قصة / قُبْلة
2006-05-22
كنّا صغاراً، نلهو مع العاملات اللواتي كنّ ينقلن الحجارة بسلال جلدية سميكة، من تحت قلاّب الشاحنة المائل إلى الكسّارات التي تولّد كوماتٍ من الحصى البيضاء والغبراء، وكثيراً ما كنا نستمتع باللهو واللعب على قممها، والتدحرج للأسفل. لم أكن آبَه لتلك (العلْقة) التي سأنالها من أمي لأنني وسّخت ملابسي وجسدي بالغبار.
كنت مولعة بالنظر إلى تلك الوجوه المغبّرة للفتيات السمراوات، وشعورهن المخفية تحت مناديل رُبطت من الخلف على الرقبة. ولم أكن آبه أيضاً لإنذار العائلة من اللعب مع الولد (المعتّر) كما تذكره ألسنتُها.
كان اسمه"حسن". سماه أبوه تيمناً بأخي الأكبر. حينذاك، جنَّ جنون العائلة لتلك الجرأة الوقحة! فلجأوا إلى مناداته"حسّون".
فـ"حسَن" بفتح السين، هو خاصة سلالتنا في هذه القرية والقرى المجاورة أو البعيدة نسبياً. أماّ "حسِن" بكسر السين فإنه يخص العامة. وإن أرادوا إنزال أحدهم إلى القاع نادوه "حسّون"!
أمّا أنا فكنت أناديه"حسَن" بفتح السين، ولم أكن أعرف لماذا كانت الحمرة تطفو على وجهه حين أتلفّظ باسمه على هذا النحو!
كانت عائلته تسكن جوار بيتنا، وتعيش على النذر اليسير الذي تدرّه مواسم الزراعة الضئيلة، وأيضاً مما تكسبه لقاء خدماتها لعائلتنا الكبيرة، سلالة المجد والعظمة! سلالة الإقطاع الذي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة آنذاك.
كما لفظ جداي أنفاسهما الأخيرة، وقد تركا أصداءَها في صدور العائلة، دون صدري المسكون
بإبليس ربما، أو بعشق الخراب كما كانت عائلتي تصفه، وخاصة أمي وعماتي! عماتي أولاء تأخّرن عن الزواج كثيراً، كي لا يتدنّس الدم المقدّس! إلى أن جاء النصيب من الدّم ذاته، لينجبن بعد ذلك أطفالاً فيهم الأبكم والأصم والأبله، بوجوده صفراء وعيون مريضة!
أما أمي سليلة "المشايخ"، فلا يمكن أو يجوز أن يذكر أيٍّ من أجدادها، على لسان أحد في المنطقة كلّها، دون أن يُرفق بعبارة "قدّس الله روحه وسرّه". كما سيرث أبوها هذه العبارة فيما بعد.
لطالما كان جدي هذا يتفاخر، سرّاً وعلانية، بمصاهرة سلالة الدّم المقدس! وخاصّة أمام خالي ابنه الوحيد، الذي جاء الرقم الثاني عشر بعد الخالة الأخيرة. وبقدر سعادة جدّي واعتزازه بمطابقة الرقم اثني عشر بذكر، وليّ للعهد، كان إحساسه بالخيبة بل بالمصيبة التي خلخلت، فيما بعد، موازين تبصّره بالمستقبل الآتي!
خالي هذا، كان مولعاً بالقراءة، وعلى الأخص قراءة الكتب الفاسدة المدّمرة، والتي لابد أن يدخل كتّابها وقراؤها، شارحوها وناقلوها نار جهنم خالدين فيها أبداً كما كان يزعم جدي ويُنذر. كان خالي مثيراً لإعجابي، كما كنت محطّ أحلامه. لم يكن عقلي يستوعب الكثير من كلامه الآسر. كنت مولعة بسخريته الدائمة من العائلة، وبجرأته التي كان الآخرون يخشونها. ومن فرط حبي له كنت أردّد دائماً:
ـ حين أكبر سأتزوج خالي.
وكنت أفسر قهقهاتهم لدى سماعي، بنوع من السخرية من خالي ومني أيضاً. فوحدنا كنا مختلفين عنهم، ووحدنا كنا متفقين دون اتفاق سري أو علني على مناداة "حسَن" بفتح السين. كل ذلك كان يجعلني أوغل في عنادي، وفي اللعب مع "حسَن".
ـ2ـ
ذات ظهيرة، أمسك "حسن" بيدي، وقادني على بعد قليل من العاملات اللواتي كنّ قد فردن "الزّودات" لتناول طعام الغداء. كان الفضاء موشىً بمرح العاملات وثرثراتهن، بعد ساعات من العمل الشاقّ. استسلمت لقيادة"حسن"، وأنا أمنّي نفسي، مثل كل مرّة، بمفاجأة غريبةٍ يباغتني بها كعادته، كأن يريني حشرات غريبة، أو عش عصافير، أفخاخٍ، أو لنستنفر أكوام النمل الآمن.
وعند شجرة سنديان ضخمة، توقف"حسن"، وضع سبّابته على شفتيه يأمرني بالسكون، فأطعته. انسلّ رأسينا بهدوء وحذر لاكتشاف الكنز، كما ظننت. وهالني ما رأيت! كانا جسدين شبه متلاصقين. كان سائق الشاحنة يقبّل إحدى العاملات. كانت ساكنة وقد غصّت سمرتها باحمرار وصمت كثيفين. لم أفهم ما يحدث. لكنني أحسست أنه شيء يشبه العيب، وإلا فلماذا اختبآآ!
نظر"حسن" إليّ، كان يكبرني بسنوات قليلة، يأمرني باستمرار سكوتي، لكنني باغتّه بضحكة أجفلت الشابين، فركضا هلعاً. ولم نبح لأحد بما رأيناه.
بعد ذلك اليوم، وطوال مدّة وجود الكسّارات في السّاحة، شبعنا أنا و"حسن" سكاكر أغدقها علينا السائق والفتاة السمراء، وهذه ارتسمت صورتها بدقة في مخيلتي. كانت طويلة جدًا جداً، ذاك الطول الهائل كان، كما فهمت فيما بعد، بسبب صغر حجمي وقصر قامتي ذلك الحين. كانت شامة سوداء تزّين خدّها الأيسر. فيما بعد أحببتُ تلك الشامة التي لابد أن القبلة قد حّطت عليها، بل لعل القبلةَ هي التي أنبتتها!
كنت آمل و"حسن"، ألاّ ينتهي تكسير الحجارة، كي تبقى العاملات، واللهو والسكاكر، وكومات الحصى البيضاء التي كانت تغويني ليغبّر جسدي ووجهي مثل العاملات.
ـ3ـ
وجاء اليوم الذي فرغت فيه الساحة من الكسارات والعاملات . ولأيام قليلة ظلت كومات الحصى بانتظار اقتلاعها هي الأخرى. لذا، كنت و"حسن" تستنزف الوقت قبل موت فترة الفرح القصير ذلك الصيف.
ذات ظهيرة قائظة، أنامت أجساد العائلة، وأعطتني الأمان. أمسكني"حسن" من يدي، انجذبت وراءه لاكتشاف مفاجأة جديدة. ارتعش داخلي وأنا أرنو إلى جذع السنديان الضخم، حيث لن أباغت الشابين وقبلتهما.
اختار حسن أكبر كومة من الحصى. كان الجوّ بلا غبار أو ضجيج. كاد الصمت يطبق على المكان لولا أصوات صراصير العنب والتين التي كانت تزعق في الفضاء. وخلف الكومة العالية، أومأ لي"حسن" بالجلوس. صار العالم وراءنا، وأمامنا كانت تندلق الأشجار لتغطي الهضبة حتى أسفلها....
وبعد وقت لن يطول كثيراً، سأنال "علقة" مختلفة من والدي. لكن سبب" العلقة" لم يكن ظهور أية شامة على خدي ، وإنما كانت بسبب ظهور ابن عمي"أحمَد" (بفتح الميم طبعاً)، والذي لست أدري كيف انشقّت الأرض عنه، ورفعته إلى كومة الحصى، ليتدحرج من أعلاها ويصير بيننا. هدّدني بوالدي، ثم صرخ في وجه"حسن" المرتبك وطرده قائلاً:
ـ"رح، انقلع من هنا يا ابن الخدم!"
وددْتُ لو أني أستطيع شتم ابن عمي. لو أني أهيل عليه الحصى! لكنني لم أفعل أكثر من الركض، رغم الحمى التي أصابتني، كان باستطاعتي أن أرهف سمعي لكل نأمة تحدث في البيت، لأتبيّن إن كان أحدهم قد عرف بما حدث بالأمس. لكنني لم أسمع أو أر أي شيء يشي بذلك.
أدقّق في وجهَيْ أمي وأبي وهما يجولان حولي يترقبان حالتي بقلق. إلى أن باغتتني ضحكاتهم الصاخبة ومزاجهم الذي لم يكن عادياً. كدت أبكي لأني لم أعرف سبب ذلك، ولم أكن أجرؤ على سؤال أبي الذي كان يمعن النظر في درجة حرارتي في ميزان الحرارة.
بدا على أمي الاطمئنان وهي تسمع صوت أبي. لكنها لم تتوانى عن توبيخي للّعب تحت حريق الشمس، حتى بات لون جلدي مثل جلود (المعترين) ! وتهز رأسها مدبرة، تحيرّها لامبالاتي:
ـ لست أدري أيُّ إبليس يسكنك؟ كان عليك أن تكوني صبيّاً! بل إن إخوتك الصّبية يترفّعون عن اللعب مثلك..!
وقبل أن يختفي صوتها في أعماقي، ارتعدت، وغصت تحت اللحاف حتى قمّة رأسي حين سمعت صوت ابن عمي يلعلع في أرجاء البيت. كثيراً ما كنت أنعته بالغليظ خفية وجهاراً. لكن ما حدث بالأمس جعلني أخرس طويلاً.
انفجر الضحك من جديد. كان صوت ابن عمي يعلو أكثر، قصد إسماعي. كان يحكي كيف أنه وأخي أقدما على مباغتة "حسن" وهو نصف عارٍ في بيتهم، وحملاه من يديه وقدميه إلى أطراف البستان، وألقيا به داخل مساحة كبيرة من نبات "القرّيص". وصار الحدث نكتة العائلة.
لم أجرؤ على الاستنكار أو الحزن أمامهم كعادتي، فارتحت لاعتلال صحتي التي جنّبتني حرج الموقف وهوْله، وربما انكشاف أمري.
دفنت رأسي بالوسادة وبكيت.
انقضى أسبوع، ولم أنل أيّ"علقة"، أو أدنى توبيخ، أو أيّ ملاحظة لالتزامي الدائم للبيت. مما أكد لي أن ابن عمي قد كتم الأمر. لكن ذلك لم يمنعني من التساؤل حول كرم أخلاقه المفاجئ هذا! ولم تنفك عقدة حيرتي إلى أن حلّ صباح يوم الجمعة من ذلك الأسبوع.
ففي هذا الوقت، يحضر" الشيخ"، مثل العادة، لتلقين أبناء العائلة الذكور الدروس الدينية، دوننا نحن الإناث، الصغيرات منّا والكبيرات.
كان الذكور يتحلقون حول الشيخ في غرفة محايدة من دارنا، باعتبارها دار العم الأكبر. كان الأمر يثير في نفسي السخط، وخاصّةً، أني كنت متفوقة على الكثير من ذكور العائلة، باعتراف الأهل والمعلمين ونتائج الامتحانات. كان ذلك يدفعني لأن أنسلّ مثل لصّة، لأقف تحت نافذة الغرفة، أو جانب الباب الموصد. بعد أن أتأكد من الأمان، خشية أن يراني أحدهم، وعلى الأخص أمي، كي لا أُضبط بجرم سيعاقبني عليه الله، بأن يعمي عينيّ أو يصمّ أذني. كما ينذروننا، نحن البنات!
في ذلك الصباح،عجبت كيف أن الباب ظلّ موارباً. ارتحت للفسحة التي مكنت الصوت والكلام من العبور إلى أذني دون عناء.
وحده ابن عمي الغليظ عرف بوجودي. وراح يرمقني بطرف عينه، وأنا أمعن في الاختباء وراء الجدار.
تناهى إليّ صوت الشيخ وهو يحدّد لهم جهة القِبلة للصلاة. ارتعشت فجأة، وأنا أقارن بين(القِبلةِ) و(القُبلة) التي حطّها "حسن" على خدي.
تراجعتُ عن الباب الموارب، هرباً من نظرات ابن عمي لي، بينما راحت أصابعي تتلمس بتوجس خدي الذي لم تنبت عليه الشامة بعد!
كاد النهار يمضي بسلام، لولا غمز ابن عمي لي، بعد ظهر ذلك اليوم، قائلاً:
ـ هل تعرفين جهة القِبلة؟
أجبت بجفاء وتحدٍّ، وأنا أحاول الانصراف لإخفاء ارتباكي وضعفي:
ـ ولا أريد أن تعلمني أين هي!
وبحركة خاطفة أرعبتني، أمسك يدي، أدارني بمواجهته، وأشار بسبابته إلى خدّي:
ـ القِبلة.. هنا!
حاول أن يحيط رقبتي بذراعيه. تخلصت منه وبسرعة هربت، تخفيت، في سريري، وأنا أشعر بالحصار.
تكررت محاولاته لأيام. وأنا أتهرب منه. مجرّدة من أي سلاح أهدّده به. وكان علي ردعه بأية حيلة أخترعها.
فكّرت في استدراجه إلى الشرفة الخلفية للبيت. هيأت عصا طويلة، ركنتها في الزاوية التي يعلوها عش الزنابير. ولم تطل مدّة انتظاري، حتى حضر، يحاول مثل كل مّرة. فما كان مني إلاّ أن هيّجت الزنابير بالعصا، ثم أسرعت بالانسحاب، ضاحكة ساخرة، لرؤيته ينط ويحط ثم يفرّ هارباً.
بعد وقت قليل كنت أنال (العلقة) المختلفة والمنتظرة، ثمناً للكارثة والعار الذي جلبتُه لعائلتي. صفعني أبي مرات. ونظرت أمي إليَّ بعينين تطيّران الرعب وتحطانه في قلبي. ضربت خديها وصرخت بما لم أفهمه حينها:
ـ .....ومع من؟ مع "المعتر"! مع"الوسخ"، ياويلك وياسواد ليلك".
بعد ذلك، عرفت سواد الليل، حين أمرت العائلة أهل "حسن" بالانحدار إلى أطراف القرية، بعد أن صارت جيرتهم عاراً علينا!
كانت تلك المرّة الأخيرة التي رأيت فيها"حسن".
ـ4ـ
ثم جاءت أيام لا تقل سواداً. عانت العائلة خلالها ما عانت وهي ترى أملاكها تتوزع هنا وهناك. وتهتز الموازين، ويصير"المعترين" والبشر العاديون وسلالات الدم المقدس سواسية.
لم تكن تعنيني كارثة العائلة. كل ما كنت آمله لقاء صديقي الذي غاب فجأة وطويلاً عن عالمنا.
كنت مشغولة بالاستماع إلى خالي. حينها رأيته، لأول مرّة، مغموراً بكل ذلك الفرح. كأنه في عيد. هو الآخر، كان يغيب، لكنه كان يعود من حين لآخر. أخرج كتبه من مخابئها، وصفّها على الرفوف الجدارية المكشوفة في بيت جدي.
أمّا جدي هذا، فلم أستطع ملامسة رأيه الصريح بما حدث، كان ينقّل حديثه ما بين عائلتي المفجوعة، وبين وجوه أهالي المنطقة الآتية للتبرّك والمساءلة، وإيفاء النذور، والفرح لما طرأ من تغيّرات.
في تلك الآونة عرفت مرادفات مختلفة للخجل، والعيب والحرام مقابل خوف، جهل وسذاجة، ثم ألغيت مرادفي: خوف وسذاجة.
كما أثار انتباهي لأول مرّة أيضاً، ذلك الشبه بين قباب قبور أجدادي لأمي، وبين قناطر الشرفات العريضة لبيوت سلالتنا. هم وحدهم من كان يحقّ لهم بناء القناطر، دون الآخرين. بعد ذلك، سأقارن بين القبّة، والقنطرة، ونون النسوة في قواعد اللغة، وثم نون البدء، بدء المعرفة والتكوين.
تنجدل مرادفات المتعة والأسى فيّ. تفور اللغة والمعاني، تتناسل بثقل في مسام جلدي وقاموسي، وفي غياب" حسن "المديد.
ـ5ـ
تغلغل الزمن فينا وأطال القدّ والهمّ، الأسئلة، كما أطال حنيني إلى" حسن "، الذي أطلّ فجأة من غياهب غيابه. عاد ملفوفاً بالعلم الوطني، وسط طلقات البواريد والتكبير والزغاريد والنحيب المفجع.
بحرقة وبصوت عالٍ بكيت. أمام الجميع بكيت. جهاراً بكيت. كان لدموعي مرادفات مختلفة: حزن، فخر، قهر، معرفة، وصراخ في وجه عائلتي.
كثير من الوجوه والملامح، من التفاصيل والخطوط العريضة تغيرت .
ظلَّ عنادي يلفع حنيني إلى" حسن "، وإلى غبار الحصى، ومفاجآته المختلفة الرائعة. أمعن في الذاكرة. كما أمعن في إثارة غبار الطباشير حولي، في المدرسة، حيث أعمل.
وهناك أيضاّ، أثناء دخولي وخروجي، أتطلّع إلى باب المدرسة (العريض) الذي يحمل في أعلاه اسم "الشهيد حسن"، صديق طفولتي، وحنيني وأسئلتي. عالياً أرفع رأسي، أبتسم وأرسل له قبلة.
*** *** *** ***
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |