تراجيديا التسلّط وكوميديا الشعوب الجاهلة محمد صابر عبيد
2014-07-03
الشعوب العربية شعوبٌ جاهلةٌ مع سبق الإصرار والترصّد، مغلوبٌ على أمرها، لا حول لها ولا قوّة. لها ربّ في السماء تشترك فيه مع كلّ شعوب الأرض الزاهرة الزاهية المكتظّة بالخضرة والنور، لكنّها من دون كلّ شعوب الأرض لا تكتفي به وحدَه، فتذهب لاهثةً وراء ربّ آخر في الأرض (صنميّ غالباً) يحميها من غوائل الغائب وبطش المجهول، ولا يمكنها أن تنام قبل أن تتأكّد من وجوده قربها، يرسم لها طريقها، ويفكّر عنها، ويمنحها بركاته، ويهيمن عليها، ويستبيح دمها، ويرهن إرادتها، ويسخّرها لعبادته والتسبيح بحمده بكرةً وأصيلا.
في مثل هذه الحال، يكون ربّ السماء قليل الأهمية بجانب ربّ الأرض الجبّار المستكبر القائد العام والإله العام. فربّ السماء بعيد جداً في السماء السابعة كما يقال، واللقاء به مؤجّل وهو غفور رحيم؛ في حين ربّ الأرض قريب جداً حتى أنّ في وسعه لفرط برّه بمواطنيه أن يشاركهم أسرّتهم وأحلامهم وأمانيهم وأوهامهم، وأن يفرّق متى شاء بين المرء وأخيه، والزوج وزوجه، والأب وابنه. اللقاء به حين يريد لتقديم الطاعة والولاء وطلب الرضى، حاصل فوراً بلمح البصر، وهو شديد العقاب والعذاب دائماً، قاس وقاهر على نحو تراجيديّ مروّع. فهذا الربّ الأرضيّ، غالباً ما يكون قادماً من منبت أسريّ واجتماعيّ وثقافيّ غير مستقيم ولا سويّ ولا معروف تماماً ولا موثوق به، لكنّه سرعان ما ينتمي بلمح البصر إلى أعرق الجذور وأصفى الأصول وأعلى الثقافات حين يعتلي العرش، حيث يغيب الماضي الغامض ويتجلّى الحاضر الراهن الدامغ، ليصبح نموذجاً لكلّ ما يحلم به الشعب من مباهج لا تتعدّى حدود الخطب الجوفاء والفم المحلّى بالوعود الزائفة التي تخرج على شكل قيء ملوّث، تحيّيه الجماهير السعيدة وتصفّق له وترجو له مزيداً من الاتساع والفصاحة والقوّة والعطاء؛ ربّ نهائيّ حاسم ليس له بديل.
القادة المغامرون الذين لا يتمتّعون بماض أو حاضر أو مستقبل مهنيّ مشرّف، أو إعداد معرفيّ أو أكاديميّ أو حتى تعليميّ واضح، ماكيافيلّيون، لا يهمّهم شيء في دنياهم سوى الحصول على ما يمكن الحصول عليه من مكاسب وغنائم بصرف النظر عن الوسيلة. يختصرون الحياة بمغامرة دموية إمّا أن يموتوا فيها وإما أن يغتصبوا عرش السلطة. وحين يعتلون العرش يبدأ ضجيج المأساة ويتعالى فحيحها، وتنفتح على تراجيديا سلطويّة ساحقة تحرق الأخضر واليابس، يذهبون فيها مباشرة نحو أكثر اختيار سلبيّ متاح يوفّر لهم ما يريدون، ألا وهو اختيار الاستبداد والتسلّط والديكتاتورية. فهم لا يعرفون سوى أنفسهم وقد تضخّمت على نحو مجحف شبه أسطوريّ. كلّ "آخر" عداهم، هو عدوّ متآمر وإرهابيّ وعميل وغير وطنيّ بالضرورة، ولا بدّ من تسخير كلّ ما هو ممكن وغير ممكن من أجل بقائهم في السلطة مهما كانت الخسائر في صفوف الآخر.
ستة عقود من الذلّ في العراق
هكذا تسيّد القادة المغامرون حياتنا وأرواحنا ومصيرنا ومستقبلنا أكثر من ستة عقود. ستة عقود والشعب العراقيّ من هزيمة إلى هزيمة، ومن خيبة إلى خيبة، ومن امتهان للكرامة إلى دعس للرؤوس وتمريغ للأنوف في وحل الذلّ. حروب الشمال قتلت من الشعب العراقي بجنوده وكرده عشرات الألوف بلا طائل؛ حروب الثورات والانقلابات والانتفاضات الداخلية والتخوين والمؤامرات حصدت الكثير من الأرواح بلا عدد؛ السجون والمعتقلات والتصفيات أعدمت أعداداً هائلة من الشرفاء الذين لم يبايعوا الشياطين على حكم البشر.
حكّام العراق من خمسينات القرن الماضي حتى الآن، ثأروا لنقصهم وسوئهم وانعدام ثقافتهم من جموع العراقيين (شيعةً وسنّةً وكرداً وأقليات) بما لم تره عين ولم تسمع به أذن، لا في التاريخ ولا في الأسطورة ولا في الخرافة. لذا، ليسمح لي ربّ العالمين بأن أتجرأ على صلاحياته قليلاً وأُدخلَ إلى الجنّة بلا حساب ولا سؤال ولا جواب، كلّ عراقيّ قُتل غدراً، أو قضى تحت تعذيب جلّادي السلطات، أو هُجِّرَ من بيته ظلماً، أو أُعدم وهو يدافع عن حقّه، أو تعرّض لأيّ نوع من أنواع القهر والترويع والمصادرة من أجل رأي صادق، بشرط أن لا ينقلوا الأمراض التي تشبّعت بها جلودهم وأرواحهم على يد تراجيديا السلطة إلى الجنّة، وذلك لأنّ الجنّة خالية من الأحزاب والقوميات والطوائف والإثنيات والأكاذيب والمغامرات، وخالية أيضاً من أسلحة الدمار الشامل وغير الشامل؛ جنّة يأكل الجميع فيها خبزهم من رغيف خصب واحد ويحتسون نبيذهم من قارورة مشحونة واحدة.
الولايات المتحدة الأميركية ذات الدم اللزج والزجاج الناتئ، لا يهمّها شيء منذ أن عرفناها، سوى مصالحها ورفاهية مواطنيها. هي سلطة كونية شمولية تفرّدت في الهيمنة على مقدّرات العالم بعد انتهاء الحرب الباردة بنهاية الاتحاد السوفياتي السابق، تشتري كلّ شيء وتبيع كلّ شيء، تشتري شعوباً وتبيع شعوباً. شاءت مصالحها القومية العليا أن تزور العراق زيارة خفيفة بأكثر من 150 ألف جنديّ، صحبة طائرات ودبّابات ومعدّات عسكرية هائلة. أخبرونا أنهم جاؤوا لتحريرنا وإنقاذنا من ستة عقود من المذابح والجرائم والقتل اليوميّ والتدمير والإذلال، بعدما وصلت الإنسانية والكرامة والجمال والثقافة والتعليم والزراعة والصناعة وأيّ شكل ممكن من أشكال الحضارة والحياة إلى أرذل العمر. نشر الجنود الأميركان الرعبَ بسلوكهم وأشكالهم وأسلحتهم أينما حلّوا. يدهمون البيوت الآمنة ليلاً، يقلعون الأبواب بوحشية وانتقام، ويدخلون إلى غرف النوم بلا حياء، يستبيحون ما يريدون، يسرقون ما يشاؤون، من أجل شكّ بسيط يطرأ على خيال أحدهم أو دسيسة من أحد العملاء الذين باعوا شرفهم في تظنٍّ أنّ شاباً من شباب هذه البيوت ينتمي إلى المقاومة الشريفة. ولعلّ ما تحدّث فيه الجنود الأميركان أنفسهم في ما بعد، وما حصل من فضائح في سجن أبي غريب وبقية السجون الأخرى، ليغنيني في هذا السياق عن قول الكثير الكثير الكثير.
المهم أنّ الأميركان جاؤوا إلينا من ذلك المكان البعيد وقد عبروا البحار والمحيطات والقارات كي يقضوا على ما لدينا من أسلحة الدمار الشامل لئلّا نقضَّ فيها مضجع الصهاينة، وينهوا عصر الديكتاتورية في العراق، ويستبدلوا بها الديموقراطية الطالعة من فوّهات البنادق وعلى ظهور الدبابات وأجنحة الطائرات الحديثة المقاتلة. اجترح برايمر ديموقراطية نوعية تناسب شعبنا العراقيّ ذا السبعة آلاف سنة من الحضارة؛ ديموقراطية تقوم على تقسيم العراق على شيعة وسنّة وأكراد، ورسم خريطة التقسيم التي سيقتنع العراقيون بها بعد سنين في دورة دموية جديدة من القتل والتشريد والقهر والتهجير والفتن والمصادرة والتخلّف وإشاعة الفوضى، وفبركة دستور زائف كاذب وُضع بطريقة دراماتيكية ارتجالية غريبة، تقف على رأسه انتخابات تُباع فيها الأصوات وتُشترى، تُباع فيها المناصب (من أصغر منصب إلى وزير) وتُشترى، في أسوأ عملية انحطاط وتزوير واستهانة بالعقول وامتهان للكرامة يشهدها العالم الحديث.
أضحوكة الانتخابات بوصفها اختصاراً لفلسفة الديموقراطية، توهم الفائزين بأنّهم حقاً قادة شعب انتخبهم بإرداة وتصميم وإدراك ومعرفة وإيمان؛ شعب أتقن فلسفة الديموقراطية وجرّبها وتفقّه فيها وراح يطبّق معطياتها على أصولها، فيحصل التشبّث بها صكّ غفران يخوّل من يغتنم فرصة الجلوس على كرسي الرئاسة (أيّة رئاسة كانت) القول بأعلى صوته: أنا رئيس منتخب. وطالما أنّه منتخب فهو يفعل ما يشاء في الوقت والمكان الذي يشاء. أليس هو من انتخبه الشعب (حتى لو كانت نسبة الناخبين أقل من 30 في المئة!)، وحتى لو كان التحشيد الطائفي أو الحزبي أو العشائري (الديموقراطيّ!) هو جوهر هذه الـ 30 في المئة من جمهور الناخبين. المهم أنه جاء بعملية انتخابية وُصفتْ بالانتصار الشعبيّ الكبير والثورة البنفسجية، وقد ولدت "عملية سياسية" لا تنتهي إلى دولة، بل تنتهي غالباً على يد قادة غير مؤهّلين إلى فساد ما بعده فساد.
السياسات التي تتبّعها هذه القيادات الناقصة الثقافة والرؤية والمنهج والنظرية، التي لا تحمل أدنى درجة من الكفاءة لقيادة دولة، بل لقيادة عائلة صغيرة، تعمل أوّل ما تعمل على تجريد الشعوب من العقل والنظر والسمع واللمس والشمّ؛ تُفقدها حواسّها، وترهنهاـ وتغلق على أفواهها ومشاعرها وأحلامها بالشمع الأحمر والأسود والبنفسجيّ.
المثقفون والأكاديميون والأدباء والفنانون من هذه الشعوب التي لوّنتها السلطة بألوان الطيف الشمسيّ، عاجزون لا حول لهم ولا قوة؛ إذ تمّ تحييدهم وإبعادهم عن مساحة العمل والتأثير، لأنّ أصحاب السلطة ناقمون أصلاً على هذه الفئات ويتطلّعون إلى قهرها وإذلالها وتدمير قوّتها الناعمة. أمّا الإعلام وقد أصبح اليوم القوّة القاهرة العظمى التي تسيّر الشعوب، فهو يبيع ويشتري بالوطن والمواطن خدمة للأجندة التي يعمل عليها صاحب الوسيلة الإعلامية؛ إذ إنّ صراع الأمبراطورية الإعلامية الحديثة هو أكثر أنواع الصراعات تأثيراً ودموية.
الإرث الحلال؟
من يتسلّم السلطة في العراق يعتقد أنّ كلّ شيء ملكٌ شخصيٌّ له (طابو)؛ إرثٌ حلالٌ تركه له أبوه المفلس وجدّه المتسوّل، يتصرّف بحياة الناس وثروتهم ومصيرهم كما يشاء أو كما يلبّي طموحه أو جنونه أو وهمه، ويشرعن ذلك بما هو متاح له دائماً من أساليب شرعنة لا يُقنع بها سوى نفسه المريضة، لكنّها على كل حال تسير بحسب ما يشتهي ويريد، بصرف النظر عمّن ينتقد ويشجب ويفضح ويعارض. المتسلّط هو الحقّ وهو القانون وهو النظام، وكلّ ما عداه باطل وفوضى وخارج عن القانون، لأنّ الآخر في عُرف المتسلّط هو خائن وملفّه حاضر وجاهز وقت اللزوم، وهذه أسهل وسيلة قهر وتصميت وإسكات واستباحة للذات الإنسانية حين يشعر الإنسان بأنه مهدد بشرفه ووطنيته في كل لحظة؛ سلوكيات أقل ما يمكن أن يُقال عنها إنها تنتمي إلى القرون الوسطى.
هذه السلطة المتسلّطة القاهرة الجبّارة المجرمة لا تقدّم أيّ منجز للشعب مهما كان بسيطاً وهو من حقوقه الدنيا، إلّا يأتي مصحوباً بالمنّة، وكأنّ ما تقدمّه هو من جيب رأس السلطة ومن مخلّفات أبيها وجدّها. هذا المتسلّط الذي كان حافياً قبل حين لا يملك قوت يومه، صار يتحكّم بثروة البلاد والعباد من دون حسيب أو رقيب. الثروة هي الأخرى سلاح فتّاك حين يكون في يد المتسلّطين ممّن يجهلون التحكّم بها، من حساب الدراهم والدنانير المفردة إلى حساب مليارات الدولارات. أيّ مفارقة ضاربة في عمق الخيال لا تدانيها مفارقة، وكلّ شيء يتمّ على أيديهم باسم الشعب، والشعب لا اسم له دائما. القرارات الكبرى باسم هذا الشعب المسكين؛ تبذير الأموال الطائلة باسم الشعب المحال على التقاعد؛ شنّ الحروب المجانية المرتجلة باسم الشعب الحائر؛ اطلاق الوعود الكاذبة باسمه أيضاً؛ ليس ثمّة قرار تصدره السلطة العادلة خارج اسم الشعب، فماذا يريد الشعب المسكين أكثر من هذا المجد؟ يا لها من تراجيديا سلطويّة تُبكي حتى الحجر، ويا لها من كوميديا سوداء يتندّر عليها حتى الأموات.
عن جريدة النهار.
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |