Alef Logo
دراسات
              

أنواع الملفوظ السـردي في القصة القصيرة جدا / د. جميل حمداوي

2014-11-30

(قصص شيمة الشمري نماذج)


المقدمة:

يمكن تحليل القصة القصيرة جدا ودراستها نقديا في ضوء مقاربات منهجية مختلفة و متنوعة، كأن تكون مقاربة مضمونية تيماتيكية، أو مقاربة تاريخية، أو مقاربة اجتماعية ، أو مقاربة نفسية، أو مقاربة فنية جمالية، أو مقاربة بنيوية وصفية، أو مقاربة سيميائية، أو مقاربة ميكروسردية…

واليوم، قد ارتضينا مقاربة قصص المبدعة السعودية شيمة الشمري في ضوء المقاربـــة التلفظية التي تعنى بدراسة الملفوظ في مختلف وضعياته البنيوية والتركيبية والدلالية والسياقية والتواصلية، مع التوقف عند أنواع الملفوظ السردي بنية ودلالة ومقصدية، بعد أن درسنا – سابقا – بنية الجملة النحوية واللسانية ف في كتابنا (جماليات القصة القصيرة جدا عند المبدعة الكويتية هيفاء السنعوسي)[1].

وغرضنا من هذا كله هو تجديد الدرس النقدي في دراسة المنجز القصصي القصير جدا، باستجلاء مختلف أنواع الملفوظات اللسانية في النصوص القصصية الوجيزة لدى شيمة الشمري، بالتوقف عند أضمومتيها (ربما غدا)[2] و(أقواس ونوافذ)[3].

إذاً، ما الملفوظ اللساني؟ وما أنواعه في قصص شيمة الشمري؟ وما خصائصه البنيوية والدلالية والوظيفية؟ هذا ماسوف نرصده في موضوعنا هذا.

×مفهـــوم الملفـــــوظ:


الملفوظ (Enoncé) – في اللغة – هو فعل التلفظ، أو نتاج عملية التلفظ ، أو هو معطى لغوي ولساني يتكون من سلسلة أو مجموعة من الوحدات اللغوية المتلفظة والمحددة بفترتين من الصمت، قد تكون ملفوظة أو مكتوبة . أما في الاصطلاح، فهو وحدة لسانية وخطابية أساسية في معظم تحاليل فلسفة الكلام واللسانيات المعاصرة. ويتميز عن فعل التلفظ (Acte d’énonciation) الذي يتعلق بالإنجاز التواصلي أو التداولي في سياق ما. بمعنى أن الملفوظ إنتاج عبارات وجمل ووحدات لغوية ولسانية داخل إطار تواصلي معين، يجمع بين طرفين أساسيين هما: المتلفظ والمتلفظ إليه. ومن ثم، يتميز الملفوظ عن القضية المنطقية من جهة، والجملة النحوية من جهة أخرى. ويعني هذا أن الجملة تتميز باكتمال معناها المفيد، واكتمال بنائها التركيبي والنحوي. بينما، تتحدد القضية بمواصفاتها المنطقية القائمة على المحمول والموضوع. علاوة على هذا، فالملفوظ المنطقي، في فلسفة اللغة، هو تلك الوحدة الصغرى للمعنى التي تحتمل الصدق أو الكذب. في حين، يتشكل معنى الملفوظ انطلاقا من شروط التلفظ. وبتعبير آخر، يرتبط الملفوظ بالمعينات والإشارات التواصلية الإدماجية وغير الإدماجية فهما وتفسيرا وتأويلا.

وإذا كانت التداوليات تهتم بالتلفظ الكلامي الإنجازي والسياقي، فإن اللسانيات هي التي تعنى بالملفوظ باعتباره وحدة لغوية أساسية في الخطاب.ويدل هذا على أن الملفوظ مرتبط بعملية التلفظ وسياقه الإدماجي وغير الإدماجي، بحضور مجموعة من القرائن الدالة على حضور الطرفين المتلفظين أو غيابهما.

هذا، ويميز جوزيف كورتيس بين التلفظ(Enonciation) والملفوظ السردي (Enoncé)، فالتلفظ عبارة عن عملية إنتاج الملفوظات التي ترتبط بأدوات الحضور، كضمير المتكلم، وظروف المكان(هنا)، وظروف الزمان (الآن). أي: أنا، الآن، هنا. أما الملفوظ ، سواء أكان شفويا أم كتابيا، فهو عكس التلفظ ، يرتبط بمجموعة من الأدوات الدالة على الغياب، مثل: هو ، وبعد، وهناك. وهذا كله له علاقة بالإدماج واللاإدماج على المستوى السيميائي[4] ، أو له علاقة بالإحالة التلفظية أو الإحالة المرجعية.

وتأسيسا على ماسبق، يعد الملفوظ وحدة لسانية أساسية وجوهرية في مجال اللسانيات وفلسفة اللغة. ويتميز عن فعل التلفظ الذي يعني إنتاج الملفوظ في سياق تواصلي معين. ومن ثم، يتميز الملفوظ عن القضية المنطقية والجملة اللسانية أو النحوية.علاوة على ذلك، تهتم التداوليات بعملية التلفظ أو الكلام الإنجازي.في حين، تعنى اللسانيات باللغة والملفوظ بنية وتحليلا وتركيبا .

وثمة فرق جلي بين الجملة والملفوظ، فالجملة بنية لسانية ونحوية مكتملة المعنى والفائدة في سياقها التركيبي. أما الملفوظ فلا يفهم ولا يفسر إلا في سياقه التواصلي القائم على مجموعة من المؤشرات والمعينات والقرائن التلفظية والسياقية . ومثال ذلك: إذا قلنا: العمل رائع.فهذه جملة. وإذا قلنا بنبرة السخرية: العمل عظيم! فنحن – هنا- لانمدح المتعلم ولانثني عليه ، بل نقصد السخرية والذم والتوبيخ. ويعني هذا أن دلالة الملفوظ تتحدد من خلال السياق التواصلي للمعينات التلفظية.

وعليه، فالملفوظ وحدة سياقية تواصلية بامتياز، مرتبط بعملية التلفظ والوضعية السياقية والإطار الفضائي. ومن ثم، يتشكل الملفوظ التواصلي من الزمان والمكان والمعينات الدالة على الاندماج واللااندماج.

وهناك من يعرف الملفوظ السردي بأنه عبارة عن نواة سردية تتشكل من مجموعة من الأطراف المشاركة ، مثل: الذات، والموضوع، والعلاقة التي توجد بينهما. وفي هذا الصدد، يقول السيميائي المغربي عبد الرحيم جيران:” إن تركيب الأطراف التي تكون النواة السردية داخل نص محدد يشكل ما نصطلح على تسميته بالملفوظ السردي. ويشتق هذا الأخير من النص اعتمادا على مؤشرات عدة لاترد مجتمعة بالضرورة في محل نصي واحد ذي حيز مقلص، فقد تكون متفرقة ، وتقع في محال نصية متباعدة نسبيا.وقد تكون النواة السردية بسيطة متكونة من ملفوظ سردي واحد، وقد تكون مركبة من ملفوظين سرديين أو أكثر.” [5]

ولايمكن فصل الملفوظ السردي، في تناميه الحكائي، عن التصور والتحقق أو الرغبة أوالإنجاز أو المعنى والحقيقة.” فكل جهد سردي لابد له من تصور قبلي أو تصور مصاحب للجهد.والمقصود بالتصور تحديد نوع الموضوع المراد، وكل ما يتعلق بالكيفية التي يمكن حيازته بها.والتصور بهذا المعنى لايعني مجرد الرغبة في الموضوع أو توفر القصد في صدد حيازته، وإنما ما تكونه حوله من أفكار، وما نسنده إليه من قيم سلبية كانت أو إيجابية، ونوع الوسائل التي نحددها من أجل الحصول عليه.وقد يكون التصور شكليا أو فارغا من دون محتوى، بحيث لايحدد إلا في هيئة رغبة من دون تخصيص محتواه النوعي.أي: إن الموضوع يظل عاما يفتقر إلى ما يجسمه على نحو واضح.ولا يرد التصور إلا لكي يحقق، وإلا انتفى التنامي السردي.ولا يراد بالتحقق مجرد العمل على نقل التصور إلى مجال الجهد، ولا حيازة الموضوع فقط، وإنما يراد به ما تتطلبه الملفوظات الإنجازية من فحص لمصداقيتها في ضوء ثنائية الحق والباطل.وما يجعل التحقق- في هذا الجانب- مرتهنا بالتصور هو ما يتضمنه هذا الأخير، على هذا الوجه أو ذاك، من تعهد مع النفس أو الغير بالفعل.وهذا التعهد له صلة بالحقيقة ، أي ضرورة فحصه في إطار ثنائية الحق والباطل. فإن كانت علاقة الإرادة باستعمال الموضوع ترد من حيث هي مصوغة في هيئة ملفوظ سردي، فإنها لاترد إلا في التصور، إذاً، أن يكون دالا على معنى ما، بل يقتضي فحصه في ضوء الحقيقة، أي في ضوء مسار انتقاله من المعنى (التصور) إلى مجال الحقيقة (التحقق).”[6]

بيد أن هناك من يطلق الملفوظ على النص أو الخطاب. وفي الآن نفسه، هناك من يميز بينها[7].


×مقـــاربات الملفـــوظ الســــردي:


ثمة مجموعة من المقاربات النصية التي تناولت الملفوظ السردي. ومن بين هذه المقاربات نذكر ما يلي:

@ المقاربـــــة المنطقيــــة:


ترى المقاربة المنطقية ، اعتمادا على الإرث الأرسطي، بأن الملفوظ عبارة عن قضية منطقية، تتكون من محمول وموضوع وعلاقة تجمع بينهما. وقد يكون الملفوظ عبارة عن حكم منطقي مرتبط بالصدق والكذب. فعندما نقول- مثلا-: المعدن يتمدد بالحرارة، فالمعدن هو الموضوع أو المحكوم عليه، والتمدد عبارة عن الشيء المحكوم به أو المحمول، والعلاقة أو النسبة الموجودة بين الموضوع والمحمول ، قد تكون علاقة كمية أو كيفية. ومن ثم، قد تكون العلاقة المثبتة علاقة كلية موجبة (كل التلاميذ حاضرون) أو علاقة كلية سالبة (كل التلاميذ غائبون)، أو علاقة جزئية موجبة (بعض التلاميذ حاضرون)، أو علاقة جزئية سالبة (بعض التلاميذ غائبون)، أو علاقة استغراق(كل الطلبة حاضر)، أو علاقة عدم استغراق( لاأحد من الطلبة حاضر). وقد تكون العلاقة مطلقة(الضفادع تسبح)، أو علاقة منطقية مقيدة أو مشروطة (إذا وضعت الضفادع في الماء، بدأت تسبح).

@ المقاربــــة اللسانيـــة:


تعنى لسانيات التلفظ بدراسة الملفوظات اللغوية في سياقها التواصلي الزمكاني، انطلاقا من مجموعة من المؤشرات والمعينات والقرائن التلفظية التي تحيل على حضور المتلفظ أو غيابه.

ويعني هذا أن كل ملفوظ يتكون من مرسل ومستقبل ومكان التلفظ وزمانه. وهذه المؤشرات هي التي تسمى بالمعينات أو القرائن السياقية. وبتعبير آخر، فالمعينات هي مجموعة من العناصر اللسانية التي تحيل على السياق المكاني والزماني لعملية التلفظ الجارية بين المتكلمين أو المتحدثين أو المتلفظين.

إذاً، يقصد بالمعينات أو القرائن الإشارية تلك الكلمات أو التعابير أو الروابط أو الوحدات اللغوية التي ترد في ملفوظ كتابي أو شفوي لتحدد الظروف الخاصة للتلفظ، وتبين الشروط المميزة لفعل القول، ضمن سياق تواصلي معين. ومن ثم، لا يتحدد مرجع هذه القرائن والمعينات الإشارية – دلاليا وإحاليا – إلا بوجود المتكلمين في وضعية التلفظ والتواصل المتبادل.

هذا، وتحيل المعينات على أطراف التواصل من: متكلم ومستقبل، ومرسل ومرسل إليه، بالإضافة إلى الضمائر المنفصلة والمتصلة(أنا-أنت- نحن-أنتم…)، وأدوات التملك المتعلقة بضمير المتكلم وضمير المخاطب(كتابي، كتابك، كتابنا، كتابكم…)، وأسماء الإشارة(هذا-هذه- ذلك- تلك…)، وظروف الزمان والمكان(هنا-هناك-اليوم- الآن- البارحة- في يومين، هذا الصباح، إلخ…)، فضلا عن كل المؤشرات اللغوية التي تعين الشخوص والأشياء من قبل المتكلم.

ومن هنا، فالمعينات هي وحدات التلفظ ومؤشراته، تساهم في تحيين فعل التلفظ إنجازا وقولا وفعلا، عن طريق الضمائر، وأسماء الإشارة، وظروف الزمان والمكان . وبالتالي، فالمعينات هي التي تعنى بتحديد مرجع الوحدات اللغوية أثناء عملية التلفظ والتواصل. ويحيل هذا المرجع على واقعية لسانية خارجية تسيج علاقة الدال بالمدلول. ومن ثم، فلايمكن تحديد معنى الشيء، وتعيين هويته، إلا بمعرفة ظروف التواصل وشروطه المميزة. فإذا أخذنا على سبيل المثال هذا الملفوظ اللغوي:” سأذهب لأنام”، إذا كنا نعرف بأن أحمد هو الذي قال هذه الجملة، فضمير المتكلم يعود عليه إحالة وسياقا ومقاما.أي: إن ضمير المتكلم هو أحمد. وإذا لم نكن نعرف متلفظ هذه الجملة، فلن نعرف بتاتا على من يعود ضمير المتكلم. وهكذا، يتبين لنا، بأن الضمائر تتحدد وتتبين ، دلالة وإحالة ومرجعا، بوجود أطراف التلفظ والتواصل.

وعليه، فلسانيات التلفظ هي التي تدرس الملفوظات اللغوية في نطاقها التواصلي والتلفظي والسياقي، ضمن ثنائية الحضور والغياب، أو ثنائية الاندماج واللااندماج.


@ المقاربـــة السيميوطيقيـــة:


ترى المقاربة السيميوطيقية، مع كريماس وجوزيف كورتيس وآخرين، بأن الملفوظ السردي عبارة عن علاقة بين العوامل، كالعلاقة التي تجمع بين الذات والموضوع. ويعني هذا أن الملفوظ عبارة عن فعل أو وظيفة أو دور (Function)، يقوم بها عامل ما. ويقول عبد المجيد نوسي بأن” صياغة مفهوم الملفوظ السردي تبين المبدأ الذي يقوم عليه التحويل من التركيب العميق إلى التركيب السطحي، ذلك أن العمليات التي تتم على مستوى النواة العميقة يمكن أن تحول، على مستوى التركيب السردي، إلى ملفوظ سردي.والملفوظ السردي بالتحديد الذي قدمنا يتضمن من جهة الفعل، ويتضمن من جهة أخرى الفاعل أو العامل، وهو ما يعطى لهذا المستوى البعد “المؤنسن”.كما يبين أن التحويل من التركيب العميق يتم بمنح العملية، بصفتها عنصرا أساسيا على المستوى المورفولوجي، تمثيلا تركيبيا على المستوى السردي السطحي.”[8]

ويعني هذا أن الملفوظ السردي يرتبط، منهجيا، بالمستوى السطحي، وبخاصة بالمنحى التركيبي، ويترجم العلاقات الدلالية التي تتم على مستوى البنية العميقة. وأكثر من هذا يتأسس الملفوظ السردي على مجموعة من الأطراف الأساسية هي: الوظيفة، والعامل، والفاعل الدلالي، والعلاقات الجامعة بين الأطراف المتفاعلة سيميائيا.

هذا، ولا يمكن للمرسل أن يكلف الذات أو الفاعل الإجرائي بتنفيذ الفعل، وإقناعه بأداء المهمة، والتعاقد معه على إنجاز الفعل، إلا إذا توفر ذلك الفاعل على مجموعة من المؤهلات الكفائية، كالمعرفة، والقدرة، والإرادة، والوجوب. وترد هذه المؤهلات في شكل أفعال جهية، مثل:

1- الفتى يحب أن يتصدق بماله.

2- الفتى يريد أن يتصدق.

3- الفتى يجب عليه أن يتصدق.

4- الفتى يقدر على التصدق بماله.

نلاحظ أن الفاعل الإجرائي تتوسطه مجموعة من أفعال الجهة أو الوساطة التي تسهم في تعزيز تجربة الترشيح والتأهيل، لكي يخوض الفاعل الإجرائي والفاعل الوساطي تجربة الاختبار والإنجاز من أجل تحقيق الموضوع المرغوب فيه[9].

ومن هنا، فقد ميز كريماس بين أربعة أنواع من الملفوظات: الملفوظ السردي البسيط، والملفوظ الصيغي( يريد- يجب- يقدر- يعرف)، والملفوظ الوصفي(ملفوظ الحالة )، سواء أكان ذاتيا (بفعل الكينونة) أم موضوعيا(بفعل التملك)، والملفوظ الإسنادي الذي يحدد علاقة الذات بالموضوع.

@ المقاربــــة التداوليـــة :


ترتبط المقاربة التداولية بنظرية أفعال الكلام أو بدراسة الملفوظات الإنجازية مقارنة بالملفوظات التقريرية والخبرية والمنطقية. أي: تدرس المقاربة التداولية الملفوظات الكلامية القائمة على الحوارية والاستلزام التداولي. بمعنى أن المقاربة التداولية تدرس مختلف الملفوظات الكلامية التي تنتقل فيها الدلالة المتلفظة من بعدها الحرفي المباشر إلى بعدها السياقي الإنجازي والضمني.

ويعني هذا كله أن الفعل الكلامي ينقسم إلى ثلاثة أنواع: فعل القول، والفعل المتضمن في القول، والفعل الناتج عن القول. وقد لايدل الفعل المتضمن في القول على دلالته المباشرة، بل يفيد معنى إنجازيا آخر غير مباشر يحدده سياق القول. بتعبير آخر، للجملة الواحدة ثلاثة مستويات: محتواها القضوي، وهو مجموع معاني مفرداتها؛ والقوة الإنجازية الحرفية، وهي قوة مدركة مقاليا،؛ والقوة الإنجازية المستلزمة، وهي التي تدرك مقاميا. ويعني هذا أن أوستين يربط الأقوال بالأفعال، والمقال بالمقام. فأن نقول كلاما، يعني أننا ننجز فعلا. ومن هنا، فنظرية الأفعال الكلامية تنبني على فعل القول (قول شيء ما) الذي يتخذ مظهرا صوتيا وتركيبيا ودلاليا؛ والفعل المتضمن في القول (إنجاز فعل معين ضمن قول ما)، وقد يكون فعلا مباشرا أو غير مباشر؛ والفعل الناتج عن القول(الآثار المترتبة عن قول شيء ما). ويتميز الفعل الكلامي بالمطابقة مع الواقع والسياق، والتعبير عن حالة نفسية، والقدرة على الإنجاز، واختلافه باختلاف منزلة المتكلم من المتلقي، والاختلاف في أسلوب الإنجاز، واختلاف القوة الإنجازية…[10]

@المقاربـــة الحجاجيــــة:

تنطلق المقاربة الحجاجية من تصورات أزوالد ديكرو(O.Ducrot) وأنسكومبر (ANSCOMBRE)[11]، كما بيناها – بشكل جلي- في نظريتهما الحجاجية سنة 1973م. وبالتالي، فهي نظرية لسانية تعنى بالملفوظات اللغوية الحجاجية التي تتضمنها اللغات الطبيعية، مع دراسة الأهداف الحجاجية ، ورصد تأثيرها التداولي على المستمع. ويعني هذا أن الملفوظات اللغوية تحمل، في جوهرها، مؤشرات لسانية ذاتية، تدل على طابعها الحجاجي، دون أن يكون ذلك متعلقا بالسياق التداولي الخارجي.

وإذا قلنا :

المغاربة أفارقة.

زيد مغربي.

إذاً، زيد أفريقي.

فهذا برهان أو قياس منطقي حتمي وضروري.

أما إذا قلنا: انخفضت درجة البرودة، إذا، سيمرض زيد. فهذا ملفوظ حجاجي أو استدلال طبيعي غير برهاني، يحمل استنتاجا احتماليا.ويعني هذا أن اللغة الإنسانية لغة حجاجية ومنطقية من داخل بنيتها اللغوية. وقد استفاد دوكرو من نظرية أفعال الكلام كما عند سورل وأوستين وغرايس.وأضاف دوكرو فعلين: فعل الاقتضاء، وفعل الحجاج. وينضاف إلى هذا، أن الحجاج يتميز عن البرهان أو الاستدلال المنطقي بكونه يتأسس على بنية الأقوال اللغوية، وعلى تسلسلها واشتغالها داخل الخطاب.


× أنــــواع الملفـــوظ الســـــردي:


يمكن الحديث عن أنواع من الملفوظات السردية التي يتضمنها المحكي أو المبنى أو الخطاب السردي داخل مجموعتي شيمة الشمري(ربما غدا) و(أقواس ونوافذ). ويمكن استحضارها على الوجه التالي:

@ الملفــــوظ الســــردي البسيــط أو المركـــب:


الملفوظ السردي البسيط هو ذلك المنطوق الذي نتلفظه حول قضية أو واقعة ما بدون إسهاب أو شرح أو تفسير أو تمطيط أو وصف أو توسعة.أي: يكتفي بالنواة الإسنادية الأساسية. بمعنى أن الملفوظ البسيط هو الذي يتضمن محمولا واحدا.أما الملفوظ السردي المركب، فهو الذي يحوي محمولين فأكثر. كما يبدو ذلك بينا في هذه القصة الوجيزة (هو وهم):

عاد بعد غربة دامت سنوات إلى وطنه الغالي..

بعد أسابيع شاهده أحد جيرانه وهو يحمل حقائبه مغادرا!!

سأله: إلى أين؟

رد: إلى حيث كنت، لأكون أنا” أنا”

لا” هم وأنت”!!“[12]

يتكون هذا النص السردي الوجيز من ملفوظات حكائية بسيطة ذات محمول فعلي واحد (سأله- رد..). كما يتكون النص من ملفوظات مركبة بواصل زمني ( عاد بعد غربة دامت سنوات )، أو بواصل حالي ( شاهده … وهو يحمل حقائبه). ويعني هذا أن الساردة تستعمل ملفوظات سردية بسيطة ومركبة في آن معا.


@ الملفــــوظ الصيغــــي:


إذا كان الملفوظ السردي ، في إطار التصور السيميوطيقي للخطاب السردي، يتكون من عامل ووظيفة، فإن الملفوظ الصيغي هو الذي يتحدد بوظيفة الإرادة (أنا أريد..)[13]، ووظيفة الوجوب (يجب أن…)، ووظيفة القدرة (أن يقدر على…)، ووظيفة المعرفة (أن يعرف…). بمعنى أن الملفوظ الجهي أو الصيغي (Enoncé modal) مقترن بمجموعة من الأفعال الوسيطة الدالة على الوجوب والقدرة والإرادة والمعرفة، في علاقة تامة بالعامل المنجز أو المرشح لأداء البرنامج السردي، عبر سيرورة تشكل الحكي والدلالة النصية والخطابية.

ومن القصيصات المعبرة عن الملفوظ الصيغي قصة (أحلام هاربة):

يسعى جاهدا لتحقيق أحلامه..

يصل إلى قمة أول حلم…

ينتشي فرحا..

فتهرب بقية أحلامه!!!“[14].

في هذه القصيصة، نجد الملفوظ الصيغي الذي يعبر عن القدرة ، ويتمثل ذلك في عبارة” يسعى جاهدا” ، فالعامل المنفذ يملك القدرة التي تؤهله لتحقيق برنامجه السردي الذي يكمن في تحقيق أحلامه. وبطبيعة الحال، ينجح في الوصول إلى هدفه المبتغى ظفرا وهيمنة وانتصارا.بيد أن ذلك الهدف قد تبخر بشكل كلي؛ لتتحقق الخيبة والهزيمة الشنعاء. ومن ثم، فالبطولة الكفائية ناقصة في هذا البرنامج، والبطل شخصية غير منجزة.ومن ثم، سيكون التقويم – بلاشك- سلبيا وخائبا وغير ممجد من قبل المرسل أو المرسل الانعكاسي (المرسل نفسه).

@ الملفــــــوظ الوصفــــــي:


يقصد بالملفوظات الوصفية- في التصور السيميوطيقي- تلك العبارات التي ” تحدد شكل البرنامج المراد تحيينه، وهي إما ذات طابع الكينونة (أنا أريد أن أصبح جميلا)، أو ذات طابع التملك (أريد تفاحة)”[15].

ويعني هذا أن الملفوظ الوصفي يرتبط بملفوظ الحالة ، سواء أكان ذاتيا بفعل الكينونة أم موضوعيا بفعل التملك. كما يدل الملفوظ الوصفي على كل العبارات التي تحمل أوصافا ، سواء أكانت أفعال حالة أم مرتبطة بنعوت وصفات وأحوال وتمييز وصفة مشبهة وصيغة مبالغة وغيرها من المشتقات الدالة على الوصف.

ومن النماذج الدالة على الملفوظ الوصفي القصيصة التالية:” تحلقوا حول الطاولة لمناقشة قضيتهم المؤرقة .. تعالت أصواتهم بالصراخ..

تألموا كثيرا.. بكوا كثيرا.. ثم تفرقوا؛

فناموا طويلا!“[16]

يلاحظ القارىء، في هذه القصيصة السردية، مجموعة من الملفوظات الإسنادية الوصفية.أي: عبارات ترد في شكل موصوفات مباشرة وغير مباشرة (تعالت أصواتهم- تألموا كثيرا- بكوا كثيرا- تفرقوا- قضيتهم المؤرقة…).

إذاً، هناك أوصاف فعلية (تألموا- تعالت…)، ومركبات وصفية ( قضيتهم المؤرقة)، والوصف بالتدرج الكمي (بكوا كثيرا )، والوصف التوكيدي (بكوا كثيرا- تألموا كثيرا)، والوصف الحالي(ناموا طويلا).

ومن هنا، تدل القصيصة على عبثية الحدث والموقف، والسخرية من الاجتماع العربي الذي ينتهي دائما بالسبات الثقيل؛ مما يجعل اجتماعات العرب مأساوية من حيث المآل، وذات سمة دونكيشوتية من حيث الفعل والحدث.


@ الملفــــوظ الإســـــنادي:


الملفوظ الإسنادي هو الذي يحدد علاقة الذات بالموضوع أو هو الذي يجمع بين المسند والمسند إليه. وقد يقصد به امتلاك القيم[17]. ومن ثم، فالمسند قد يكون فعلا معلوما أو مجهولا أو خبرا، والمسند إليه قد يكون مبتدأ أو فاعلا أو نائب فاعل، والعلاقة الجامعة بين هذه العناصر هي العلاقة الإسنادية الأساسية. كما يتضح ذلك بينا في قصيصة (صقيع):”

نهض من نومه ليلا..لاحظ الفراغ الذي يشاطره الفراش.. بحث عنها.. وجدها في حالة تلبس وكتاب..غضب..صفعها ومزق أحشاء (الكتاب). أخذها من يدها إلى السرير..هناك تودد إليها؛ فخيم الصقيع على الغرفة..”[18]

يلاحظ أن النص عبارة عن ملفوظات إسنادية حركية ودينامية، تجمع بين الفعل والفاعل الغائب، مثل: (نهض- لاحظ- صفعها- مزق- أخذها- تودد- فخيم..). فهذه ملفوظات إسنادية فعلية مبنية للمعلوم والمجهول، يعقبها فاعل في شكل ضمير غير معين.أي: تتحول الشخصية العاملية إلى نكرة مستترة يدل عليها الضمير المحذوف جوازا. وتعبر هذه القصيصة عن التوتر العاطفي الذي يكون بين زوجين متنافرين، فتتحول المشاعر الإيروسية إلى صقيع بارد خال من الدفء والحرارة العاطفية الحقيقية.

@ الملفــــوظ القضــــــوي:


يقصد بالملفوظ القضوي تحول القصيصة إلى مجموعة من القضايا المنطقية المرتبطة بالاستدلال والحجاج المنطقي. وقد تكون القضية التي تتكون من موضوع ومحمول موجبة أو سالبة. ومن بين القصيصات التي ترد في شكل قضايا منطقية نذكر قصيصة (فوات):

” لم يكن يبالي بها..غاصت في أعماقه طويلا..اكتشفت عوالمه..عانقت موجه بحب..ضمت عواصفه بحنان..

بعد زمن تنبه ..تحسسها..فانفجرت أشلاء..!“

تستند هذه القصيصة إلى قضية أساسية سالبة (لم يكن يبالي بها)؛ وعبر الاستدلال الاستقرائي، أمكن لنا الحديث عن أنواع من الحجاج اللغوي والدلالي، كالحجاج السببي(اللامبالاة)، وحجاج النتيجة (الغوص في الأعماق بعمق- اكتشاف عوالمه- عناق الأمواج بحب- مواجهة العواصف بحنان). وقد تحولت هذه النتائج عند الشخص اللامبالي إلى حجاج نتيجة (فانفجرت أشلاء).


@ الملفــــوظ المتـــوازي:


ينبني الملفوظ المتوازي على توازن العبارات والمركبات اللسانية واللفظية، في شكل تكرار واتباع وتماثل وتجانس على مستوى البنية والدلالة والوظيفة.كما يبدو ذلك جليا في قصيصة (مستقبل):

بات الشعب مبتسما، لايشكو من منغصات الحياة، ولايغزوه ألم ولادموع؛ فقد اخترعوا مضادات لكل تلك المشاعر الموجعة..

فجأة..اختفت الألوان من حياتهم.. والشعر..

والجمال!!

ابتسموا جميعا.

انتحروا جميعا.[19]“

في آخر القصيصة، يلاحظ ملفوظان متوازيان من حيث البنية والتركيب والتعبير والصياغة: (ابتسموا جميعا-انتحروا جميعا)، وهذا يساهم في إغناء الإيقاع السردي وامتداده المتوازي. وتقوم القصيصة أيضا على صورة النقيضة التي تجمع بين الابتسامة والانتحار، وتأرجح الشعب الصبور بين هاتين الحالتين المضادتين.

@الملفــــوظ الانزياحـــي:

هو ذلك الملفوظ الذي ينتهك القواعد المـألوفة أو قواعد المعيار لوظائف جمالية وفنية وإبداعية، ويكون هذا الانحراف مقصودا ومتعمدا. ومن ثم، يمكن الحديث عن أنواع من الانزياح: الانزياح الصوتي، والانزياح الإيقاعي، والانزياح الصرفي، والانزياح التركيبي، والانزياح الدلالي، والانزياح البلاغي، والانزياح المنطقي، والانزياح التداولي.ومن القصيصات المعبرة عن ذلك (تسلية):

مساء كان حزينا..تراسلا كثيرا..فرح بها..شعرت بقربه..تعلقت به..

صباحا تجاهلها!“[20]

يلاحظ أن ثمة انزياحا تركيبيا للاختصاص (مساء كان حزينا- صباحا تجاهلها)، بتقديم ظرف الزمان أو المفعول فيه على الفعل والمفعول به، أو تقديم الفضلة على العمدة لوظائف فنية وجمالية وإيحائية.

@ ملفــــوظ السخريـــــة:


يقصد بملفوظ السخرية ذلك الملفوظ الذي يتعمد الباروديا والنقيضة والتهجين للسخرية من حدث أو موقف أو شخصية ما، ضمن سياق تهكمي ساخر. كما يبدو ذلك في قصيصة (مرض):

” ظل يتحدث طوال السهرة عن النظرة القاصرة للمرأة، وحقوقها المسلوبة..

(يرن) هاتفه المحمول وعلى الشاشة يتراقص الرقم (والعلة تتصل بك)!“[21]

يشم القارىء من عبارات (المرض- العلة تتصل بك) نوعا من السخرية والمفارقة في كلام الشخصية المرصودة، بهدف تقريعه وعتابه والسخرية من أقواله التي تناقض أفعاله وممارساته السلوكية.

@الملفـــوظ الزمانـــي والملفوظ المكانـــي:


إذا كان الملفوظ اللساني المكاني يدل على المكان، سواء أكان محددا أم مطلقا، فإن الملفوظ الزمني هو الذي يدل على زمان الحدث أو الموقف السردي، كما يظهر ذلك جليا في هذه القصيصة:

” حان موعد اللقاء بينهما..تزينت بشوقها..تعطرت بحبها المركز لملاقاة حبيبها، الذي كان في الوقت ذاته يسن (ساطور) الغدر..[22]“

تستهل الكاتبة نصها القصصي الوجيز باستهلال زمني (حان موعد اللقاء)، ويؤشر هذا الملفوظ على زمنية الفعل الرومانسي الذي يعقبه فعل آخر مضاد، وهو فعل الغدر والمكيدة.

ومن الأمثلة الدالة على الملفوظ المكاني المثال التالي:

” تجاوز السور..ابتعد عنه مسافات طويلة ..تنفس بعمق.. شعر بحريته الغائبة..

نظر إلى الوراء..امتقع لونه..

كانت الأسوار تتقدم نحوه، وتحاصره من شتى الاتجاهات!!![23]“

يتحول الملفوظ المكاني(كانت الأسوار) إلى رمز للتحرر والانعتاق، بعد أن كان رمزا للاختناق والخيبة والاعتقال والظلم.لكن حينما ابتعد الهارب عن السور أحس بأن الأسوار الفضائية والمكانية تحاصره في كل الاتجاهات والمدارات. ومن ثم، يتحول المكان- هنا- إلى بؤرة سردية درامية تتحكم في الحبكة تأزيما وامتدادا وتمطيطا.


@ الملفــــوظ الإيمائـــــي:

يتضمن النص القصصي السردي ملفوظات إيمائية صامتة في شكل حركات أو إشارات أو أنساق بصرية مدركة، إما بطريقة صريحة ، وإما بطريقة ضمنية، وإما بطريقة سيميائية. ومن ثم، لايكتفي النص بماهو لساني تلفظي فحسب، بل يستعين كذلك بخطاب الإيماءة والإشارة والحركة. كما يبدو ذلك بينا في قصيصة (سواد):

تجمعن صدفة..أثرين الجلسة بعطر الثقافة، وهمس الشعر، ونور المعرفة..

أثرن الجدل..أشارت إليهن الأصابع السوداء..

هاجموهن بتهمة متحررات!!!“[24]

هنا، تستعمل الساردة الملفوظ الإيمائي الإشاري (أشارت إليهن الأصابع السوداء) ، دلالة عن التواصل غير اللفظي الحاقد الذي يعتمد على الإيماءات المغرضة الحاقدة التي تنم عن كبح جماح التحرر الثقافي لدى النساء المثقفات الواعيات.

@الملفــــوظ الجســــــدي:

يعبر الملفوظ الجسدي على كل ما يتعلق بالجسد على مستوى التوصيف والإيحاء والإثارة الشبقية والإيروسية. ويظهر ذلك بينا في مجموعة من قصص شيماء الشمري، ولاسيما قصيصة (انتظار):

يتهالك جسدي معلنا نهاية يوم مثخن بالشقاء، أهوي- وعلامات الإعياء والكدر تنهشني- على سرير تاق شوقا إلى الدفء فقد هجرته مليا.أغمض عيني، أسترخي، أحاول النوم لسويعات فأمامي مشوار طويل..أنظر إلى سقف غرفتي..أتأمل زواياها الكئيبة..أتساءل : هل سيأتي من ينتشلني من هذا القبر وهذا البؤس، ليزرعني وردة زاهية في حقل حياته البهيج؟ سأكون عطرا، مطرا، ونهر أمنيات لاينضب..فقط متى يأتي؟

مللت ذلك الوجع الذي يتساقط من محبرة أيامي على أوراق حياتي فيزيدها عتمة ورتابة!

أغفو قليلا..إني أراه..أقترب منه محاولة ملامسة يد الحلم..تعتريني رعشة وانبهار..أهمس:

أخيرا ..أخيرا..

يطوقني بذراعيه فتسري موجة من الدفء في روحي التي غلفها الجليد، نحلق فوق غابات الأسى، نرتفع حيث النور، يتغلغل من وهج النور خيط، ضوء ليغسل ما علق بقلبي من حزن وألم..

فجأة اختفى ذلك النور..

أدركت حينها أن الحلم غادر.”[25]

يتبين لنا ، من خلال هذه القصيصة، وجود عبارات وجمل إسنادية تحيل على الملفوظ الجسدي، في مختلف سياقاته الحسية والعضوية والنفسية والرومانسية والجنسية.

@الملفوظ الصريح والملفوظ الضمني:

يتقابل الملفوظ الصريح مع الملفوظ الضمني أو يتقابل التعيين مع التضمين.بمعنى أن هناك ملفوظات واضحة وصريحة تكشف المعنى المقرر بكل شفافية وجلاء ووضوح. وفي المقابل، ثمة ملفوظات ضمنية موحية غامزة برسائل متوارية وضمنية. كما يبدو ذلك واضحا في قصيصة (ذكريات) على سبيل المثال:

” يحكي لنا العجوز قصصا عن طفولته السعيدة…

عن غرامياته…

عن مشاركته في الجيش وبطولاته…

يظل مبتسما..غير أن ارتعاشات يديه كانت تشير إلى تفاصيل غارقة في الوجع!“[26]

تستعمل هذه القصيصة ملفوظات سردية صريحة وواضحة على مستوى التقرير والتعيين والتصريح.بيد أنها تنتهي بملفوظات تحمل دلالات باطنية خفية ومتوارية، تنم عن الحقيقة الموجعة” غير أن ارتعاشات يديه كانت تشير إلى تفاصيل غارقة في الوجع!”

@الملفوظ الذاتي والملفوظ الموضوعي:

يتميز الملفوظ الذاتي عن الملفوظ الموضوعي بحضور الذات، وتحول النص إلى انفعالات تعبيرية دالة على حضور المتلفظ، إلى جانب إصدار أحكام التقويم الإيجابية أو السلبية. في حين، يتسم الملفوظ الموضوعي بغياب الانفعالات الذاتية، وغياب المتلفظ داخل المتن القصصي. كما هو حال قصيصة (لعب):

نظر إلى الحديقة لونتها ورود زاهية بالحياة..اقترب بشغف..داس البيضاء..

قطف الحمراء..هرس الصفراء..

أخذ نفسا عميقا وهو يقول:ما أجمل رائحة الورد!!“[27]

تبتدىء القصيصة بملفوظات موضوعية يتحكم فيها ضمير الغياب، ثم يعقبها ملفوظ ذاتي انفعالي في شكل جملة تعجب وتأثر وتقويم إيجابي: (ما أجمل رائحة الورد!!).

@ الملفـــوظ الحسي والملفـــوظ المجرد:

تكون الملفوظات السردية حسية أو مجردة حسب السياقات النصية. كما يتبين ذلك واضحا في قصيصة (حرية):

” أحسست بماء ساخن ينسكب في أحشائي..

تخلل كل جزء من جسدي..سرعان ما تحول إلى برودة تقمصتني..

فجأة شعرت بخفة مكنتني من الطيران…

ارتفعت وأنا أحمل شعورا جديدا وغريبا!

كانوا هناك في الأسفل يبكون حريتي…[28]!“

يتضمن هذا النص القصصي الوجيز نوعين من الملفوظات : الملفوظ الحسي (ماء ساخن- أحشائي- جسدي-..)، والملفوظ المجرد ( شعورا جديدا- يبكون حريتي- شعرت بخفة…). ويعني هذا أن القصيصة تتأرجح بين الحسي والمجرد على مستوى العوالم السيميائية الممكنة .

@ملفـــوظ الحالــــة وملفــــوظ الفعــــل:


قبل كل شيء، علينا التمييز في هذا الصدد بين الحالات والتحولات، حيث تتحدد الحالات بوجود فعل الكينونة أو فعل الحالة( كان الكاتب حزينا- لم يكن الكاتب حزينا)، أو بوجود فعل التملك (يمتلك الكاتب سيارة ثمينة- لايملك الكاتب سيارة ثمينة). أما التحولات فتتحقق بوجود فعل” الفعل“(اشترى الرجل أشياء ثمينة).

ومن هنا، يقوم التحليل السردي على التمييز بين ملفوظات الحالة وملفوظات الفعل، بالتوقف عند الكلمات والمفردات والعبارات والجمل في صيغها التعبيرية المختلفة داخل النص أو الخطاب السردي المعطى. ولايتم هذا على مستوى نص التجلي الظاهري(niveau de la manifestation)، بل على المستوى المشيد أو المؤسس بنيويا(niveau construit).

هذا، ويتكون ملفوظ الحالة من الذات (sujet) والموضوع(Objet)، وبينهما علاقة عاملية. ويعني هذا أن الذات ليست شخصية، وليس الشيء شيئا، بل هما أدوار وعوامل أو ما يسمى بالأدوار العاملية(actants ou rôles actantiels).

وقد يكون ملفوظ الحالة متصلا أو منفصلا على النحو التالي:

1- (الذات ٨ الموضوع). ويعني هنا علاقة الاتصال بين الذات والموضوع.

2- (الذات ٧ الموضوع). ويعني هنا علاقة الانفصال بين الذات والموضوع.

ويكون التحول بدوره منفصلا ومتصلا على الشكل التالي:

1- (الذات ٨ الموضوع)← (الذات ٧ الموضوع)؛

2- (الذات٧ الموضوع)← (الذات٨ الموضوع).

يلاحظ في المثال الأول أن هناك تحولا من ملفوظ الحالة المتصل إلى ملفوظ الحالة المنفصل.أما في المثال الثاني، فنجد تحولا من ملفوظ الحالة المنفصل إلى ملفوظ الحالة المتصل. وقد يكون ملفوظ الحالة مركبا، كأن يكون هناك موضوع واحد بالنسبة لفاعلين وعوامل متعددين. ففي قصة (الرجل ذي الدماغ الذهبي) لألفونس دوديه(Alphonse Dudet)[29]، يلاحظ أن هناك مقطعين سرديين: في المقطع السردي الأول، يملك الرجل الذهب. في حين، لايملك الآخرون شيئا. أما في المقطع السردي الثاني، فقد أصبح الرجل الغني فقيرا، حيث خسر كل نقوده؛ لأنه صرفها على والديه، وصديقه، وزوجته. ومن هنا، نرمز للشخص الأول بالفاعل الأول، ونرمز للأشخاص الآخرين بالفاعل الثاني على الشكل التالي:

حالة المقطع الأول:(ذ 1 ٨ مو)

(ذ2 ٧ مو)

أو:( ذ 1 ٨ مو٧ ذ2)

حالة المقطع الثاني: (ذ 1 ٧ مو)

(ذ2 ٨ مو)

أو:( ذ 1 ٧ مو٨ ذ2)

ومن هنا: ف (ذ3)¹ ] ( ذ 1 ٨ مو٧ ذ2)© ( ذ 1 ٧ مو٨ ذ2)]

ويلاحظ أن هناك تنافسا حول الموضوع المرغوب فيه من قبل عاملين: عامل يخسر ذهبه، وعامل يستفيد من ذهب العامل الأول.أي: إن هناك ربحا وخسارة.

وعليه، فمن الأفضل – منهجيا- أن يصنف السيميوطيقي مختلف ملفوظات الفعل، فيرتبها بشكل متسلسل، سواء أكانت متصلة أم منفصلة، فيبين ملفوظات الحالة البسيطة وملفوظات الحالة المركبة[30].

وإذا أخذنا قصيصة (أمنية)- مثلا-:” كان أعمى..عندما قابلها انبثق ضوء منها متغلغلا في عتمة قلبه؛

فأضاءت حياته..لم يعد أعمى..”[31]

فنصادف ملفوظ الحالة ( كان أعمى)، فـ(كان) فعل حالة، والعامل الذات يحيل عليه ضمير الغائب المذكر. ويعني هذا أن الذات قد فقدت موضوعا ثمينا وقيما في حياة الإنسان هو البصر. ومن هنا، تقوم العلاقة التركيبية بين العاملين: الذات والبصر على الانفصال والفقدان والحرمان: (الذات ٧ الموضوع). لكن عندما اتصل العامل بحبيبته ، وأغرم بها هوى ووجدنا، امتلك حبها شعوريا ولاشعوريا وفق المعادلة التالية: (الذات ٨ الموضوع).

علاوة على ذلك، تحقق نوع من التحول الإجرائي على مستوى الحالة ، بعد هذا الحب العارم بين العاملين، فانتقل الفقدان من حالة الانفصال إلى حالة الامتلاك بفعل (أضاءت حياته)، فأصبح بصيرا بفعل ضوء الحب الذي تغلغل في قلب العاشق الولهان:

ف (ج) (الذات٧ الموضوع)← (الذات٨ الموضوع).

يلاحظ أن الفعل الأجرائي الدال على التحول (أضاءت) قد ساهم في نقل حالة الذات من الفقدان والخسران إلى حالة الامتلاك والظفر والانتصار النفسي والوجودي.

ونلاحظ ملفوظ الفعل في قصتها (نقص):

تشعر بملل يجترها…تمسك بقلم الرصاص..تخربش..ترسم وجها جميلا بعين واحدة؛ ومازال الملل..

تترك أوراقها وقلمها…تتمشى قليلا..

تتنفس بعمق قلقها الذي يزداد..

تنظر إلى الأفق…

تطل عليها عين واحدة تبحث عن وجه تسكنه!!“[32]

هنا، تنبني القصيصة على ملفوظ الفعل من جهة، وملفوظ الحالة من جهة أخرى. وما يهمنا هو ملفوظ الفعل الإنجازي، فالعامل يلتصق بالقلم لتدوين خربشاته التي تعبر عن ضجره وقلقه وملله وسأمه ووحدته وغربته الذاتية والمكانية. ومن ثم، تدل عبارة ( تمسك بقلم الرصاص) على الملفوظ الفعلي على النحو التالي: (الذات ٨ الموضوع). ويعني هذا علاقة الاتصال بين الذات والموضوع أو علاقة التملك والظفر.في حين، تؤشر العبارة التالية: ” تترك أوراقها وقلمها…تتمشى قليلا”،عن حالة الانفصال الفعلي، ونترجم تلك العلاقة بالصيغة الرمزية التالية: (الذات٧ الموضوع).

ويعني هذا أن هناك انتقالا وتحولا من حالة الاتصال، على مستوى الملفوظ الفعلي، إلى حالة انفصال ناتجة عن الحالة النفسية التعيسة للعامل.

ويعبر هذا الملفوظ الفعلي، عبر سياقه النصي، على ثنائية الحزن والفرح التي نشخصها في المربع السيميائي التالي:

الفرح الحزن

اللاحزناللافرح

إذاً، يتمثل المولد الدلالي العميق في ثنائية الحزن والفرح، مع التأرجح بين ملفوظات الفعل (الربح والخسران) وملفوظات الحالة ( الحزن والفرح).

@الملفـــوظ المضمــــن :

يقصد بالملفوظ المضمن اقتباس قولة ما أو عبارة ، ويتم وضعها بين قوسين أو علامات التنصيص، ضمن خاصية التضمين والاقتباس أو الاستشهاد أو الإحالة أو الخلفية المعرفية.كما يبدو ذلك جليا في هذه القصيصة:

” شعرت به بركانا ثائرا…حاولت الهروب منه، ابتعدت، وابتعدت أكثر..

جذبها حنين وشوق..

عادت لتجده يغني بحرقة وألم (لسى فاكر!!)”[33]

استخدمت الكاتبة الملفوظ المضمن القائم على استثمار أغنية عبد الحليم حافظ ، ويدخل هذا التضمين ضمن النسق المهجن الذي يعبر عن بوليفونية النص السردي وحواريته مع الأجناس الأدبية والفنية الأخرى.

@الملفــــوظ الشاعــــري:

يستند الملفوظ الشاعري إلى عبارات إبداعية حبلى بالشاعرية والمتخيل والاستلزام الإنشائي والذاتي والوجداني. ويعني هذا أن القصيصة تتحول إلى شذرة شعرية مفعمة بالانزياح ، تغلب عليها الوظيفة الجمالية أو الشعرية. كما يبدو ذلك جليا في قصيصة (وتظل):

على قارعة الذكريات أتأمل لحظاتي المشبعة بك…

أغفو؛ فتطفو كأحلامي…

أستيقظ لأجدك تتأمل ملامحي الهادئة..

أفتح كتابي رغبة في نسيان الماضي، وأنت..

أراك في كل الصفحات!

تارة تبتسم..وتارة تمد لي ” لسان السخرية”!

أغضب..أبادلك ذات الحركة الطفولية..

أحمر خجلا؛ فهناك عيون صغيرة ترقبني باستغراب! !“[34]

وهكذا، يبدو لنا أن هذا النص القصير جدا عبارة عن لحظات من الخواطر التأملية التي تستسلم فيها الذات لذكرياتها وأحلامها وأوهامها وهذيانها الانسيابي، وفي صراع رومانسي بارد مع الآخر المستحضر على مستوى الكتابة والمتخيل المتغيب.

@ ملفـــــوظ التضــــام:


يعني التضام ترابط المكونات النحوية استلزاما وتنافيا، ذكرا وحذفا. وهكذا، يتضام الفعل مع الفاعل، والمبتدأ مع الخبر، والجار مع المجرور، والنعت مع المنعوت، والمعطوف مع المعطوف عليه، وهكذا دواليك…ويعرفه تمام حسان في كتابه ( اللغة العربية معناها ومبناها) بقوله:” المقصود بالتضام أن يستلزم أحد العنصرين التحليليين النحويين عنصرا آخر ، فيسمى التضام هنا” التلازم” أو يتنافى معه فلا يلتقي به، ويسمى هذا ” التنافي”. وعندما يستلزم أحد العنصرين الآخر، فإن هذا قد يدل عليه بمبنى وجودي على سبيل الذكر أو يدل عليه بمبنى عدمي على سبيل التقدير بسبب الاستتار أو الحذف.[35]“

وإذا أخذنا هذه القصيصة على سبيل المثال:








































































































































































































































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow