البحر السوري: القبر والرؤيا !! / كريم عبد
خاص ألف
2014-12-10
رأيتُ سوريينَ يتصارخونَ
يتدافعونَ حولَ قبرٍ
وأمامَهم تابوتٌ مفتوح،
التابوتُ على حافة القبرِ
وهم يتدافعونَ موشكينَ على السقوط في القبر ..
كان ليلاً لكنَّهم كانوا يضيئون ..
دماءٌ على الأعشاب تضيئ
التابوت يضيئ
والرجلُ المقتولُ يضيئُ
مبتسماً بمرارة
يريدُ أن يتكلمَ ولا يستطيع،
يريدُ نفضَ الدمِ المتيبسِ على جروحِهِ فيصرخ من الوجع
يسقطُ ميتاً فتسّاقطُ عليه نجومٌ وأقمار
تطوفُ حولَهُ وجوهُ ملائكةٍ وحفيفُ ملائكه
يحملونَهُ متدافعينَ حولَ القبرِ
وحولَ التابوتِ الذي امتلأ نجوماً واقماراً ..
يتفرقون وسرعان ما يتجمعون ..
يتدافعون لا يعرفون ماذا يفعلون،
يُقبّلونَ الرجلَ المقتولَ،
يصيحونَ به: انهض ..
لكنَّ أصواتَهم تُوجعُهم
يقبّلونَ الرجلَ المقتولَ فيبتسم
كأنّهُ يُدركُ ما يفعلون
كانوا يُقبّلونَهُ ويكلّمونَهُ وكأنّهم لا يَقوونَ على دفنهِ
فيصيح أحدُهم: متى ندفنُهُ ؟!
فيرد الصدى: أتريدون دفنه حقاً ؟!
أتتركونَهُ وحيداً في عتمة القبر للرطوبة والحشرات ؟!
*****
يتفرقونَ وسرعان ما يتجمعون
يُبعدونَ التابوتَ قليلاً عن القبر
يوشكونَ على السقوط في هاويةٍ فيصرخون فَزعين
يريدون أن يقتلوا أنفسهم
أن يتساقطوا إلى القبرِ الواحدَ تلو الآخر
تاركينَ الغبارَ يتصاعدُ إلى عنان السماء
علَّ طيراً يراهمُ فيُخبرُ عنهم ملوكَ الأرض
أو حراسَ الحدودِ
أو قواتَ الأممِ المتحدة !!
******
كانوا يتدافعونَ حولَ التابوتِ
والتابوتُ يهتزُّ، تتخلّعُ أركانُهُ
وتُعيدُ تشكيلَ نفسِها
أصبحَ التابوتُ قارباً يهتزُّ بهم
وموجُ البحرِ يتصايحُ من حولِهم
الرجلُ المقتولُ يتطلعُ إليهم
يريدُ رفعَ يدِهِ كي يودّعَهم فتوجعُهُ الجروح
يصرخُ السوريونَ لكنّهم لا يسمعونَ أصواتَهم
يريدون من الرجل المقتول أن يتأكّدَ
من شدّةِ حبِّهمُ له
يريدون أن يصرخوا أكثر
أن يقولوا أشياءَ أخرى
لكنهم لا يقوون على ذلك،
لا خوفاً من القتلة،
بل خوفٌ على الرجل من أن يَعرفَ الحقيقةَ،
أن يعرفَ أنّهُ مقتولٌ
وإنهم يريدونَ دفنَهُ
وتركَهُ تحتَ التراب
للنمل المجنون ونواميس الظلام!
تتخلّعُ قلوبُهمُ وجعاً
كأنَّهم يقولون له:
لماذا لا تتحرك؟
انهض وغادر التابوت
لماذا قتلوكَ قبلَنا؟
أحقاً يريدونَ قتلَنا جميعاً ؟!
لكنهم لا يَقوونَ على الكلام
يُهمهمونَ ويبكونَ ثم يصرخون
وإذا بالتراب ينهارُ ويسقطُ التابوت
فيتساقطونَ الواحدَ تلو الآخرِ في أعماق القبر
فأسقطُ معهم صارخاً بأعلى صوتي:
ولكن لمن نتركُ دمشقَ واللاذقيةَ ووجوهَ الغرقى
ورسائلَ الحبِّ وأوجاعَ الأشجار؟!
لمن نتركُ صورَ الشهداءِ ورائحةَ البحرِ وزهرَ التفاح ؟
أصرخُ فيتصاعدُ غبارُ القبرِ إلى عنان السماء
فنخرجُ راكضينَ مغمورينَ بالأمطار والبروق
برائحة الموت وأشجار الموت
نركضُ ونركضُ ولا نصل
نركضُ ودمشقُ تَلوحُ لنا من بعيد
تَلوحُ وتَبتعدُ !!
*****
مطرٌ سوريٌّ يهطلُ ولا يصل
يهطلُ مندفعاً في الريحِ
مُندهشاً من هبوبِ العواصفِ
يَرشقُنا ونحنُ نتساقطُ قتلى في التظاهرات
مطرٌ في الريحِ
يرشقُ أوراقَ التاريخِ المتطايرةِ حولَ قبورِنا
مطرٌ يهطلُ ولا يصل
يهطلُ ولا يوصلنا
مطرٌ هائمٌ
مطرٌ طائرٌ مع الطيور
...............
...............
بحرٌ سوريٌّ يَشهقُ مطعوناً
فينسحبُ إلى الأعماقِ
تاركاً أقمارَ الليلِ وبقايا أشجارٍ
على سواحلهِ المهجورة ..
وجوهُ الغرقى تسألُنا في الليل
عن أشواكٍ وجروح
عن حفيفِ ثيابٍ وقُبلٍ ملهوفةٍ
بدّدتها أمواجُ البحرِ المتلاطمة في الريح
.................
.................
البحرُ السوريُّ يَشهقُ مُنسحباً مطعوناً
ثم يهبُّ كشعبٍ مجنونٍ متدفقاً على مدنٍ
تتدفقُ على مدنٍ أخرى
شعبٌ يتدفقُ بالبهجة والأمطار
نرقصُ في ساحاتِ الفجرِ وغاباتِ الفجر
نرقصُ ترقصُ معنا الأشجار
نرقصُ نتصايحُ نتطاير
نطير مع الطيور
.............
.............
ثم يهدأُ كلُّ شيءٍ على وقع خطى الديكتاتور
تهدأ الريحُ
يهدأُ البحرُ ويخفُّ المطر
تهدأُ الحشراتُ في أدمغة الجلادين
يهدأُ المخبرونَ والوزراءُ التعساءُ
تهدأ القرود والأشباح والكوابيس في خيال الموتى وذكرياتهم
يهدأ الجرحى في المستشفيات وساحات القتال
يهدأ كلُّ شيءٍ على وقع خطى حافظ الأسد
وهو يُحملقُ بأولادِهِ قلقاً على مصيرِهم
لكنَّهُ لا يجهشُ بالبكاءِ ولا يتكلم
فقد تعلمَ القسوةَ والرصانةَ الرخيصةَ
كديكتاتورٍ فضٍّ
سجنَ بلاداً واسعةً أربعينَ سنةً متواصلةً
ثم وضعَ مفاتيحَ السجنِ في جيوبِ أولادِهِ
وضعَ لهم على الطاولةِ حلوىً وزهوراً ورائحةَ قبور
حلوىً وزهوراً وخناجرَ ينظفون بها أسنانَهم
*******
رائحةُ دماءٍ تَعِمُّ البلاد
رائحةُ دماءِ قتيلٍ ما زال يرفسُ وسطَ الشارع
*******
لقد تركَ الديكتاتورُ في عيونِ أولادهِ،
المفتوحةِ ككهوفٍ موحشةٍ،
أشلاءَ سوريا وهي تصرخ مطعونةَ القلب،
تركضُ خائفةً من أن يسحبَها البحرُ
حين يشهقُ مطعوناً منسحباً إلى الأعماق ..
لكنَّ البحرَ يتدفقُ متصاعداً
نتدفقُ معَهُ
نحنُ السوريينَ المتراكضينَ إلى ساحاتِ الفجرِ الراقص،
نرقصُ في ساحاتِ المدنِ المفتونةِ بالنور،ِ
بالتينِ والجروحِ والياسمينِ ورائحةِ الزيتون،
نرقصُ ونحنُ نرى الديكتاتورَ يركضُ هارباً
تاركاً أولادَهُ أمامَ قطارٍ مجنون،
قطارِ القتلِ والسفالةِ وأكلِ لحومِ البشرِ والزقومِ ..
يركض هارباً يحاول أن يطيرَ
فيتطايرُ حوله الجرادُ
والجلادونَ والحشراتُ التي في أدمغةِ الجلادين.
...............
...............
لماذا تتراكضونَ مذعورينَ يا أولاد الكلب ؟!
إلى أين تهربونَ يا ضباط المخابرات ؟!
لمن تركتم الفيلاتَ والشققَ العاليةَ والسياراتَ الفارهة ؟!
لمن تركتم أسهمَكم تتصاعدُ على شاشاتِ البورصةِ العالمية ؟!
من سيرثها ؟!
ومن سيرثُ جثثَ القتلى وذكرياتَهم وبقايا النقود في جيوبهم ؟!
إلا تحنُّ قلوبُكم إلى سرقةِ محابسِهم
وأقراطِ زوجاتِهم
بعد أن سرقتم جوازاتَ سفرِهم
وأسماءَهم وأصواتَ أمهاتِهم وأجراسَ طفولتهم؟
كيف تتركونَ جثثَ القتلى بين الأنقاض
وتهربون يا أولاد الكلب ؟!
لماذا قتلتموهم إذن ؟!
لماذا تركتم بلاداً محطمةً تركضُ وتسقطُ ..
تَنهضُ وتركضُ وتتعثرُ ..
تتلفّتُ بحثاً عن نفسِها فلا تجدُ غيرَ صراخٍ ووحشةٍ
في سماوات تهتزُّ وغيومٍ تتحركُ
وسفنٍ يرتجُّ بها البحرُ وترتجُّ به ..
شعبٌ يسبحُ وسطَ ملايينِ النجومِ الغارقةِ في هذا البحرِ المرتجِّ حيثُ القتلى وثيابُ القتلى وذكرياتُهم وساعاتُهم اليدويةُ ووجوهُ أمهاتِهم وهوياتُهم الممحوّةُ ..
ملايينُ السباحينَ وسطَ ملايينِ الأقمارِ المتلاطمةِ بحثاً عن أبوابِ دمشقَ حيثُ أمواجٌ من البنادقِ تَطلقُ رصاصاً متدفقاً على الدكتاتور ..
رصاصاً متدفقاً
لا ليقتلوهُ
بل ليجعلُوهُ يركض
ويركض
خائفاً مذعوراً
متعثراً متلفتاً إلى الأبد ...
لندن 2012
[email protected]
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |