف.
قال أبو الريان: ومن شر عيوب الشعر كلها الكسر، لأنه يخرجه عن نعته شعراً، وليس مما يقع لمن نعت بشاعر. فأما الإقواء، والإبطاء، والسناد، والإكفاء، والزحاف، وصرف ما لا ينصرف، فكل ذلك يستعمل، إلا أن السالم من جميع ذلك أجمل وأفضل.
قال: ومن عيوبه المذمومة مجاورة الكلمة ما لا يناسبها ولا يقاربها، مثل ول الكميت: حتى تكامل فيها الدلُّ والشَّنبْ وكما قال بعض المتأخرين في رثاء:
فإنّك غُيّبتَ في حُفرة ... تراكم فيها نعيمٌ وحورُ
وإن كان النعيم والحور من مواهب أهل الجنة، فليس بينهما في النفوس تقارب. ولا لفظة )تراكم( مما يجمع بين )الحور( ولا )النعيم(.
ومثله قول بعضهم:
والله لولا أنيقال تغيّرَا ... وصبا وإنْ كان التصابي أجدرَا
لأعاد تُفَّاح الخدود بَنفسجاً ... لثمي وكافورَ الترائب عنبرَا
فالتفاح ليس من جنس البنفسج، لأن التفاح ثمرة والبنفسج زهرة. وقد أجاد في جمعه بين الكافور والعنبر، لأنهما من قبيل واحد. ولو قال:
لأعاد ورد الوَجنتين بنفسجاً ... لَثْمي وكافورَ الترائب عنبرَا
لأجاد الوصف، وأحسن الرصف، لكون الورد من قبيل البنفسج. فهذا النوع فافتقد، وهذا الشرع فاعتمد.
قال أبو الريان: ولفضلاء المولدين سقطات مختلفات في أشعارهم، أذاكرك منها في أشياء، لتستدل بها على أغراضك، لا لطلب الزلات، ولا لاقتفاء العثرات: كان بشار تتباين طبقات شعره، فيصعد ]صغيرها[ كبيرها، ويهبط قليلها كثيرها. وكذلك كان حبيب بن أوس الطائي. فإذا سمعت جيدهما، كذبت أن رديهما لهما؛ وإذا صح عندك أن ذلك الردي لهما، أقسمت أن جيدهما لغيرهما.
قال: ومما يعاب من الشعر الافتتاحات الثقيلة. مثل قول حبيب أول قصيدة:
هُنَّ عوادي يوسفٍ وصواحبُه ... فعزماً فَقدْماً أدرك الشأوَطالبُه
ومثل قول ديك الجنّ أولَ قصيدة:
كأَنها يا كأنه خللَ الخلّة ... وقف الهلوك إذْ بغَمَا
فابتدأ هو وحبيب بُمضمرات على غير مظهرات قبلها، وهو رديء.
قال: ويعاب أيضاً الافتتحات المتطير بها، والكلام المضاد للغرض، كابتداء قصيدة أبي نواس التي أنشدها الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي يهنئه ببنيانه الدار الجديدة، فدخل إليه عند كمالها وقد جلس للهناء والدعاء، وعنده وجوه الناس، فأنشده:
أرَبعَ البِلى إنَّ الخُشوع لبادِي ... عليك وإنّي لم أَخُنك ودادي
فتطير الفضلُ من ذلك ونكس رأسه، وتناظر الناس بعضهم إلى بعض، ثم تمادى فختم الشعر بقوله:
سلامٌ على الدُّنيا إذا ما فُقدتُم ... بنى بَرمك مِن رائحين وغادِي
فكمل جهله، وتم خطؤه؛ وزاد القلوب المتوقعة للخطوب سرعة توقع، واضاف للنفوس المتوجعة بذكر الموت شدة توجع؛ وأراد أن يمدح فهجا، ودخل ليسر فشجا.
قال: وقريب من هذا ما وقع للمتنبي في أول شعر أنشده كافورا:
كفى بكَ داءً أن ترى الموتَ شافياً ... وحسبُ المنايا أن يكنَّ أمانيَا
فهذا خطاب بالكاف بفتح ولا سيما في أول لقيه، وفي ابتداء واستعطاف ورقية. وفي هذا البيت غير هذا من العيوب سنذكره بعد.
ووق مثل هذا من قبح الاستفتاح في عصرنا، وذلك أن بعض الشعراء أنشد بعض الأمراء في يوم المهرجان فقال:
لا تَقُل بُشْرَى ولكن بُشْرَيَان ... وجهُ من أهوى ووجه المِهْرَجان
فأمر بإخراجه، واستطار بافتتاحه، وحَرمه إحسانه.
قال أبو الريّان: ولو كان هذا الشاعر حاذقاً لكان إصلاح هذا الفساد أيسر الأشياء عليه، وذلك بأن يعكس البيت فيقول:
وجه من أهوى ووجه المِهرجان ... أي بُشرى هي لا بل بُشريان
قال: ويقبح جداً الإتيان بكلمة القافية معجمة لا ترتبط بما قبلها من الكلام، وإنما هي مفردة لحشو القافية، كقول بعضهم:
فَبُلّغْتَ المنى برغم أعادي ... ك وأبقالك سالماً ربُّ هود
فأنت ترى غثاثة هذه القافية، والله تعالى رب جميع الخلق وكل شيء، فخص هوداً عليه السلام وحده لضعف نقده وعجزه عن الإتيان بقافية تليق وتحسن.
قال: ويقبح أيضا الجفاء في النسب على الحبيب والتضجر ببعده، وغلظة العتاب على صده، كقول أبي نواس:
أجارة بيتينا أبوك غَيورُ ... ومَيْسورُ ما يُرجى لديك عَسيرُ
فإن كنتِ لا خلاّ ولا أنت زوجةٌ ... فلا بَرحت منّا عليك سُتور
وجاورتِ قوماً لا تَزَاورَ بينهم ... ولا قُربَ إلا أن يكون نُشور
فلم أسمع بأوحش من هذا النسيب، ولا أخشن من هذا التشبيب، وذلك قوله: إن لم تكوني لي زوجة ولا صديقة فلا برحت منا ستور للتراب عليك، ولا كان جارك ما عشنا نحن إلا الموتى الذين لا يتزاورون ولا يتواصلون إلى يوم النشور. على أن كلامه يشهد عليه بأنه شاك، وإنما المعروف في أهل الرقة والظرف، والمعهود من أهل الوفاء والعطف؛ أن يفدوا أحبابهم بالنفوس، من كل مكروه وبوس؛ فأين ذهبت ولادته البصرية، وآدابه البغدادية؛ حتى اختار الغدر على الوفاء، وبلغت به طباعه إلى أجفى الجفاء؟ فاعلم هذا وإياك أن تعمل به.
قال: ومن عيوب الشعر السرق. وهو كثير الأجناس، في شعر الناس. فمنها سرقة ألفاظ، ومنها سرقة معان؛ وسرقة المعاني أكثر لأنها أخفى من الألفاظ. ومنها سرقة المعنى كله، ومنها سرقة البعض، ومنها مسروق باختصار في اللفظ وزيادة في المعنى، وهو أحسن المسروقات، ومنها مسروق بزيادة ألفاظ وقصور عن المعنى، وهو أقبحها؛ ومنها سرقة محضة بلا زيادة ولا نقص. والفضل في ذلك للمسروق منه ولا شيء للسارق، كسرقة أبي نواس في هذه القصيدة التي ذكرنا معنى أبي الشيص بكماله. قال أبو الشيص:
وقف الهوى بي حيثُ أنت فليس لي ... متأخّر عنه ولا مُتقدّمُ
فسرقه الحسن بكماله فقال:
فما حازه جودٌ ولا حلّ دونه ... ولكن يصير الجودُ حيث يصيرُ
فهذا هذا، على أن بيت أبي الشيص أحلى وأطبع، ومع حلاوته جزالة. وقد ذكر عن الحسن أنه قال: ما زلت أحسد أبا الشيص على هذا البيت حتى أخذته منه. وسرقة المعاصر سقوط همة. وبهذه القصيدة يناضل أصحاب الحسن عنه ويخاصمون خصماءه مقرين بأن ليس له افضل منها، ولا لهم إلى سوى القصيدة معدل عنها. فقس بفهمك، وأعمل فكرك، على ما وصفناه من أبواب السرق ما وجدته في أشعار لم أذكرها، يظهر لك جميع ما وصفناه، ويبدو لك جمي ما رسمناه.
قال: ومما يقع في عيوب الشعرن ويغفل الشاعر عنه، ويجوزه الأمر فيه، لصغر جرم العيب، وسلامة اللفظ الذي احتبى فيه، ثم يكون ذلك سبب غفلة النقاد أيضاً عنه مثل قول المتنبي: كفى بك داءَ أن ترى الموت شافيا فضع هذا الكلام على أنه إنما شكا داءه ووصفه بالعظم فعاد شاكياً نفسه، وجعلها أعظم الداء، لأنه أراد كفى بدائك داءً فغلط، وقال: كفى بك داءً. فصار: كفى بالسلامة داء. فالسلامة هي الداء. يريد: طول البقاء سبب للفناء. وقال الله تعالى: )وكفى بنا حاسبين( فالله هو أعظم شهيد: فجعل المتنبي نفسه أعظم الداء، ولم يرد إلا استعظام دائه. وإصلاح هذا الفساد، وبلوغه إلى المراد، أن يقول:
كَفى بالمنايا أن تكن أمانيَا ... وحسبُك داءَ أن ترى الموتَ شافيَا
فيعود الداء المستعظم كما أراد، وتزول خشونة ابتدائه، وشدة جفائه، إذ خاطب الممدوح بالكاف فجعله داء عظيما في أول كلمة سمعها منه.
وقد تأدب خواص الناس وكثير من عوامهم في مثل هذا المكان، فهم يقولون عند مخاطبات بعضهم بعضاً بما يخشن ذكره: قلت للأبعد، ويا كذا أو كذا للأبعد.
ومن عيوب هذا القسم أيضاً أن قائله قصد إلى سلطان جديد، وإلى مكان يحتاج فيه إلى التعظيم والتفخيم، وقد صدر عن ملك نوه به، أعني سيف الدولة، وأغناه بعد فقره، وشرفه ورفعه، وأدنى موضعه. فورد على كافور هذا في مرتبة شريفة، وخطة منيفة؛ فجعل بجهله يصفه في أول بيت لقيه به أنه في حالة لا يرى منها المنية، أو يرى المنية أعظم أمنية. وعلم كافور بذكائه ووصول أخبار الناس إليه أنه في حالةٍ خلاف ما قال، وأنه كفر النعمة من المنعم عليه، وأراه أن جميع ما عامله به من الجاه الواسع، والغنى القاطع، حقير لديه، صغير في عينيه. فعلم كافور في هذا الوقت أنه ممن لا تزكو لديه الصنيعة وإن عظمت، ولا تكبر في عينيه المواهب وإن جسمت؛ ولم يكن في خلق كافور من الصبر على اتساع البذل، ولا من الرغبة في أهل الآداب والفضل، ما عند سيف الدولة من ذلك، فزهد فيه بعد رغبة، وعلله بالقليل، وشاوقه بالجزيل. ورأى المتنبي أن الأسود ليس له في قلبه من الحب والقرى ما له عند سيف الدولة، فلم يدل عليه، ولا كثر من التعتب والعتاب ما يعطفه عليه؛ فأضاع وضاع، وكان يتوقع الإيقاع؛ ولكفران النعم نقم، ثم نجاه ركوب ظهر الهرب، وأقبل يعترف لسيف الدولة بالذنوب. وكان لحنه وشعره شريفين، وعقله ودينه ضعيفين. ومع ذلك فسقطاته كثيرة إلا أن محاسنه أكثر وأوفر، والمرء يعجز لا محالة. وكان يمل إلى تعقيد الكلام، ويعتمد على علمه بقبحه، فيقول من ذلك ما يصف به ناقته:
فتبيت تُسئد مُسئداً في نيّها ... إسآدها في المَهمه الأنضاء
يقول في المدح:
أنّي يكون ابا البريّة آدم ... وأبوك والثّقلان أنت محمد
ويقول في بيت آخر من قصيدة آخرى يمدح بها، والبيت لا يتعلق بشيء مما قبله فيما يظهر ولا فيما بعده بشيء:
كأنك ما جاودتَ من بان جودُه ... عليك ولا قاومتَ من لم تُقاوم
ومثل هذا كثير، وهذه الأجناس من أبيات وإن ظهرت معانيها بعد استقصاء، وأطاعت غوامضها بعد استعصاء؛ فهي مذمومة السلك، وإن اطلعت منها على أجزل الإفادة، فكيف إذا حصلت منها على السلامة بلا زيادة. وكان أيضاً يغفل عن إصلاح أشياء من كلامه على قرب ذلك الإصلاح من الفهم، مثل قوله يرثي أخت سيف الدولة:
يا أخت خيرِ أخٍ يا بنتَ خير أبٍ ... كنايةً بهما عن أشرف النسبِ
فجعل )يا أخت خير( و)بنت خير( كناية عن أشرف النسب، والكناية لا تكون إلا لعلل تتسع فيها التهم، لأن الكناية ستر وتعمية، فما بال شرف النسب يورى عند تورية المعايب، ويكنى عنه والتصريح به من المفاخر والمناقب. وقد غفل عن إصلاح هذا بلفظ فصيح، ومعنى صحيح؛ قد كاد يبرز من الجنان، إلى طرف اللسان، وهو لو فطن إليه:
يا أختَ خير أخٍ يا بنتَ خير أب ... غنى بهذا وذا عن أشرف النسب
قال أبو الريّان: وهذه الجملة التي أثبت لك فيها ما دخل على الشعراء المجيدين من التقصير والغفلة والغلط وغير ذلك، كافية ومغنية عن إيراد سوى ذلك؛ وإن لقيتها بجودة بحث وصحة قياس، ولم تحتج إلى كشف عيوب أشعار الناس.
ولعل قائلاً يقول: مال على هؤلاء وترك سواهم لميله على من بكت، ولتفضيله من عنه سكت. فقل لمن قال ذلك الأمر: على خلاف ما ظننت لم أذكر إلا الأفضل فالأفضل، والأشهر فالأشهر، إذ كانت أشعارهم هي المروية، فالحجة بهم وعليهم هي القوية؛ فقد نقلته على من ميلى عليهم، إلى ميلى الحق إليهم.
قال أبو الريان: فأما نقد المستحسن فتمثيله لك يعظم ويتسع لكثرته، فلا يسعنا ايراده ولكن ما سلم من جميع ما أوردناه فهو في حيز السالم، ثم تتسع طبقات الجودة فيه، وأحسن منه ما اعتدل مبناه، وأغرب معناه، وزاد في محمودات الشعر على سواه، ثم يمدح الأدون فالأدون، بمقدار انحطاطه إلى حيز السلامة، ثم لا مدح ولا كرامة.
قال محمد: فقلت: لله درك يا أبا الريان، فما ألين جانبك، وما أقرب غائبك، وما ألحح طالبك، وما أسعد صاحبك. فقال. أنجح الله مطالبك، وقضى مآربك، وصفى من القذى مشاربك، وبث في الحواضر والبوادي مناقبك.
تمت المقامة المعروفة بمسائل الانتقاد بلطف الفهم والاقتصاد.
والحمد لله أولاً وآخراً، وصلاته على نبيه سيدنا محمد وآله وسلامه.
نهاية الجزء الثاني والأخير
ألف / خاص ألف .
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |