من تجليات الظاهرة الشبقية في أدب محيي الدين بن عربي ( النكاح الساري في الأرواح والذراري
ألف
2014-07-31
ثمة بيت شعري مفرد للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي يلخّص به قضية محورية من أهم القضايا والموضوعات الفكرية التي يرتكز عليها مشروعه الصوفي والفلسفي القائم على الوحدة التي تنحلّ إلى كثرةٍ، والكثرة التي ليست شيئا سوى الوحدة، وهي الفكرة الصوفية الفلسفية التي جرّت على الشيخ كثيرا من الهجوم في حياته وبعد مماته، وغلّفت مشروعه ذاك بكثير من الريب والتهم، وبخاصة من قبل التقليدين المحافظين من علماء الشريعة وأهل الظاهر.
أقول: هذا البيت الشعري هو قول الشيخ:
نَكَحْـتُ نَفْسِي بِنَفْـسِي فَكُنْـتُ بَعْـلِي وعِـرْسِي
وهذا البيت واردٌ على هذا النحو في الديوان الكبير مفردا لا سابق له ولا لاحق، وهو أشبه بأُحجية أو لغزٍ شعري صوفي، يحتاج فهمه على وجهه الصحيح لأن يكون قارئه على دراية بطبيعة منهج الشيخ وطريقته الصوفية ومذهبه الفلسفي، والبيت ببساطة – قبل أن يظن القارئ الكريم بالشيخ الظنون، ويرميه بالشذوذ أو النرجسية أو الجنسية المثلية – يشير إلى أن الرجل إذا نكح امرأةً ما، فثمّ اثنينية في الظاهر الآنيّ الحاضر، ولكنها واحدية باعتبار النظر إلى الأصل الذي انبثقت عنه هذه الاثنينية وهو الرجل، فالمعلوم المقرر المصطلح عليه أن المرأة خلقت من ضلع الرجل، فهي جزء منه قد انفصل عنه، ولذلك فهو دائم الحنين إليه، والتعلق به، والسعي الدائب نحوه بهدف عودة الفرع إلى أصله، والجزء إلى كله، والرجل عندما ينكح امرأته، جزأه الذي انفصل عنه قِدْمًا إنما ينكح بعضه وجزأه، فهو البَعْلُ والعِرْسُ، وهو الفاعل في الحقيقة والمفعول، لا باعتبار الحالة الآنية المشاهدة، وإنما باعتبار الأصل في النشأة والجبلة.
وينوّع الشيخ ابن عربي على هذه النغمة في ثنايا شعره وتضاعيفه المختلفة مؤكدا هذه المعاني على ذات النسق من الإلغاز والإلباس، فيقول:
ولَـدَتْ أُمِّـي أبَـاهَا إنَّ ذا مِـنْ عَجَــبَاتِي
وهذا العجب العاجب سرعان ما يزول إذا ما عرفت القصد الذي يرمي إليه في سياقاته الفكرية التي يلحّ فيها على تأكيد أن الرجل إنما هو أصل الخليقة البشرية، وأن المرأة فرع عنه، وجزءٌ منه، فإذا ما ولدت امرأة ما ولدًا ذكرا فهي إنما تلد في الحقيقة من كان لها أصلا ومصدرا، وهي بذلك كأنما ولدت أباها، على طريقة الشيخ في الإيهام والإلباس.
بل يذهب الشيخ في هذا السياق إلى ما هو أبعد من هذا في كتابه الموسوم بفصوص الحكم في معرض تعليقه الصوفي على حديث الرسول الكريم: “حُبّبَ إليَّ من دنياكم ثلاث: النساءُ والطيبُ وقرة عيني في الصلاة” فيقرر أن علة تعلق الرسول بالنساء وحبّه لهنّ إنما لأنهنّ المعرض الأتم والأجلى والأبهى للتجلّي الإلهي في أروع صوره وأقدرها على تأكيد فكرته في الوحدة التي تنحلّ إلى كثرة، والكثرة التي ليست في حقيقتها إلاَّ مجاليَ متنوعة متعددة للوحدة.
وذلك لأن الرجل عندما يتصل بالمرأة جنسيا يظهر في هذا المعرض صورة من صورة التوحّد وعودة الفرع إلى أصله، والبعض إلى كله، ولا يكون ذلك كذلك فحسب بل تكون هذه الحالة الشبقية العليا مظهرا من مظاهر حلوله بخالقه وتوحّده به، لأن الله – كما ورد في الأثر – قد خلق آدم على صورته، فالصورة الآدمية صورة إلهية، فإذا التحمت الصورة الآدمية بأجزائها التي تفرّعت عنها ذَكَّرها ذلك بمثالها الأعظم الذي خُلقت على هيئته، وهو الصورة الإلهية، وبعبارة أخرى: تمثل صورة اللقاء الجنسي بين الرجل والمرأة عودة الجزء إلى الكل، فيكمل الأصل، فتتماهى الصورة بالمثال المطلق، وهذا مظهر من مظاهر التجلي الكوني الأعظم للوحدة الكلية كما يراها الشيخ الأكبر في الفصوص.
والمتتبع للمشروع الفكري للشيخ ابن عربي يجد إلحاحه على تتبع مفردات النكاح وتوابعه ولوازمه الدلالية يُغلّف بها مواضع كثيرة في شعره ونثره، ليس بوصفها ظواهر أسلوبية، ووسائل تصويرية، وأدوات تعبيرية فحسب، بل بوصفها محاور فكرية عامة تنطلق منها رؤى الشيخ وتصوّراته الكونية والوجودية.
فالرجل يفسّر آياتٍ من القرآن تفسيرا جنسيا ينمّ عن نزوع شبقي ظاهر في تناوله لأفكاره وقضاياه وتعبيره عنها، ترى ذلك مثلا في تأويله لقوله تعالى: ” الَّذِي جَعَل لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا والسَّمَاءَ بِنَاءً وأَنْزَلَ منَ السَّمَاءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ منَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ…” ( البقرة: 22) فيرى في وصف الأرض بأنها “فِرَاشٌ” إشارةً كنائيةً إلى الأنثى، ويرى كذلك في وصف السماء بـ”البِنَاء” إشارةً إلى عملية الممارسة الحسية وفعل النكاح، من قولهم: بنى الرجل بالمرأة: إذا دخل بها، ثم يرى في ماء السماء: ماء الحياة والذكورة الذي يترتب عليه الإخصاب والإنبات والتوالد والتكاثر في شتى صوره.
ولا يقف الشيخ عند هذا الحدّ بل ينظر إلى شتى المظاهر الكونية الحسية والمعنوية نظرة جنسية خاصة، فيرى الكون كله في حالة نكاح دائم دائب لا يتوقف، وهو ما عقد له بابًا مستقلا في الفتوحات المكية أسماه: النكاح الساري في الأرواح والذراري، وهو الفصل الرائع الذي تحدث فيه عن مظاهر التزاوج الحسية والمعنوية على المستوى الكوني عامة.
والقارئ لشرح الشيخ لديوانه: “تَرجمان الأشواق” الذي سمّاه: “ذخائر الأعلاق شرح تَرجمان الأشواق” ، يرى منهج الرجل ومقدرته الرائعة على التأويل وصرف كل ما هو حسي شبقي في غزله بحبيبته النظام ابنة شيخه مكين الدين عن ظاهره الحسي إلى المعاني والدلالات الرمزية الصوفية، على نحوٍ بدا التكلف فيه واضحا جليا في كثير من المواضع.
من ذلك مثلا تأويله لقوله:
بِرِدْفٍ مَهُـولٍ كَدِعْـصِ النَّقَا تَرَجْرَجُ مِثْلَ سَنَـامِ الفَنِيـقِ
والبيت – كما ترى – يطفح حسيةً وشبقية، فهو يشير إلى ردف رائع هائل ممتلئ حسب مواصفات الذوق العربي القديم، ويشبهه في ارتفاعه وتميزه عن سائر أوصال الجسد وأعضائه بارتفاع كثيب الرمل، ولا يقف به عند هذه الصورة الثابتة الجامدة، وإنما يكسبه حظا من حركة وحيوية عندما يشبهه في رجرجته واهتزازه بسنام الجمل السمين المكرم عند أهله لا يهان أو يبتذل أو يحمل عليه في حلٍّ أو ترحال، فهو ممتلئ السنام شَحْمًا ودُهْنًا فإذا مشى ترجرج وتمايل واهتزّ أيما اهتزاز.
وعلى الرغم من هذه الحسية والشبقية الواضحة في الصورة، والتي تجعل مهمة المتأول صعبة عسيرة يفاجئنا الشيخ ابن عربي مقررا أن الردف ما هو إلا النعم الكثيرة والفيوضات العلوية التي لا تعدّ ولا تحصى مثل حبات رمل الكثيب، والتي ” يُرْدِفُهَا” الله في قلوب أوليائه، ثم يفسّر الاهتزاز والرجرجة مستدعيا إلى الذهن صورة اهتزاز الأرض ورجرجتها إذا نزل عليها الماء فإذا هي تهتزّ وتربو لما أصابها من الغيث العميم، وكذلك قلوب العارفين إذا تنزلت بها الفيوضات وجادتها الفتوحات.
والتأوّل – كما ترى – ظاهر التكلف، وإن كان يدل على براعة فائقة في توظيف الموروث في التأويل، والصرف عن الظاهر على طريقة الشيخ ابن عربي.
وهذا النزوع الشهوي الشبقي عند ابن عربي لا يقف عند آثاره الفكرية الشعرية والنثرية، ومياسمه الأسلوبية، وحقوله الدلالية فحسب، بل يتجاوز ذلك حتى إلى منامات الشيخ وأحلامه، من ذلك ما رَوَى هو نفسه عندما قال: إنه رأى فيما يرى النائم نجوم السماء تُعْرَضُ عليه فينكحها نجمًا نجمًا، يقول: فنكحتها بلذّةٍ روحية عظيمة، ثم عُرِضَتْ عليه حروف اللغة فنكحها حرفا حرفًا بلذّة روحية عظيمة كتلك، يقول: فلمّا عَرَضْتُ رؤياي على من يحسن تعبير الرؤى، فسّرها لي بأني سيفتح عليّ من الملكوت العلوي، وستفيض عليّ من الفتوحات والتنزلات القدسية والروحية، وأني سيُوحَى إليّ من أسرار العلوم والمعارف اللدنية والباطنية.
يعلّق الدكتور زكي مبارك في كتابه التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق على هذه الرواية بقوله: أين هذه الرؤيا من رؤيا يوسف عليه السلام التي رواها القرآن الكريم: ” إني رأيتُ أحَدَ عَشَرَ كوكبًا والشمسَ والقمرَ رأيتُهُمْ لي ساجدين” ( يوسف: 4 ) وأين السجود في رؤيا “يوسف” عليه السلام، وما يلزم عنه من صور
الإجلال والإكبار والمهابة والإعظام من صور النكاح وتوابعه ولوازمه الدلالية في رؤيا ابن عربي الشبقية؟!
بقلم : د. محمد جاهين بدوي
عن مجلة دروب.