الحقيقة الغائبة لفرج فودة
2014-12-11
هذا حديث سوف ينكره الكثيرون، لأنهم يودون أن يسمعوا ما يحبون، فالنفس تأنس لما تهواه، وتتعشق ما استقرت عليه، ويصعب عليها أن تستوعب غيره، حتى لو تبينت أنه الحق، أو توسمت أنه الحقيقة، وأسوأ ما يحدث لقارئ هذا الحديث، أن يبدأه ونفسه مسبقة بالعداء، أو متوقعة للتجني، وأسوأ منه موقف الرفض مع سبق الإصرار للتفكير واستعمال العقل.
هذا حديث تاريخ لا يزعم صاحبه أنه متخصص فيه، أو فارس في ميدانه، لكنه يزعم أنه قارئ له في أناة، محلل له في صبر موثق له في دقة، ناقد له في منطق، يهوى أنه يقلبه ذات اليمين وذات الشمال، لا يستطيع أن يمد خياله متجاوزاً الحقيقة بالإضافة أو منتقصاً منها بالإهمال، وما أكثر ما فعل ذلك من لهم تاريخ واسم، وقلم وفكر، ومنهج وبحث، لا يجدون راحتهم إلا حيث يستريح القارئ، ولا يراعون وهم يفعلون ذلك حرمة لتاريخ أو لعقل أو حتى لنقل.
هذا حديث ما كان أغناني عنه، لولا أنهم يتنادون بالخلافة، ليس من منطلق الدعابة أو المهاترة أو الهزل، بل من منطلق الجد والجدية والاعتقاد، فسيتدرجون مثلى إلى الخوض فيما يعرف ويعرفون، ويعلم وينكرون، وينكر ويقبلون، ليس من أجلهم، ولا حتى من أجل أجيال الحاضر التي من واجبها أن تعرف وتتعرف، وتعلم وتتعلم، وتفكر وتتكلم، بل قبل ذلك كله من أجل أجيال سوف تأتي في الغد، وسوف تعرف لنا قدرنا وإن أنكرنا المنكرون وسوف تنصفنا وإن أداننا المدينون، وسوف تذكر لنا أننا لم نجبن ولم نقصر، وأننا بقدر ما أفزعنا بقدر ما دفعنا المجتمع للأمام، وبقدر ما أقلقنا بقدر ما أستقر المجتمع في أيامهم، وبقدر ما واجهنا بقدر ما توجهوا هم إلى المستقبل. هذا حديث تاريخ وسياسة وفكر وليس حديث دين وإيمان وعقيدة، وحديث مسلمين لا حديث إسلام، وهو قبل ذلك حديث قارئ يعيش القرن العشرين وينتمي إليه عن أحداث بعضها يعود إلى الوراء ثلاثة عشر قرناً أو يزيد، ومن هنا يبدو الحديث صعباً على من يعيشون وينتمون لواقع ما قبل ثلاثة عشر قرناً، ويقيمون من خلال معايشتهم وتبنيهم لذلك الواقع أحداث حاضر القرن العشرين، وهو في النهاية حديث قد يخطئ عن غير قصد، وقد يصيب عن عمد، و قد يؤرق عن تعمد، وقد يفتح باباً أغلقناه كثيراً وهو حقائق التاريخ، وقد يحيى عضواً أهملناه كثيراً وهو العقل، وقد يستعمل أداة تجاهلناها كثيراً وهي المنطق، وهو حديث في النهاية موجز أشد ما يكون الإيجاز، لا يهتم بالحدث. في ذاته بقدر ما يعتني بدلالاته ويرى أنه بوفاة الرسول استكمل عهد الإسلام وبدأ عهد المسلمين، وهو عهد قد يقترب من الإسلام كثيراً وقد يلتصق به، وقد يبتعد عنه كثيراً وقد ينفر منه، وهو في كل الأحوال والعهود ليس له من القداسة ما يمنع مفكراً من الاقتراب منه، أو محللاً من تناول وقائعه، وهو أيضاً وبالتأكيد ليس حجة على الإسلام، وإنما حجة للمطالبين بالحكم بالإسلام أو حجة عليهم، وسلاح في أيديهم أو في مواجهتهم، وليس أبلغ من التاريخ حجة، ومن الوقائع سنداً، ومن الأحداث دليلاً، وليس لهم من البداية أن ينكروا علينا ما رجعنا إليه من مصادر وما استندنا إليه من مراجع، فهي ذات المراجع التي يحتجون بها على ما يرون أنه في صالحهم، ومع دعواهم، ولو أهملنا معاً هذه المراجع، لما بقي من تاريخ الإسلام شئ، ولما بقيت في أيديهم حجة، ولما استقر في كتاباتهم دليل، ولما وجدوا لمنطقهم سنداً أو أصلاً أو توثيقاً.
هذا حديث قصدت فيه أن أكون واضحاً كل الوضوح، صريحاً كل الصراحة، زاعماً أن الوضوح والصراحة في الموضوع الذي أناقشه استثناء، فقد صبت في المجرى روافد كثيرة، منها رافد الخوف، ومنها رافد المزايدة، ومنها رافد التحسب لكل احتمال، وخلف ذلك كله يلوح سد كبير، يتمثل في الحكمة التي يطلقها المصريون، والتي تدعو إلى (سد) كل باب يأتيك منه الريح، فما بالك إذا أتاك إعصار التكفير، وارتطمت بأذنك اتهامات، أهونها أنك مشكك، وأسئلة أيسرها – هل يصدر هذا من مسلم؟ - وواجهتك قلوب عليها أقفالها، وعقول استراحت لاجتهاد السلف، ووجدت أن الرمي بالحجارة أهون من إعمال العقل بالبحث، وأن القذف بالاتهام أيسر من إجهاد الذهن بالاجتهاد..
هذا حديث دنيا وإن بدا لك في ظاهرة حديث دين، وأمر سياسة وحكم و إن صوروه لك على أنه أمر عقيدة وإيمان، وحديث شعارات تنطلي على البسطاء، ويصدقها الأنقياء، ويعتنقها الأتقياء، ويتبعون في سبيلها من يدعون الورع (وهم الأذكياء)، ومن يعلنون بلا مواربة أنهم أمراء، ويستهدفون الحكم لا الآخرة، والسلطة لا الجنة، والدنيا لا الدين، ويتعسفون في تفسير كلام الله عن غرض في النفوس ويتأولون الأحاديث على هواهم لمرض في القلوب، ويهيمون في كل واد، إن كان تكفيراً فأهلاً، وإن كان تدميراً فسهلا، ولا يثنيهم عن سعيهم لمناصب السلطة ومقعد السلطان، أن يخوضوا في دماء إخوانهم في الدين، أو أن يكون معبرهم فوق أشلاء صادقي الإيمان.
لعلك أدركت أيها القارئ أنني أخوض معك في موضوع قريب إلى ذهنك بقدر ما ألح عليه، وما أكثر ما ألح، بل ما أصرح ما ألح، حين ارتفعت ولا تزال ترتفع، في الانتخابات السياسية والنقابية في مصر رايات مضمونها (يا دولة الإسلام عودي، الإسلام هو الحل، إسلامية إسلامية).
وهي رايات لا تدري أهي دين أم سياسة، لكنك تجد مخرجاً في تصور مصدريها أن الدين والسياسة وجهان لعملة واحدة، وأن تلك الأقوال تعبير عاطفي عن شعارات الإخوان المسلمين القديمة، بأن الإسلام دين ودولة، مصحف وسيف... الخ.
وقبل أن تسألني (وهل تنكر ذلك) يجدر بي أن أضعك أمام وجهتي نظر، كل منهما تقبل الاجتهاد، بل وقبل ذلك كله، تقتضي الإجهاد، وأقصد بذلك إجهاد الفكر بحثاً عن حقيقة غائبة.
أما وجهة النظر الأولى، ولا أشك أنها وراء ما ذكرت من دعاوى، فأنها تتمثل في إن المجتمع المصري مجتمع جاهلي أو بعيد عن صحيح الدين.
وبين مقولة تجهيل المجتمع، ومقولة الابتعاد عن صحيح الدين، تتدرج مواقف القائلين بين التطرف لأصحاب المقولة الأولى، والاعتدال للقائلين بالثانية، لكنهم جميعا متفقون على أن نقطة البدء بالحل تكمن في التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية، وأصحاب وجهة النظر هذه يطرحون خلف ظهورهم خلافهم حول رأيهم في المجتمع الحالي، ويستقرون بدعوة تطبيق الشريعة، مؤكدين أن هذا التطبيق (الفوري) سوف يتبعه صلاح (فوري) للمجتمع، وحل (فوري) لمشاكله.
هذا عن وجهة النظر الأولى، أما وجهة النظر الثانية، فلعلي ألمح على وجهك قبل أن أعرضها تساؤلاً مضمونه (وهل هناك وجهة نظر ثانية)، ولعلي أتلمس خلف هذا التساؤل تصوراً بأن وجهة النظر الثانية لابد وأن تتناقض مع ما توصلت إليه وجهة النظر الأولى، وأنها تصبح والأمر كذلك مصطدمة أو متصادمة مع دعوة لتطبيق أصل من أصول العقيدة.
لكني أبادر فأطمئنك بأن وجهة النظر الثانية، لا تناقض الإسلام بل تتصالح معه، ولا تأتي من خارجه بل تخرج من عباءته، ولا تصدر عن مارق بل تصدر عن عاشق لكل قيم الإسلام النبيلة والعظيمة..
إن وجهة النظر الثانية تستند إلى مجموعة من الفروض يمكن عرضها فيما يلي:
أولا: إن المجتمع المصري ليس مجتمعاً جاهلياً، بل هو أحد أقرب المجتمعات إلى صحيح الإسلام إن لم يكن أقربها، حقيقة لا مظهراً، وعقيدة لا تمسكاً بالشكليات، بل أن التمسك الأصيل والشديد بالقيم الدينية يمكن أن يمثل ملمحاً مصرياً.
يصدق هذا على موقف المصريين من العقائد الدينية الفرعونية قبل ظهور الأديان السماوية، بقدر ما يصدق على موقف المصريين من الدين المسيحي قبل دخول الإسلام مصر، بقدر ما يصدق أيضاً بدرجة أوضح من كل ما سبق على موقف المصريين من الإسلام، والشواهد على ذلك كثيرة، بدءاً من تردد المصريين على المساجد وحماسهم، وتنافسهم على مركز الصدارة في عدد الحجاج من بلاد العالم الإسلامي كله، واحتفائهم بالأعياد الدينية، بل وتحول شهر رمضان إلى عيد ديني قومي لا يمكن تبرير الشغف به، والاحتفاء بحلوله، والحسرة على انتهائه إلا بأصالة وعمق الشعور الديني، وانتهاء بما ساهمت مصر في مجال العقيدة والاجتهاد، بدءاً بالليث بن سعد، وفقه الشافعي في مصر، وانتهاء بالأزهر الشريف ودوره كمنارة للفكر الإسلامي.
ثانياً: إن تطبيق الشريعة الإسلامية ليس هدفاً في حد ذاته، بل إنه وسيلة لغاية لا ينكرها أحد من دعاة التطبيق وأقصد بها إقامة الدولة الإسلامية، وهنا مربط الفرس ومحور النقاش، ودعاة تطبيق الشريعة الإسلامية كما سبق وذكرنا يرفعون شعار أن الإسلام دين ودولة، والشريعة الإسلامية في مفهومهم تمثل حلقة الربط بين مفهوم الإسلام الدين ومفهوم الإسلام الدولة، ليس ربطاً بين مفهومين مختلفين، بل تأكيداً على أنهما وجهان لعملة واحدة – في رأيهم – وهي صحيح الإسلام.
هنا ينتقل النقاش إلى ساحة جديدة، هي ساحته الحقيقة، وهي ساحة السياسة، وهنا يطفو على سطح النقاش سؤال بسيط وبديهي، ومضمونه أنهم ما داموا قد رفعوا شعار الدولة الإسلامية وانتشر أنصارهم بين الأحزاب السياسية يدعون لدولة دينية يحكمها الإسلام، فلماذا لا يقدمون إلينا – نحن الرعية – برنامجاً سياسياً للحكم، يتعرضون فيه لقضايا نظام الحكم وأسلوبه، سياسته واقتصاده، مشاكله بدءاً من التعليم وانتهاء بالإسكان، وحلول هذه المشاكل من منظور إسلامي.
أليست هذه نقطة ضعف جوهرية يواجههم بها من يختلفون معهم سواء بحسن نية، وهو ما نظن، أو بسوء نية، وهو ما يعتقدون وما يتعين عليهم سد ذرائعه حتى لا يتركوا لأحد مجالاً لنقد أو رفض.
هنا يبدو الأمر منطقياً لا تناقض فيه، وهنا يصبح رفعهم شعار الدين والدولة معاً أمراً مقبولاً، وهنا يصبح رفضهم لفصل الدين عن السياسة وأمور الحكم رفضاً له من الوجاهة حظ كبير، وله من المنطق سند قوي، بل وأكثر من ذلك تصبح قضية تطبيق الشريعة الإسلامية جزءاً من كل، وهي جزء لا يتناقض مع الكل بحال بل يتناسق معه، ففي مجتمع الكفاية والعدل، حيث يجد الخائف مأمناً، والجائع طعاماً، والمشرد سكناً، والإنسان كرامة، والمفكر حرية، والذمي حقاً كاملاً للمواطنة، يصعب الاعتراض على تطبيق الحدود بحجة القسوة، أو المطالبة بتأجيل تطبيقها بحجة المواءمة، أو عن قبول بارتكاب المعصية اتقاء لفتنة، أو تشبها بعمر في تعطيله لحد السرقة في عام المجاعة، أو لجوءاً للتعزير في مجتمع يعز فيه الشهود العدول.
لعلك متفق معي – أيها القارئ – فيما توصلت إليه من أن مسألة كهذه، يحب ألا تفوت على المشتغلين بالعمل السياسي الديني، بل لعلك تتجاوز التعجب إلى الاعتقاد بأن هذا أمر يسير وأنه إلى تدارك، بل ربما اعتقدت عن تفاؤل بأنه أمر سهو، وأن السهو إلى زوال، لكني لا أشاركك تفاؤلك، لسبب يعلمه دعاة تطبيق الشريعة ويعانون منه، وأقصد به عقم الاجتهاد، بل إن شئت الدقة اجتهاد العقم، وخوف الاختلاف، بل إن شئت الدقة خلف الخوف، وطمع الاستسهال، بل إن شئت الدقة استسهال الطمع، وعجز القدرة، بل إن شئت الدقة قدرة العجز.
ليس فيما أقوله بلاغة باللفظ، بل هي حقيقة تستطيع أن تلمس عشرات الأمثلة على صدقها، ودونك أيها القارئ العزيز ما حدث في قوانين الأحوال الشخصية، والتي شهدنا ثلاثة منها في عشر سنوات، أثار الأول منها ثائرة المدافعين عن حقوق المرأة فكان القانون الثاني الذي أثار حفيظة المدافعين عن حقوق الرجل، فكان الثالث الذي هدأت به ثائرة الثائرين إلى حين، على الرغم من أن قانون الأحوال الشخصية جانب هين من جوانب أي برنامج سياسي، بل أنه أسهل جوانب تطبيق الشريعة الإسلامية، لأنه لا خلاف عليها أو حولها في كونها المصدر الوحيد للتشريع في هذا المجال، وهي في النهاية قضية يبدو وجهها الديني أكثر وضوحاً من أي وجه آخر.
لكن المشكلة أتت من مواجهة العلماء لعالم جديد، ترتبت فيه للمرأة حقوق لم تترتب في عصر سابق، وأصبح عمل المرأة على سبيل المثال واقعاً لا منـّة أو منحة، وحقاً مكتسباً لا سبيل إلى مناقشته، وطرحت المتغيرات الجديدة في المجتمع من الظروف ما لا سابقة له في عهد مالك أو أبي حنيفة أو الشافعي أو ابن حنبل، فأزمة الإسكان قائمة، بل إن هناك ما لم يعرفه الفقهاء الأربعة حين ناقشوا هذه القضية، من حكم الشقة المستأجرة أو (التمليك)، وهي كلها أمور أوقعت العلماء في حيص (و هو الاختلاف بينهم)، وفي بيص (وهو الخلاف بينهم من ناحية وبين قطاعات كبيرة في المجتمع من ناحية أخرى).
وفي كل حال من الأحوال الثلاث – أقصد القوانين الثلاثة – وجد العلماء ضالتهم في الانتقال من مالك إلى أبي حنيفة، فإن لم يجدوا انتقلوا إلى فتاوى فقهاء أقل حظاً من الشهرة من أمثال سهل بن معاوية، وهم في كل الأحوال لم يتجاوزا القرن الثاني الهجري قيد أنملة، أو إن شئنا الدقة قيد عام.
ماذا سيكون الحال إذا تطرق الأمر إلى مجال الاقتصاد، وشغل دعاة الدولة الإسلامية أنفسهم بقضية زيادة الإنتاج في المجتمع، وفوجئوا بحجم استثمارات القطاع العام التي تتراوح بين ثلاثين إلى خمسين مليار جنية، يعتمد تمويلها على مدخرات المصريين في بنوك القطاع العام. والمدخرات في صورة ودائع، والودائع تستحق فوائد، وآخر اجتهادات القرن الثاني الهجري، والتي لم تعاصر قطاعاً عاماً أو بنوكاً أدخلت العائد الثابت للمدخرات في دائرة الربا، وآخر ما و صل إليه الداعون للدولة الإسلامية هو الركون إلى اجتهادات هؤلاء الفقهاء، وكأنها تنزيل من التنزيل، ماذا سيكون الحال؟..
مأزق إن تجمدوا، وبرنامج سياسي إذا اجتهدوا، ولعل أول الحالين أقرب لتصوير الواقع، فالتصوير أهون من التطوير، والحكم بخروج المجتمع كله من دائرة الإيمان أسهل، والحكم بعدم مشروعية الفوائد أيسر، وتجهيل المجتمع ومؤسساته أضمن، والنحو باللائمة على الزمان أسهل السبل، والترحم على الشاعر العربي وارد حين قال (نعيب زماننا والعيب فينا)، هذا عن هين الأمور، وأقصد به التفصيلات، أما أصعبها وأقصد به الأمور العامة، والمنظمة لأسلوب اختيار الحاكم أو أسلوب الحكم أو العلاقة بين السلطات فإن تناول أي منها هو المحك الحقيقي لدعوة (الدولة الدينية) بعيداً عن سجع الألفاظ وشقشقات البلاغة.
وأنت في طرحك للأسئلة وبحثك عن الإجابات تكتشف أنك في سباق للموانع، ومباراة لاستعراض حجم ضخم من الخلافات التي لم تحسم، ولم يمنع عدم حسمها، نتيجة غياب الاجتهاد المستنير، أن يدعوك البعض إلى خوض التجربة، وأن يتحاشى الجميع الخوض فيها إيثاراً لراحة البال (بالهم هم)، وتجنباً للخلاف (خلافهم هم)، وهم في كل الأحوال في مأمن، إن أعجزتهم الإجابة أفتوا بأنك لا تملك أدوات البحث في القضايا الدينية، وإن أفحمهم المنطق تنادوا بأنك عميل للإمبريالية، أو متأثر بالشيوعية، أو ناطق بلسانهما معاً.
وحتى لا تتحول القضية إلى تراشق فإنني سأحاول معك أن أستعرض بعضاً من تلك الموانع التي أشرت إليها، ولنبدأ بالحاكم، وبديهي أن أول ما سيتبادر إلى ذهنك هو الشروط التي يجب أن تتوافر فيه، وقد تتصور أن الشروط سهلة، وأنها يمكن أن تتمثل في كونه مسلماً عاقلاً رشيداً إلى آخر هذه الأوصاف العامة، لكنك تصطدم بشرط غريب، تذكره كثير من كتب الفقه، وهو أن يكون (قرشياً)، وقد تتعجب من أن ينادي البعض بهذا الشرط باسم الإسلام، الذي يتساوى الناس أمامه (كأسنان المشط)، والذي لا يعطي فضلاً لعربي على عجمي إلا بالتقوى.
وقد يتبادر إلى ذهنك خاطر غريب، وإن كان صحيحاً، يتمثل في أن هذا الشرط قد وضع لكي يبرر حكم الخلفاء الأمويين أو العباسيين، وكلهم قرشي، بل قد يتداعى إلى ذهنك ما قرأته في كتب التاريخ القريب عن الملك فاروق في أول عهده، حين قدمه محترفو السياسة إلى المصريين في صورة الملك الصالح، وظهر في الصور بلحيته ومسبحته ونصف إغفاءة من عينيه، وتسارع بعض رجال الدين (الطموحين) إلى المناداة به ملكاً (وإماماً) للمسلمين، واجتهد الأذكياء منهم في إثبات نسبه للرسول، وتبارى الإعلام في الإعلان عن هذا النسب وتأكيده، تحقيقاً لشرط من شروط الإمامة، وسداً للذرائع على المعترضين.
ولعلك مثلي تماماً لا تستريح لهذا الشرط، الذي يصنف المسلمين إلى أصحاب دم أزرق وهم القرشيون الحكام، وأصحاب دم أحمر ينتظم الأغلبية، لكنهم يواجهونك بحديث نبوي مضمونه أن الإمامة من قريش، وتتبادر إلى ذهنك في الحال عشرات الأحاديث التي وضعها الوضاعون، والتي و صلوا فيها إلى تسمية الخلفاء العباسيين وتحديد موعد خلافتهم بالسنة واليوم، وهي كلها أحاديث وضعها من لا دين لهم هوى الحكام، ولا ضمير لهم ولا عقيدة، لكنك في نفس الوقت تخشى من اتهامك بالعداء للسنة، خاصة من الذين قصروا دراستهم للأحاديث النبوية على أساس السند وليس على أساس المتن (أي المعنى والمضمون ومدى توافقه مع النص القرآني).
ولا تجد مهرباً إلا بتداعيات اجتماع سقيفة بني ساعدة في المدينة، والذي اجتمع فيه الأنصار لانتخاب سعد بن عبادة، وسارع أبو بكر وعمر وأبو عبيده الجراح إليهم ورشحوا أبا بكر، ودار حوار طويل بين الطرفين، انتهى بمبايعة أبي بكر، وأنت في استعراضك للحوار، لا تجد ذكراً للحديث النبوي السابق، وهو إن كان حديثاً صحيحاً لما جرؤ سعد بن عبادة سيد الخزرج على ترشيح نفسه، ولكفى أبا بكر وعمر والجراح مؤونة المناظرة، ولما فاتهم أن يذكروه وهو في يدهم سلاح ماض يحسم النقاش، ويكفي أن تعلم أن سعد بن عبادة ظل رافضاً لبيعة أبي بكر إلى أن مات، ولم يجد من يأخذ بيده إلى هذا الحديث فيبايع عن رضى وهو الصحابي الجليل ذو المواقف غير المنكورة في الإسلام، غير أن لكل ظاهرة سيئة وجهها المفيد، فقد انبرى أصحاب الرأي الآخر، والذين يؤمنون بحق الاكفأ في الحكم دون اعتبار لنسبه إلى ذكر أحاديث مضادة بمنطق"وداوها بالتي كانت هي الداء"، مضمونها أنه لا مانع من أن يحكم المسلمين عبد حبشي أسود (كأن رأسه زبيبة) فأعادوا للمنطق توازنه، وأعطوا لكثير من الطوائف الإسلامية التي نشأت فيما بعد سنداً لرأيهم المعارض لخلافة العباسيين، وإن كانت نتيجة ذلك كله، وضع المانع الأول في مسيرة الدولة الإسلامية، وهو الخلاف الفقهي حول نسب الحاكم وهل يكون بالضرورة قرشياً أم أنه الاكفأ بغض النظر عن نسبه، ولا عبرة هنا بالمنطق أو بواقع الحال، فسيف إنكار الحديث وارد على رقاب كل من الطرفين، في قضية أتصور أنا وأنت أنها هينة سهلة، لا تستحق عناء ولا تقتضي طول بحث، ولا تنتقل منها أو تتجاوزها إلى أسلوب تولية الحاكم حتى تكتشف مانعاً ضخماً يدور حوله الجدل إلى اليوم ولا يقنع المتجادلون فيه بمنطق بسيط وواضح وهو أن القرآن لم يترك قاعدة في هذا الأمر، والرسول لم يعرض لها من قريب أو بعيد وإلا لما حدث الخلاف والشقاق في اجتماع السقيفة، ولما رفض على قبول تولية أبي بكر ومبايعته على اختلاف في الرواية بين رفضه المبايعة أياماً في أضعف الروايات، وشهوراً حتى موت فاطمة في أغلبها، بل إن أسلوب السقيفة لو كان هو الأصح، لاتبعه أبو بكر نفسه وترك تولية من يليه إلى المسلمين أو أهل الحل والعقد منهم، وهو ما لم يفعل حين أوصى لعمر بكتاب مغلق بايع عليه المسلمون قبيل وفاته دون أن يعلموا ما فيه، وهو أيضاً مرة أخرى ما خالفه عمر في قصر الاختيار بين الستة المعروفين، وهم على وعثمان وطلحة والزبير وابن عوف وسعد، وهو ما اختلف عن أسلوب اختيار على ببيعة بعض الأمصار، ومعاوية بحد السيف، ويزيد بالوراثة.
أنت هنا أمام ستة أساليب مختلفة لاختيار الحاكم، يرفض المتزمتون تجاوزها، ويختلفون في تفضيل أحدها على الآخر، ويرى المتفتحون أن دلالتها الوحيدة أنه لا قاعدة، وأن الإسلام السمح العادل، لا يرفض أسلوب الاختيار بالانتخاب المباشر أو غير المباشر، وهو ما لا أظن أنه كان يوماً، حتى يومنا هذا محل اتفاق أو قبول عام من أنصار الدولة الدينية.
ولعلي لا أتحدث من فراغ، بل أصدر عن واقع النظم الإسلامية المعاصرة في عالمنا الحديث، فهناك بيعة أهل الحل والعقد (المختارون) في السعودية مع قصر الترشيح على أفراد الأسرة المالكة، وهناك المبايعة على كتاب مغلق يكتبه الحاكم ويوصى فيه لمن يليه اشتقاقاً من أسلوب اختيار أبي بكر لعمر، في السودان في عهد النميري، وهناك ولاية الفقيه في إيران، وهناك اعتبار الموافقة في الإستفتاء على الشريعة الإسلامية موافقة ضمنية على الحاكم واختياراً له في الباكستان، وهناك في كل الأحوال مانع جديد يضاف إلى ما سبق، وهو أن مدة تولية الحاكم في كل الأحوال السابقة مستمرة مدى حياته، ولا عبرة في ذلك بأن البيعة على أساس الالتزام بكتاب الله وسنة رسوله، وأن الحاكم يعزل إذا خالف ذلك، فما أكثر ما خالف، دون أن يعزل أو حتى يعترض عليه قديماً كان أو حديثاً، وحديث التاريخ في هذا ذو شجون بل قل ذو جنون، سواء في تطرف الحاكم في خروجه على صحيح العقيدة أو تطرف الرعية في الخنوع لإرادته والخضوع لبطشه، ولعل القارئ يلاحظ أنني قد تشددت في العبارات الأخيرة حتى أستلهم في ذهن دعاة الدولة الدينية رداً منطقياً بأن الشورى مانعة لبطش الحاكم، حافظة لحق الرعية، غير أني آسف إذا ذكرت لهم أن هذا بدوره يقود إلى مانع جديد هو الخلاف حول كنه الشورى، وهل هي ملزمة للحاكم وهو رأي الأقلية أم أنها غير ملزمة له وهو رأي الأغلبية التي تفرق بين كون الحاكم ملزماً بأن يستشير، وبين كونه في نفس الوقت غير ملزم باتباع رأيهم حتى إن اجتمعوا عليه جميعهم أو أغلبهم.
لقد أدرك بعض المخلصين من الدعاة أنهم يواجهون من ظروف المجتمعات الحديثة ما لم يواجهه السلف، وأن الديموقراطية بمعناها الحديث، وهو حكم الشعب بالشعب لا تتناقض مع جوهر الإسلام وأن اجتهادات المؤمنين بالديموقراطية، والتي تمخضت عن أساليب الحكم النيابي، والانتخابات المباشرة، لا يمكن أن تصطدم بجوهر العدل في الدين الإسلامي، وروح الحرية التي تشمل ويشملها، ومن أمثالهم الأستاذ الكبير خالد محمد خالد والعالم الجليل محمد الغزالي، لكنهم واجهوا تياراً كاسحاً من الرفض لما أملاه عليهم اتساع أفقهم، وفهمهم لجوهر العقيدة الأصيل، وانبرى زعماء التيارات الثورية والتقليدية في نقد الآراء وتفنيدها، لا فرق في هذا بين معتدل أو متطرف، ودونك ما نشر على لسان الأستاذ عمر التلمساني والأستاذ عمر عبد الرحمن وهو في مجمله يرفض مقولة حكم الشعب بدعوى أن الحكم لله، وهو أمر لو أمعنت النظر فيه لما وجدت تناقضاً، لكنهم يحاولون تأصيل منهجهم بافتراضات منها أن الأغلبية قد تقر تشريعاً يعارض شريعة الله، وأن التسليم بحق المجالس النيابية في التشريع سلب لحق إلهي ثابت ومقدس، وهو كونه جل شأنه المشرع الأكبر والوحيد.
وأنها – أي الديموقراطية – قد تعطل النص الشرعي بالرأي الشخصي، وهكذا أيها القارئ لا تنتهي عقبة أو مانع إلا وتظهر عقبة جديدة أو مانع جديد، وهي كلها موانع قد يسعد بها المجتهدون المتفتحون، لأنها تفتح أمامهم باباً واسعاً للرأي وللاجتهاد دون خروج على صحيح الدين، ودون تصادم مع روح العصر، لكنها في الجانب الآخر تفزع من ركنوا إلى اجتهادات السلف أيما فزع، وتضعهم بين شقي الرحى، إن دارت يميناً طحنت برفض العصر، وإن دارت شمالاً طحنت برفض العقل، وإن سكنت أبقتهم حيث هم، يهربون من الأصل إلى الفرع، ويخفون منطقاً أواجههم به، بل إن شئت الدقة أتحداهم به، وهو أن الشريعة وحدها لا تستقيم وجوداً أو تطبيقاً إلا في مجتمع إسلامي أو بمعنى أدق دولة دينية إسلامية، وأن هذه الدولة والجزئيات، وأنهم أعجز من أن يصيغوا مثل هذا البرنامج أو يتقدموا به، وأنهم يهربون من الرحى برميها فوق رؤوسنا، داعين إيانا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، التي تقودنا بالحتم إلى دولة دينية إسلامية، نتخبط فيها ذات اليمين وذات اليسار، دون منارة من فكر أو اجتهاد مستنير، وليحدث لنا ما يحدث، وليحدث للإسلام ما يحدث، وما علينا إلا أن نمد أجسادنا لكي يسيروا عليها خيلاء، إن أعجزهم الاجتهاد الملائم للعصر رفضوا العصر، وأن أعجزهم حكم مصر هدموا مصر.
ثالثا: إنه من المناسب أن أناقش معك أيها القارئ مقولة ذكرتها لك ضمن وجهة نظر الداعين للتطبيق الفوري للشريعة، وهي قولهم بأن التطبيق (الفوري) للشريعة، سوف يتبعه صلاح (فوري) لمشاكله، وسوف أثبت لك أن صلاح المجتمع أو حل مشاكله ليس رهناً بالحاكم المسلم الصالح، وليس أيضاً رهناً بتمسك المسلمين جميعاً بالعقيدة وصدقهم فيها وفهمهم لها، وليس أيضاً رهناً بتطبيق الشريعة الإسلامية نصاً وروحاً، بل هو رهن بأمور أخرى أذكرها لك في حينها، دليلي في ذلك المنطق وحجتي في ذلك وقائع التاريخ، وليس كالمنطق دليل، وليس كالتاريخ حجة، وحجة التاريخ لدى مستقاة من أزهى عصور الإسلام عقيدة وإيماناً، وأقصد به عصر الخلفاء الراشدين.
أنت أمام ثلاثين عاماً هجرياً (بالتحديد تسعة وعشرون عاماً وخمسة أشهر) هي كل عمر الخلافة الراشدة، بدأت بخلافة أبي بكر (سنتين وثلاثة أشهر وثمانية أيام) ثم خلافة عمر (عشر سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوماً) ثم خلافة عثمان (إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهراً وتسعة عشر يوماً) ثم خلافة علي (أربع سنين وسبعة أشهر).
وتستطيع أن تذكر بقدر كبير من اليقين أن خلافة أبي بكر قد انصرفت خلال العامين والثلاثة أشهر إلى الحرب بين جيشه وبين المرتدين في الجزيرة العربية، وأن خلافة علي قد انصرفت خلال الأربعة أعوام والسبعة أشهر إلى الحرب بين جيشه في ناحية وجيوش الخارجين عليه والرافضين لحكمه في ناحية أخرى، بدءاً من عائشة وطلحة والزبير في موقعة الجمل، وانتهاء بجيش معاوية في معركة صفين ومروراً بعشرات الحروب مع الخوارج عليه من جيشه، وأنه في العهدين كانت هموم الحرب ومشاغلها أكبر بكثير من هموم الدولة وإرساء قواعدها.
أضف إلى ذلك قصر عهد الخلافتين، حيث لم يتجاوز مجموع سنواتهما ست سنوات وعشرة أشهر، ويبقى أمامك عهد عمر وعهد عثمان، حيث يمكن أن تتعرف فيهما على الإسلام الدولة في أزهى عصور الإسلام إسلاماً، وأحد العهدين عشر سنين ونصف (عهد عمر)، والثاني حوالي أثنى عشر عاماً (عهد عثمان)، وهي فترة كافية لكل من العهدين لكي يقدم نموذجاً للإسلام الدولة كما يجب أن تكون، فعمر وعثمان من أقرب الصحابة إلى قلب الرسول وفهمه، والاثنان مبشران بالجنة، وللأول منهما وهو عمر مواقف مشهودة في نصرة الإسلام وإعلاء شانه، وهي مواقف لا تشهد بها كتب التاريخ فقط، بل يشهد بها القرآن نفسه، حين تنزلت بعض آياته تأييداً لرأيه، وهو شرف لا يدانيه شرف، وللثاني منهما وهو عثمان مواقف إيمان وخير وجود، ويكفيه فخراً أنه زوج ابنتي الرسول، هذا عن الحاكم في كل من العهدين.
أما عن المحكومين، فهم صحابة الرسول وأهله وعشيرته لا تحدث واقعة إلا تمثل أمامهم للرسول فيها موقف أو حديث ولا يمرون بمكان إلا وتداعت إلى خيالهم ذكرى حدث به أو قول فيه ولا تغمض أعينهم أمام المنبر إلا وتمثلوا الرسول عليه قائماً ولا يتراصون للصلاة خلف الخليفة إلا وتذكروا الرسول أمامهم إماماً، وهم في قراءتهم للقرآن يعلمون متى نزلت الآية، وأين، ولماذا إن كان هناك سبب للتنزيل، وباختصار يعيشون في ظل النبوة ويتأسون بالرسول عن قرب وحب، هذا عن المحكومين، ولا يبقى إلا الشريعة الإسلامية وهي ما لا يشك أحد في تطبيقها في كل من العهدين.
بل أنك لا تتزيد إن أعلنت أن هذا العهد أو ذاك، كان أزهى عصور تطبيقها لأنها لزوم ما يلزم في ضوء ما سبق أن ذكرنا بشأن الحاكم والمحكوم، ومع ذلك فقد كان عهد عمر شيئاً وعهد عثمان شيئاً آخر فقد ارتفع عمر بنفسه وبالمسلمين إلى أصول العقيدة وجوهرها، فسعد المسلمون به، وصلح حال الدولة على يديه، وترك لمن يليه منهجاً لا يختلف أحد حوله، ولا نتمثل صلاح الحكم وهيبة الحاكم إلا إذ استشهدنا به، بينما قاد عثمان المسلمين إلى الاختلاف عليه، ودفع أهل الحل والعقد إلى الإجماع على الخلاص منه، إما عزلاً في رأي أهل الحجى، أو قتلاً في رأي أهل الضراب، واهتزت هيبته في نظر الرعية إلى الحد الذي دفع البعض إلى خطف السيف من يده وكسره نصفين أو حصبه على المنبر، أو التصغير من شأنه بمناداته (يا نعثل) نسبة إلى مسيحي من أهل المدينة كان يسمى نعثلاً وكان عظيم اللحية كعثمان، أو الاعتراض عليه من كبار الصحابة بما يفهم منه دون لبس أو غموض أنه خارج على القرآن والسنة، ووصل الأمر إلى الدعوة الصريحة لقتله، حيث يروي عن عائشة قولها: اقتلوا نعثلاً لعن الله نعثلاً، وهي كلها أمور لا تترك لك مجالاً للشك فيما وصل إليه أمر الخليفة قبل رعيته، وما وصل إليه أمر الرعية قبل الخليفة.
وعلى الرغم من أن عمر وعثمان قد ماتا مقتولين، إلا أن عمر قد قـُتل على يد غلام من أصل مجوسي، وترك قتله غصة في نفوس المسلمين، وأثار في نفوسهم جميعاً الروع والهلع لفقد عظيم الأمة، ورجلها الذي لا يعوض، بينما على العكس من ذلك تماماً، ما حدث لعثمان عند مقتله، فقد قتل على يد المسلمين الثائرين المحاصرين لمنزله وبإجماع منهم، وقد تتصور أن قتلة عثمان قد أشفوا غليلهم بمصرعه على أيديهم، وانتهت عداوتهم له بموته، لكن كتب التاريخ تحدثنا برواية غريبة ليس لها نظير سابق أو لاحق، وإن كانت لها دلالة لا تخفى على أريب:
فالطبري يذكر في كتابه تاريخ الأمم والملوك الجزء الثالث ص 439:
(لبث عثمان بعدما قتل ليلتين لا يستطيعون دفنه ثم حمله أربعة"حكيم ابن حزام وجبير بن مطعم ونيار بن مكرم وأبو جهم بن حذيفة"فلما وضع ليصلي عليه جاء نفر من الأنصار يمنعوهم الصلاة عليه فيهم أسلم بن أوس بن بجرة الساعدي وأبو حية المازني ومنعوهم أن يدفن بالبقيع فقال أبو جهم ادفنوه فقد صلى الله عليه وملائكته فقالوا لا والله لا يدفن في مقابر المسلمين أبداً فدفنوه في حش كوكب (مقابر اليهود) فلما ملكت بنى أمية أدخلوا ذلك الحش في البقيع)
وفي رواية ثانية (أقبل عمير بن ضابئ، وعثمان موضوع على باب فنزا عليه فكسر ضلعاً من أضلاعه)، وفي رواية ثالثة أنهم دفنوه في حش كوكب حين رماه المسلمون بالحجارة فاحتمى حاملوه بجدار دفنوه فوقع دفنه في حش كوكب.
هذا خليفة المسلمين الثالث، يقتله المسلمون، لا يستطيع أهله دفنه ليلتين ويدفنوه في الثالثة، يرفض المسلمون الصلاة عليه، بقسم البعض ألا يدفن في مقابر المسلمين أبداً، يحصب جثمانه بالحجارة، يعتدي مسلم على جثمانه فيكسر ضلعاً من أضلاعه، ثم يدفن في النهاية في مقابر اليهود.
أي غضب هذا الذي يلاحق الحاكم حتى وهو جسد مسجى، وينتقم منه وهو جثة هامدة، ولا يراعي تاريخه في السبق في الإسلام والذود عنه، ولا عمره الذي بلغ السادسة و الثمانين، ويتجاهل كونه مبشراً بالجنة وزوجاً لابنتي الرسول، ويرفض حتى الصلاة عليه أو دفنه في مقابر المسلمين شأنه شأن أفقرهم أو أعصاهم. هو غضب لا شك عظيم، وخطب لا ريب جليل، وحادث لا تجد أبلغ منه تعبيراً عن رأي المسلمين في حاكمهم، وأمر لا يؤثر في الإسلام من قريب أو بعيد، فعثمان رضي الله عنه ليس ركناً من أركان الإسلام، وإنما هو بشر يخطئ ويصيب، وحاكم ليس له من الحصانة أو القدسية ما يرفعه عن غيره من المسلمين، لكنك لا تملك إلا أن تتساءل معي وأن تجيب.
* ألم يكن عثمان وقت اختياره واحداً من خيار المسلمين، مبشراً بالجنة وأحد ستة هم أهل الحل والعقد، وأحد اثنين لم يختلف المسلمون على أن الخلافة لن تخرج عنهما وهما عثمان وعلي؟
والإجابة (بلــــى)
* ألم يكن المسلمون في أعلى درجات تمسكهم بالعقيدة، وأقرب ما يكونون إلى مصدرها الأول وهو القرآن ومصدرها الثاني وهو السنة، بل كان أغلبهم أصحاباً للرسول وناقلين عنه ما وصلنا من حديث وأحداث؟
والإجابة (بلــــى)
* ألم تكن الشريعة الإسلامية مطبقة في عهد عثمان رضي الله عنه؟
والإجابة (بلــــى)
* هل ترتب على ما سبق (حاكم صالح ومسلمون عدول وشريعة إسلامية مطبقة) أن صلح حال الرعية؟، و حسن حال الحكم؟ وتحقق العدل؟ وساد الأمن و الأمان؟
والإجابة (لا).
وهنا نصل سوياً إلى مجموعة من النتائج نستعرضها معاً عسى أن تحل لنا معضلة التفسير وأن تجيب معنا على السؤال الحائر و موجزه لفظ (لماذا).
النتيجة الأولى:
أن العدل لا يتحقق بصلاح الحاكم، ولا يسود لا بصلاح الرعية، ولا يتأتى بتطبيق الشريعة، وإنما يتحقق بوجود ما يمكن أن نسميه (نظام حكم)، وأقصد به الضوابط التي تحاسب الحاكم إن أخطأ، وتمنعه إن تجاوز، وتعزله إن خرج على صالح الجماعة أو أساء لمصالحها، وقد تكون هذه الضوابط داخلية، تنبع من ضمير الحاكم ووجدانه، كما حدث في عهد عمر، وهذا نادر الحدوث، لكن ذلك ليس قاعدة ولا يجوز الركون إليه، والأصح أن تكون مقننة ومنظمة.
فقد واجه قادة المسلمين عثمان بخروجه على قواعد العدل بل وأحياناً بخروجه عل صحيح جوهر الإسلام، فلم يغير من سياسته شيئاً، وبحثوا فيما لديهم من سوابق حكم فلم تسعفهم سابقة، ومن قواعد لتسيير أمور الدولة فلم يجدوا قاعدة، وأشتد عليهم الأمر فحاصروه وطلبوا منه أن يعتزل، ولأن قاعدة ما في الأمر لم تكن موجودة، فقد أجابهم بقوله الشهير والله لا أنزع ثوباً سربلنيه الله (أي ألبسنيه الله)، وحين اقترب الأمر من نهايته، وأصبح قاب قوسين أو أدنى من ملاقاة حتفه على يد رعيته، أرسلوا إليه عرضاً فيه من المنطق الكثير ومن الصواب ما لا يختلف عليه.
فقد خيروه بين ثلاث:
- إما الإقادة منه (أي أن يعاقب على أخطائه شأنه شأن أي مسلم يخطئ) ويستمر بعدها خليفة بعد إدراكه أنه لا خطأ دون عقاب.
- وإما أن يتبرأ من الإمارة (أي أن يعتزل الخلافة بإرادته).
- وإما أن يرسلوا الأجناد وأهل المدينة لكي يتبرأوا من طاعته (أي أن يعتزل الخلافة بإرادة الرعية) .
فكان رده كما ورد في رسالته الأخيرة كما انتسخها بن سهيل (وهم يخيرونني إحدى ثلاث إما يقيدونني بكل رجل أصبته خطأ صواباً غير متروك منه شئ، وإما أعتزل الأمر فيؤمرون آخر غيري وإما يرسلون إلى من أطاعهم من الأجناد وأهل المدينة فيتبرأون من الذي جعل الله سبحانه لي عليهم من السمع والطاعة فقلت لهم أما إقادتي من نفسي فقد كان من قبلي خلفاء تخطئ وتصيب فلم يستقدمن أحد منهم وقد علمت إنما يريدون نفسي وأما أن أتبرأ من الإمارة فإن يكلبوني أحب إلى من أن أتبرأ من عمل الله عز وجل وخلافته وإما قولكم يرسلون إلى الأجناد وأهل المدينة فيتبرأون من طاعتي فلست عليكم بوكيل ولم أكن استكرهتهم من قبل على السمع والطاعة ولكن أتوها طائعين).
هنا يوضح عثمان بصراحة أن مراجعة الخليفة على الخطأ لم تكن واردة فيمن سبقه من الخلفاء (أبو بكر وعمر) أو على الأقل ليس لها قاعدة، وهنا أيضاً يعلن بلا مواربة أنه مُصر على تمسكه بالحكم حتى النهاية وأن اعتزاله غير وارد، وهنا أيضاً يواجه الدعوة إلى سحب البيعة بمنطق غريب مضمونه، وهل كنت أكرهتكم حين بايعتم؟ وكأن البيعة أبدية ولا مجال لسحبها أو النكوص عنها.
لا قاعدة إذن ولا نظام للرقابة، والأمر كله موكول لضمير الحاكم إن عدل وزهد كان عمر، وإن لم يعدل ويمسك بالحكم كان عثمان.
لقد أعلن عثمان أن نظام الحكم الإسلامي (من وجهة نظره) يستند إلى القواعد الآتية:
- خلافة مؤبدة
- لا مراجعة للحاكم ولا حساب أو عقاب أن أخطأ.
- لا يجوز للرعية أن تنزع البيعة منه أو تعزله، ومجرد مبايعتها له مرة واحدة، تعتبر مبايعة أبدية لا يجوز لأصحابها سحبها وإن رجعوا عنها أو طالبوا المبايع بالاعتزال.
ولأن أحدا لا يقر ولا يتصور أن تكون هذه هي مبادئ الحكم في الإسلام، قتله المسلمون، لكن السؤال يظل حائراً، ومضمونه، هل هناك قاعدة بديلة؟
أو نظام حكم واضح المعالم في الإسلام؟
هل هناك قاعدة في القرآن والسنة تحدد كيف يبايع المسلمون حاكمهم، وتضع ميقاتاً لتجديد البيعة، وتحدد أسلوباً لعزل الحاكم بواسطة الرعية، وتثبت للرعية حقها في سحب البيعة كما تثبت لها حقها في إعلانها، وتعطي المحكومين الحق في حساب الحاكم وعقابه على أخطائه، وتنظم ممارستهم لهذا الحق؟
أعتقد أن السؤال كان حائراً ولا يزال، بل إن السؤال نفسه قد اختفى بعد عهد الخلفاء الراشدين، وحرص المزايدون والمتزيدون في عصرنا على إخفائه، تجنباً للحرج، وتلافياً للخلاف، ونأياً بأنفسهم عن الاجتهاد وهو أمر بالنسبة لهم عسير، ربما عن قعود، وربما عن جمود، وربما عن عجز.
النتيجة الثانية:
إن تطبيق الشريعة الإسلامية وحده ليس هو جوهر الإسلام، فقد طبقت وحدث ما حدث، وأخطر من تطبيقها بكثير وضع قواعد الحكم العادل المتسق مع روح الإسلام، فقد رأينا أن الشريعة كانت مطبقة، وأن الحاكم كان صالحاً، وإن الرعية كانت مؤمنة، وحدث ما حدث، لغياب ما غاب، وأظنه لا يزال غائباً.
ولعل ما حدث في السودان خير دليل على مغبة البدء بالوجه العقابي للإسلام، وهو ما حدث حين أعلن الحاكم عن تطبيق الشريعة الإسلامية وبدأ في إقامة الحدود في مجتمع مهدد بالمجاعة، الأمر الذي ترتب عليه أن أصبح أنصار تطبيق الشريعة الإسلامية بعد تلك التجربة أقل بكثير من أنصارها قبل التطبيق، فالبدء يكون بالأصل وليس بالفرع، وبالجوهر وليس بالمظهر، وبالعدل قبل العقاب، وبالأمن قبل القصاص وبالأمان قبل الخوف، وبالشبع قبل القطع.
النتيجة الثالثة:
إنك إن انتقلت من عهد عثمان إلى عهدنا الحاضر، لا تجد شيئاً قد اختلف أو استجد سواء بالنسبة لحل مشاكل المجتمع، أو بالنسبة لمواجهة السلطة إن انحرفت، من خلال منظور إسلامي، ودونك ربطهم بين تطبيق الشريعة وحل مشاكل المجتمع، واسألني وأسأل نفسك.
* كيف ترتفع الأجور وتنخفض الأسعار إذا طبقت الشريعة الإسلامية؟
* كيف تحل مشكلة الإسكان المعقدة بمجرد تطبيق الشريعة الإسلامية؟
* كيف تحل مشكلة الديون الخارجية بمجرد تطبيق الشريعة الإسلامية؟
* كيف يتحول القطاع العام إلى قطاع منتج بما يتناسب وحجم استثماراته في ظل تطبيق الشريعة الإسلامية؟
هذه مجرد عينات من الأسئلة، على الداعين للتطبيق الفوري (للشريعة) والمدعين أنها سوف يترتب عليها حل (فوري) لمشاكل المجتمع أن يجيبوا عليها، وهم إن حالوا الإجابة وجدوا أنفسهم أمام المأزق الذي يدور هذا الحوار حوله، وهو وضع برنامج سياسي متكامل، بل إن تفرغهم للإبداع (النقلى) من اجتهادات القرن الثاني الهجري يمكن أن يقودهم إلى تعقيد المشاكل بدلاً من حلها، فالنظرة الضيقة إلى مفهوم الربا إن طبقت في عالم اليوم، سوف تقود إلى ارتباك هائل في سوق المال وسوف تلجئ إلى تحايل نرى ملامحه في تجربة البنوك الإسلامية، وربما أدت إلى الخراب بدلاً من التنمية، والكساد بديلاً عن الرواج.
وقبل أن تفغر فاك مندهشاً أو ترفع يدك معترضاً دعني أذكر لك أن الشريعة لا تقود إلى ذلك، بل إنه اجتهاد القرن الثاني الهجري هو الذي يقود إذا طبق في عالم تغيرت معالمه تغيرت معالمه، وتبدلت أحواله، وعرف أنماطاً من التعامل لم يعرفها السلف، وطرأت فيه من المتغيرات ما لا يقصر الاستدانة على الحاجة، أو الادخار على مفهوم إقراض الغير، وعرف التضخم الذي يترتب عليه خفض القوة الشرائية للنقود، إلى غير ذلك مما لا يسعه حصر ولم يشمله اجتهاد بعد، اللهم إلا اجتهاد في مناخ غير المناخ، ولعصر غير العصر.
هذا عن الربا، فماذا عن الأجور والأسعار والإسكان، هل هناك علاقة بين هذه الظواهر أو المشاكل وبين تطبيق الشريعة، المؤكد أنهلا علاقة ولا ارتباط، لكن الارتباط قائم ومؤكد إن كان الحديث عن برنامج سياسي ينتظم مفردات المجتمع بما فيه الشريعة في منظومة لا تتناقض مع الإسلام ولا تتصادم مع متغيرات الواقع.
النتيجة الرابعة:
إننا يجب أن نفرق بين الهروب والمواجهة، وبين النكوص والإقدام، وبين المظهرية والجوهر، فالمجتمع لن يتغير والمسلمون لن يتقدموا بمجرد إطالة اللحية و حلق الشارب، والإسلام لن يتحدى العصر بإمكانيات التقدم بمجرد أن يلبس شبابنا الزي الباكستاني، ومصر لن يتألق وجهها الإسلامي الحضاري بمجرد أن يتنادى الشباب بغير أسمائهم فيدعو الواحد منهم الآخر باسم (خزعل) ويرد عليه الآخر التحية بأحسن منها فيدعوه (عنبسة).
واللحاق بركب التقدم العلمي لن يحدث بمجرد استخدام السواك بديلاً عن فرشاة الأسنان أو تكحيل العينين أو استعمال اليد في الطعام أو الاهتمام بالقضايا التافهة مثل نظرية (حبس الظل) في شأن التماثيل أو الصور أو إضاعة الوقت في الخلاف حول طريقة دخول المرحاض وهل تكون بالقدم اليمنى أم اليسرى، وميقات ظهور المهدى المنتظر، ومكان ظهور المسيخ الدجال، فكل هذه قشور، والغريب أنها تشغل أذهان الشباب وبعض الدعاة بأكثر مما يشغلهم جوهر الدين وحقيقته.
وهو جوهر لا يتناقض مع التقدم بحال، وهي حقيقة لا تتوقف أمام هذه الأمور الصغيرة، ولعلي أعترف لك أيها القارئ أنني حزين أشد الحزن، ومكلوم حقيقة لا مجازاً، وأنا أشهد شبابنا وقد امتلأ رأسه بهذه الأمور التافهة، وأشهد قادته من أصحاب الطموح، ومدعى إحياء الإسلام، وهم يرسخون فيه هذه الأسس، بل ويتجاوزون ذلك إلى دعوته لترك العلوم (الوضعية) أو الأعمال (العلمانية) والتفرغ للعبادة.
هل هذا هو وجه الإسلام الحقيقي، وهل هذا هو ما سنواجه به القرن الحادي والعشرين، وهل هؤلاء الذين يسيئون قيادة أنفسهم وأتباعهم هم الصالحون لقيادة المجتمع، وهل أقبل منهم أو تقبل منهم دعوتهم للدولة الدينية وهم لا يتمسكون من الدين إلا بالقشور، ولا يعرفون من العقيدة إلا مظهرها الذي لا أصل له في كتاب الله، ولا سند له إلا التأسي بالرسول في مسايرته لعصر غير عصرنا، ولمجتمع يختلف جملة وتفصيلاً عن المجتمع الذي نعيشه، وليتهم تأسوا به وهو يدعو للرحمة، ويستنكر قتل المسلم للمسلم، ويدعو لطلب العلم ولو في الصين، ويستنكر اعتزال العمل للعبادة، ويعدل في قسمته بين الدين والدنيا، ويعلن حكمته الخالدة للأجيال التالية له، ومضمونها أنهم أعلم بشئون دنياهم.
هؤلاء قوم كرهوا المجتمع فحق للمجتمع أن يبادلهم كرهاً بكره، ولفظوه فحق له أن يلفظهم، وأدانوه بالجاهلية فحق له أن يدينهم بالتعصب وانغلاق الذهن، وخرجوا عليه فحق له أن يعاملهم بما اختاروه لأنفسهم، معاملة الخارجين على الشريعة والقانون، ووضعوا أنفسهم في موضع الأوصياء على الجميع، وهم أولى الناس بأن يعاملوا معاملة المحجور عليهم، وهم من قبل ومن بعد، أساءوا للإسلام ذاته حين ادعوا عليه ما ليس فيه وأظهروا منه ما ينفر القلوب، وأعلنوا باسمه ما يسئ إليه، وأدانوه بالتعصب وهو دين السماحة، واتهموه بالجمود وهو دين التطور، ووصموه بالانغلاق وهو دين التفتح على ال