المعرفة والفرضية الاستعمارية : كتاب «التخيل التاريخي» لعبد الله إبراهيم / رامي أبو شهاب
2014-11-22
للناقد العراقي عبد الله إبراهيم مشروع نقدي ينهضُ بشكل محوري على تفكيك المركزيات الثقافية، وتحليل مساراتها السردية، وتقاطعها مع نشوء الإمبراطوريات، فضلاً عن بحوث في السردية العربية، وسرديات تتصل بالمنفى، غير أن معظمها يأتي في مدارات يفضي كل منها إلى مساحات أكثر اتساعاً، عبر منحى جدلي لا متناهٍ، من منطلق أن الوجود الإنساني لن يكف يوماً عن إنتاج سرديات تنوب عن تمثيله.
إن مسعايَ المُتمثل بتتبع الخطاب ما بعد الكولونيالي، أو بدراسات ما بعد الحقبة الاستعمارية، وخطابها، يقودني إلى التقاطع مع أعمال الناقد عبد الله إبراهيم الذي يعد من أبرز نقاد التجربة الاستعمارية، ولاسيما في إطار جهوده التي تتغيا مقاربة خطاب ما بعد الحقبة الاستعمارية، كما يفضل أن ينعتها في عدد من دراساته، ومنها «التخيل التاريخي ـ السرد، والإمبراطورية-والتجربة الاستعمارية» الصادر عن المؤسسة العربية للنشر 2013.
يفرد عبد الله إبراهيم فصلاً لنقد التجربة الاستعمارية التي نشأت في منتصف القرن السادس عشر مستهدفة الذاكرة التاريخية للشعوب المستعمرة، وما تعرضت له من تخريب تبعاً لعدم استجابتها لمعيارية الغرب، ولانطواء تلك الذاكرة على أبعاد أسطورية، كون معظمها يجافي الواقع، بل هي أقرب إلى طقوس ينبغي أن تكبل بواسطة تبعية هذه الأنماط للمراكز الاستعمارية (ص241). لا شك أن عبد الله إبراهيم في معرض تقديمه نشوء الخطاب الاستعماري، أو المعرفة الاستعمارية، ينطلق من مبدأ إدراك الأنا الغربية، وتعاليها عبر فرضيات تذهب إلى أن الغرب قد أدرك قيمة العقل البشري في ما يتصل بمعنى التقدم، وساعياً في الآن ذاته لتشييد حدود، ومعيارية لامتناهية لفكرة تذليل منظومات من قيم اللاعقلانية والدين والأسطورة والخرافة المتصلة بالآخر المستعمَر. ومن هنا فإن تجربة الغرب باتت أداة، ومقياساً للرشد الإنساني، إذ ان كل ما يطرأ، أو ما لا يقع في نطاق التصورات الغربية، هو نتاج عقل فاسد، ينبغي أن يتعرض للإقصاء والتصفية. ولعل هذا المنظور قد كفل تقديم مسوغات لامتلاك الآخر (المستعمَر) بكل ما ينطوي عليه من فضاءات، بما في ذلك ذاكرته، وكل ما على أرضه من ثروات يحوزها، أي أن كل ما هو خارج العقل الغربي، سواء كان مادياً أو معنوياً، ينبغي أن يُدار أو يمتلك من قبل الغرب كونه الأقدر على إدارة ذاكرة وثروات الشعوب التي تعني حقيقة أسواقاً استهلاكية، ومصادر للمواد الخام، وهنا نلاحظ طغيان التصور المادي في نسق التعامل مع معنى «الاختلاف» الذي يفسر، ويعاد توجيهه تبعاً للمصالح الكولونيالية.
هذا المنطق الغربي تلمسه عبد الله إبراهيم حين أشار في معرض تحليله لفرضية التجربة الاستعمارية التي نهضت على تبرير استحواذ ممتلكات الشعوب المستعمرة، بما يشمل ذلك الطبيعة، وتوظيف الأيدي العاملة لصالح الغرب، مما أحدث عطباً في الطبيعة وانفصال الإنسان عن وعيه المحيط، فالطبيعة تعد مركزاً من مراكز مفهوم الهوية التي استلبت، وأعطبت عبر التعبية والاستعباد (ص 242). هذا النهج أسهم في انطلاق مفاهيم التوتر والكراهية والحروب، ما أحال التاريخ إلى ساحة للنزاع. وبما أن الكتابة تشكيل معني بصوغ تجربة الآخر، وتسجيل معاناته وآلامه، فقد نشأت الكتابة الاستعمارية على ثنائية معرفة الأنا والآخر، ولكن ضمن نطاق التنازع على صوغ مسار التاريخ الذي يتعرض إلى التزييف (242). لقد اختزلت الشعوب المستعمَرة إلى خانات، وتصنيفات تقوم على اللون والمعتقد والعرق واللغة، فمسلك التصنيف إلى فئات، ونماذج يعد نهجاً غربياً لفهم كل ما هو خارج حدود الأنا الغربية، ولهذا يُصار إلى اختزال (كل شيء) كي يسهل التعامل معه، وقد سبق أن أشار ميشيل فوكو في كتابه «الكلمات والاشياء» لهذا النهج عند مناقشته لآلية تكون المعرفة، وإنتاجها في الثقافة الغربية، حيث استحالت إلى نسقٍ من أنساق الهيمنة على الأشياء، وكل ما يطال، أو يواجه العقل الغربي الذي لا يتردد بتصنيف كل ما يطرأ، سواء كان مادياً، أو معنوياً من أجل اكتساب القدرة على معرفته بهدف السيطرة عليه.
يعمدُ عبد الله إبراهيم في مناقشته للتجربة الاستعمارية إلى منهجية واضحة، وذلك بهدف بيان عملية تكون الخطاب ما بعد الكولونيالي، وهو هنا يذهب إلى المعرفة الاستعمارية عبر تنظير هومي بابا الذي يشكل مرجعية صلدة في ما يتعلق بتعريف الخطاب الاستعماري تحديداً، حيث يرى فيه هومي بابا: «جهازاً يدير معرفة الاختلافات العرقية/ الثقافية/ التاريخية، وإنكارها. وتمثل وظيفة الاستراتيجية المسيطرة على خلف فضاء للشعوب خاضعة عبر إنتاج معرف تمارس من خلالها المراقبة» (243). وهكذا يُعنى به عبد الله إبراهيم – بصفة خاصة- بمفردات الخطاب التي تكاد تمثل مداخل لفهم معنى المعرفة الاستعمارية التي تقوم على ثنائيتين هما: الاختلاف والمعرفة، ولعل هاتين المفردتين تشكلان مسلكاً ملائماً لمعنى تشييد المعرفة الاستعمارية، عبر إبراز معنى الاختلاف بوصفه حالة دونية، ولكن بالتوازي مع أهمية تكوين المعرفة من أجل المراقبة والهيمنة والسيطرة. يعلل عبد الله إبراهيم معنى الاختلاف بسلسلة من الثنائيات المتضادة على جانبي المستعمِر والمستعمَر، وتتجسد بالسمو الغربي مقابل الانحدار والدونية، ومرادفاتها في ما يتصل بالمستعمَرين الذين لا أمل بنفاذ الأخلاق لتكوينهم، وسلوكهم، وهذا يؤهلهم لأن يكونوا في مجال التابع (243).
يحدد عبد الله إبراهيم «التابع» بوصفه موضوعاً للبحث من قبل الخطاب الاستعماري، أو الكولونيالي، ولكن عبر منهجين هما: ادعاء الموضوعية بالاتكاء على منهج وصفي علمي، ولكنه في الآن ذاته يفتقد إلى الرؤية، في حين تمثل المنهج الثاني بالمنظور المضمر القائم على التبعية؛ بمعنى أنه لا مجال لانفكاك المستعمر مما يكبله من أنساق التخلف إلا عبر التبعية للنموذج الغربي الذي يؤمن بأن مساره التاريخي هو الوحيد الذي يقود إلى التقدم. لا شك بأن عبد الله إبراهيم قد أدرك آلية الخطاب الغربي عبر الوقوع على التكوين النفسي للخطابات التي تنطلق من استهداف، أو خلق مسوغات أخلاقية للفعل الكولونيالي، وتقديم كل ما من شأنه أن يبرر هذه الجريمة، ولكن في رداء من الخطاب المعرفي العقلاني الذي يتوخى خلاص (الآخر) المستعمَر من عاهاته بتبني، أو فرض نموذج الغرب المثالي الذي ابتعد كثيراً في مسار التاريخ، مما يجعل من الغرب عقلا متعالياً، أو أقرب ما يكون إلى النموذج الإلهي المكتمل، غير أن هذا الادعاء لن يكون حقيقياً، فالآخر ـ حقيقة- أكثر تعقيداً مما يعتقد الغرب بمسلكه الهين الذي يلجأ له ويتمثل بآلية مجانسة الآخر (المستعمَر) متجاهلاً ما نعته عبد الله إبراهيم بالبطانة التي تنطوي عليها المجتمعات المستعمَرة، كالولاءات والتحيزات العرقية والخلفيات التاريخية الخاصة، والعقائد الدينية الراسخة، وعدم القدرة على تأويل دلالاتها الرمزية، التي تحتاج إلى المزيد من الاختبار والإدراك المُعمق (244) . إن المعرفة المتجزأة والمنقوصة التي اعتمدها الخطاب الغربي، أفضت إلى انبثاق تكتلات من سوء الفهم التي نتجت بفعل مسار الهوية التي أخضعت لعمليات من التحويل والتشويه، ومحاولة قيادتها لتبني منظور الغربي المتفوق الذي يصر على أن مقاربته للعالم هي النهج الذي يمكن أن يفضي إلى خلق منظومة حضارية مؤهلة لاعتناق مسار التاريخي، وكل خروج عن هذا التصور سوف يُنعت بالتخلف والبدائية، وهذا يتسبب ببروز كمٍ من عمليات من الإخضاع المستمر نظراً لقصور الأداة، والمنهج، وذلك عبر فعل مادي يتمثل بالاحتلال العسكري.
وفي ظل عمليات تخريب النهج المعرفي للشعوب المستعمَرة، فإن عملية التطور لن تتحقق، مما يعني أنها سوف تبقى خارج السياق، وهذا يؤهلها لأن تكون قابلة، بل مرحبة بالهيمنة الغربية، ولكن ضمن علاقة توصف في سياق الدراسات ما بعد الحقبة الاستعمارية بالتابع (246). ما من شك بأن بعض المجتمعات المستعمَرة، ما زالت تصر على أن الخروج من الأزمة الحضارية لن يتحقق إلا عبر إنشاء مؤسسات سياسية تحاكي ما في الغرب، غير أن هذا المسلك، وإن تحقق لن يقضي على ثقافة الوصم الغربية القائمة نتيجة قيمة الاختلاف التي يصر عليها الغرب، مما يعني أن الانحطاط مستمر، ولهذا تتبدى التبعية شرطاً للنهضة التي لن تكتمل لعطب المنهج، ومُخاتلته.
إذن لا سبيل من أن الإقرار بأن المعرفة الاستعمارية، تنهض على فرضية، ما زالت تتخلل نسيج العقل الغربي الذي لم يتمكن – إلى الآن- من الخروج من أزمته التي تهدد منجزه الحضاري، نظراً لتشبثه بمسلك اختزال العالم، ومساره ضمن رؤيته الخاصة، وكأن هذا الكون، لا يمكن أن يمثل إلا في سياق التجربة الغربية، وكي يستقيم هذا النهج لا من التأكيد على مقولة تعالي الغرب بوصفه (الأيقونة)، هذه الطبيعة الإنشائية للخطاب، وما تنطوي عليه من ممارسة تطلبت وتتطلب إيجاد حلول لفكرة «الآخر» الذي ينبغي له أن يلحق بالغربي عبر ثنائية التابع والسيد، وهذا يعني أن دراسات ما بعد الحقبة الاستعمارية، أو الخطاب ما بعد الكولونيالي ما زال مؤهلاً لأن يكون مستقبلاً للدراسات النقدية والفكرية، وذلك تبعاً لاتساع إشكالية النمط الاتباعي للثقافة البشرية، طالما أن الإنسان لن يتخلى أو يكف عن رغبته بالهيمنة على أخيه الإنسان.
عن القدس العربي.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |