ضرورة التفكير بسوريا بلا وجل / رستم محمود
2014-08-21
منذ عدة أيام، يحاول عدد من الناشطين والمهتمين بالشأن العام السوري، إصدار بيان سياسي-ثقافي مناهض لما جاء في بيان «اللقاء التشاوري« الذي أصدره بعض الساسة السوريين في مدينة قرطبة الإسبانية (28-30 حزيران 2014)، حيث ذهب المجتمعون في ذلك اللقاء إلى ضرورة بناء سوريا على أسس اتحادية "فيدرالية".
البيان الذي عُرض للرأي العام للتوقيع عليه، معنون بـ«بيان ضد تقسيم سوريا«! ويحوي عبارات من مثل «الطرح الاتحادي هو محاولة مشبوهة لكسب الشرعية» و» الذين يرون ان الظرف السوري الاقليمي والدولي مناسب لتقسيم البلاد من أجل الفوز بحصتهم في دولة كردية سورية ولتذهب سوريا إلى الجحيم« و»البند الأخطر في هذه الوثيقة» و»إن من الافضل برأينا للاخوة الكرد السوريين المصرّين على الدولة الاتحادية الإعلان عن انفصالهم عن سوريا بدلاً من طرحهم الاتحادي هذا».
ما جاء في بيان مجموعة قرطبة، كان مجرد بيان ورأي ومقترح سياسي، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه، فأنه جاء كحيز طبيعي ضمن سياق التفكير السياسي والاجتماعي والثقافي بسوريا، كيانا ومجتمعا ومستقبلا؛ لكن من شأن لغة كالبيان المزمع إصداره أن يلغي أي أمكانية لأي جسارة تتقصد التفكير بمستقبل بلادهم. فاللغة والمخيلة العامة المحيطة بمثل هذه البيانات مفزعة، لا ترى برزخا كبيرا بين المقترح والرأي السياسي السلمي، وبين الفعل العنفي، ولا حتى مسافة بين الدولة الاتحادية والتفكيك الكياني. ترى الأمور بلونين فقط، أسود/أبيض. لغة طافحة بالعبارات القيمية غير المعرفية وغير السياسية، ومخيلة وصائية ترى نفسها مؤتمنة على معنى وشكل ونمط من «الوطن» و«الوطنية». أي أنها بمجموعها تغلق باب النقاش حول أي اجتراح أو تفكير مغاير بالكيان السوري، وكأن الكيان السوري معطى ثابت وكلي وبديهي مطلق، وهي سمات مخالفة لأبسط قواعد علوم الاجتماع السياسي والاقتصادي، التي تحيا في بحر من التحولات الدائمة، وما تحولاتها إلا دليل حيويتها.
سوريا على الأقل، أكثر الكيانات التي تعرضت لمثل ذلك. فتقليديا، ومع تأسيس الكيان السوري الحديث، كانت الخارطة الديمغرافية-السياسية قسمت سوريا إلى ثلاث دويلات داخلية «دولة علوية» و»دولة درزية» و»دولة الاتحاد السوري» التي كانت تضم «دولتي» حلب ودمشق. وهو التنظيم الداخلي الذي بقي مطبقا طوال فترة حكم الانتداب الفرنسي (1920 -1946). كل «كانتون» كان يعتمد على أرضية مذهبية معينة (سنية، علوية، درزية) في المناطق السورية المختلفة. هذه المناطق نفسها، مازالت تشكل فيها هذه المذاهب أغلبية واضحة، ويمكن لكل منها في مستقبل سوريا المنظور، أن تشكل قاعدة لأشكال «تقاسم السلطة» الممكنة. مضاف إليها بروز هوية سياسية قومية كردية في أقصى شمال البلاد. المسيحيون السوريون بالرغم من نسبتهم السكنية المعقولة (6-9%) إلا أنهم لا يشغلون أية مساحات جغرافية خاصة هم، في أية بقعة من البلاد.
كان ثمة ديناميتان طرأتا على حركة الجماعات الأهلية السورية طوال نصف قرن: أولى اندماجية قوامها الاقتصاد والانتقال الكثيف للسكان من الأرياف الصافية نحو المدن الكبرى المختلطة. وثانية انعزالية غير مرئية، أساسها استخدام السلطة الاستبدادية للعنف والتمايز الطائفي في تفاعلها مع المجتمع، وقد تكرست هذه النزعة الانعزالية مع تصاعد العنف والهجرة المعاكسة مع بدء الثورة السورية، حيث برزت أقاليم سورية ذات أغلبيات أهلية واضحة.
لا يوجد أي نقاش سوري بينيّ حول مستقبل هذه «المتاركة» بين الجماعات الأهلية السورية . فكل الأطراف السياسية السورية، سواء في السلطة او في المعارضة، لا تشكل أي مناخ موات لنقاش وطني بينيّ حول مستقبل هذه العلاقة. فالسلطة بالغة الشمولية، ولا تعترف بأي شكل من المعارضة، سوى تلك الشكلية التي تخترعها هي، وفوق ذلك تريد أن تخرج المسألة السورية (مسألة الديموقراطية وطريقة حكم البلاد) من كونها مسألة وطنية داخلية، لتجعل منها جزءاً من الصراع الإقليمي والدولي.
كذلك لا تقدم المعارضة السورية أي رؤية أو طرح فيما يخص شكل الدولة السورية المستقبلية، في ما يخص توزيع السلطة والثروة بين الجماعات الأهلية السورية. بل على العكس تماما، ثمة حذر بالغ في هذا الاتجاه، وإن كانت كل الأدبيات الصادرة عن الأطراف الرئيسية في المعارضة مغلفة برؤية ترى سوريا المستقبلية ديموقراطية ومدنية ومتساوية المسافة من جميع مواطنيها، وتنادي بالمساواة بينهم وبالعدالة الاجتماعية.
في متابعة أكثر من نموذج من إعادة ترتيب الكيانات داخليا في السنوات الاخيرة، يمكن ملاحظة أكثر من نموذج كياني يمكن أن يتشابه مع الكيان السوري مستقبلا، مقدونيا وإيرلندا الشمالية وبلجيكا وجنوب أفريقيا والعراق، وأن تساهم نماذجها في تنمية حوار مجتمعي وثقافي وسياسي سوري مستقبلي متوقع.
عددياً، تشابه الحالة السورية نظيرتها المقدونية إلى حد بعيد. حيث أن 65 في المئة من السكان هم من القومية المقدونية، وهناك 25 في المئة هم من الألبان، والباقي من قوميات مختلفة، كان ثمة العديد من التشنجات بين المجموعات الأهلية في البلاد، أبرمت «اتفاقية أهريد» في أب 2001 عقب تدخل قوات الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. اعترفت الاتفاقية بالألبان والأقليات القومية الأخرى كقوميات تأسيسية في البلاد، ومنحتهم سلطات نقض واسعة، فيما يخص مصالحهم الحيوية، وكذلك تم الاعتراف باللغة الألبانية بشكل رسمي. من النموذج المقدوني، يمكن للسورين أن يستفيدوا بالاعتراف بالقوميات السورية كلها كقوميات أصيلة ومكونة لبلدهم، الأرمن والسريان والأكراد والتركمان، وهو ما قد يخفض من النزعات القومية لدى هذه الجماعات الوطنية. كما يمكن أن تشكل مثالا للاعتراف بلغاتها القومية كلغات وطنية في العملية التربوية وفي المؤسسات والتعبيرات الثقافية.
الأهم في التجربة المقدونية، هو آليتها في منح سلطات النقض. فالكثير من السوريين، وبالذات منهم أبناء الطوائف والمذاهب الأقلية، تخشى من تحول الأغلبية «السنية»، إلى تسلطية سياسية، وبالذات في ما خص القوانين العامة، وبالتحديد قوانين الأحوال الشخصية. يمكن لأي دستور سوري حديث، أن يمنح ممثلي تلك الطوائف حق نقض القوانين لو كانت تشكل خطراً على معتقداتهم.
في النموذج الأيرلندي فأن اتفاقية «الجمعة العظيمة«، التي أنهت الصراع بين البروتستانت (55% تقريباً) والكاثوليك (45%) اشترطت على كل عضو في البرلمان الايرلندي الشمالي، أن يحدد انتمائه. أما (اتحادي «بروتستانتي») أو (وطني «كاثوليكي») أو (آخر) . واشترط على شكلين من الموافقات البرلمانية: «الموافقة الموازية» (أي، أكثرية عادية في مجلس النواب تشمل على الأقل 50% داخل المجموعة الاتحادية و 50% داخل المجموعة الوطنية) أو «الأكثرية الموزونة» (أكثرية 60% في مجلس النواب تشمل على الأقلّ 40% داخل المجموعة الاتحادية و 40% داخل المجموعة الوطنية). يمكن أن تشكل نماذج مثل تلك ضمانات لمجموعات أهلية سورية متنوعة. فمثلا ماذا لو اشترط الدستور السوري الجديد ان تكون كافة القوانين والمراسيم التي تصدر من البرلمان السوري، ان لا تكون قد رفضت من قبل أغلبية كلية من نواب أثنين أو ثلاث محافظات سورية. فثمة محافظات سورية يشكل فيها المنتمون إلى الأقليات المذهبية والقومية أغلبية واضحة (اللاذقية، طرطوس، السويداء، الحسكة).
النموذج البلجيكي لحماية الحقوق الحيوية لمجموعاتها الأثنية/ اللغوية المختلفة، هو في منح كل مجموعة حكم ذاتي عالي المستوى، وغير محدد جغرافيا، على شؤون مثل التعليم واللغة والثقافة. حيث يمكن في النقاش السوري المستقبلي، أن تمنح توافقات مثل تلك، أن تمنح المجموعات الأهلية نوعا من الأريحية في التعامل مع شؤونها «الداخلية«.
أما أكثر ما قد يستفيد به السوريون من النموذج العراقي، هو مفهوم «العرف السياسي» فالمراكز العليا في الدولة العراقية الحديثة، بعيد 2003، غير موزعة بشكل دستوري وحصري بين المجموعات الأهلية الثلاث الكبرى، الشيعة والسنة والكرد، لكن عرف الاتفاق بين النخب السياسية في هذه المجموعات، يقضي بأن يكون مركز «رئاسة الوزراء» من حصة الشيعة، ومنصب «رئاسة البرلمان» من حصة السنة، ومنصب «رئاسة الجمهورية» للأكراد. وكذلك ينسحب الموضوع على الكثير من المناصب العليا في الدولة. يمكن لشيء من «العرف السياسي» أن يندرج في سوريا المستقبل، وهو موجود بحد معقول في تشكيل الهيئات القيادية في كل من مؤسسات السلطة والمعارضة السورية راهنا، وإن كانت بشكل صوري في ممارسات النظام السوري.
على أن أكثر ما قد يشكل ضمانة لكل السوريين، هو تكوين غرفة برلمانية ثانية، شيء من مجلس الشيوخ، لكنه يراعي التمثيل النسبي المتساوي لجميع المجموعات الأهلية السورية، بغض النظر عن النسبة المئوية لهذه المجموعات من مجموع السكان السوريين. وأن تخصص هذه الغرفة البرلمانية بصلاحيات واسعة، وبالذات منها في ما يخص المواضيع المصيرية والمجتمعية في سوريا.
عن جريدة المستقبل.
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |