سيد مدينة الحاكمية.. أوراق محمد قطب / عبد الله الرشيد
2014-05-22
الحركة والتكوين
تحت فصل بعنوان «وكانت بيعة»، تروي الحاجة زينب الغزالي، في كتابها «أيام من حياتي» – الذي يوصف في الأدبيات الإخوانية بأنه «وثيقة قيمة، وسجل تاريخي، لحقبة مهمة من تاريخ الدعوة الإسلامية» – قصة إعادة بعث تنظيم الإخوان المسلمين من جديد، بعد قرار حله إثر أحداث المنشية الشهيرة عام 1954 التي تعرض فيها جمال عبد الناصر لمحاولة اغتيال على يد أعضاء من الجماعة.
زينب الغزالي، التي تعد واحدة من أبرز القيادات النسائية في صفوف الإخوان المسلمين، وحظيت بمباركة خاصة من المؤسس حسن البنا، بعد إنشائها لأول جمعية إسلامية نسائية باسم «جمعية السيدات المسلمات»، تقول في مذكراتها: «لما كانت جماعة الإخوان المسلمين معطلا نشاطها بسبب قرار الحل الجاهلي لسنة 1954، كان ضروريا أن يعود إحياء هذا النشاط، لكنه بالطبع سيكون سريا».
تكثفت تحركات مجموعة من الكوادر الإخوانية الذين لم تطلهم حملة الاعتقالات، من أجل إعادة تنظيم صفوف الجماعة من جديد، من أبرزهم عبد الفتاح إسماعيل، وعلي عشماوي، وأحمد عبد المجيد، ومحمد فتحي رفاعي، وعوض عبد العال وآخرون، ضمن ما عرف بتنظيم «سيد قطب»، أو «تنظيم 1965».
في حج عام 1957، كان أول لقاء بين زينب الغزالي وعبد الفتاح إسماعيل، الذي يوصف بأنه «دينامو تنظيم 1965 وثالث ثلاثة أعدموا عام 1966». تروي الغزالي فتقول: «بعد ركعتي الطواف، جلسنا خلف بئر زمزم بالقرب من مقام إبراهيم، وأخذنا نتحدث عن بطلان قرار حل جماعة الإخوان المسلمين ووجوب تنظيم صفوف الجماعة وإعادة نشاطها. واتفقنا على أن نتصل، بعد العودة من الأرض المقدسة، بالإمام حسن الهضيبي، المرشد العام لنستأذنه في العمل. فلما هممنا بالانصراف، التفت علي عبد الفتاح وقال: (يجب أن نرتبط هنا ببيعة مع الله على أن نجاهد في سبيله، لا نتقاعس حتى نجمع صفوف الإخوان، ونفاصل بيننا وبين الذين لا يرغبون في العمل أيا كان وضعهم ومقامهم)، وبايعنا الله على الجهاد والموت في سبيل دعوته».
بدأت التحركات للم شتات الإخوان من جديد، على مستوى محافظات مصر كلها، بتوجيهات وتعليمات تصل من داخل السجن، وفي قصاصات يكتبها سيد قطب تحت مسمى «خيوط خطة»، صدرت، في ما بعد، ضمن كتابه الشهير «معالم في الطريق»، وفقا لما أكده أيضا أحمد عبد المجيد، في مذكراته «الإخوان وعبد الناصر القصة الكاملة لتنظيم 1965».
* مخطط إقامة الدولة الإسلامية
تحكي الغزالي تفاصيل هذا المخطط الذي يبدأ من الإعداد والتكوين التربوي، وصولا إلى إقامة الدولة أو الخلافة الإسلامية، فتقول: «بتعليمات من الإمام سيد قطب، وبإذن الهضيبي، قررنا أن تستمر مدة التربية والتكوين والإعداد ثلاثة عشر عاما – عمر الدعوة في مكة – على أن قاعدة الأمة الإسلامية الآن هم (الإخوان) الملتزمون بشريعة الله وأحكامه. فنحن ملزمون بإقامة كل الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنة في داخل دائرتنا الإسلامية.. والطاعة واجبة علينا لإمامنا المبايع، على أن إقامة الحدود مؤجلة، مع اعتقادها والذود عنها، حتى تقوم الدولة.. وكنا على قناعة كذلك بأن الأرض اليوم خالية من القاعدة التي تتوافر فيها صفات الأمة الإسلامية الملتزمة التزاما كاملا، كما كان الأمر في عهد النبوة والخلافات الراشدة. ولذلك وجب الجهاد على الجماعة المسلمة (…)، حتى يعود جميع المسلمين للإسلام، فيقوم الدين القيم، لا شعارات ولكن حقيقة عملية واقعة».
وتضيف الغزالي: «درسنا كذلك وضع العالم الإسلامي كله، بحثا عن أمثلة لما كان قائما من قبل بخلافة الراشدين، والتي نريدها نحن في جماعة الله الآن، فقررنا بعد دراسة واسعة للواقع القائم المؤلم أنه ليست هناك دولة واحدة ينطبق عليها ذلك، واستثنينا السعودية مع تحفظات وملاحظات يجب أن تستدركها المملكة وتصححها، وكانت الدراسات كلها تؤكد أن أمة الإسلام ليست قائمة، وإن كانت الدولة ترفع الشعارات بأنها تقيم شريعة الله!.. وكان في ما قررناه بعد تلك الدراسة الواسعة، أنه بعد مضي ثلاثة عشر عاما من التربية الإسلامية للشباب والشيوخ والنساء والفتيات، نقوم بمسح شامل في الدولة، فإذا وجدنا أن الحصاد من أتباع الدعوة الإسلامية المعتقدين أن الإسلام دين ودولة، والمقتنعين بقيام الحكم الإسلامي قد بلغ 75 في المائة من أفراد الأمة رجالا ونساءً، أعلنا قيام الدولة الإسلامية، وقيام الحكم الإسلامي، أما إن وجدنا الحصاد 25 في المائة، جددنا التربية والإعداد لمدة ثلاثة عشر عاما أخرى، وهلم جرا، حتى نجد أن الأمة فد نضجت لتقبل الحكم بالإسلام».
* علاقة محمد قطب بتنظيم 65
على خلاف شخصية أخيه الأكبر سيد، كان محمد قطب (توفي في الرابع من أبريل/ نيسان، 2014، بمكة المكرمة، وصلي عليه في الحرم المكي) منضويا تحت لواء أخيه. كان امتدادا وظلا وفيا له في العمل الحركي والإنتاج الفكري. أعاد إنتاج مفاهيم أخيه، وكررها وجسدها، وقربها كمنهج تربوي مفصل شكل تأثيرا كبيرا على فكر التيارات الإسلامية وبالأخص المتفرعة من إطار «الإخوان المسلمين»، حيث حظيت أفكاره بحضور بارز ومفصل في أفكار التيار الإسلامي الحركي في السعودية، تماما كما كان لأخيه سيد ذلك الحضور.
لكن ما علاقته بتنظيم 65، وما هي قصة «تنظيم محمد قطب»، الذي فتحت من أجله سلطات أمن الدولة المصرية تحقيقات موسعة مع عدد من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين؟
تروي زينب الغزالي مجددا تتمة نشاط أعضاء الجماعة الفاعلين خارج السجون فترة الستينات، حين كانت تصلهم التوجيهات مباشرة من سيد قطب، وتقول: «رأينا خلال فترة الإعداد التربوي أن يكون هناك مستشار يشرح ويوضح لنا توجيهات سيد قطب وتعليماته».. و«لذلك قررنا، ورأينا أن يكون الأستاذ محمد قطب هو مرجعنا، وبإذن من المرشد الهضيبي كان الأستاذ محمد يأتي بشكل دوري إلى بيتي في مصر الجديدة، ليوضح للشباب ما غمض عليهم فهمه. وكان الشباب يستوضحونه ويسألونه أسئلة كثيرة يجيب عنها».
قرب أفكار المدرسة القطبية لأبناء الصحوة السعودية وصاغها في منهج تربوي طويل المدى يهدف إلى “تمكين الصحوة”
وضمن منهج الإعداد التربوي للتنظيم السري، وضع سيد قطب مجموعة من الكتب والمراجع التي تشكل المنهج الدراسي والتربوي لكوادر التنظيم، وكان من أبرزها، بالإضافة لكتبه، كتب أخيه محمد قطب، حيث يروي أحمد عبد المجيد في مذكراته: «كنا نركز أساسا على العقيدة، ثم الحركة بهذه العقيدة في تنظيم حركي، ثم الدراية والمعرفة بالمخططات الصهيونية والصليبية وأعوانها لضرب الإسلام ووسائلهم في ذلك. فوضع لنا الأستاذ سيد قطب منهجًا دراسيًا وتربويًا للسير عليه مع إخواننا. ومن أهم الكتب والمراجع التي احتواها هذا المنهج: (منهج التربية الإسلامية)، (جاهلية القرن العشرين)، (هل نحن مسلمون؟)، (معركة التقليد) لمحمد قطب، إضافة إلى كتب من تأليفه، وأخرى لأبي الأعلى المودودي وآخرين».
ونتيجة لذلك، كان موضوع محمد قطب من أكثر المحاور الرئيسة التي تناولتها ملفات التحقيق مع زينب الغزالي، كما تروي في مذكراتها، حيث كان شمس بدران – وزير الحربية في عهد عبد الناصر – يسائلها كثيرا عن «التنظيم الخاص الذي أسسه محمد قطب، وخطط لاغتيال عبد الناصر». ونفت الغزالي ذلك بشدة. وعلى الرغم من أنها قررت في الكتاب عينه أن محمد قطب كان يزورها في بيتها بانتظام بأمر من المرشد، للإجابة عن إشكالات أفراد التنظيم، فإنها أجابت حين سألتها النيابة «لماذا كان يزورك محمد قطب في بيتك باستمرار، حيث يلتقي مع شباب الإخوان؟»، فقالت إن أمينة وحميدة شقيقتي محمد قطب اعتادتا زيارتها «وأحيانا كان يأتي محمد معهما فيلتقي بالشباب المسلم الفاضل صدفة!».
* محمد قطب.. الحيرة والتحول
في بلدة موشا ضمن محافظة أسيوط مصر، ولد محمد قطب في شهر أبريل عام 1919، ونشأ في عائلة كان لها أثر بالغ في تاريخ الحركة الإسلامية بمصر، بشقيه الفكري والحركي، بين الرجال والنساء على حد سواء. فأخوه الأكبر سيد كان الرجل الثاني في الجماعة بعد حسن البنا، تأثيرا وحضورا، وأعدم عام 1966. أما أختاه أمينة وحميدة فكانتا من أبرز «الأخوات المسلمات» الفاعلات في الجماعة، وجميعهن تعرضن للاعتقال. تزوجت أمينة من القيادي الإخواني كمال السنانيري الذي توفي داخل معتقله عام 1981. أما حميدة فكانت تلقب في الأدبيات الإخوانية، بـ«عذراء السجن الحربي»، ووجهت لها اتهامات بنقل معلومات من سيد قطب داخل السجن إلى زينب الغزالي. في هذا الوسط نشأ محمد قطب، وكانت دراسته في القاهرة بجميع مراحلها، حيث درس فيها المرحلة الابتدائية والثانوية، وتخرج في جامعة القاهرة التي أخذ منها الإجازة في اللغة الإنجليزية وآدابها عام 1940. بعد تخرجه في الجامعة، بدأ اهتمامه بالتعليم والتربية يظهر، فاتجه نحو معهد التربية العالي للمعلمين بالقاهرة، وحصل منه على شهادة دبلوم في التربية وعلم النفس عام 1941. وعمل بعد ذلك أربع سنوات في التدريس، ثم في دار الكتب المصرية، وبعدها أصبح مترجما في وزارة المعارف المصرية، ثم انتقل إلى الإدارة العامة للثقافة في وزارة التعليم العالي بمصر.
كانت شخصية أخيه الأكبر حاضرة بقوة في حياته، ومؤثرة عليه إلى حد الامتزاج الكامل، وذلك بات واضحا في كل أفكاره وإنتاجه، وطريقة كتابته الأدبية التي تحاكي أسلوب أخيه، بل حتى في كيفية تحوله من الأدب والشعر إلى الفكر والنضال الحركي. يقول محمد عن أخيه سيد: «لقد عايشت أفكار سيد بكل اتجاهاته منذ تفتح ذهني للوعي، ولما بلغت المرحلة الثانوية أصبح يشركني في مجالات تفكيره، ويتيح لي فرصة المناقشة لمختلف الموضوعات، فامتزجت أفكارنا وأرواحنا امتزاجا كبيرا، بالإضافة إلى علاقة الأخوة والنشأة في الأسرة الواحدة، وما يهيئه ذلك من تقارب وتجاوب»، وفقا لما نقله عنه محمد المجذوب في كتاب «علماء ومفكرون عرفتهم».
وكما كان سيد مهموما في بداية حياته بالأدب والتصوير الفني، و«النقد الأدبي أصوله ومناهجه»، ثم تحول حتى وصل إلى مرحلته الأخيرة التي جسدها بوضوح في كتابه «معالم في الطريق»، كان كذلك محمد قطب في مسرى حياته كما يقول. فقد كان تائها ضائعا في الأدب والشعر، ولم ينتبه لحقيقة «المكائد ضد الإسلام» من حوله، حتى جاءت «فتنة السجن الحربي» التي اعتقل فيها هو وأخوه سيد بعد أحداث 1954، حيث كان لذلك الحدث بالغ الأثر في نفسه، إذ إنها كما يقول «أول تجربة من نوعها، كانت من العنف والضراوة بحيث يمكن لي القول إنها غيرت نفسي تغييرا كاملا. كنت أعيش من قبلها في آفاق الأدب والشعر والمشاعر المهمومة، أعاني حيرة عميقة، وكانت تلك الحيرة تشكل أزمة حقيقية في نفسي استغرقت من حياتي عدة سنوات، غير أن الدقائق الأولى منذ دخولي ذلك السجن، والهول الذي يلقاه نزيله، بدلت ذلك كل التبديل. لقد أحسست إذ ذاك أنني موجود، وأن لي وجودا حقيقيا، وأن الذي في نفسي حقيقة وليس وهما، وهذه الحقيقة هي السير في طريق الله، والعمل من أجل دعوته، وعرفت حينها حقيقة المؤامرة الضارية ضد الإسلام، وانتهت الحيرة الضالة، ووجدت نفسي على الجادة».
أصبح محمد قطب يشك في «إسلام» كل المجتمعات الإسلامية، وصار يتساءل دائما: «هل نحن مسلمون؟».. أم أننا نعيش في «جاهلية القرن العشرين»، ونغرق في «ظلمات التيه»، وتنتشر بيننا «شبهات حول الإسلام؟!».. ولذلك يقرر محمد قطب أن الحل في «منهج التربية الإسلامية» الذي يجب أن يقوم عليه «واقعنا المعاصر»، حتى ننتصر في «معركة التقاليد»، ونكشف «المذاهب الفكرية المعاصرة» (عناوين كتب لمحمد قطب).
* منهج للصحوة السعودية
اعتقل محمد قطب، هو وأخوه سيد، للمرة الأولى بعد حادثة المنشية عام 1954. خرج محمد بعد مدة قصيرة، في حين حكم على أخيه بالسجن 15 سنة. في تلك الفترة، أتم سيد كتابة عدد من كتبه، أهمها «في ظلال القرآن». لكن محمد عاد إلى السجن مرة أخرى في يوليو (تموز) 1965، وبقي ست سنوات، فلم يفرج عنه إلا في مطلع عهد السادات، في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1971.
امتزج بأفكار سيد قطب، وتمثلها، ودافع عن عقيدة أخيه مؤكدا أنها صافية نقية “لازيغ فيها ولا لبس”
بعد خروجه من السجن، لجأ محمد قطب إلى السعودية مطلع السبعينات الميلادية باحثا عن الأمان. وفي مكة العاصمة المقدسة، أمضى بقية حياته (قرابة نصف قرن) ناقلا معه تجربته الحركية والفكرية إلى أبناء الصحوة السعودية، فأثر فيهم بشكل كبير، وبالأخص في أبناء التيار السروري، والتي تنزع في مرجعيتها إلى المدرسة القطبية أكثر من البنائية، حيث يحظى سيد بحضور طاغ مؤثر في كتابات وأفكار التيار. ولذلك كان لوجود محمد في السعودية دور مهم في تقريب أفكار المنهج القطبي وترسيخها، والدفاع عن أفكار أخيه سيد، وإزالة مواطن الإشكاليات واللبس التي اعترتها، كما يوضح في ختام مرافعاته عن أخيه في أحد الحوارات الصحافية، مدافعا عن «عقيدة» سيد، قائلا: «لا أقول هذا دفاعا عن أخي، فهو بين يدي مولاه، وإنما أقوله لأني عايشته السنين الطوال، وأعلم بما لا يدع مجالا للشك أنه لم يقع في عقيدته شيء من الزيغ أو الدخن».
عمل محمد على صياغة أفكار سيد في مشروع تربوي حركي مفصل قابل للتطبيق العملي في حياة الحركة، إضافة للمنحى الأهم الذي نحاه محمد قطب مختلفا عن أخيه، عبر تأكيده المتكرر في أغلب كتاباته على المنهج التربوي التدريجي، الذي يستلزم الانخراط في «المجتمع الجاهلي» من أجل التأثير فيه. فهو وإن كان يتفق مع سيد حول فكرة «الحاكمية» و«جاهلية المجتمعات»، فإنه يختلف معه في «المفاصلة والعزلة»، إذ يقرر أن الوصول إلى إقامة «المجتمع الإسلامي المنشود» يكون عبر عملية تربوية طويلة من خلال بناء «قاعدة صلبة» تتغلغل داخل المجتمع «الجاهلي» حتى يتغير وتجد الحركة لها ثقلا جماهيريا قويا بين الشرائح كافة، ولذلك نجد النشاط الصحوي في عز ذروته فاعلا وناشطا بقوة في المدارس والجامعات، ومجال التعليم والنشاط الطلابي، حيث اعتنى قطب كثيرا بمسألة التعليم في كتبه ومؤلفاته، معتبرا إياه حقلا من أهم «حقول المعركة والصراع مع أعداء الدين، لا بد أن تكتسبها الصحوة، وتنقيها من أدران الجاهلية».
* القاعدة الصلبة.. قبل الحكم
في كتابه «واقعنا المعاصر» (صدر في طبعته الأولى عام 1986 عن مؤسسة المدينة للنشر بجدة)، الذي يعد أحد أهم الكتب المؤثرة والمكونة للمنهج التربوي السروري والإخواني عموما، يقدم قطب الرؤية الحركية المعاصرة لأهم مفاصل التاريخ الحديث، والموقف من مخططات الاستعمار، ووسائل تغريب المرأة، والتعليم، والإعلام والفكر والأدب، ومعالم الغزو الفكري والصليبي على بلدان المسلمين.. «فالعالم الإسلامي اليوم يمر بأسوأ مراحله، يمكن أن نطلق عليها مرحلة (التيه).. انحرف المسلمون انحرافا شديدا عن حقيقة الإسلام، ويحاصرهم الغزو الفكري الذي يحيكه أعداء الأمة من كل مكان».. ولكن «اليوم يدور الزمان دورته، ويبزغ فجر جديد للإسلام مع تباشير الصحوة الإسلامية، يحمله الشباب المؤمن الذي يتطلع إلى اليوم الذي يجد فيه الإسلام مطبقا بالفعل، اليوم الذي يعود فيه المسلمون إلى الاستخلاف والتمكين في الأرض».
يؤكد محمد قطب أن إقامة حكم الدولة الإسلامية يتم أولا عبر بناء (القاعدة الصلبة) المتغلغلة داخل المجتمع، التي تقف مع الحركة حين تستولي على الحكم
يشرح قطب في مقدمته أسباب تأليفه للكتاب قائلا: «هذه محاولة لدراسة الصحوة الإسلامية، وما تحمله من دلالة تاريخية.. ماذا أنجزت، وماذا ينبغي أن تنجز حتى تجتاز أزمتها الحالية، وتصل إلى التمكين الذي وعد الله به المؤمنين.. أردت بمحاولاتي تلك الرد على تساؤلات الشباب المتطلع إلى تحقيق الإسلام في عالم الواقع: لماذا طالت المسيرة؟ لماذا تأخر التمكين؟ ما منهج الدعوة؟ ما الطريق الصحيح؟».
بعد أن يستعرض محمد قطب في كتابه ظلامات «الجاهلية» التي يرزح تحتها العالم الإسلامي في كل المجالات، قدم في الربع الأخير منه الحل الأمثل لمواجهة الواقع المعاصر، والمنهج الأصلح لتحقيق التمكين والوصول إلى الحكم، عن طريق «بناء قاعدة إسلامية صلبة» تكون النواة الرئيسة الأولى للمواجهة مع السلطة «الجاهلية» القائمة، والسند الفعلي الداخلي لأبناء الحركة أمام مخططات أعداء الإسلام، وأعداء الحكم الإسلامي.
يؤكد قطب أن أي استعجال في التحرك من أجل التمكين، أو الصدام مع السلطة قبل «تكوين القاعدة المسلمة المجاهدة» هو «عملية انتحارية لا طائل من ورائها، إلا إعطاء الطغاة حجة لتقتيل المسلمين وتذبيحهم، والناس غافلون عن حقيقة المعركة وكون هؤلاء الطغاة إنما يعملون ما يعملون عداء للإسلام ذاته، وولاء للصليبية الصهيونية التي تحارب الإسلام في كل الأرض».
*كيف يمكن إذن بناء «القاعدة الإسلامية»؟
يجيب قطب: «لا بد من ارتياد الطريق الطويل، المجهد الشاق المستنفد للطاقة، وهو طريق التربية.. التربية من أجل إنشاء (القاعدة الإسلامية) الواعية المجاهدة التي تسند الحكم الإسلامي حين يقوم، وتظل تسنده لكي يستمر في الوجود بعد أن يقوم.. فهل يمكن أن يقوم حكم الحركة الإسلامية قبل أن توجد القاعدة المؤمنة التي تواجه النتائج المترتبة على إعلان الحكم الإسلامي، وأولاها تحرش الصليبية الصهيونية كما حدث في أفغانستان والسودان؟!.. إن حكم الحركات والأحزاب العلمانية والشيوعية داخل بلاد المسلمين تجد سندها من القوى الغربية، وتدعمها أميركا وروسيا، ولذلك تصل بسهولة للحكم، أما الحكم الإسلامي فإنه لن يواجه من القوى الغربية إلا العداء، ولن يجد سنده الحقيقي إلا من الداخل، من القاعدة الإسلامية الصلبة المجاهدة!».
لا يضع قطب أي مدى زمني لعملية الإعداد والتربية، يورد في ثنايا حديثه تساؤلات أبناء الحركة المستعجلين، فيقول: «أما الذين يسألون إلى متى نظل أن نربي دون أن نعمل؟.. فنقول لا نستطيع أن نعطيهم موعدا محددا، فنقول لهم عشر سنوات من الآن أو عشرين سنة، فهذا رجم بالغيب، إنما نستطيع أن نقول لهم: نظل نربي حتى تتكون القاعدة المطلوبة بالحجم المعقول».
وبتأكيد قطب على جعل العمل التربوي أولوية طويلة المدى، افترقت (السرورية) عن غيرها من التيارات الحركية الأخرى، سواء السلفية الجهادية، أو السلفية العلمية (أهل الحديث)، حيث رأت الأولى أن استغراق هذا الجهد الطويل في التربية هو إضاعة للوقت وتعطيل عن تحقيق الهدف، فاختارت المواجهة المسلحة المباشرة مع السلطة «الجاهلية» أو «القوى الصليبية الصهيونية». أما الثانية فترى أن استغراق الجهود الحركية في التربية هو انصراف عن الغاية الأساسية، وهي التبحر في طلب العلم الشرعي، وفهم منهج السلف على الوجه الصحيح، بدلا من إضاعة الوقت في أنشطة تربوية واجتماعية «لا تبني طالب العلم»، وقد عبرت عن ذلك مقولة عالم الحديث السوري محمد ناصر الدين الألباني «التصفية والتربية».
*محمد قطب يواصل مشوار أخيه في تكفير المجتمعات الإسلامية
في كتابه الشهير «معالم في الطريق»، يقسم سيد قطب المجتمعات إلى نوعين: «مجتمع إسلامي، ومجتمع جاهلي»… فالمجتمع الإسلامي بنظره هو «المجتمع الذي يطبق فيه الإسلام عقيدة وعبادة، وشريعة ونظاما، وخلقا، وسلوكا.. أما المجتمع الجاهلي، فهو الذي لا يطبق فيه الإسلام ولا تحكمه عقيدته ولا تصوراته وقيمه وموازينه، ونظامه وشرائعه».
ولكن.. يستدرك سيد قطب موضحا أن المجتمع الإسلامي ليس هو الذي يضم أناسا يسمون أنفسهم «مسلمين» بينما شريعة الإسلام ليست هي قانون البلد، «وإن صلى وصام وحج البيت الحرام.. فليس هذا هو المجتمع الإسلامي الذي يبتدع لنفسه إسلاما من عنده، ويسميه (الإسلام المتطور)».
في المقابل، يفصل سيد قطب طبيعة المجتمع الجاهلي: «لا يشترط بالضرورة أن يكون أهله ينكرون وجود الله.. فالمجتمع الجاهلي هو الذي يبيح للناس أن يتعبدوا في المساجد، ولكن يحرم عليهم أن يطالبوا بتحكيم الشريعة في حياتهم».
نتيجة لذلك، يقرر سيد قطب في كتابه الشهير الآخر «في ظلال القرآن» «إنه ليس على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة، ولا مجتمع مسلم، قاعدة التعامل فيه هي شريعة الله، والفقه الإسلامي».. «فلقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين، فارتدت البشرية إلى عبادة العباد وإلى جور الأديان.. البشرية بجملتها بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات (لا إله إلا الله) بلا مدلول ولا واقع. وهؤلاء أثقل إثما وأشد عذابا يوم القيامة؛ لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد من بعد ما تبين لهم الهدى، ومن بعد أن كانوا في دين الله».
تدور هذه الأفكار التي بثها سيد قطب في مجمل كتبه، وتبعه بعدها محمد قطب حول نظرية «الحاكمية» التي أصبحت منهجا فكريا لدى مجمل التيارات والحركات الإسلامية الأصولية والجهادية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين.
يعد أبو الأعلى المودودي – الأصولي الهندي ثم الباكستاني، وهو الأب المؤسس لأفكار الإسلام السياسي – أول من أطلق نظرية الحاكمية وأصَّلها، ثم انتقلت بعد ذلك لأبرز تلاميذه سيد قطب، وبعدها تشكلت منهجا أساسا في المدرسة القطبية.
عندما أسس المودودي «الجماعة الإسلامية» في لاهور عام 1941، وضع كتابه التأسيسي «المصطلحات الأربعة في القرآن: الإله والرب والدين والعبادة». ونشر فصوله بعد ذلك، تباعا، في مجلة «ترجمان القرآن»، وضمن نصوصه يقرر المودودي فكرة الانفصال عن «المجتمع الجاهلي» من خلال تأسيس «جماعة مؤمنة» تعيد المجتمع إلى مساره الصحيح، حيث يقول: «لا بد من وجود جماعة صادقة في دعوتها إلى الله، جماعة تقطع كل صلاتها بكل شيء سوى الله وطريقه، جماعة تتحمل السجن والتعذيب والمصادرة، وتلفيق الاتهامات، وحياكة الأكاذيب، وتقوى على الجوع والبطش والحرمان والتشريد، وربما القتل والإعدام، جماعة تبذل الأرواح رخيصة، وتتنازل عن الأموال بالرضا والخيار».
* التمرد الشامل لتحقيق أهداف الحركة
يؤكد المودودي أن الطريق في سبيل الوصول إلى تحقيق «توحيد الحاكمية»، لا بد أن تستخدم من أجله كل الوسائل حتى «العنف»، لأن «الإسلام يضاد ويعارض الممالك القائمة على المبادئ المناقضة للإسلام، ويريد قطع دابرها، ولا يتحرج في استخدام القوة الحربية لذلك، وهو لا يريد بهذه الحملة أن يكره من يخالفه في الفكرة على ترك عقيدته، والإيمان بمبادئ الإسلام، إنما يريد أن ينتزع زمام الأمر ممن يؤمنون بالمبادئ والنظم الباطلة، حتى يستتب الأمر لحملة لواء الحق، وعليه فإن الإسلام ليس له – من هذه الوجهة – دار محدودة بالحدود الجغرافية يذود ويدافع عنها، وإنما يملك مبادئ وأصولا يذب عنها، ويستميت في الدفاع عنها، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله».
هذه «الجماعة المؤمنة المقاتلة» كانت هي القاعدة الصلبة في مشروع سيد قطب كما في كتابه «معالم في الطريق»، والحل الذي قدمه محمد قطب كما في كتابه «واقعنا المعاصر». ففي فصل بعنوان «هذا هو الطريق» يستلهم قطب قصة أصحاب الأخدود: «فهي قصة فتية آمنت بربها واستعلت بحقيقة إيمانها ثم تعرضت للفتنة من أعداء جبارين بطاشين مستهترين بحق الإنسان وكرامته، فأصبحوا يتسلون بآلام هؤلاء الفتية ويتلهون بمنظرهم أثناء التعذيب»، في إسقاط مباشر على تلك الفترة التي تعرضت فيها جماعة الإخوان المسلمين لحملة من الاعتقالات، بعد توجيه اتهامات لها بتدبير محاولات انقلابية في مصر عام 1954؛ لذلك يقدم قطب الحل في أنه «لا بد من ثورة شاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور.. ذلك الحكم الذي مرد الأمر فيه للبشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر». وامتدادا لفكرة المودودي في الثورة الشاملة، يرسم قطب الطريق المفصل لهذه الثورة، التي لن تكون فقط بالبيان والحجة واللسان، «وإلا فما كان أيسره من عمل لو كان كذلك».. لكن هذه الثورة الشاملة على الأنظمة تبدأ من خلال «إعلان حركي واقعي»، «يتخذ شكل (الحركة) إلى جانب (البيان) ليواجه الواقع البشري بكل جوانبه بوسائل متكافئة لكل جوانبه». هذه الحركة التي تسعى لتحقيق الحاكمية تقوم على المنهج الحركي المتدرج، حيث تفضي كل خطوة إلى الأخرى، ثم إلى تحقيق الهدف الأخير: «فهي حركة ذات مراحل، كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية، وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها، فالحركة لا تقابل الواقع بنظريات متجمدة»، كما يقرر ذلك سيد قطب في فصل بعنوان «الجهاد في سبيل الله» ضمن كتابه «معالم في الطريق».
* التدمير لـ«جاهلية» القرن العشرين
امتدادا لهذه المدرسة الغائرة الأثر في فكر الحركات الأصولية والجهادية، جاء محمد قطب واضعا عددا من المؤلفات التي تقرر هذا المبدأ بوضوح ولا مواربة، دار في أفكار أخيه سيد نفسها التي أسسها قبلا أبو الأعلى المودودي.
في كتابه «جاهلية القرن العشرين»، يقرر محمد قطب أن البشرية «جمعاء» تعيش في جاهلية شاملة: «فالطاغوت الحاكم في الأرض وصل لحد حاسم، وانقلب الخير حسيرا لا يملك أمرا في ظل الطاغوت.. وقد اقتربت تدخلات الإرادة الإلهية الحاسمة، فالناس يختارون لأنفسهم إما التدمير الشامل إن ظلوا فيما هم فيه من شرود عن منهج الحق، وإما الهدي إلى دين الله.. فلا بد من إفراد الحاكمية لله».
ينتقل محمد قطب مفصلا الحديث نحو حال المجتمعات الإسلامية: «تلك الجاهليات التي تقول إنها تعرف الله، وتظن أنها تؤدي العبادة الحقة لله.. كل هذه الجاهليات تجادل في الأمر وتظن أنها على حق، لكن كيف يعقل، وكيف يعبدون الله – في زعمهم – وهم يأخذون نظام حياتهم من غير الله».
في الكتاب عينه، يفصل محمد قطب الحديث أكثر عن واقع «الأمة المسلمة»، مبينا أنها انحرفت كثيرا، في اطراد وتوافق تام مع أفكار أخيه سيد حتى في طريقة التعبير واختيار الألفاظ، حيث يقرر أن المجتمعات الإسلامية قد «أدركتها بالتدريج جهالة الجاهلية، ففصلت العقيدة عن الشريعة، وأخذت الدين عقيدة مستسرة في القلب منقطعة عن الواقع، بينما الواقع يحكمه منهج الله، لكن اليوم لم يعد دين الله هو المحكم في واقع الأمة الإسلامية ومن ثم لم تعد أمة مسلمة، حتى وإن كانت لا تزال تتسمى بأبناء المسلمين وتصلي أحيانا وتصوم»! يجيب محمد قطب: «قد انحلت أخلاقها، فلم تعد تصدق، ولا تخلص، ولا تستقيم في المعاملة، ولا تقوم بينها روابط الإنسان.. ثم زادت فانزلقت في تيار الجنس الجارف، وفي مصائد اليهود… وبذلك خرجت عن كل الإسلام».
هذه القضية في الموقف من المجتمعات الإسلامية ما زالت تلاحق محمد قطب في كل كتاب، وحين أقام في السعودية، وأصدر كتابه «واقعنا المعاصر» منتصف الثمانينات، الذي كان قد حمل رسائل إلى شباب السعودية والخليج عموما، طرح هذه القضية مجددا تحت فصل بعنوان «قضية الحكم على الناس».. أولئك الناس الذين لم ينضموا إلى صفوف الحركة، ويصبحوا من أفراد «القاعدة الصلبة التي تتلقى الإعداد والتربية»: «هل نحكم عليهم بأنهم مسلمون أم كفار؟».
محمد قطب الذي لم يتوان عن إطلاق وصف الجاهلية على الواقع المعاصر بأسره (أنظمة ومجتمعات ومناهج ومؤسسات… إلخ).. وجد نفسه مضطرا لطرح هذا التساؤل والإجابة عنه، حيث يقول: «حول هذه القضية ذهب أناس حد التطرف من الجهتين، بين من يقول إن الأصل في الناس الإسلام ما داموا يقولون لا إله إلا الله.. وبين من يقول بأن الأصل في الناس الكفر ما لم يثبت العكس.. وكلا الفريقين متطرفان، فالأولون يحكمون على الناس بالنية وحدها دون العمل، والآخرون يحكمون على العمل وحده بصرف النظر عن النية».
حاول قطب الابتعاد عن المواجهة المباشرة للسؤال، مؤكدا أن «قضيتنا الأولى والكبرى ليست الحكم على الناس، وإنما قضيتنا هي تعليمهم حقيقة الإسلام، فلا ينبغي أن تشغلنا هذه القضية أصلا، ولا أن نجعلها محور ارتكازنا في الدعوة.. فالأولى أن ننصرف إلى تعليم الناس ما جهلوه بدلا من الحكم عليهم».
محمد قطب: من وصلته دعوة الحركة الإسلامية فأبى وأصر – بعد البيان والتعليم – فهو الكافر بلا شبهة، وأما من أجاب الدعوة فهو المسلم بلا شبهة
استطرد قطب في التفصيل، ووضع المقدمات قبل الوصول إلى إجابة تفصيلية حول هذا السؤال الحساس، لكنه في الأخير وصل إلى نتيجة بعد أن «تدبر خط الانحراف الطويل والغزو الفكري الذي طال مجتمعات العالم الإسلامي»، قائلا: «إن الجواب الذي يحسم هذه القضية حسما كاملا، هو أن من وصلته دعوة الحركة الإسلامية فأبى وأصر – بعد البيان والتعليم – فهو الكافر بلا شبهة، وأما من أجاب الدعوة فهو المسلم بلا شبهة»!! بهذا الجواب يقارب محمد قطب أفكار شكري مصطفى مؤسس «جماعة التكفير والهجرة» التي تؤمن بقاعدة «الوقف والتبين»، التي تقوم على اعتبار مبدأ التوقف في الحكم على أي مسلم ليس عضوا في الجماعة (جماعة المسلمين، كما يسمونها) فلا يحكمون له بكفر أو إسلام حتى يتبين كفره من إيمانه، وهذا التبين يكون عبر عرض فكر الجماعة عليه، فإن وافق وانضم إليهم صار مسلما، وإن رفض حكموا بكفره.
* الإصرار على تكفير عبد الناصر
كان هذا الموقف الصريح بتكفير المجتمعات الإسلامية هو السائد بين كوادر جماعة الإخوان، خصوصا المعتقلين في السجون إبان الفترة الناصرية. وكانت من أبرز التهم الموجهة لأعضاء الإخوان هي قضية تكفير المسلمين، المنبثقة من أفكار سيد قطب وكتابه «معالم في الطريق». في تلك الحموة المستعرة في العلاقة بين الإخوان والسلطة، صدر كتاب مثير منسوب إلى مرشد عام الجماعة المستشار حسن الهضيبي بعنوان «دعاة لا قضاة»، رد فيه بقوة على أفكار سيد قطب التي «لا تمثل الإسلام الصحيح». يقول الناشر في مقدمة الكتاب: «لقد كان مما ابتلي به الإخوان في سجونهم ومعتقلاتهم ما أظهره البعض من رأي بتكفير المسلمين أو التشكيك في حقيقة إسلامهم وإيمانهم. ولقد سارع الإخوان – رغم قسوة سجنهم ومعتقلاتهم – إلى تصحيح هذا الفهم، لا رهبة من أحد ولا زلفى لأحد، وقال مرشدهم الأستاذ حسن إسماعيل الهضيبي ردا على تلك الدعوى، كلمته الجامعة التي حددت طريق الإخوان المسلمين وعبرت عن منهجهم وصورت مهمتهم (نحن دعاة ولسنا قضاة)».
اعترض الهضيبي على أفكار المودودي، وناقش مصطلح «الجاهلية»، وشدد على خطورة التكفير، ورد على مجمل أفكار سيد قطب، من دون أن يسميه، في طرح غريب عن السائد لدى جماعة الإخوان المسلمين.
لكن رغم الشهادات التي تؤكد أن الهضيبي لم يكتب «دعاة لا قضاة»، وإنما كتبته مجموعة من علماء الأزهر بتنسيق من السلطات، فإن من أبرز من اعترضوا على الكتاب ورفضوه في السجن كان محمد قطب، وشكري مصطفى، حيث رفض الاثنان الكتاب، وأصرا على تكفير جمال عبد الناصر، وفقا لما أورده الباحث السعودي علي العميم نقلا عن اللواء فؤاد علام – وكيل مباحث أمن الدولة المصرية الأسبق – في دراسة نشرتها مجلة «المجلة» في ديسمبر (كانون الأول) 2012 بعنوان «هل ألف المستشار حسن الهضيبي (دعاة لا قضاة)؟ بحث في كتاب مغموز النسب!».
* «الحكام ليسوا مسلمين»
هذا الأمر يلفت إلى قضية مهمة في تاريخ الجماعة، وهي مسألة انفصال المدرسة البنائية عن القطبية، حيث تصف الأولى الثانية بأنها متشددة وتكفيرية، خالفت تعاليم منهج «الإمام» حسن البنا، وكان من أبرزهم يوسف القرضاوي الذي انتقد أفكار سيد واصفا إياها بأنها «مخالفة لمنهج الجماعة، وتؤسس للعنف».
لكن في حوار أجراه كمال حبيب من مكة، ونشره الموقع القطري «إسلام ويب» في يوليو (تموز) 2007، أكد محمد قطب أنه لا يوجد اختلاف منهجي أو فكري بين حسن البنا وسيد قطب. وبحسب رأيه فإن «فكر سيد قطب هو الامتداد الحقيقي لفكر حسن البنا؛ فحسن البنا في رسالة التعاليم يقول: (ولا نكفر مسلما بذنب متى نطق بالشهادتين وعمل بمقتضاها)، وسيد قطب يتحدث عن قيد أو شرط (وعمل بمقتضاها)».
يروي محمد قطب في الحوار عينه عن تحول مهم في حياة حسن البنا لم ينتبه له أبناء الجماعة أو أهملوه، حسب قوله؛ ففي «عام 1948 حدث وعي جديد عند حسن البنا، تمثل في أن الحكام ليسوا مسلمين إذا لم يحكِّموا شريعة الله، وأتباعه الذين جاءوا من بعده، إما أنهم لم يدركوا هذا الوعي الجديد في خط تفكيره، أو أهملوه عن قصد».
التحول نفسه حصل أيضا عند سيد قطب، لكنه انتقل وطال الجماهير هذه المرة، كطبيعة الجماعات التكفيرية، حيث تتوسع دائرة التكفير كل مرة شيئا فشيئا حتى تشمل الجميع، يضيف محمد قطب قائلا: «أما سيد فالتحول الفكري نشأ عنده بعد مذبحة 1945؛ فعبد الناصر ذبح الإخوان في السجون، والجماهير كانت تصفق له». وتساءل: «هل لو كانت هذه الجماهير تملك الوعي كانت ستصفق للطاغية؟ وتناقش سيد في هذا الأمر مع الشيخ محمد هواش، وانتهي الاثنان إلى أن هذه الجماهير لو كانت تعلم حقيقة (لا إله إلا الله) ما كانت صفقت للطاغية، من هنا يجب أن تبدأ الدعوة من كلمة التوحيد».
كشف محمد قطب بأن حسن البنا في آخر حياته أصبح يؤمن بـ” كفر حكام المسلمين”، لكن أتباعه الذين جاءوا من بعده، إما أنهم لم يدركوا هذا الوعي الجديد في خط تفكيره، أو أهملوه عن قصد
استعجال مواجهة السلطة انتقد محمد قطب أعمال الجماعة الإسلامية في مصر، التي انتهجت العنف في مواجهة السلطة، لم يكن انتقاده موجها لأفكارهم، بل كان يرى في تصرف أبناء الجماعة خطأ «حركيا» يتسم بالاستعجال في مواجهة السلطة قبل الإعداد الكافي والقدرة.
في الحوار ذاته، قال قطب معلقا حول مراجعات قيادات الجماعة الإسلامية: «نبهت أكثر من مرة إلى خطر الصدام مع الأنظمة السياسية الحاكمة في العالم العربي، قبل القدرة عليه، وقبل أن يفهم الناس المحكومون بهذه الأنظمة معنى كلمة التوحيد وضرورة الحكم بما أنزل الله، ودليلي على ذلك قوله تعالى: (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين)؛ فقيادات الجماعة الإسلامية كانت تفتقد إلى الوعي والخبرة».. الخبرة في كيفية مواجهة الأنظمة السياسية التي يجب التهيئة لها عبر «فترة طويلة من الإعداد والتربية»!
* من الشغف بفرويد.. إلى الخروج من «ظلمات التيه»!
كان كتابه «الإنسان بين المادية والإسلام» علامة فارقة في حياته. يروي في المقدمة أن «هذا الكتاب هو أول كتبي، ومن أحبها إلي!» فهو يمثل بالنسبة لديه «خط الاهتداء إلى الإسلام»، كما يقول.
يكشف قطب عن عدد من التحولات التي غيرت طريقة تفكيره، وجعلته يعدل وينقح الكتاب في طبعته الرابعة 1977، يقول: «إن مراجعة حقيقية للكتاب منذ كتبته أول مرة عام 1951، وجدت أن هذه المدة المتطاولة من الزمن قد فعلت فعلها، ولا شك في طريقة تفكيري وفي موقفي من بعض قضايا الكتاب.. لقد وجدت مثلا أني أعطيت فرويد – والتفكير الغربي بعامة – أكثر مما ينبغي من (التوقير العلمي)، حيث كنت في صغري شديد الإعجاب بفرويد إلى حد الفتنة.. لكن التفكير الغربي – بما فيه فرويد بالذات – لا يستحق كل هذا التوقير، ولا العناية بتفنيده، وأرى اليوم بعد زيادة خبرتي بانحرافات الفكر الغربي وبمخططات الإفساد التي تخطط لإفساد البشرية، أن ذلك الفكر لا بد أن يناقش – إذا لزم الأمر – لكن من دون الحفاوة والاحتفال الذي كان قبل عشرين سنة من الزمان».
بعد هذا الكتاب «المنعطف».. أصدر محمد قطب 36 كتابا ومؤلفا، يصب معظمها في سياق واحد يهاجم الحضارة الغربية «الشيطانية»، التي تدعمها حملة «صليبية صهيونية عالمية».
تولت «دار الشروق» المصرية طباعة مجمل كتبه، وكان من أبرزها «شبهات حول الإسلام»، «النفس والمجتمع»، «معركة التقاليد»، «جاهلية القرن العشرين»، «هل نحن مسلمون؟»، «مذاهب فكرية معاصرة»، «دراسات قرآنية»، «كيف نكتب التاريخ الإسلامي؟»، «الجهاد الأفغاني ودلالاته»، «دروس من محنة البوسنة والهرسك».
كما صدرت له مؤلفات عدة من دور نشر سعودية من بينها «دار الوطن» بالرياض التي نشرت له كتاب «هلم نخرج من ظلمات التيه»، و«العلمانيون والإسلام». كما نشرت له مؤسسة المدينة للصحافة والنشر بجدة الطبعة الأولى لكتابه الشهير «واقعنا المعاصر».
* الديمقراطية صنيعة يهودية!
في مسرح جامعة الملك سعود، وبدعوة عامة من عمادة شؤون الطلاب، عام 1983، قدم الراحل مانع الجهني، الأمين العام السابق للندوة العالمية للشباب الإسلامي، محمد قطب إلى الحضور الغفير الذي ملأ مدرجات القاعة بأدوارها الثلاثة. كانت المحاضرة بعنوان «مذاهب فكرية معاصرة»، وهي بالأصل كتاب كبير صدر عن قطب في طبعته الأولى في السنة ذاتها عن «دار الشروق» المصرية، وفيه يناقش بالتفصيل مذاهب ونظريات فكرية «غربية»، من أبرزها: «الديمقراطية، والإنسانية، والعلمانية، والوطنية!». حيث قرن قطب في كتابه فكرة الوطنية بمذاهب أوروبية المنشأ «كالمادية، والشيوعية، والرأسمالية..»، وغيرها.
الوطنية في رأي قطب ما هي «إلا عدوى أوروبية، ووسيلة من وسائل الغزو الفكري التي استخدمها الصليبيون في الحرب على الإسلام.. فهي اتجاه شرير، ذو نزعة غير إنسانية، لا يتوقع أن ينشأ منه غير الشر».
ختم مانع الجهني الندوة على الطريقة التقليدية للمحاضرات الدينية في المساجد، جامعا أسئلة الحضور لعرضها على «فضيلة الشيخ». كان أول سؤال وجهه الجهني إلى قطب: «ما هي أخطر التيارات الفكرية اليوم على الأمة؟ ومن يغذيها ويدعمها؟».
أجاب قطب بأن جميعها خطير، لكن «العلمانية بوصفها تفصل الدين عن الدولة هي أخطر التيارات ولا شك، ويدخل فيها كل التيارات الفكرية المعادية».
يؤكد قطب أن جميع هذه «المذاهب الهدامة هي من صنع اليهود لأجل محاربة الإسلام». وفي الوقت الذي تتنافس فيه أغلب الحركات الإسلامية اليوم على المشاركة في الانتخابات الحديثة، قرر قطب، منذ ذلك الحين، أن «الديمقراطية هي صنيعة يهودية»، مؤكدا: «والذي لا يصدقني في هذا فليذكر أن الديمقراطية هي الرأسمالية، والعنصر المسيطر في الدول الرأسمالية هم اليهود.. فالديمقراطية هي لعبة جميلة صنعها اليهود ليخدعوا الناس بأنهم هم من يحكمون أنفسهم، لكن في الواقع الذي يحكمهم فعلا اليهودية العالمية».
* فترة الازدهار والنشاط
يمكن القول بأن فترة الازدهار والنشاط التي عاشها محمد قطب في السعودية، مقيما المحاضرات والندوات، ومتجولا بين دول الخليج لحضور الفعاليات والأنشطة، كانت منذ قدومه للسعودية بعد عام 1971، وحتى حرب الخليج عام 1990، حين وقفت جماعة الإخوان المسلمين بمصر موقفا مؤيدا لغزو صدام الكويت، وهاجمت دول الخليج لأنها استعانت بقوات أجنبية لصد العدوان العراقي على أراضيها، فأثر هذا الموقف على أعضاء جماعة الإخوان المسلمين المقيمين في الخليج، وتسبب في انحسار نشاطهم.
اعتزل محمد قطب في بيته… لكن بيته بمكة المكرمة، الواقع على شارع صدقي بحي العزيزية، أصبح ملتقى تجتمع فيه قيادات إسلامية وحركية شتى في كل وقت، نظرا لقربه من الحرم المكي الذي يؤمه المسلمون في حجهم وعمرتهم.
من أبرز تلاميذ قطب في السعودية: سفر الحوالي، وعلي العلياني، ومحمد بن سعيد القحطاني، ويوسف الأحمد
أصبح بيته يضج دائما بالزوار و«المحبين» والمتتبعين لآثار سيد قطب أيضا، من آخر الزيارات منتصف 2013، وفد من جمعية الاتحاد الإسلامي من لبنان، حيث نشرت الجمعية تقريرا مفصلا عن زيارة محمد قطب إلى السعودية التي «تناولت أوضاع أهل السنة في لبنان وملف الثورة السورية المباركة، وخصوصا أوضاع النازحين، مع عرض من رئيس الجمعية عن هموم الدعوة في لبنان».
كما نشر الناشط الكويتي حاكم المطيري، مؤسس حزب الأمة المحظور، عبر موقعه الشخصي، صورة جمعته بقطب في مكة المكرمة، وكتب عليها معلقا: «حدثني محمد قطب حين زرته فقال أنا لست كأخي سيد، هو يحلق في السماء وأنا أمشي على الأرض!».
في منتصف 2011 انتقل إلى منزل جديد، في حي العوالي بأطراف مكة المكرمة، وهي من الأحياء الحديثة الراقية.. عانى في آخر حياته من ضعف البصر، كما أصيب بجلطة دماغية في سبتمبر (أيلول) 2009 شفي منها لكن بقي من آثارها مع كبر سنه أن عجز عن المشي إلا باستخدام القوائم الحديدية.
* إردوغان يزوره ويعرض عليه الإقامة بتركيا
بحسب ما يرويه عبد الوهاب الحميقاني في صحيفة «يوم برس» الإلكترو
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |