مأساة مماليك مصر ومهزلة "مماليك الجمهوريّة" الفرنسيّة: فيصل جلول
2014-08-02
رستم رضا مملوكًا وشاهدًا على عصر بونابرت
ليست صورةُ المماليك زاهيةً أو مشرّفةً في مخيّلتنا العربيّة!
فهم، في أفضل تقدير، مجنّدون من فئة "العبيد" السابقين، الذين انتُزعوا من قراهم ومدنهم، وتلقّوْا تربيةً عسكريّةً، واستُخدموا في العهود الفاطميّة والأيوبيّة، إلى أن تجرّأوا على ملوكهم وتولّوا الحكْمَ غصْبًا أو عبر المؤامرات التي كانت تدور في كواليس بلاط هذا الخليفة أو ذاك الحاكم.
وإذا استثنينا الحديثَ المفصَّل والموثَّق عنهم في المراجع التاريخيّة الموثوقة، تبيّنّا أنّ صورتَهم في المقاربات السريعة هي أشبهُ بالجنود المستعدّين لبيع أنفسهم إلى أيّة جهة، لا فرقَ بين غازٍ أجنبيّ وحاكمٍ مسلم.
غير أنّ هذه الصورة لا تُشْبه موقعَ المماليك الحقيقيّ في نظام الخلافة بوصفهم فئةً مندمجةً في نظامٍ اجتماعيّ إسلاميّ تنتظمه هرميّةٌ وقواعدُ وأعرافٌ وقوانين. ولا تتناسب مع مرتبتهم الفعليّة كجهازٍ عسكريّ كان يعمل في نظام الخلافة حسب تقاليدها وشروطها.
وإذا كانت تلك الصورةُ المهينةُ رائجةً عن المماليك في المرويّات المعاصرة، فذلك مردُّه إلى أسبابٍ تتّصل بظروف انهيار الخلافة، وتفكّكِ العالم الذي شيّدتْه هذه الخلافة، وصيرورةِ إرثها التاريخيّ "جثّةً" يمثِّل بها كلُّ مَنْ هبّ ودبّ من الباحثين والكتّاب الذين التزموا ثقافةَ المنتصرين الأجانب ووعيَهم وأحكامَهم في النظرِ والقياسِ والتقييم!
عظمةُ مصر المملوكيّة
بعيدًا عن الصورة السلبيّة المتداولة عن المماليك في القرءات التاريخيّة الحديثة، فقد كان لهم شأنٌ كبيرٌ في تاريخ مصر والعرب. وتُظهر وقائعُهم أنّه ما كان لهم أن يتولّوا السلطةَ لولا انتصاراتُهم الحاسمةُ على المغول والصليبيين. ذلك أنّ الحكم في مصر، وفي غيرِها من أقاليم المسلمين، لم يكن يتمّ عن طريق المؤامرة أو الخدعة وحدهما، بل عبر الإنجازات العسكريّة والفتوحات والقدرة على الدفاع عن الديار ـ وهذه كلُّها كانت تَخضع لمعايير الحكم الإسلاميّ وقواعده. وعليه، فقد كان من الصعب أن يتولّى الخلافةَ أوّلُ عابر سبيلٍ أو متآمر، وإنما مَن يقْبله السكّانُ بفضل قتاله وانتصاراته. ولم يكن المماليك هامشيين في هذا الصدد: فقد داموا قرونًا بفضل احترامهم لقواعد الحكم الإسلاميّ، وانتقالهم بمصر من موقعٍ هامشيّ إلى موقع الدولة الأهمّ في الشرق الأوسط وإلى مركز الصدارة في العالم الإسلاميّ. فقد امتدّ النفوذُ المصريّ في عهدهم من جبال طوروس شمالاً إلى غربيّ أسوان جنوبًا، ومن حدود برقة غربًا إلى الفرات شرقًا. وخَضعتْ للسيادة المصريّة أقاليمُ برقة والحجاز واليمن والنوبة وقبرص. وتبوّأ السلاطينُ المماليكُ الزعامةَ عبر خدمة الحرميْن الشريفيْن. وفي عهدهم كانت القاهرةُ مقرّاً لخليفة المسلمين، وهي تراجعتْ بعد هزيمتهم في مرج دابق وأصبحتْ ولايةً هامشيّةً كغيرها من الولايات العثمانيّة. أما استمرارُهم في الحكم إلى جانب العثمانيين وبالتشارك معهم، فمردُّه إلى ظروف ذلك العصر وحسابات القوى فيه، لا إلى أسباب عرقيّة أو بأثرٍٍ من ثقافة العبيد المنسوبة ظلمًا إليهم (فحتى المملوكُ رستم رضا، المعزولُ في خدمة بوناپرت في فرنسا، لم يرضَ بالإهانة من سيّده، كما سيَرِدُ في السياق).
والواضح أنّ الأذى المعنويّ الأكبر الذي أصابهم نَجَمَ عن حملة بوناپرت العسكريّة على مصر عام 1798: فقد هُزموا بطريقةٍ ساحقةٍ ومفاجئة (استغرقتْ معركةُ الهرم أقلَّ من ثلاث ساعات) رغم دفاعهم الباسل عن مصر. ورسم الفرنسيّون المنتصرون صورةً قميئةً للمهزومين، وذلك في الحملة الدعاويّة التي نظّمها أنصارُ بوناپرت في فرنسا تعبيرًا عن بطولاته الخارقة في الشرق ـ هذه البطولات التي رافقتْه طوال حياته بفضل اصطحابه المملوكَ رستم رضا، ومن بعده المملوك عليّ، ضمن دائرة حرسه. بل انتقل ظلُّهم إلى النظام الفرنسيّ الإمبراطوريّ في طوره الثاني، إذ كان تعبيرُ "المماليك" يُطلق على التيّار المتشدّد في بلاط الإمبراطور ناپليون الثالث.
وفي المحصّلة صار المماليك، منذ الحملة الفرنسيّة، يحاكَمون في مقارباتنا السياسيّة أو التاريخيّة المتداولة انطلاقًا من معايير حديثة، لا بمقاييس عصرهم وعصور غيرهم من الأمم. فاستخدم بعضُنا مقياسَ "الدولة ـ الأمّة" الحديثَ في النظر إليهم في مصر كفئةٍ أجنبيّة محتلّة، تمامًا كما نُظر إلى العثمانيين. وإذا توغّلنا أكثرَ في تلك المقاربات لاحظنا أنّ كلّ الدول الإسلاميّة التي شهدتْها مصرُ قد اعتُبرتْ أجنبيّة ومحتلّة.
لويس التاسع وبوناپرت
أكبرُ الظنّ أنّ هذا الحكْم القيميّ يتوافق مع نظرة بعض الأقباط المصريين إلى أنفسهم وإلى تاريخ مصر. وقد أريدَ لهذه النظرة أن تكون نظرةً تاريخيّةً لكلّ المصريين، حيث مقياسُ "الوطنيّة" المصريّة محدودٌ بالفراعنة والأقباط حصرًا، وما تبقّى لا يعدو كونَه دولاً وشعوبًا محتلّةً قَهرتْ "مصريّةَ" المصريين وسامتْهم أشكالَ الذلّ والعذاب والظلم. وتُفضي هذه النظرةُ إلى استنتاجٍ ضمنيّ بأنّ مصر استعادت "مصريّتَها" مع الحملة الفرنسيّة التي "حرّرت المصريين" وفَتحتْ أعينَهم على "الحداثة والتطوّر" ونقلتْهم من "عصور الظلام إلى عصر الأنوار." هكذا صار متاحًا التمثيلُ "العلميّ" بعصور "الظلام" المزعومة، ومن بينها عصرُ المماليك، ومن ثم "تطهيرُ" التاريخ المصريّ من تاريخيّته إذا جاز التعبير.
والقولُ بتوافق نظرة الغزاة الفرنسيين مع نظرة بعض الأقباط إلى تاريخ مصر ليس استنتاجًا كيْديّاً أو تحريضيّاً، بل حقيقةٌ تاريخيّةٌ تؤيّدها نصوصٌ موثوقةٌ لا حصرَ لها، ومن بينها رسالةُ بوناپرت الى خليفته الجنرال كليبير (22/7/1799) عشيّةَ مغادرته الأراضي المصريّة خفْيةً إذ يقول: "... مهما يكن ما نفعله ]في مصر] فسوف يظلَ المسيحيّون أصدقاءنا، ولكنْ يجب أن نمنعهم من الغطرسة المفرطة." وفي نصّ آخر رسم بوناپرت صورَةَ المماليك المنقولة والمتداولة حتى الساعة بيننا؛ ففي رسالته الموجّهة إلى المصريين بتاريخ 2/7/1798 وصف المماليكَ بـ "...هذه المجموعة من العبيد الذين اشتروْهم من جورجيا والقوقاز واضطَهدوا أكثرَ مناطق العالم جمالاً. لكنّ اللهَ القادرَ على كلّ شيء قضى أنّ حكْمَهم يجب أن يزول. منذ وقتٍ طويلٍ كان البكوات الذين يحْكمون مصرَ يهينون شعبَ فرنسا ويسيئون إلى تجّارها. وها قد اقترب وقتُ الحساب [معهم]... إنني أحترم اللهَ ورسولَه أكثرَ من المماليك... إذا كانت مصر ملْكًا لهم، فليُظْهروا الحجّةَ التي أنعمَ بها اللُه عليهم."
وهكذا صارت مصرُ "ملْكًا" لبوناپرت من دون حجّةٍ ولا طلبٍ من أحد. ولم يكن ذلك من أجل تحرير المصريين ورفعِ شأنهم وإنما لأهداف وغايات فرنسيّة. فكلُّ ما جاء به الفاتحُ حمَلَه معه، بما في ذلك المطبعة بالأحرف العربيّة، فضلاً عن المنهوبات المادّيّة والعلميّة. ولعلّ أخطرَ ما خلّفه عندنا هو تلك العينُ التاريخيّةُ التي صارت عينَنا، ننظر بها إلى أنفسنا وإلى ما دار من وقائع في بلادنا قبل الحملة وبعدها.للمزيد من التفصيل حول الحملة الفرنسيّة على مصر يمكن العودةُ إلى كتاب فيصل جلّول،
مصر بعيون الفرنسيس ـ بحثٌ في أصول الثقافة السياسيّة العربيّة (بيروت: الدار العربيّة للعلوم، 2007)
ولا يُستبعد أن يكون الاحتقارُ الفرنسيّ للمماليك ممتدّاً إلى ما هو أبعدُ من نتائج غزو مصر، وربما يتصل بالحملة الصليبيّة السابعة في منتصف القرن الثالث عشر. ورغم أنّ كاتبَ هذه السطور لا يمْلك وقائعَ جدّيّةً على صلاتٍ افتراضيّةٍ في وعي بوناپرت بين تشنيع المماليك وبين دورهم التاريخيّ في قهر الحملة الصليبيّة المذكورة، ولا في مبادرة الظاهر بيبرس (القائد العسكريّ المملوكيّ) إلى اعتقالِ وأَسْرِ الملك لويس التاسع (قائدِ الحملة) في دار القاضي إبراهيم بن لقمان في المنصورة، فضلاً عن قتل أخيه والكثيرِ من جنوده وإجباره على افتداء نفسه بثمن باهظ (عام 1249 بحسب رواية المؤرّخ المقريزي وآخرين)، فإنّي أرجِّح أن يكون الاقتصاصُ منهم غيرَ مجرّدٍ من نازعٍ ثأريّ تاريخيّ عَوَّدَنا الفرنسيّون ما يُشْبهه عندما تلفّظوا بعبارات الثأر أمام قبر صلاح الدين في دمشق بعيْد احتلالها في أواخر الحرب العالميّة الاولى... تمامًا كما فعل الإنجليزُ في القدس.
هنا تجدر الإشارةُ إلى التناسب الافتراضيّ المحتمل بين الوصايا المنسوبة إلى لويس التاسع بعد هزيمته في مصر، والمنهج البوناپرتيّ في التعاطي مع المماليك بخاصّةٍ والمسلمين عمومًا. إذ يُنسب إلى الملك الفرنسيّ الأسير أنّه استخلص من تجربته الخاصّة، ومن تجارب الحملات الصليبيّة الفاشلة، صعوبةَ إخضاع المسلمين عسكريّاً، والاستعاضة عن ذلك بتأويل نصوصهم وتفكيكِ العناصر التي تُسبّب اتّحادََهم. ويبدو أثرُ هذه الوصيّة في رسائل بوناپرت وفي مساعيه الحثيثة للتمييز بين العرب والأقباط والمسلمين والمماليك المندمجين مبدئيّاً في نظام الخلافة، وفي وجوب الفصل بين مصالح كلّ منهم.
أمّا تأويلُ النصوص الدينيّة لإضفاء شرعيّة إسلاميّة (مضحكة) على حملته، فنجده في عدد من رسائله الخاصّة والعامّة، ومن بينها رسالةٌ مؤرّخةٌ في21/12/1798 يقول فيها حرفيّاً: "...أحيطُ الناسَ علمًا أنّه منذ بداية العالم كُتب عليّ أنني، بعد أن أقومَ بتدمير أعداء الإسلام وقهرِ الصليب [المقصود حملتُه الإيطاليّة التي سبقتْ حملةَ مصر]، سوف أحْضر إلى هنا من الغرب البعيد لأنجزَ المهمّةَ التي فُرضتْ عليَّ. ساعدوا الناسَ [الكلامُ موجّهٌ إلى المشايخ المقرّبين منه] على أن يروْا أنه في القران الكريم، وفي أكثر من عشرين آيةً، يوجد أنّ ما يَحْدث الآن كان مقدَّرًا [مكتوبًا]، وشرحٌ لما سوف يحدث. دعِ المؤمنين الصالحين يقومون بالدعاء من أجل نجاح جيوشنا."
لكنْ على الرغم من تشنيع بوناپرت على المماليك في رسائله وخطبه، فقد اكتشف في فترة مبكّرة من حملته استحالةَ قهرهم تمامًا؛ فهم بادروا بعد هزيمتهم في القاهرة إلى تنظيم المقاومة في الريف المصريّ. وقد خلص ناپليون إلى قناعةٍ بوجوب تقاسم السلطة معهم بعد تحطيم أسطوله في معركة أبي قير الأولى وفشل حملته على عكّا. وفي 5/4/1800 وقّع الجنرال كليبير معاهدةَ سلامٍ وتحالفٍ مع مراد بيه، زعيمِ المماليك الذي قاوم الفرنسيين طوال عامين في الصعيد الاقصى (أعالي النيل). وسيبقى ظلُّ المماليك عاليًا في بلاد النيل حتى العام 1811، حين بادر محمد علي باشا إلى الغدر بهم في مجزرة القلعة الشهيرة التي أوْدت بقادتهم الكبار، لينتهي أمرُهم في مصر، وليبقى في فرنسا عبر "مماليك الجمهوريّة." وهؤلاء هم فصيلةٌ من الخيّالة الهاربين من عساكر مراد بيه وإبراهيم بيه، استقبلهم الجيشُ الفرنسيُّ وجعلهم دليلاً ناطقًا على بطولاته الشرقيّة أمام الرأي العامّ الفرنسيّ والأوروبيّ. ولهذه الفصيلة قصةٌ جديرةٌ بأن تروى بالعربيّة.
مماليكُ الجمهوريّة
في 7/9/1798 قرّر بوناپرت تجنيدَ عدد من المماليك الهاربين أو المتمرّدين على قادتهم، ولم يتجاوزْ عددُهم المئة، كانوا قد عادوا مع فلول الحملة الفرنسيّة المهزومة إلى مارسيليا في العام 1801. وقد جرى تنظيمُهم في فصيلة بقيادة الجنرال "راب" بعد أن أضيفَ إليهم عددٌ من الجيورجيين والأقباط والسوريين والشراكسة، وصاروا يُعرفون باسم "مماليك الجمهوريّة" قبل انقلاب بوناپرت وتغيير النظام في فرنسا إلى نظام إمبراطوريّ. وقد ارتفع عددُهم إلى 250 مملوكًا في العام 1181. وفي العام 1804 انضمّوا إلى الحرس الإمبراطوريّ وخاضوا معاركَ ضاريةً في حروب بوناپرت الأوروبيّة. ويُنسَب إليهم إلحاقُ ضررٍ كبيرٍ بالحرس الروسيّ، وأسْرُهم الأمير "رابنين" في معركة أوسترليتز. وفي العام 1808 كانت فصيلة المماليك بين القوات الفرنسيّة المتمركزة في مدريد أثناء التمرّد الإسبانيّ على الفرنسيين، ويقال إنّ واحدًا من أسباب التمرّد يتّصل بالمماليك: ذلك أنّ المتمرّدين راعهم أن تَخْضع بلادُهم لجنودٍ فرنسيين، بينهم عددٌ من المسلمين، وهم الذين طَردوا عربَ الاندلس وأنشأوا محاكمَ تفتيشٍ لتطهير بلادهم من آثار المسلمين!
ولعلّ شجاعةَ المماليك تسبّبتْ في سقوط كثيرين منهم في المعارك والحملات العسكريّة الفرنسيّة الضارية في أوروبا. وتُجْمع المصادرُ الفرنسيّة على إحصاء 18 مملوكًا فقط على قيد الحياة بعد هزيمة واترلو عام 1814؛ وقد توجّه هؤلاء إثر المعركة إلى مارسيليا لزيارة أُسَرهم، لكنّ السكّان الغاضبين جرّاء الهزيمة بادروا إلى قتلهم جميعًا والتمثيلِ بجثثهم في شوارع المدينة!
ولم ينحصرْ دورُ مماليك بوناپرت في ساحات القتال. فبعضُهم كان من عناصر الديكور الإمبراطوريّ اليوميّ في العاصمة الفرنسيّة، حيث كان ثمانيةُ مماليك يحرسون عربةَ ناپليون بعد تنصيبه إمبراطورًا، وكانت العربة تمرّ مرتين يوميّاً في شوارع باريس. وكان هؤلاء، بأشكالهم الغريبة وملابسهم الشرقيّة، يبهرون الباريسيين ويروِّعونهم ويضْفون سحرًا خاصّاً على بوناپرت، الذي جاء بمخلوقاتٍ تنتمي إلى جيشٍ شرقيّ قَهَرَه واسترقّ عناصرَه وطوّعهم لحراسته وإبعاد الأذى عنه. حرّاس مطيعون، هادئون، يتكلّمون الفرنسيّة بركاكة، ويتأبّطون ترسانةً صغيرةً من الأسلحة المختلفة. وكان المملوك رستم رضا الأشهرَ بينهم: فقد لازم بوناپرت كظلّه، وشارك في كلّ معاركه الحربيّة. وربما تستحقّ سيرتُه مقاربةً مستقلّة.
رستم رضا
بعد فشل الحملة على عكّا توجَّهَ بوناپرت إلى مصر في 20/5/1899، وبلغ مشارفَ القاهرة في 13/6. وكي يعوّض فشلَه أمر بترتيب استقبالٍ مهيبٍ لجيشه على أبواب المدينة، فحَضَرَ أشرافُ القاهرة وتجّارُها وكبارُ رجال الدولة وبعضُ الجنرالات الفرنسيين. وكان بين الحضور الشيخ خليل البكري، الذي قدّم لبوناپرت جوادًا عربيّاً أصيلاً أسودَ اللون، يمسك بزمامه المملوكُ رستم رضا، ورجاه أن يتقبّل "الهديّتين" معًا. هكذا دَخَلَ رستم في خدمة سيّده الجديد، علمًا أنه لم يقاتل الفرنسيين في معركة القاهرة إذ كان في رحلة إلى الحجّ مع معلّمه الأسبق صلاح بيه، الذي كان قد اشتراه في سوق إسطنبول وأعتقه قبل أن يضمّه إلى جهاز حمايته. وبعد وفاته المفاجئة انتقل رستم إلى خدمة الشيخ البكري، الصديق الأشهر لبوناپرت في القاهرة، وهو ينتمي إلى الصفوة العربيّة من أشراف القاهرة.
تُجْمع المصادرُ على أصول رستم الجيورجيّة، وبعضُها يؤكّد أنّه من أصل أرمنيّ. وُلد عام 1787 في تبليسي عاصمة جورجيا، وبيع سبعَ مرّات، قبل أن يشتريه صلاح بيه، أحدُ حكّام مصر الأربعة والعشرين قبل الحملة الفرنسيّة.
كان رستم متوسّطَ القامة، مفتولَ العضلات، بدينًا، دائمَ الحركة على حصانه بجوار نافذة عربة ناپليون. وكان يرمق الجمهورَ المحتشدَ على الأرصفة أثناء مرور بوناپرت بنظراتٍ متحفّزةٍ ومخيفة. وعندما تأكد بوناپرت من سلامة رستم الصحّيّة، عبر طبيبه الخاصّ، اصطحبه في رحلة العودة إلى فرنسا متخفّيًا عام 1799، وقال له "كن أمينًا ومخلصًا وسأعتني بك." كان رستم خادمًا وحارسًا ومدبِّرًا لأسلحة الجنرال، وكان ينام على مدخل غرفة نومه أو في صالونٍ مجاورٍ للغرفة. وفي عام 1806 أحبّ رستم الآنسة ألكسندرين دوفيل، ابنةَ حاجب الإمبراطورة جوزفين، بعد العودة المظفّرة من أوسترليتز، ولكنه كان من الصعب أن يتزوّجها لأنه ليس كاثوليكيّاً. فتدخّل بوناپرت وذلّل هذه العقبة، ثم دفع تكاليفَ الزواج. وعندما أَنجبتْ زوجتُه ولدًا سمّته أشيل، قال بوناپرت: "ها قد صار لديّ مملوك جديد!"
قبل نفي بوناپرت الأول إلى جزيرة ألبا، ومحاولته الانتحارَ بالسمّ، اختفى رستم يومين عن القصر. وعندما رجع، تشاءم من نظرة معلّمه المشكّكة، وارتاب بعد أن طلب منه أن يُحْضِرَ له مسدَّساته، فتعلّل بأنه سوف يأتي بها من منزله، ولكنه لم يفعلْ لاعتقاده أنّ بوناپرت سينتحر، فيكون (رستم) سببًا في موته، ولربّما اتُّهم أيضًا بالاشتراك في مؤامرة أجنبيّة أدّت إلى انتحار الإمبرطور بحسب تحذيرٍ وَصَله من أحد الحرّاس. وفي منتصف تلك الليلة تسلّل رستم من غرفته في القصر وعاد إلى منزله، ولم يرافقْ بوناپرت إلى منفاه الأول.
بعد رحيل الإمبراطور دارت الشكوكُ حول رستم من طرف أجهزة النظام الملكيّ العائد. ولكنْ سرعان ما رجع بوناپرت هاربًا من جزيرة ألبا، فطلب رستم إعادتَه إلى الخدمة. وعندما قرأ بوناپرت الطلبَ علّق قائلاً: "لن يعود هذا الجبانُ البدينُ لخدمتي مرةً أخرى." وفي هذا الوقت كان بوناپرت قد وَظّف المملوك عليّ بدلاً منه.
في العام 1824 سكن رستم في البناء رقم 228 في شارع سان مارتان في باريس. وكان يهتمّ بالصيد واللهو وتربية كلابه، وصار بدينًا جدّاً. إلى أن قرّر السفرَ إلى إنجلترة، الأمرُ الذي أثار ارتيابَ وزارة الداخليّة، فسُمح له بالسفر دون أسرته، وعاد بعد شهر ليسافر مجدّدًا إلى لندن. فتعقّبه أحدُ رجال الشرطة خوفًا من أن يكون في مهمّةِ تخابرٍ مع الإنجليز. لكنّ الشرطيّ اكتشف أنّ رستم كان يعْرض نفسَه بملابسه الشرقيّة في الملاهي والأسواق والمسارح بوصفه مملوكًا لبوناپرت، وذلك مقابلَ أجر. وتفيد مذكّراتُه التي نُشرتْ من بعدُ بأنه استقرّ وعائلتَه في ناحية دوردان الريفيّة القريبة من باريس، وتوفّي في هذه القرية في 7/9/1845 وما زال قبرُه ماثلاً إلى اليوم.
دَوّن رستم رضا مذكّراته في خدمة بوناپرت بلغةٍ فرنسيّةٍ ركيكة. ومذكّراتُه تلقي الضوءَ على بعض جوانب حياته اليوميّة، ولا تنطوي على أهميّةٍ كبيرةٍ في المجال السياسيّ بحسب معلّقين فرنسيين. وقد نشرتْ صحيفة لانوفيل أورليان في 14/5/1911 أجزاءً منها بعيْد صدورها، وفي صفحة تالية من الآداب ترجمةٌ غيرُ حرفيّة لبعض المقتطفات.
.. والمملوك عليّ
بخلاف الاعتقاد الشائع، لم يستبدلْ بوناپرت رستم رضا بالمملوك عليّ في العام 1814. وهذا الأخير، ويدْعى إتيان سان دوني، وُلد عام 1788 في فرساي، وانضم إلى فريق بوناپرت عام 1806، ولم يصبح مملوكًا ثانيًا لدى الإمبراطور إلاّ عام 1811. وتتعدّد الرواياتُ حول أصله، فبعضُها يقول إنه وُلد عربيّاً باسم "علّي"؛ وبعضُها الآخر يقول إنّ عليّاً هو اسمُه المستعار وكان يُكنى به مملوكٌ سابقٌ في الحرس الإمبراطوريّ.
رافق المملوك عليّ بوناپرت إلى جزيرة القدّيسة هيلانة، وكان من بين الشهود القلائل على احتضاره وموته. وقد عمل مع بوناپرت كحارس، وموضِّب مكتبة، وممرِّض، وحاجب. وأوصى له الإمبراطور بمالٍ وفير، وبمجموعةٍ من كتبه على أن يسلّمها لابنه عندما يبلغ سنَّ الرشد. وقد توفّي المملوك عليّ في سانس عام 1865، وكتب هو الآخر مذكّراتِه عن السنوات التي قضاها في خدمة الإمبراطور.
إشارة أخيرة
تبقى الإشارة إلى أنّ تقليدَ استخدام المماليك في الجيش الفرنسيّ استمرّ من بعدُ بصيغ مختلفة. ولعلّ ما يُعرف اليوم باسم "الفرقة الأجنبيّة" التي تضمّ جنودًا من مختلف الجنسيّات لقاء راتبٍ وعقدٍ محدّدِ الأجل هي الوريثُ الأبعدُ لمماليك بوناپرت... أو مماليك الجمهوريّة... أو مماليك الإمبراطوريّة لا فرق.
عن مجلة الآداب.
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |