Alef Logo
المرصد الصحفي
              

ملحمة الفحولة / عبد الله كرمون

2014-10-12

"الحوار هنا بين الذات والآخر (الأنثى) يستحضر تاريخاً معقَّداً من الامتلاك، العنيف أحياناً، والرجاء المتذلِّل. إنه أيضاً تاريخ الحب، بصرف النظر عن الظرفية التي يولد فيها. فالظرفية، هنا، رغم أهميتها كحاضنة أولى للعمل، ليست سوى خلفية شاحبة لا تصلح مرجعاً».

أمجد ناصر، طريق الشعر والسفر

سَمَوْتُ إليها بعدما نام أهلــها سُمُوَّ حَبَاب الماء حالاً على حالِ

فلمَّا تنازعنا الحديث وأسْمَحَتْ هصرتُ بغصن ذي شماريخ ميَّالِ

وصرنا إلى الحسنى ورقَّ كلامنا ورُضْـتُ فذلَّـتْ صعبةً أيَّ إذلالِ

امرؤ القيس

لو افترضنا بأن ديوان «سرَّ من رآكِ» لأمجد ناصر ليس مجموعة شعرية إيروسية فحسب، وإنما يتعلَّق الأمر بشيء آخر، مخالف لما قد جرت على القول به كل القراءات السالفة له… ألن تتغيَّر إذاً أشياء كثيرة لو تحرَّينا عميقاً في هذا المنحى؟

نشير أولاً إلى علامات مهمَّة:

1- فصلنا بين المصطلح القديم، الذي يجعل نَسيباً كل ما يُحيل على التشبيب أو وصف أعضاء المرأة، أو حتى إخلاص مشاعر التعلُّق بامرأة معيَّنة، وبين ما تعنيه الإيروسية من الجرأة على الكشف عن جلال الإباحية وفضل المجون، في العلاقة بكسر قدسيَّة معتقدات سياسية وأخلاقية وغيرها.

2- التذكير بأن قصائد أمجد ناصر في ديوانه هذا تفوق ما حُدِّد بمصطلحَي المجالَين سالفَي الذكر.

3- كون نصوص هذه المجموعة قد صيغت بمنتهى البراعة، سواء على مستوى الرصانة اللغوية أو على مستوى الإيقاع المنسجم، ما يُحدث وقعاً حسناً في النفس، سبكاً ومعنىً. أكثر من هذا فهو ديوان يُضاف إلى سجلِّ أروع ما صيغ في جماليات المشاعر الإنسانية. وقلَّما نجد، بجِدٍّ، أعذب منه في شعرنا الحديث.

4- إزاحتنا كل معنى صوفي، قد يلصقه البعض عن استيهام وتلفيق، بنصوص «سرّ من رآكِ». وكأن الحديث عن جمال المرأة والرغبة في جسدها، أو الحديث عن المدامة وسحرها لا بدَّ من ردِّهما دائماً، قصد القبول بهما، إلى الترَّهات العرفانية!

5- أهمية الإشارة إلى قصَّة يوسف. فإذا كان محمود درويش قد وظَّفها في معنى علاقة يوسف بإخوته، وتعويض كراهيتهم له بالغلبة العليا لحب الأب، في معانيه السياسية، فإن أمجد ناصر (في إشارة بسيطة إليها لكنها مهمة) قد قوَّض المعنى والتحم بيوسف المفترى عليه، وأعاد ترتيب التسلسل الزمني لحوادث حياة يوسف، وتحوَّل الفعل الذي جاء بيوسف إلى حكاية الرداء الذي قدَّ من قُبل أو من دُبر، إلى السبب الذي غيَّبه في الجبِّ. ومسوِّغات هذا الاختيار أهم بكثير، لأن الاستناد إلى هذا المرجع الرمزي كفيلٌ بالإحاطة بالتفاصيل المؤسِّسة لحروب الغواية.

نكاد ننسى الصراعات النقدية القديمة والمتباينة، حينما يتعلَّق الأمر بتقييم الشعر، معتبرين تارة بأن الحقيق منه هو الذي يصدر عن الذات الفردية (الذاتي) وتارة أخرى، في الجهة المقابلة، عن الذات الجمعيَّة (الموضوعي). ضاعت واشتبكت الآراء حول ما قد يكون مصدر ارتياح، ولو على المستوى الإجرائي، لمضمونٍ مَرِحٍ بخصوص نظرية أو أخرى. لكن الأمر، يحيل على نقاش سطت عليه تلاطمات آراء أخرى، استقى جلّها خلفيتها المعرفية – ولا أقول بأن ذلك مستهجن – من خلال مواقع لا علاقة لها بشكل مباشر بالأدب. سياسية كانت أم أيديولوجية. لكن، هل على الأنا إذاً أن تظهر معبِّرة في النصوص الأدبية أم لا؟ أم هل على التعبير أن يكون بالضرورة عمومياً، هلامياً وعائماً؟

أمر آخر، هو أن كثيراً من الشعراء والكتَّاب لا يستمرئون التعبير الإيروسي في أدبهم، ما يرونه، على كل حال، فجَّاً، ويُحجمون عنه عن تقيَّة أكثر منه عن اعتقاد. ويخلقون بذلك من تلقاء أنفسهم، جبهة صلبة ضدَّ الرؤية الإيروسية الحرَّة، بجعلهم الأمر غير لائق جراء تمنُّعهم واتهامهم غيرهم بتصرُّفهم ذاك، ممن يمارسونه – دون قصد معلن -، بأنهم مجرَّد فجرة، أو بأنهم يصدرون عن أعطاب نفسيَّة!

كُتبت قصائد «سرَّ من رآكِ»، استناداً إلى تواريخها، خلال فترة زمنية تتراوح ما بين نهاية الثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي. لكنها تشهد عموماً على وقائع مستعادة. بمعنى أنها تحاول الإمساك بمجريات ماضية، ما لا يعني أبداً أن سِرَّ نشأتها قد كفَّ عن استمراره في الحياة. ولأن الأمكنة الجغرافية الواضحة المعالم، والتي كان بوسعها منح إضاءات إضافية وتزكية لأزمنة مشاغل الشاعر، غائبة عن نصوص الكتاب. إذ الحيِّز المكاني فيها ليس طبوغرافياً.

الذكرى والتذكُّر هما إذاً محرِّكان من أكثر محرِّكات «سرَّ من رآك». لأن المادة الغزلية الخصبة في المجموعة ليست سوى استطلاع آنيٍّ على وقائع تنتمي إلى زمن آخر، إنها ما قد نُسمِّيه استعادة لملحمة. سوف نرى أنها ملحمة كبرى تلعب فيها الرجولة والفتوة والفحولة دوراً أساسياً. من هنا لا يلزم الاستخفاف بحمولة العنوان، أو اعتباره مجرَّد صيغة إنشائية بديعة، مع كل ما تعنيه من جمال بالتأكيد، لأن الأمر على ما قد يبدو يفوق هذا الإدراك العام، بمعنى أنها تتعلَّق بشكل جدِّي بالسرور؛ سرور من رآها. نتبيَّن الآن أن هذه الحالة النفسية الخاصة ليست من نصيب الآخرين. مَن؟ هناك إذاً نوع من المشاداة والنزاع؛ بل العراك المعنوي كي يتحقَّق حلم الرؤية هذا (أي الامتلاك الحميمي)؛ بل أكثر من ذلك حلم الفوز بـ«ها» في آخر المطاف. يعكس الديوان إذاً (وهو مليء بكثير من آلات الحرب) ميداناً لمبارزات بين كثير من المتطلِّعين إلى وجه جميل. من جهة، يوجد الشاعر، وفي الجبهة المقابلة يتراصّ الآخرون، وإن كانوا مستترين. إنَّ القصائد على كل حال هي خلاصة وصفيَّة معقَّدة لهذه المبارزة، لكن الذي يبقى أزلياً هو سِر: «سُرَّ من رآها»!

في الوقت الذي تلتبس فيه الأمور ويُخيَّل إلينا أحياناً أن الشاعر إنما يُوظِّف صيغة الجمع فقط كي يتحدَّث عن نفسه وليس عن سواه. ما تؤكِّده بعض المقاطع وتنفيه أخرى. الشيء الذي يقارب نفي النفي أو تخريجاً رياضياً أكثر قسوة بقوله بالنفي. ما يهمُّ هو أنه لا داعي لأن تذهب كثرة العلم بأحد كي يؤكد بأن الأمر يتعلَّق بمجاز جريء حول «مدينة عمرانية»، مع العلم بأن لا أحد يقبل أن يكون لـ«مدينة مقدَّسة» نهدان دافئان لما يطلان من خدرهما!

تنزع تلك القصائد بهذا المعنى إلى تسطير كيمياء أوديسة عاشقة. حيث تتَّخذ الحبيبة وجهاً أكثر نصاعة، ما دامت هي التي تُشكِّل موقع نزاع بين عشَّاق كثر، يتطلَّعون إليها جميعهم، ولن ينفرد بها سوى من عنَّ وحُسم بأنه أقواهم؛ أي الذي تختاره هي من بينهم جميعاً. ألم يكتب أمجد ناصر:

"جمِّلينا بالأسلحة

اصطفينا من الجمع

لنقوى"؟ (معراج العاشق).

من الواضح أن حضورها مروي، وليست تكشف عن نفسها أبداً – ما خلا في مقطع ملتبس من «غريب مكلوم بمنجل العذراء» – ما دام الشاعر لم يترك لها مجالاً للبوح، مهما كان. لأنه هو الوصيّ الوحيد عليها. كما أنها لا تحمل اسماً أبداً، وإن كتب أمجد ناصر: «مع أن فمي ناداك وسمَّى عليك». أو إذا اعتبرنا كلمة «بشرى» هي علم مؤنَّث وليست تيمُّناً بالبشارة في:

"جنحت إليك بلا دليل

قلت يا بشرى هذه أرضك لاحت

وقبابك حصحصت".

فهي بمعنى ما محط جدال ونزاع. تظلُّ منزوية في ركن، في انتظار الحكم النهائي الحامل لشعار مُبهم ومتألِّق في آنٍ واحد: سرَّ من رآك!

لا يفوتنا منذ البدء أن ندرك أن من فاز بها هو الذي تكلَّم عليها، وجعل ينسج خيوط بلاغة ملتصقة به، وإن جاءت صيغة عنوان المجموعة مبنيَّةً على الإبهام. ما لم يخلُ من مغزى. علينا إذاً أن نعرف، أولاً، كيف فاز الذي فاز، قبل أن نضع اسماً على من سُرَّ بما امتلكه، وسرَّ به. «أنّى لهم أن يدركوا طُرقي إلى المُعرَّى في الريش، مزيّحاً بدم الشفتَين» (لص الصيف). إضافة إلى حرص فنِّي مهووس من أجل بناء جناس (غير تام) خاص مع تكتُّل عمراني غير مجهول يحمل اسماً نبرياً مشابهاً.

قد لا أُغالي إن زعمت أن النص المفتتح للديوان «تعويذة لدخول البيت» هو نوع من الفاتحة بمعنى مقدَّس. ولا أظن أنه كُتب إلا بعدما كُتبت أغلب نصوص المجموعة (فهو غير مؤرَّخ)، وتبيَّن الشاعر، بشكل واعٍ أو غير واعٍ، مناخَ نصوصه، وعودتها مما عادت منه من معارك، كي تسترخي اليدان ويتعلَّق القلب ببصيص تعويذة لا همّ إن كان لها شيء من الثقل أم لا. يطلب منها فقط: «ادخلي بقدم السعد» وقبل ذلك، أمَرَها «شيِّعي حامل الرمح» وفي النهاية اعترف، ما يُكلِّل بالفرح نشوة «السرور»:

"فليل الليالي كلِّها

عندما تضعين قدماً على العتبة

مرغماً يَبْيَضُّ" (تعويذة لدخول البيت).

انتهى النزال الذي ذكرناه إذاً، وعاد حامل الرمح ليُفسح الطريق لأنثاه كي تتخطَّى العتبة، أي كي تدخل، ويلج الحظ والبهجة معيَّة قَدَمها إلى البيت. وتكون علامة الانتصار إذاً نهاية حلكة الليالي التي تنفتح بالرغم من شدَّة بُهمتها، ما أن تتخطَّى العتبة. أرى أن إمكان بزوغ حقيقة واحدة هو ما قد يُفسد عليَّ ما ذهبتُ إليه: إذا لم يتعلَّق الأمر بالمرأة نفسها في الديوان. غير أن مؤشِّرات كثيرة تدلُّ على العكس. ثم أنه قد يُدغم الشاعر في واحدة كل خصائص أخريات، تجاربه وأحاسيسه ومثبطات أيامه معهن. هي: قابلة على أن نشحنها بكل ما أُوتينا من خيال، أوهام واستيهامات. بل قد تكون ضمائر تأنيث الخطاب والغياب في نصوص الكتاب كلها قنوات استذكار توازي بين الاستحضار وتحديد معالم رؤية ذاتية حول الأنوثة وحاملات ثمارها اليانعة والواعدة بعطايا المسرات.

الفوز يحتاج أيضاً إلى تعويذة. وهل غير الأشياء الحسنة تحتاج إليها؟ يلزم صيانتها وصدّ كل دسيسة تتسلَّل في ثوب غدر.

أحطنا قليلاً ببعض العناصر المشيرة إلى جوِّ الصراع الذي يطبع نصوص الديوان. كما لفتنا الانتباه، ولو بنحو خاطف، إلى أن تلك النصوص نفسها ليست سوى ثمرة تَذكُّر. يبقى أن نبحث الآن عمَّا يميِّز تلك الذاكرة، وما يجعلنا نقول بإحكامها، وكأن قوَّتها وحرصها على استكمال خصائص المتانة جزء من كمال الانتصار والسرور، ولا يبلغان تمامهما إلا بتماسكها، وإحاطتها بالتفاصيل الدقيقة التي جعلت من النص تغنِّياً متقناً.

صحيح أن حياة الإنسانية لا تُقيم أودها بلا ذاكرة. بل لا يكون الإنسان إنساناً بدون ذاكرة. وإذا كانت هي مجرَّد وظيفة من وظائف الإدراك الإنساني فإنها من أهمِّها، ولا غنى عنها بالتالي. وإذا ما حسمنا هذا الأمر البديهي، سيكون علينا أن نُبرهن على أن بعض مدارات الحياة تتطلَّب من الذاكرة، لسببٍ أو لآخر، نشاطاً مضاعفاً؛ سواء من أجل تصالح، أو بناء. غير أن الذاكرة، كما نعلم جميعاً، انتقائية بامتياز. ويتمثَّل الانتقائي لديها في العلاقة بالمصلحة والمتعة اللتين نسندهما إليها.

هكذا كتب أمجد ناصر إذاً ملحمته، وإن كنَّا لا نعتبر بأن كل صوره الشعرية تُشكِّل سيرة ملتصقة بالجلد، غير أنه لا يمكن فصل الشعر عن رؤية الشاعر وأحاسيسه تجاه العالم بشكل عام. ما قد يختلف نوعاً عن جنس الرواية التي تتحصَّن بدرع ما يُسمَّى بـ«شخوص من ورق».

لا يعني هذا ألا تكون امرأةُ «سرَّ من رآكِ» قد تحوَّلت في ما بعد معاناة وقائع التقرُّب إليها والسعي، ولو تذلُّلاً أحياناً، لنيل الحظوة لديها، مروراً بمنخل الذاكرة المُحكمة، إلى امرأة خارج زمن الأنام، مرصَّعة بما اقتدر به فنُّ الشاعر، متربِّعة في علياء سرمدية الحب المجرَّد من كل الأشواك: كوردة مثلى!

إن من خصائص النسيب المبالغة في مدح محاسن الحبيب. والمبالغة من أدوات البلاغة التي لا محيد عنها. لكن النصوص المشكِّلة لديوان «سرَّ من رآكِ» لم تتَّخذ منها، مع ذلك، بالنمط المطروق، سلاحها.

يبقى القول بأن زمن كتابة نصوص هذه المجموعة جدّ مهم على مستوى ما تُبطنه من معانٍ خفيَّة. إذ يُوائم تواريخها زمن «وصول الغرباء»، ولست أعني بهذا ذلك الديوان الآخر للشاعر، وإنما وصوله هو إلى لندن. الغربة تربة خصبة لتعهُّد عشب الذكريات. وتكون لندن إذاً مفجِّراً حتمياً لكل ما في الذاكرة من قوَّة وبداوة ووجود سابق عن سبي ما تمثِّله الهجرة. ألم يعترف: «كانت كمشة تراب تثقل جيبي» (الشمس رمتني بنابها الذهبي).

أليس تثبيت فحولة سابقة تأكيداً لمشروعية وصول إلى أرض غريبة، ملساء وشائكة. أو مجرَّد تغنٍّ بسيط بشظف المنشأ. أو بمعمودية تالية لـ: «أنا المولود تحت منجل الحصاد» أو «وشممت فوح طفولتي بين الأكباش». أو تذكُّره لـ: «أمطار على أسطح من طين» و«حنطة مركوزة في الحظائر». (الرائحة تذكّر). أو «الرائحة تذكِّر بالأعشاش»: وكنات الطيور والمواطن الرمزية للدفء. أو في كون الرائحة عادت لتذكر، ثم أسَرَّ في مكان آخر بأنها عادت لتبقى!

إذا كانت لندن مهمَّة على مستوى كتابة نصوص المجموعة، فإنها الفضاء الحاسم الذي سمح بل أجَّج فعل كتابتها. سواء باعتبارها نوعاً من المرفأ الآمن لاستقرار حيوي أخير (بمعنى أنه نهائي في عُرف الاختيار)، أو لأنها، كما لمحنا سابقاً، انتصارٌ شعريٌّ على ماضٍ كان له وجود قبلها. سنلاحظ أن بنية الكتاب الشعري – لأنه كذلك هنا – مُشكَّلة من أربعة مستويات فاعلة ومتباينة. نبدأ بالذاكرة التي هي أداة ونخلص بالتسلسل الوظيفي إلى العناصر الأخرى: الصراع، الهجران، والعودة إلى البيت، أي معيَّة المرأة التي كانت آسرة تقترح مفاتنها «حرباً تدوم».

الشيطان الذي أملى على أمجد ناصر نصوص «سرَّ من رآكِ» هو الذاكرة إذاً. أية شيطانة شرسة هي! والذاكرة، كما سنرى هنا، ليست آلة تحسُّر وشوق مباشر وشكوى، وإنما هي وسيلة لتثبيت دعائم واقعٍ طرحَ حبلَ الترحال وأوغلَ عصاه في الضباب. وإذا كانت الذاكرة هنا أسُّ العمل كلِّه وسنده، فلأنها هي التي تضطلع بإعادة تركيب وبناء أحوال العشق والحب التي تنتمي إلى ماضٍ يُفضي إلى حاضر يتمثَّله، وتنبثق حياة الثاني من تحوُّل الأول. وقبل ذكر تركيبة ما أسَّس له فعل التذكُّر الشعري، أشير فقط إلى أن الأمر يتعلَّق بالفقدان والاستعادة. وتظل عملية التراوح ما بين الفقدان المحيق والاستعادة (ذهنياً وواقعياً) هي قوام الحرب – تأكيد الفحولة – التي يتكفَّل الشاعر بكتابة تاريخها، من أجل البقاء. فالمنتصرون هم من يكتبون دائما تاريخ الغزوات:

"أفقدك وأستعيدك

كلما ذَهَّبَ ضوءٌ نحرك

وفضَّضَ غبشٌ حاشية السرير" (غريب مكلوم بمنجل العذراء).

فإذا كان الأمر لا يتعلَّق بفقدان حقيقي فإن الذكرى هي عماد كل شيء. وكأنني لا أبالغ إن قلت بأن «سرَّ من رآكِ» هو كتاب الذكرى العاشقة بامتياز: «وصلت إلى ما وصلت إليه: هذه الذكرى التي تغيم وتمطر!» (الشمس رمتني بنابها الذهبي). لكن الذاكرة لا تحشر موادها بمحض تذكُّرها وإنما لأنها تستعيد فصول محكّ ووضع في الميزان. فلا تكتشف قصائد الكتاب المرأة التي هي محط الأنظار لأنها معروفة وأليفة – ما عدا كونها تبدو وكأنها غريبة نوعاً في مطلع وردة الدانتيلا السوداء – بل أكثر من ذلك نلحظ كونها معروفة في تفاصيلها التشريحية والروحية لدى الشاعر. ما يسم امرأة القصائد التسع المكوِّنة للكتاب هو الابتهال إليها، والذي يمتزج فيه الاستعطاف بالنبرة الآمرة.

تطوف الذاكرة إذاً بأجواء الرغبة في امرأة عسيرة المنال، ذلك لأنها أولاً «امرأتنا كلنا»، هذه اللازمة التي تُدوزن قصيدة «معراج العاشق». أو مخاطباً إياها، لأنها: «ولدت بهاتين العينَين لتُبصري غيرنا»، أو لأن لها يداً في: «الأبيض المكين/ الذي أخرجنا سافرين من كل إرث». لا يتعلق الأمر فقط بالانخراط في مغامرة تحدٍّ، أركانها، إثبات الفحولة والقوَّة والدربة على مناورات الغرام، بل في سَرية استرداد، ما لم يفقد بعد فقداناً محققاً، امرأة يرفعها إلى سدَّة التسامي مثلما نجد في «لك أيضاً معجزة»، ويخشى عليها من وقوعها في أيدي آخرين، يتمكَّنون من استبقائها لهم:

"فازوا بظاهر يدك

وتركوا أثراً طفيفاً على الثياب" (لص الصيف).

بالرغم من كل ما رصد لها الشاعر من "شآبيب الزلفى" والتقرُّب، فإنها لم تزدد إلا تمادياً في الاستعلاء، وبث البلبلة في صفوف عشَّاقها. «نرتجف لأن النمش الذي ترميننا به/ يهطل على الجراح». واحتاج العاشق إلى معراج يرتقي به إليها. بل العشَّاق كلهم، إذ أنهم صاروا «قانطين من الوصول إلى الثمرة المضاءة/ بوهج الأعماق».

الغريب أن قصيدة «معراج العاشق» مكتوبة بصيغة الجمع المذكَّر «نحن»، بالرغم من أن العنوان يحيل على العاشق المفرد. إن لم يكن ذلك سهواً من الشاعر، ما أشك فيه، فإنه لن يعدو إلا أن يكون دليلاً على تسمية إطلاقية عامَّة لصفة العشق، لا تحتمل الإفراد، التثنية أو الجمع. في حين أن ضمير الجمع «نحن» قد يدلُّ على نفي الخصوصية الذاتية، وتماهيها في الذوات الجمعية غير المحدَّدة، أو قد يكون، من جهة أخرى، تغنِّياً مفخماً بالأنا، ووسيلة تستدعيها اللياقة لمخاطبة امرأة ننصب لها فخاخاً.

لا بدَّ من الإشارة إلى أن هذه القصيدة تتميَّز بهندسة فريدة، تقترب من بناء «وردة الدانتيلا السوداء»، إذ اعتُمدت المقاطع كوحدات مستقلَّة ومترابطة في الآن نفسه، متناولة الموضوعة نفسها، في تداعيات وتنويعات حرَّة، تصبُّ في المسعى ذاته.

يبدو «معراج العاشق» قلقاً كعنوان لهذا النص. ولا أظن أن جملة «ونحن نصعد» الواردة فيه كافية وحدَها لتشريع تلك التسمية، والتي أجدها ملتبسة وباعثة على الاندهاش. وأتساءل لماذا لم يُطلق عليه أمجد ناصر مباشرة «سرَّ من رآك»؟ ما دام هو النص الذي منح العبارة لعنوان الكتاب. مع أن التباس المعراج ينير نوعاً فضاء النص. ذلك أن «المعراج» فيه ليس ارتقاء فيزيائياً، بقدر ما هو إحالة على رمزية التطلُّع والارتفاع إلى سماوات المعشوقة، العصيَّة مع ذلك والمتعالية دوماً: «ليس عادياً ولا مُسلَّماً به أن تطلِّي علينا بطولك المشهوق، فكيف أن تمدِّي لنا يداً لنرقى إليك» (لك أيضاً معجزة).

كما أنه منسوج من مادَّة الحلم، بمعنيَي الغطس تحت سجف اللاوعي والتمنِّي المضعّف بالبشائر. هذه المرأة التي تحمل اسماً لا نعرفه، تردّ خاسرين مَن يقتربون منها. تلمس جرح حبِّهم لها ويند. ثم تؤكد لام الجحود الرغبة في التلطف قليلاً بمصائر أولئك العشاق: «لتتلطَّف الأكف وهي تدفعنا بين الأعمدة». وهؤلاء عُمي، كأنْ في اتصال بأسطورة قديمة: «نراك بالرائحة/ ونتقراك بالأنفاس» ثم «ركضنا وراء الرائحة/ فأوصلتنا إلى ثيابك» و«كنت هناك/ ولم نرك». في حين تظلُّ تحرِّيات العاشق المرفوع غير مؤكد وقوعها، إذ يتساءل الشاعر بواسطة الـ«نحن» في أشطر أخيرة من قبيل: أشممنا، أرأينا، أمررنا، أفزنا. أسئلة مهمَّة تُحرِّض الوعي على الوقوف على حقيقة الواقع، وهل تُحقِّق مراد إرادة العاشق منه. حتى أن «سرَّ من رآك» بُنيَ للمجهول وبقي مفتوحاً. كل هذا للتأكيد على كون المرأة المعشوقة متمنِّعة، ومتلاعبة بمصائر المتبارين للفوز بها، والسرور بمرآها. كتب:

"نحوزك ونفقدك

نحوشك من الجهات

بالأغصان والرماح

فتمكرين

يدك فوق أيدينا".

ذلك أن الرؤية هنا لا تتجلَّى في مجرَّد النظر إليها، بل هي في معنى تحقُّق الاتصال بها، تبصُّرها بكل الحواس، والتحقُّق من تسليمها لمفاتيح أسرارها لنا. انكشافها، والبناء بها، وانتفاء ما كان هتك عورة من قَبل قريناً بها بتحوُّله إلى حرم لائق وحِلٍّ. لكنها تمكر، وقد تنقاد، طعناً في هشاشة أسباب فحولتنا، إلى آخرين. غير أن من فضائل الشاعر ما في قوله: «شفاعتي في الخفة» أو في مداراة العشق حسب الأصمعي.

لكن فضل التعازيم والتعاويذ أقوى. وتكون الحرب المعلنة هي سيرة الهواجس، التوجُّسات، وخوف استبداد الندّ بأسباب الإغواء، ضدّ ما تمتلكه الذات من متاع القتال. ولا نرى في الكتاب أثراً لصراع حادّ بين المتنازعين على وردة عشقهم. إنما بعض تقارير الشاعر حول كنه وَجَلِه الدائم جهة لصوص العَتَمَة، بل إشارته إلى مزاحميه ومريدي تقاسمه بمعنى ما محاسن الحبيبة:

"أنظر إليك في أطناب المنَعة

حيلتي لا شيء أمام سحر الواصلين

على أطراف أصابعهم إلى أعالي الخدر" (غريب مكلوم بمنجل العذراء).

وبناء على إرادتنا في إعادة صياغة أجواء «سرَّ من رآك»، واتخاذنا إياه نوعاً من البيوغرافية الخاصة للشاعر في شأن العشق، بتركيب نصوص الديوان، ومراعاة خطه الشغوف بـ«أيام الحب» وتاريخها، فإن متاهات العراك والهجران قد أدَّت إلى وصول الحبيبة إلى البيت بعدما هيَّجها الشاعر إذ طالبها:

"تخفَّفي من رياش الغلبة

دوسي العتبة

وشرِّفي البيت

لي قميص ذائع الصيت وسيف

ولي سيطرة على نواحي الأصهار".

إذا سعى أمجد ناصر في «سرَّ من رآك» إلى إنشاء كتاب شعري بمعنى الكلمة، فإنني حاولت ربط النصوص المشكِّلة له، وجعلها نصاً واحداً، تسكنه امرأة واحدة، ترتدي أزياء مختلفة، وتظل واحدة في عرف الشاعر. إذ يشير الكتاب إلى معاني الفحولة وتجاذب أطراف الغواية والإغراء بامرأة. ثم بخشية فقدانها وفوز الغير بها. متغنياً على العموم، بفضائل التمسُّك بها.

يُشكِّل هذا الديوان، منعطفاً مهمَّاً في تجربة أمجد ناصر الشعرية في أبعاده المذكورة سالفاً. متميِّزاً بثيمته، بنيته وإيقاعه على ما كتب قبله.

غير ذلك فهذه المرأة التي تغنَّى بها الشاعر تكاد تكون أسطورية، متعالية، نائية ومنقطعة عن نسوان اليومي. بالرغم من إصراره على التمسُّك بها، وإخفاء من تكونه، وتستره عن غزواته، حرصه الشديد بعد هذه الذكرى، أو بعد الزمن الذي رمته فيه الشمس بنابها الذهبي، على التخفِّي القصي. ألم يكتب دالاً على شيء من هذا كلِّه:

"خذي يدي واجلسي لنغيب

فالسدى عيدنا

لا لنا

ولا علينا".

***

الصورة للشاعر أمجد ناصر

عن مجلة نقد .
















































































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow