Alef Logo
ابداعات
              

نقد / قصة حب في أورشليم غرام النبي سليمان بالإلهة العربية سلمى

فاضل الربيعي

2006-05-07

(ترجمة جديدة لنشيد الإنشاد عن النص العبري)
(تمهيد)

منذ أن قرأتُ –في الطبعة العربية من التوراة - القصيدة المُسمِاة ( نشيد الإنشاد ) المنسوبة لسليمان الملك والنبي التوراتي أول مرة ، قبل ما يزيد عن ثلاثين عاماً، والحيرة تنتابني كلما تساءلت مع نفسي عن السبب الحقيقي في عسر النص المترجم؟. ومما فاقم من صعوبة فهم النص بالنسبة إلي وإلى جمهرة واسعة من القراء حتى اليوم، أن كتاب التاريخ والشعراء والكتاب والأدباء، الذين يستهويهم التاريخ القديم وأساطيره عادة( وفوق ذلك غالبا" ما سحرهم على نحو مُفاجيء لدى تعرفهم على ما يُدعى نشيد الإنشاد وذلك مع صدور دراسات أدبية تناولت القصيدة بالتحليل) قدموا طوال هذه العقود الثلاثة، هم أيضاً، المزيد من المقاربات الأدبية والدراسات والمقالات والمؤلفات التي سارت على الطريق ذاته،أي طريق مفاقمة الغموض وعسر النص عبر تحميله وتقويله ما لايقوله. وهذا كله كرس، مع الوقت، فهماً مغلوطاً وأسطورياً للنص، ما لبث أن ضاعف من درجة الغرابة في الدلالات والمعاني.
إن عشاق الشعر القديم وعشاق هذه القصيدة بالذات، لن يكفوا عن مواصلة عشقهم لها مادامت تتفرد -حتى الآن- بمزية كونها من بين أقدم النصوص الشعرية الأكثر شهرة في ثقافتنا القديمة بعد ملحمة جلجامش. وغني عن البيان، أنني انظر إلى القصيدة بوصفها واحدة من قصائد الشعر الجاهلي في طفولته البعيدة والضائعة، يوم كان يكتب بلهجات القبائل ( انظر مؤلفنا الذي يصدر قريباً: فلسطين المُتخيَّلة : أرض التوراة في الشعر الجاهلي- دار رياض الريس للنشر-بيروت). وقد يتضاعف هذا الإعجاب والتعلق بالنص بالنسبة إلى جمهرة واسعة من المهتمين، حين يتمكنون ربما للمرة الأولى من الحصول على متعة قراءة،خالية من الصور والأفكار والتصورات الاستشراقية. وكذلك حين يُطلون على مقاربة جديدة للصور والإشارات والرموز والإحالات المُتقنة والتوصيفات العذبة والرشيقة. لقد كان الشعراء العرب، ولا يزال بعضهم ، الطبقة الأشد تأثراً بين قراء النص المترجم، بالبلاغات الزائفة والصور الاستشراقية المُصَّنعة؛ التي وفرتها الترجمة العربية السائدة، إذ استنبطوا منها صوراً وأفكاراً تضمنها الكثير من نصوصهم الأدبية والشعرية ودراساتهم، ما كان لها إلا أن تزيد في غموض القصيدة وصعوبة فهم معانيها وصورها.
اليوم، أريد أن اقدم للقراء ترجمة جديدة عن النص العبري مباشرة، مبنية على الاكتشاف الآتي:
إن نصوص التوراة، كلها، وخصوصاً النص المُسمى ( شير - ها- شيريم) والمُترجم إلى نشيد الإنشاد، لا تتضمن أي إشارة أو كلمة أو جملة تفيد أن هذه القصيدة هي لسليمان. ولا يوجد بالتالي،أي دليل يمكن اعتباره دليلاً موثوقاً به ومُقنعاً مهما كان صغيراً؛ يحق بموجبه للقراء اعتبار النص نشيداً أو قصيدة منسوبة لسليمان. باختصار، بُني هذا التنسيب على فرضية تقول أن الاسم الوارد في النص، ويُكتب بالعبرية في صورة شلمه، هو الاسم ذاته شلمه الذي تستخدمه بعض نصوص التوراة في معرض الإشارة إلى الملك التوراتي سليمان. لقد بينت في كتابي ( فلسطين المُتخيَّلة: أرض التوراة في الشعر الجاهلي) أن هذه القصيدة هي واحدة من المُعلقات الشعرية الضائعة (المُعلقات الجاهليات) وأن الاسم المقصود في النص: شلمه- سلمه ليس سليمان؛ بل هو تماماً كما في رسمه العبري والعربي : سلمى. وَسلمى هذه، هي ذاتها التي لطالما تغنى بها شعراء الجاهلية، بوصفها أشهر جبال العرب قاطبة وأقدمها وأكثرها قداسة، إذ ارتبطت بأساطير موغلة في القِدم تناقلها العرب جيلاً إثر جيل. ما من شاعر جاهلي إلا وتغنى بسلمى هذه أو بإحدى صويحباتها، مثل لبنى أوعزه ، وهما موضعان جبليان شهيران ورد ذكرهما في التوراة؛ إذ لبنى، على سبيل المثال ترد في نصنا وبالصيغة ذاتها: ( لبنه - لبنى ) .
إن التوراة لا تسجل الأحداث أو أسماء المواضع في فلسطين. وخلافا" لما فعله د. صليبي في مؤلفاته، فسوف أقدم الأسماء الواردة في نصوص التوراة كما هي ومن دون أي تلاعب لغوي؛ ذلك أن التوراة من وجهة نظري- في هذه الأطروحة النظرية والنقدية - إنما هي تسجيل لتجربة بني إسرائيل التاريخية في اليمن القديم وليس في أي مكان آخر، لا في عسير ولا في فلسطين ولا في سواهما. إن قراءتي العربية المُستندة إلى فهم عميق للنص العبري، تأتي هنا كاستطراد لأطروحتي السابقة القائلة بوجوب تقديم قراءة عربية للتوراة، لأن التوراة التي بين أيدينا اليوم كما قال طومُسن، هي نتاج مخيال غربي- .وبالنسبة لي فهي نتاج مخيال استشراقي– رأى أسماء المواضع والأماكن على أنها أسماء أماكن ومواضع فلسطينية لتبرير اغتصابها.
وطِبقاً للتوصيف الذي قدمه الهمداني؛ فإن ما من موضع ورد في التوراة إلا وكان له اصل في جغرافية اليمن القديم. بهذا المعنى؛ فإن التوراة- من وجهة نظري- هي كتاب ديني وإخباري من كتب يهود اليمن. ولذلك، سأقدم في الفصل الأول من هذا الكتاب، تحقيقات أولية عن اسم شلمه- سلمه، تمهيداً لتقديم نص جديد مُترجم عن النص العبري. بينما سأقوم في الفصل الأخير بالتحقق من الأسماء الواردة في القصيدة، وإرشاد القراء إليها من خلال دلائل جغرافية رصينة ومؤكدة، ومن خلال شواهد شعرية موازية وردت في التراث الشعري للعرب وبالصيغ والتراكيب اللغوية ذاتها وتماماً كما وردت في النصين العبري والعربي (الكلاسيكي). وبالطبع، من دون أي تغيير أو تلاعب في الحروف، لا لجهة قلبها ولا لجهة افتراض صيغ موازية، وإنما تقديمها بالضبط العربي المُطابق للضبط العبري.


الفصل 1
النصّ وتحقيقاته الأولية
· 1-
إذا كان نشيد الإنشاد ( شير-ها- شيريم ) المنسوب إلى سُليمان بن داود، يرتبط في ذاكرات مُتلقي النص التوراتي بالقصائد الغزلية، بكل شبوبها العاطفي حيث هامَ الملكُ حُباً بإمرأة جميلة من أورشليم (أوري شلم ) تُدعى سلمى؛ فإن سِفر صموئيل يجبُ أنْ يرتبط في ذاكرات قًراء النص نفسه باسم جبل ووادي ( أوبن) الذي كان يقُدم الحماية للمُطاردين والباحثين عن الأمان، فضلاً عن ارتباطه بحروب داود. إن لهذين الاسمين سلمى وأوبن خصوصية تجعل من مجرد ورودهما في التوراة، أمراً شديد الاستثنائية، سيتوقف فهم مقاصد النص التوراتي كلية على استيعاب دلالاتهما المباشرة وفهم مغزى وجودهما. فهل كانت سلمى جميلة من جميلات أورشليم، أم كانت اسماً لجبل شهير هو جبل سلمى؟ وأين يقع جبل أوبن؟ إن فلسطين التاريخية لا تعرف جبلاً يُدعىأوبن أو أبان، والتاريخ الأدبي لفلسطين القديمة لا يعرف معشوقة تُدعى سلمى هام ملك إسرائيلي في حبها؟ بينما يعرف التاريخ العربي القديم اسمي هذين الجبلين الشامخين كما يعرف أشعار وقصص الهيام حبَاً بهما ؟.
يُمثلُ الاسمان، من هذا المنظور، معرفة مباشرة ومُتأججة بعالمٍ قديم تلعبُ فيه الحروب والمشاعر التَطَهُرية المُفرغة من الغرائزية، دوراً مفصلياً في حياة البشر بالتلازم مع معرفة عميقة بالمكان. في إطار قراءة عربية جديدة للتوراة مُتصادمة مع القراءة الاستشراقية ؛ ُنعيد من خلالها اكتشاف الهمداني والشعر الجاهلي، سنقوم بتفكيك سِفري صموئيل الأول والثاني ونشيد الإنشاد استناداً إلى النص العبري، من أجل البرهنة على أن ما ورد في هذه الأسفار وسواها من أسماء، ليست، ولم تكن في أي وقت، أسماء معشوقات أو أبطال؛ بل أسماء مواضع وجبال ووديان وعيون ماء وآبار في السراة اليمنية. ولأجل مُقاربة المقاصد والأغراض الأدبية من وجود الاسم سَلمى في الأشعار الغزلية لسُليمان المزعوم، ومن وجود اسم جبل أوبن في حروب داود ومعاركه؛ فإننا سنعرض للصور الموازية التي أنتجها المخيال الشعري العربي القديم، حيث هام الشعراء والملوك بسلمى واحتمت الجماعات القبلية، وشعراء العرب المُطاردين بهذا الجبل .ومن شأن هذا كله أن يُسهم في وضع حد للنقاش حول المسرح الحقيقي لقصص التوراة ؛ وأن يكشف عن البُعد المأسوي في القراءة التعسفية الغربية، والتي نجم عنها اختطاف فلسطين من التاريخ استطراداً اختطافها من الجغرافيا.
تترك أشعار سُليمان المزعوم وغزلياته وتعشقه المُلتهب، لنساء أورشليم - أوري شلم- وهيامه بسلمى كما صورتها القراءة المخيالية للتوراة، الانطباع بأن درجة احتفالية من نوع ما وذات طابع جنسي فوق ذلك، تغمر بالفعل، تلك المقاطع الحارة من النص على نحو قد لا يترك حيزاً كافياً للشك والاشتباه بالمقاصد الحقيقية. بيد أن هذا الانطباع مُخادع الى النهاية. إذْ ثمة ما يشيرُ بوضوح إلى أن النص؛ سيحمل قاريء الأشعار على تصور سلمى لا كامرأة بعينها كانت تعبث مع صويحباتها في سهول أورشليم ؛ بل كمكان بعينه يدعى سلمى أيضاً.
إنها أشعار مُصممَّة، مثل أشعار الجاهليين العرب،على خداعنا وتضليلنا: هاهنا صورة إمرأة قابلة لأن يُنظر إليها على أنها مكان بعينه هام الشاعر في حُبه. لقد كان هذا الانطباع، في القراءة المسيحية اللاهوتية ،ُعرضة بإستمرار، للتلاعب والتزييف وللتأويل الديني الرمزي، حيث تُصبح سلمى رمزاً للتعشق الصوفي والشاعر العاشق رمزاً للمُتعبد ؛ كما جرى الإيحاء في التأويلات الاستشراقية السقيمة، بأنَّ المقصود من سَلمى تجسيد رمزية أورشليم في العقيدة اليهودية- المسيحية. إن تفكيك صورة سلمى، بالتلازم مع تفكيك صورة جبل أوبن أو أبان في النصوص التوراتية ، سيكون ضرورياً وحاسماً على مستوى استرداد فلسطين الحقيقية من المِخْيال الغربي . بكلام آخر: إن تفكيك بنيات الهيمنة الاستعمارية على السرد في الرواية التاريخية السائدة عن فلسطين، هو السبيل، على مستوى الثقافة، أمام حرية فلسطين المنشودة ووجودها وإحباط عملية اختطافها إلى الأبد.
يقول سُليمان المزعوم في نشيد الإنشاد ( 13: 2 :14:1 - النص العبري ) :
شحورة- ء ني- ونءوه- بنوت- يروشلم
ك ء هل - قيدر- ك- يرعوت-شلمه
ءل-ترءني- شءني- شحر حرت-ششزفتني
· ها-شمش
سمراء أنا وجميلة يا بنات أورشليم
مثل أهل قيدار وأركان سُلمى
لا تلتفتن إلى سُمرتي
فالشمسُ لفحتني
يستخدم النص العبري كلمة التشبيه ( يرعوت ) في وصف سلمى لنفسها ( ك- يرعوت- شلمه ) والمكافيء العربي الدقيق هو: مثل أركان، مثل صفوح وليس مثل سُرادق، كما في الترجمة السائدة ، ذلك أن البدو لا يستخدمون كلمة سرادق في توصيف الجبل؛ بل يستخدمون كلمة صفوح أو أركان. إن هذه الملاحظة، التي قد تبدو في نظر البعض عابرة أو غير ذات قيمة جوهرية على صعيد استيعاب دلالات القصيدة؛ هي في صُلب التفهم الضروري والعميق لها من وجهة نظر هذا الكتاب.
لماذا تصف المرأة نفسها على هذا النحو؟ وما هو مغزى تشبيه المرأة لجسدها بالسُرادق أو الصفوح أو الأركان، إذا لم تكن هي ذاتها الجبل الأسود؟ ولكن: مَنْ هي سلمى، هذه التي تخاطبُ بنات أورشليم ؟
في مقطع آخر من النص ( 10: 3: 14: 2 ) يقول سليمان المزعوم:
(ء فرون-عسه-لو-ها-ملك-شلمه-م-عصي
ها-لبنون-عموديو-عسه-كصف-رفيدتو-زهب)
صنعوا للملك سُليمان محفة
من خشب لبنان
دعامتها مصنوعة من الفضة
وفراشها ذهب
أيُّ لُبنان هذا قرب أهل قيدار وصفوح سَلمى؟ وأي لبنان هذا، الذي يجعل ملكاً يشعر بالزهو لأنَّ مظلتة ( محفته ) الملوكية صُنعت من خشب أشجاره؟ لقد سارَ الشعراء الجاهليون على خُطى تقليد بدوي قديم، على الطريق ذاتها التي عرفت تطويرأ مُنظماً لأشكالٍ شعرية وسردية، أساسها التغَني بالمواضع والأماكن المرتبطة بذكريات قبائلهم وبنمطٍ من الاستقرار والإقامة؛ كان يُشيع، على مر الوقت، إحساساً بالتفوق والتمايز عن الجماعات الأخرى غير المُستقرة. هذا هو في الواقع، مغزى التغني بالأماكن والمواضع في الشعر الجاهلي؛ فهو يمنح المُغني إمكانية امتلاك الامتياز: امتياز إنشاء الصور الشعرية الغرائبية ؛ والغوص في قلب مغامرة التجوال في جغرافيات يكاد يستحيل بلوغها. إن هذا التقليد الشعري يَخْتَزِنُ درجة قصوى من الإحساس، عند كل شاعر وكل جماعة، بالقدرة على التمايز عن أفراد آخرين، أو جماعات أخرى لم تعرف الاستقرار ولم تجرب، بعد، طاقته على تفجير القيم والرؤى الجديدة. ونحن نعلم أن كل استقرار يجلب معه لا الوعود بحياة مُغايرة، وإنما الوعد بنظام ثقافي مُغاير. لأجل ذلك، يتعيًن النظر الى هذا الجانب في القصيدة على انه يندرج في إطار المفاخرات الشعرية، التي ظل الشعر العربي القديم مُحافظاً على زخمها حتى نهاية العصر العباسي، حين استمرت المفاخرات بين القبائل تصدح في البلاط الإمبراطوري.
مع تناقل الروايات الشفاهية لهذه المُفاخرات الشعر ذات الطابع الغنائي ( والتي تتجسدت بصورة رمزية في أناشيد الراعي والفلاح في الملاحم السومرية وجدالهما المرير حول أفضلية كلٍ منهما وجدارته وتفوقه ) برز التغني بالمواضع والأماكن كتقليد شعري، يُطور تقاليد سابقة، ناقلاً إياها الى حقلٍ جديد. ومنذ ئذٍ صارت المواضع والأماكن تتزود بأسماء أنثوية، وبكل ما يلزم من أجل تلقي صورها كصور آدمية؛ حولتها، مع الوقت، الى كائنات بشرية شديدة المثالية، نموذجية ومُفارقة. وبلغ الأمر، في هذا السياق اقصى درجات التماهي بين المرأة المعشوقة والمكان المعشوق، في الشعر الجاهلي وفي شعر العصرين الأموي والعباسي المبكر، حين تعامل نقاد الشعر القدامى مع هذه الأسماء الأنثوية كما لو كانت رموزاً بشرية، أو أنها أسماء نساء وفتيات هامَ بهنً الشعراء، حقاً، وأن القبيلة تمنعت إزاء هذا الحب وعمدت الى قمعه وتدميره ( كما هي الحال مع المُغناة الشعبية لعنترة بن شداد في حب ابنة عمه عبلة وهي مُغناة تدور ويا للمُصادفة حول اللون الأسود).
وحتى بالنسبة إلينا نحن المعاصرين؛ فإن عنيزَة وُلبنى وميًة وسلمى وليًة ؛ في أشعار إمريء القيس وزهير ولبيد والنابغة وسواهم، كانت َتمْثيلاً لهذه الأنثوية، أي لأسماء فتيات فاتنات هام الشعراء بهن حُبا.
إن نشيد الإنشاد المنسوب توراتياً لسُليمان ، ومنظوراً إليه في إطار هذه الأنثوية الشعرية، هو مُعلقة من ُمعلقَّات الشعر الجاهلي، التي لم تصلنا واختلف العرب القدماء بشأنها، وما إذا كانت عشراً أم سبعاً، وفيها كل العناصر الدالة على ذلك. وفي الأساس منها سيرُ الشاعر على خطى التقليد الشعري في التغني بالمواضع والأماكن. بل انها تتضمن صوراً وصفية مُدهشة لجغرافية اليمن القديم وجزيرة العرب، مثلما هي الحال مع سائر المُعلقات الجاهليات التي بكت أو تغنت بمنازل القبائل.
لكل ذلك، تبدو النظرية الرائجة حتى اليوم ،في عالم الأدب المُقارن، عن صلة نشيد الإنشاد بالآداب السومرية أو البابلية، باطلة وزائفة وغير مقبولة حتى في حدودها الدنيا، فليس ثمة محاكاة للشعرية السومرية ؛ بل ثمة تقليد شعري يضرب عميقاً في تربة التقاليد والثقافة العربية في طفولتها البعيدة، السابقة على عصر الهجرات الكبرى صوب العراق ومصر وبلاد الشآم. إن سَلمى نشيد الإنشاد هي ذاتها سُلمى امريء القيس والأحوص.وهي ليست امرأة من أورشليم، بل هي اسم جبل عربي شامخ على مقربة من جبل ُلبنان. وإذا ما وضعنا حقيقة الأغراض الأدبية المحض في الشعر الجاهلي، في إطار هذا التصور عن الأماكن والمواضع ؛ فإنَّ الصور الشعرية المُنمقَّة عن سلمى نشيد الإنشاد، وسلمى الأحوص وزهير وامريء القيس وسواهم، ستكون قابلة لأن يُرى إليها لا بوصفها تجسدات رمزية لمسيحية العهد القديم ؛ بل كصور ماكرة، مُخادعة، عن منازل قبلية وأوطان، تحولت لشدة تعلق الشعراء بها ،إلى موضوع غرامي وشعري.
ليس ثمة سلمى تلهو مع صويحباتها من بنات أورشليم عند سفوح ُلبنان؛ بل ثمة جبل سلمى وعلى مقربة منه جبل ُلبنان في وادي الرمة.
تكمن واحدة من الصور الجامحة، المتوترة، عن هيام شعراء الجاهلية بسلمى وُلبنى وعُنَيْزَة ، اللواتي نُظِر إليهنً،على الدوام في النقد الأدبي القديم والحديث ، بوصفهن نساء وفتيات القبائل، في الفكرة التالية: إن الطاقة المُذهلة على تشذيب صور المواضع والأماكن، جبالاً ومياهاً وتلالاً، ومعالجتها وتحويلها الى أشكال آدمية يأنسُ إليها المرء في ترحاله وأسفاره ( وهذا ما يُميز التقليد الأدبي القديم عن سواه ) تكمن أصلاً في قدرة الشاعر على خداع وتضليل قرائه وخداعنا أيضاً، نحن المُتلقين المُستمرين للقصيدة في مختلف العصور. تضليلنا وحملنا على المشاركة في صناعة الوهم نفسه ؛ بل وحملنا على الإيمان بإنَّ سلمى وُلبنى وليًة، إنمّا هن نساء القبيلة اللواتي هام الشعراء بهنَّ . لقد كانت هذه المواضع والأماكن والجبال والمنازل، موضوعاً أثيراً ونمطياً في الشعر الجاهلي، تمّ شَحْنهُ بكل ما يلزم من محمولات رمزية شديدة الحساسية من أجل تمكين المُتلقين المُستمرين للقصائد، حتى مع تغيًر العصور والظروف؛ على الاحتفاظ بالجزء الآدمي العضوي من هذه الصور. وفي هذا الإطار؛ يمكن لنا أن نرى الى سلمى الجبل العربي الشامخ بكل أبهتِه وأنوثته لا على أنه موضوع شخصي يخصُّ شاعراً بعينه؛ بل كتعبير عن أنوثة جامحة، متوترة، قابلة في الآن ذاته، لأن تكون مادة عضوية يعود إليها الشاعر والقاريء ليجدا فيها، كل منهما على حدة، شيئاً يخصه وحده. هذا ما يُفسَّر لنا سَّر وجود سَلمى نشيد الإنشاد ذاته، في شعر الأحوص وسواه من شعراء الجاهلية.
لقد توهم أحد أكبر نقاد الشعر الجاهلي القدامى في شرحه للمُعلقَّات الجاهليات ( انظر شرح الأنباري للقصائد السبع الطوال ) أن عُنَيْزة في شعر امريء القيس هي محبوبة الشاعر ومعشوقته؛ فيما هي وادي عُنَيْزَة الذي عبره الشاعر قاصداً ديار قبيلته . كما توهم غيره من النقاد، أن سلمى في شعر الأحوص هي محبوبته، فيما هي الجبل نفسه الذي تغنى به سُليمان في نشيد الإنشاد.
قال الأحوص:
فأنى له َسلمْى إذا حلَّ وأنتوى
بحلوان وأحتلت بمُزْجٍ وحبحبِ
وبالطبع لا يتعشَّقُ الأحوص في شعره، المرأة ذاتها التي أحبها الملك-النبي سليمان. ومن غير المنطقي تخيًل مثل هذه الواقعة. ولكن يمكن في المقابل، تصور هذا الغرام بسلمى، المستمر برغم تغيًر العصور والظروف، على أنه تجسيد لتقاليد الغرام بالمكان. والحال هذه؛ فإن سلمى الجبل الذي تشبَّهت به الفتاة السمراء في نشيد الإنشاد، وتماهت معه حتى غدت هي ذاتها سلمى -كما سنرى من تحليل القصيدة - يجب أن يكون قرب أورشليم في فلسطين، إذا ما صدَّقنا مزاعم القراءة الاستشراقية للتوراة. بيد أننا لا نعرف جبلاً بهذا الاسم قرب القدس يُدعى سلمى، والى جواره جبل يُدعى ُلبنان؟ مثل هذه الجغرافيا تبدو غرائبية في حال تخيلها في فلسطين. ولكن، وبعيداً عن غرام الأحوص بسلمى، سنلاحظ أن شاعراً شهيراً من شعراء العرب القدماء، تسَّمى باسم سًلمى فصارت لقباً له هو زهير بن أبي سُلمى، وسوف نرى تالياً دلالات هذا اللقب.
قال زهير ( ياقوت:2:39، البكري: 314 ) :
صَحا القلبُ عن سلمى وقد كادَ لا يسلو
وأقْفرّ عن سلمى التعانيقُ فالثجلُ
وجود سلمى كلقب للشاعر الذي اشتهر بغرامه وحبه لسلمى- المجاورة لموضع التعانيق: انظر تعنق في التوراة- يجب أن يُحيلنا إلى ظاهرة هامة من الظواهر السوسيولوجية في الشعر الجاهلي؛ فلقد عرف الشعراء المُتعاقبون منذ الجاهلية القديمة وصولاً إلى الإسلام، تقاليد حمل اسماء المعشوقات كألقاب مثل الشاعر العربي المعروف باسم كثير عزه – قارن مع عزه التوراتية- اليمنية في التوراة . هذا التماهي بين المعشوقة والمكان،هو الذي يفسر لنا المغزى الحقيقي للتماثل في اللغة العبرية بين إسم سُليمان وسُلمى، فهما يُكتبان بالحروف الهجائية ذاتها (شلمه).ولذلك اضطرب المترجمون أمام الكيفية التي يتوجب بها فهم الاسم شلمه في قصيدة نشيد الإنشاد: هل هي سليمان أو سلمى؟ إن بعض المقاطع التي تسجل الاسم، لم تحظَ بترجمة مقنعة حتى في حدها الأدنى، وذلك بسبب الارتباك في التعامل مع الاسم شلمه- سلمه . هذا التماهي بين العاشق والمعشوق، والذي يستمر مع الوقت واختلاف العصور، لا يمكن أن يُفهم في سياقه الصحيح،إلا إذا جرى تفهم خلاق لتقاليد الغرام بالمكان في الشعر العربي القديم، وفي إطار الثقافة القديمة ذاتها: ثقافة البكاء على المنازل. ولنلاحظ أن قصيدة زهير بن أبي سُلمى تجعل من جبل سُلمى قرب التعانيق، وهذا هو اسم المكان الذي يصفه يشوع ويحدده بالاسم ( تعنق) .
ليس ثمة مكان في فلسطين التاريخية يُدعى تعنق أو تعانيق قرب جبل يُدعى سلمى في أورشليم ؟ إن ( شير – ها- شيريم ) المُترجمة إلى ( نشيد الإنشاد ) يجب أن تترجم إلى: (مُعلقة) أو(قصيدة القصائد)؛ فهذا هو المعنى الحقيقي للجملة. وفي الواقع؛ فإن الفكرة الرائجة في الثقافة العربية المعاصرة والقديمة كذلك،عن صلة هذه التسمية بما يُفترض أنه تقليد ديني - أي تعليق القصائد المشهورة في أستار الكعبة، إنما هو تأويل متأخر لوجود تقليد ضارب في القدم نسي العرب دلالته. والأصل في كلمة المُعلقة ليس وضع القصائد على أستار الكعبة؛ بل وصف قيمة القصيدة باعتبارها أكبر من مجرد قصيدة. ولذلك جاء تعليق القصائد العظيمة والمشهورة في أستار الكعبة، تكريساً لاحترام العرب ومحبتهم لأمهات القصائد، أي للمُعلقات وليس لأنها عُلقت في أستار الكعبة وحسب. بهذا المعنى؛ فإن ( شير- ها -شيريم ) العبرية تعني : المُعلقَّة ، وليس نشيد الإنشاد، أي: أم القصائد.
في المعُلقة الضائعة والمنسية هذه، يقول الشاعر ما يلي:
(هنيده-لي- شءحبه-نفشي-ء يكه-ترعه-ء يكه
تربص- ب- صهريم.
شلمه - ءهيه- كعطه- عل- عدره- حبريك
ءم- لو- تدعي- لك- هيفه- ب- نشيم
صئي-لك-ب- عقبي- ها- صأن- ءت
جديتيك- عل -مشكنوت- ها- رعيم).
إن الترجمة العربية السائدة، الحائرة أمام الاسم ( شلمه ) تعطي المكافيء العربي لهذا المقطع على النحو التالي -ولنلاحظ كيف يتحايل المترجم على اسم شلمه -:
( أخبرني يا مَنْ تُحبه نفسي
أين ترعى وأين تربض عند الظهيرة؟
لئلا أكون تائهة
عند قطعان أصحابك.
إن كنتِ لا تعرفين
أيتها الجميلة بين النساء
فأخرجي في إثر الغنم
وارعَي جداءكِ عند مساكن الرعاة)

إن هذه الترجمة غير مقبولة بسبب طابعها الاعتباطي الفاضح، الذي يحذف اسم شلمه،ويستبدله بكلمة ( لئلا ) كما يحذف جملة ( ء هيه - ك -عطه- عل- عدره ) . فضلاً عن التلاعب ببقية الكلمات. الفهم الصحيح للمقطع، يجب أن يلاحظ اسم الجبل سلمى - شلمه بدقة أكبر. وهنا ترجمتنا للنص:
( ناديت ُالتي تهواها نفسي
أين ترعين ؟ وأين تمكثين في الظهيرة ؟
سلمى
كأنها فوق عذر تحتجبُ
إنْ صويحيباتك لم يعرفن جمالك بين النساء؟
فسأخرجُ لك في إثرِِ الغنم وأرعى جداءكَ
عند مساكن الرعاة .
يوضح هذا النموذج، الطريقة التي يتعامل فيها المخيال الأوربي مع أسماء المواضع في التوراة؛ وهو المخيال ذاته عند مترجمي النصوص إلى العربية، الذين يستخدمون التفاسير والمعاجم اللغوية بطريقة فيها الكثير من الاعتباط،، وذلك أملا" في تقدييم مقاربات للنصوص العبرية قادرة على حل المشكلات اللغوية التي تصادفهم . ولهذا السبب يطغى الغموض على النص التوراتي في العربية، ويكاد يستحيل فهم الكثير من أفكاره.
هذه هي سلمى ( الجبل ) الذي شاهد الشاعر عند سفوحه راعيات الأغنام، حيث تماهت الصور وتداخلت،على نحو بات فيه من العسير فك الترابط بين الفتاة المعشوقة والجبل، تماماً كما في الشعر الجاهلي. هاهنا وصف لجبل سلمى ولسراة عذر اليمنية حيث ينتشر الرعاة. إن قصيدة زهير بن أبي سُلمى، نموذجية في هذا السياق فهو يكرر اسم سَلمى مرتين، وفي إحداهما يقصد الجبل:
صَحا القلبُ من سَلمى وقد كاد لا يسلو
وأقفْرَ عن سُلمى التعانيق فالثجلُ
فأيهما سلمى –الجبل- وأيهما سلمى -الفتاة -المعشوقة ؟ لقد قمنا بتحديد سراة عذر ( أنظر هوامش هذا الكتاب) ولا نجد حاجة لتكرار التحديد؛ ولكن من المهم ملاحظة أن حذف اسم الموضع سلمى من ترجمة القصيدة – المقطع الثاني واستبداله - كان له غرض واحد هو: تمويه الجغرافيا. ومع أن القصيدة واضحة في أسلوب توصيفها للأمكنة في قصة الحب هذه؛ فإنَ المخيال الاستشراقي أقصى من أمامه كل صورة مُحتملة لمكان معلوم يُدعى عذر، وفضل مكافأة الاسم بكلمة ( قطعان ) في سياق التمويه ذاته.
في إطار هذه التقاليد الشعرية المُستمرة منذ عصر سُليمان الأسطوري ، تواصلت غنائيات الشعراء العرب وتَم تصعيد شعري متواتر يتمتع بقابلية تجريدية عالية وفذة على التناثر ، كصورٍ لمواضع وأماكن ومنازل قبلية تؤسَّس لسجلٍ ثر من المحفوظات ؛ يمكن العودة إليه في سياق قراءة مُتصادمة مع القراءة الغربية للتوراة. إن استمرار صورة سلمى في الشعر العربي حتى العصر الأموي والعباسي، يبرهن على قوة زخم هذا التقليد وطاقته على الإستمرار، رغم تغير الظروف والأحوال. ومع هذين العصرين تواصلت التقاليد نفس8ها واستمرت ُلبنى وعُنيزة وسلمى في الحضور الرمزي المكثف للماضي، وجرى في المقابل، تملًكٌ من جديد لهذه الصور؛ التي لم تَعُد جاهلية قط، بل أصبحت إسلامية - أموية وعباسية أيضاً. على هذا النحو أصبحَ بالوسع النظر إليها كموضوعات خاصة تكتسب،مع الترابط الوثيق بينها وبين مُتلقيها مفاهيم أقل تكلفاً. وآنئذٍ، ومع التشذيب المُستمر للصور المُمتلَكة من جديد،أصبحت سُلمى قابلة للتصنيف كامرأة لا كموضع؛ بل ربما نسي الرواة حقيقتها كاسم لموضع.
قال كثير (الديوان):

أمنْ آل سَلمى دَمْنَةٌ بالذنائبِ
إلى الميت من رَيْعان ذاتِ المطاربِ
يلوحُ بأطراف الأجدَّة رسمُها
بذي سَلمٍ أطلالها كالمذاهبِ
أقامت به حتى إذا وقدَ الحصا
وقمصَ صيدان الحصا بالجنادبِ
وهبت رياح الصيف يومين بالسّفا
بليًة باقي قرمْل بالمآثب
إذا كانت سلمى نشيد الإنشاد على مقربة من أورشليم ؛ فإن سلمى كثيِر هي على مقربة من وادي سلم. هذه الإحالة الى المكان نفسه، سوف تُفصحُ عن الترابط الوثيق بين الجبل والوادي، فهما معاً في فضاء جغرافي يستحيل وضعهُ في فلسطين التاريخية؛ بينما يمكن على العكس من ذلك، وضعه قرب نجران حيث وادي ليًة ( لية ، قارن مع ليئة في التوراة ) . وبالطبع يستحيل تخيّل سلمى كامرأة أحبها الشاعر كثير فقصد ديارها، لأننا نعلم غرامياته المشهورة مع عزه . ولكن ، يتوجب فهم صورتها كموضع هو نفسه جبل سُلمى، حيث تقطن عند وادي سلم جماعات من الرعاة عُرفت تاريخياً هناك، من بينها قبيلة طيء الشهيرة مالكة الجبل- كما سوف نُبيًن هذا في مكانه المناسب -. إن هذه الصور الصافية، الخالية من أي أثرٍ للمبالغة والمُتَضمنة لمعرفة مباشرة بجغرافية العالم القديم - والجزيرة العربية واليمن هي هذا العالم بالنسبة للشاعر- يمكنها أن تكون استطراداً مُنَمقاً وأكثر عاطفة لصورة سُلمى القديمة. ولذلك؛ فإن هذه الأعمال الشعرية المتصِلة ببعضها بعضا" شكلياً، ولكن المُتناثرة فعلياً، ستبدو عملاً شعرياً واحداً أمكن لجميع الشعراء أن يُسهموا فيه في مختلف العصور، وأن يُعيدوا كتابته في كل مرة بدت فيها منازل القبيلة وفتياتها، وهن يَرْعَيْنَ الأغنام في سفوح سلمى ووادي شلم؛ تعبيراً من بين تعبيراتٍ عدًة،عن ذلك الاستغراق الوجداني في الماضي بكل بساطته.
وفي هذا السياق؛ سيبدو وادي سلم ( شلم ) الذي تغنى به الشعراء ووصفوه قرب سُلمى، غير بعيد عن نجران القديمة؛ قابلاً للمُضاهاة بأوري شلم التوراة - يروشلم - . والمثير للاهتمام، أن العرب القدماء كانوا يرسمون الاسم في صورة أورى سلم، بما يُدَلل على أن هذا الوادي المقدس كان موضوعاً شعرياً. وبالطبع لا توجد في فلسطين التاريخية أورشليم أخرى قرب جبل سلمى؟ إن المقاصد الحقيقية التي تبنيها هذه الصور الشعرية، تجعل من المستحيل تخيًُل وجود الجبل في مكان آخر خارج إطار جغرافية الجزيرة العربية واليمن، فليس هناك ذات المطارب ولا وادي ليًة، إلا على الطريق إلى جبلي طيء أجأ وسلمى. وإذا ما قمنا لأغراض تقنْية خالصة بإعادة كتابة مُعلقة سُليمان في قالب الشعر العمودي القديم نفسه، ومقاربة هذا البيت من القصيدة مع بيت الشاعر العربي الشهير لبيد ؛ فإن النتائج التي سوف نحصل عليها ستكون مثيرة للدهشة بالفعل:
نشيد الإنشاد لسُليمان قصيدة لبيد
أنا سمراء لكني كأركان سُلمى إذْ بدت أو كأنها
جميلة يا بنات أورشلم ذُرى أجأ إذ لاحَ فيها مواسلُ
كأهل قيدار
كأركان سُلمى
بهذا المعنى؛ فإن الكيفية التي تناولت فيها القراءة الاستشراقية موضع القصيدة المنسوبة لسُليمان ، ومن دون النظر إلى عمق روابطها بالتراث الشعري العربي القديم، هي كيفيًة قابلة لأن تتوافق وتنسجم مع المخيال الغربي عن الشرق ؛ ولذا أعادت هذه القراءة إنتاج القصيدة كنص غربي موضوعه الرئيسي هو الشرق السحري نفسه، ولكن بعد تمزيق أواصره وعلاقاته مع البيئة المحلية التي صدر عنها. على هذا النحو يظهر( الشرق الديني) الذي فتش الغرب فيه عن تاريخ يمكن الانتساب إليه، غامضاً وسحرياً وعصياً على الترجمة، حيث نساء أورشليم يَخْلُبنَ ُلبً الملك الشاعر، وهو يتبختر بينهنَ عابثاً ومُفرِطاً في المشاعرالجنسية. بيد أن هذه الصور المخيالية، بدت مُحرجة لجمهور المتدنيين ؛ ولذا كان لابد من تأويل مسيحي يُعيد ترتيب أفكار النص ومقاصده، ويُعيد رسم الأجواء الروحية الافتراضية ، من أجل إضفاء كل ما يلزم من مسوح صوفية على النص. ولم يكن هذا كله حقيقياً ؛ بل كان تزييفاً للقصيدة وللتقاليد القديمة التي أنتجتها.
قال المُخبًل ( معجم: 825 ) :

أعرَفت من َسلمى رسوَم ديارِ
بالشط بين مُحققٍ فصحارِ
وصحار هذه من المواضع اليمنية المعروفة وقد قصدها الشاعر في طريقه إلى ديار سلمى -أي منازل القبائل المقيمة عند الجبل-. والمثير أن اسم صحار هذا يرد في القصيدة المنسوبة لسليمان ( أنظر الهوامش ) بما يدًل على أنه مكان قديم يتصل بجبل سلمى ، بحيث أن الشعراء تعاقبوا على ذكرهما معا" . والشاعر الجاهلي المُخبًل ،على غرار آخرين من الشعراء، يُعيدُ امتلاك صورة سلمى لا بوصفها معشوقته كما يتوهم النقاد؛ بل بوصفها موضوعاً شعرياً مستمراً في إطار استمرار التقاليد الشعرية. يتبقى أن نلاحظ هنا استعمال الشاعر لكلمة ( شط ) في معرض الإشارة إلى الوادي ومياهه الغزيرة، ففي الثقافة العربية القديمة يُسمى الوادي نهراً. ولأن سلمى لم تكن معشوقة سليمان وحده ولا لبيد أو زهير، فقد قال فيها العيزار بن الأخفش الطائي، إبن القبيلة المالكة لجبل سُلمى:
تحمَّلن من سلمى فوجَّهن بالضُحى
إلى أجأ يقطعْنَ بيداً مهاويا
ليس ثمة ما يمنع هذا الاستخدام المُتدًبر والرصين لاسم الموضع الجبلي، في سياق الاستذكار الحميمي للماضي؛ من أن تتكثف فيه صورة سلمى رمزيا"، كتجسيد مزدوج للمرأة وللمنازل القبلية في آنٍ معاً ؛ وأن يُحتَفَظَ بها وبدرجة عالية من الطهرانية كصورة لا تنتمي إلى الماضي المندثر وحده، بل والى المستقبل كذلك. وهذا هو سر استمرار التقاليد الشعرية التي أضفت بُعداً دينياً على المكان. ولنلاحظ الصلة اللغوية بين سلمان وسلمى واسم الإله العربي القديم سلام.
وما دامت الأوطان القبائلية قابلة لأن ُتفقد، في الهجرات القسرية والحروب والمغامرات والكوارث الطبيعية وسوء الطالع، وما دام التشوق إليها سيظل ملازماً لمن يجد نفسه مقذوفاً في العراء، وقد خسر (سلماه ) الخاصة؛ فإن كل شاعر سيجد نفسه وهو يستذكر سلمى، وكأنه يستذكر المرأة التي تناوب العشاق على حبها، متجسدة في الوادي نفسه: وادي سلم. بهذا المعنى يمكن لنا أن ندرج قصيدة سليمان النبي- الملك، كقصيدة جاهلية ضائعة تخيَّلها الغرب نشيداً إسرائيلياً. ولنتذكر -هنا- أن شعراء العرب القدامى، كانوا مزيجاً من ملوك وفرسان وشعراء، يجوبون الأرض وهم يصدحون بأشعارهم. والشعراء- الملوك في التراث الشعري العربي لا حصر لهم (الأنبياء في المخيال العربي القديم هم شعراء، كما تُدلل واقعة اتهام قريش للرسول -ص- بأنه شاعر).




تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow