مُحاكاة ثقافة أهل البادية في أشعار بوشكين / د. ناظم مجيد حمود
2014-05-22
رغم ندرة الدراسات النقدية الروسية، حتى منتصف القرن العشرين، عن الأثر العربي- الإسلامي في الشعر الروسي الكلاسيكي الذي بدا قصياً في مداره الجغرافي ونزوعه الروحاني عن الهامات الشعراء الروس وميولهم الأدبية ورؤاهم الفلسفية، غير أن ما تم التوصل إليه، حينذاك، من أدلة نصيّة مُستلة من النتاج الشعري والنثري لأدباء روسيا الكبار تؤكد كثافة واصطفاء الاقتباسات والاستعارات الروحانية والوجدانية من النثر والشعر العربي- الإسلامي.
ولا ريب أن هذا الكشف الباهر ولّدَ فضولاً غير عادي لدى باحثي الأدب الروسي المقارن، الأمر الذي حث عَلِيَّة النقاد على المضي في استقصاء مكامن المحفزات الروحية والمعرفية لذاك الميل غير المألوف نحو ثقافة أهل البادية وطراز معيشتهم وسجاياهم شديدة الصلة بأعراف القبيلة، التي بدت طبائعها ومزاياها أكثر بُعداً عن حواضر القياصرة ولهوها المدهش، ونخب البلاط وألسنته، وتسيب الفئات الدنيا ولامبالاتها في مراعاة أواصر القربى.
ومن هذا الكشف تبين أنَّ طلائع الشعراء الروس كانوا، ومنذ عشرينات القرن التاسع عشر، على علم معقول بعقيدة الإسلام وكتابه القُرآن الكريم وسيرة نَبيّه مُحمّد، بل أنّهم قرؤوا جمعاً، من ترجمات أوروبية وروسية، من المعلقات العربية وأشعار حافظ وسعدي الشيرازيين الصوفية، وأساطير وحكايات من أيام العرب والمسلمين. وهذا ما نجد له أثاراً جليّة في مئات القصائد والكتابات السرديّة الروسيّة التي نُقلت من صحائف أدب الرحّلة الروسي والأوروبي ودراسات المستشرقين وتراجمهم، التي عمقت تأملات الشعراء الروس وأثرت مخيلتهم وخطابهم الفني.
ويمكن أن نلمس انجذاب أُدباء روسيا إلى ما حمله الرَّحّالون والحجاج الروس، الذين أَمّوا العتبات المقدسة في فلسطين ومصر وسوريا منذ مطلع القرن الحادي عشر الميلادي، من انطباعات وخواطر عن حواضر العرب ومعتقداتهم وأعرافهم وميولهم الأدبية، فما كان من نوابغ الشعر الروسي أن خصبوا أشعارهم، بمشاهد تاريخية وأدبية من أطياف البادية ومناقب أهلها، التي غطت سِير شعبية مدونة ومواعظ شعرية وحكايات الغرام والتشبّيب بالنساء وأشعار الفخر والحماسة والفروسية والتمجيد والحِّل والرّحال وما ألفته ديار العرب من قصائد الثأر للكرامة وللدماء المسفوحة. كل هذا أثّر في تصور الشعراء الروس ورؤيتهم عن الوجود والحياة والفناء، التي مازجت الحقيقة بالوهم والواقع بالخيال، فأضحت النصوص العربية والإسلامية ترانيم تزين أشعار الرواد الروس، بغض النظر عن لُبس واقعيتها، وتناثرت في قصائدهم الغنائية أجناس الصور والمعاني المألوفة من إرث العرب والمسلمين، التي عرفتها حواضر فلسطين وجنان الشام ووادي النيل وبلاد الرافدين وشبه جزيرة العرب، وعمائر اليمن، وفاضت بنفحاتها على ربوع فارس وسهول آسيا الوسطى وجبال القفقاز.
من نحو هذا الضرب الرفيع من الشعر المتفاعل مع المواضيع العربية نقرأ في قصيدة الكسندر بوشكين الرومانسية (محاكاة عربي)** ، نظمها بصيغة حوار عذب بين حبيبين عربيين أصبحا من فرط حبهما وتلاحمهما (كفلقتي لوزة تحت قشرة واحدة). في هذا الحوار الرومانسي الذي لم يخل من لمسات الهيام والتغزل، والمتسم بالسهولة واليسر، استدعى الشاعر الروسي في كلمات الحبيبة، وربما لرغبة قي فك قيود الواقع، تصوره المشوب بالخيال الموروث من روايات الليالي العربية اللاهية المنقولة عن ترجمات أوروبية إلى الروسية. وَعَبّرَ بشغف شفاف عن الحب العربي الذي ملأت قصصه العذبة منها والمأساوية الملاحم الشعرية، منذ أيام العصر الجاهلي مُجسدة بالمعلقاتِ الخالدةِ، وما تكنزه من أطياف الحب العذري اللازم للحشمة والفياض بالغزل العفيف وألم الشوق ولواعج الحنين على نأي الحبيبة والأسى من لوعة الهجران وربما من خيبة الأمل، والشكوى من الجفاء والبكاء على الأطلال. وما يميز (محاكاة) بوشكين، نفسياً واجتماعياً، هو أن الحبيبة هي الطرف المبادر والمباغت وليس الحبيب! في الكشف عما ينوء به قلبها وما تجيش به عواطفها. وفي هذا استلهام واستعارة من أعراف المجتمع الروسي لا من تقاليد القبيلة العربية! وربما لإدراك الشاعر انه يطلق بهذا نفحاً من رغبات ومشاعر الحبيبة الدافقة بالشجن.
أيها الفتى الحبيب،
أيها الفتى الحنون
لا تستحي مني،
أنت لي من أمدٍ
نار التمرد ذاتها فينا
واحدة هي الحياة التي نحياها.
لا أخشى الازدراء أنا؛
ثنائي غدونا فيما بيننا،
شبيهان نحن، تماما، فلقتي لوزة
تحت قشرةٍ واحدةٍ.
ويبدو أن فيض الانطباعات والروايات الغربية المبكرة الهائمة في العجائب والخيال، المبالغ فيه حد الزيّف والوهم، عن طراز حياة المسلم المُتيم في متعة الحريم واللاهي أبداً ومن أمد بعيد في ترف الدنيا وبهرجها وتعدد الزوجات وامتلاك الغواني والجواري وتبذير الثروات والملك على النزوات والشهوات! قد مست روح وقريحة الشاعر الوجداني الحسّاس الكسندر بوشكين. وبعقل وإنس عاطفي- رومانسي كتب قصيدته (الحرز)، كتوليفة عاشَقَ فيها فضاء البادية الساحر الخاضع لسيطرة الأقدار، والمنشغل في ملهاة المسلم الشهواني المستعارة من مخيلة غربية واهمة أنزلت الأساطير منزلة الواقع!. ورغم هذا يدرك بوشكين أن تلك التميمة لا تقوى على إنقاذ رأس الشاعر – الحبيب رغم قوتها الخفية؛
هناك حيث يقذف البحر،
موجه على الدوام
فوق صخور الصحراء
وحيث سطوع البدر،
في عتمة الليل،
وحيث يقضي المسلم أيامه،
لاهياً في بيت الحريم.
هناك، وبدلع في الساعة العذبة،
سلمتني الساحرةُ الحرز.
وبعزٍ قالت:
(حافظ على حرزي؛
فيه قوة خفية!
هو الذي وَهبكَ الحبَ.
حرزي يا عزيزي
لن ينقذ رأسَكَ من علّة،
من قبر، من عاصفة،
من زوبعة مريعة.
ولن يهبك ثرواتَ الشرقِ،
ولن يذعن لكَ أتباع النّبيِّ؛
ولن يسري بك،الآن،
من أشجان بلاد الغربة في الجنوب
إلى حضنِ خليل
بموطنك في الشمالِ،
ولكن حين تفتنكَ
العيونُ الماكرةُ
وتلثمك، من غير حب،
في ثغر الليالي الدامسةِ
حافظ، أيها الصديق العزيز!
على حرزي من الجريمةِ
من جرحٍ جديد في القلبِ
من الخيانةِ، من النسيان!).
وما هو طريف أن صحائف الأدب الروسي المبكرة تكشف عن معلومة رائعة تقول؛ بأن الشاعر ألكسندر بوشكين، المنفتح على آداب وثقافة الشعوب،اقتبس موالاً عربياً من (مجموعة أشعار شرقية وفرنسية)جمعها، باللغة الفرنسية الكاتب المصري يوسف العجوب***(1795-1832)، مُعاصر بوشكين، وطُبعتْ في باريس عام (1835)، وضمّنه قصيدته (تقليد أغنية عربية) التي نُظمت كاملة من مبنى ومعنى هذا الموال العربي القُح:
قامت فقلت أُقعدي قالت مشيبك بان
قلت كافور بدا من بعد مسك كان
قالت صدقت، ولكن فاتك العرفان
المسك للعرس والكافور للأكفان.
يقول الشاعر بوشكين في قصيدته (تقليد أغنية عربية)، الجانحة إلى الإيجاز والتكثيف، والمُتكئة في مغزاها على نص الموال. وفيها نلاحظ تمازجاً بين ذكاء بطلة حكاية الموال وليلى التي تعيد في أبيات بوشكين تأكيد ذاك الذكاء الحاد وتلك السخرية اللاذعة مما آل إليه حال المولع بها؛
ذات مساء همت ليلى،
غير مكترثة للانصراف عني،
قلت لها: ‘ تمهلي، إلى أين؟ ‘
فاعترضت قائلة:
‘رأسك أشيبٌ ‘
أجبتُ الهازئة مختالاً:
‘لكل شيءٍ نهاية -
ما كان مسكاً قاتماً
صار اليوم كافوراً’.
هَزِأتْ ليلى من كلامي الخائب
وقالت: ‘أنت تعرف:
انَّ المسك العذب للعرس،
والكافور للِّحد’.
الخان والحسناء الغيورة
والدارج في كتب تاريخ الأدب الروسي أن شاعر روسيا الأكبر الكسندر بوشكين، هو الآخر، تعاطف مع أسطورة رومانسية روت مصير مأساوي للأسيرة البولندية، الأميرة الشابة ماريا بوتوتسكي، التي وقع في حبها خان القرم المسلم (غيري). وتقول الأسطورة ان زوجة الخان الجورجية الحسناء زاريما قتلت ماريا لغيرتا منها، الأمر الذي دفع الخان (غيري) أن يأمر بإغراق زوجته زاريما. وبتأثير من هذه الأسطورة الرومانسية- المأساوية غاص الشاعر عميقا، بكل ما يحمله من ومشاعر ووشائج إنسانية جياشة، تعبر عن عاطفة شفافة كبرى تفيض بالأحزان واللواعج والأشواق، في نفس ماريا الضحية التي بقت روحها تتدفق مع تدفق نافورة الرخام التي شيدها زوجها خان القرم تخليداً لها في ركن منعزل بالقصر؛
بعد أن أخمد نار الحرب
في القفقاس والبلاد المجاورة
وأرياف روسيا المسالمة،
عاد الخان إلى (تفريد).
ولذِكر ماريا الآسية
شيد نافورة رخام
في ركن منعزل بالقصر
يعلوها صليبٌ يُظللّهُ
هلالٌ مُحمدي.
وفي قصيدة، (نافورة قصر باختشي سراي)- (نافورة الدموع)، العميقة النفاذ إلى وجدان المتلقي، خاطب الشاعر بوشكين، بوداعة تشوبها الدهشة والذهول من جلل المصاب المأساوي الذي مس وآلم روح الكسندر وتسرب عميقاً إلى وجدانه. وما كان من الشاعر إلا أن حمل إلى نافورة الدموع (وردتين هدية) تعبران عن تعلقه وشغفه بها وبأسطورتها الرومانسية التي أثارت قريحته الشعرية، وتعدتها إلى زوار قصر خانات القرم، وربما أوحيت إليه بغرام- عُذري ما انفك يُراود روح الكسندر البهية الغارقة في هيام الشعر والغرام، التي قطعهما على غرة الموت المُبكر!؛
نافورة الحب أنت، نافورة حيّة
جئت إليك بوردتين هدية
أحب صوتك الدافق
ودموعك الشاعريّة.
برودةُ ندى غُبارك ِالفضي تنعشني
آه يا ينبوع المتعة،
تدفقي، تدفقي !
أهدري.. أهدري لي أُسطورتَكِ الحقيقيّة…
نافورةُ الحُبِ، نافورةُ الحزنِِ
سألت ُرُخامَكِ: أصغيتُ إلى مَديحكِ
للبلاد البَعيدةِ،
لكنك ما تفوهت بكلمة عن مارياô
أَحقاً أنّّكِ يا نور بيت الحريم الشاحب
منسية هُنا؟
أم أن ماريا وزاريما وحدهُن
مجرد أمان سعيدة؟
أو ليسَ سوى حلم في المخيلة
رسم رؤاهُ اللامحة برهة
كمالُ الروح ِالغامض
في عتمة الفراغ.
وأيضاً لا تخلو قصيدة (من حافظ ‘معسكرٌ قُربَ الفُرات’) من ومضات صوفية موحية إلى إيمان فيه الرّحمةُ حاجبُ الجمالِ عن سيوف الموت، وإلى النّجاة تمضي به و(بهجة الهناء) المتوجة بالرضاء النفسي والاطمئنان الروحي؛
أُيها الشاب الوسيم،
لا تقع أسير الحرب المجيدة؛
لا ترم نفسك
مع حشد القره باغيين
في أتون القتال الدامي!
أعرف، أَنَّ الموت لن يواجهك
وأَنَّ عزرائيل سيلمح جمالك،
من بين السيوف،
ويشمله بالرَّحمة!
أَخشى عليكَ أَنّ تفقد
في القتال، وإلى الأبد
حشمة التحرك الهيَّاب،
وبهجة الهناء والحياء!.
عن القدس العربي.
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |