«المفتاح» رواية جونيشيروا تانيزاكي فانتازيا إيروتيكية برهافة لغوية / منى برنس
2014-12-15
كلما قرأت عملاً أدبياً يابانياً أُصاب بالدهشة! فمن خلال معرفتي السطحية بعدد من اليابانيات واليابانيين الذين التقيتهم في مناسبات مختلفة، أستطيع القول انهم أناس محافظون جدا فيما يتعلق بالتعبير عن المشاعر والعلاقات العاطفية والجنسية، ويبدون على الدوام هادئون وخجولون ولا ينظرون في عين من يحدثهم بشكل مباشر. إلا أن الأدب الياباني الحديث (ميشيما، كاواباتا، تانيزاكي، وآخرون) يتناولون تلك الموضوعات المتعلقة بالعلاقات ما بين الجنسين بشكل جريء وحداثي جدا، مقارنة بالفترة الزمنية التي كتبوا فيها أعمالهم (نهاية القرن التاسع عشر وبداية ومنتصف القرن العشرين). وما يثير دهشتي عادة ليس فقط الموضوع إنما طريقة تناوله وأسلوب الكتابة المختلف تماما عن نظيره في أدب أميركا اللاتينية، والأدب الأوروبي والأدب العربي. فمهما كانت درجة عنف وغرابة الموضوع والأحداث، تبقى الكتابة هادئة وغاية في الرهافة ولا يوجد فيها أي صخب أو صراخ لغوي مصاحب أو معبّر عن الغليان، الذي تشعر به في أي نص أدبي ياباني.
اخيرا، استعرت من المكتبة رواية بعنوان «المفتاح« للكاتب جونيشيروا تانيزاكي، وتوقفت بعد قراءة أول صفحتين. هذا كتاب جريء جداً، قلت لنفسي. وبشكل تلقائي انتقلت إلى الصفحة الأخيرة التي تحوي نبذة عن المؤلف. مواليد طوكيو وتوفي في . كان ذلك مفاجأة لي. فقد ظننت أن الكاتب معاصر بسبب موضوع وأسلوب الرواية. الرواية نفسها صدرت عام . لا أعلم هل للبعد الجغرافي أي دخل في تلك الحداثية، وما بعد الحداثية المبكرة في الأدب الياباني.
تبدأ الرواية بفصل يحمل عنوان «يوم رأس السنة«، يعلن فيه الراوي أنه بدءا من اليوم سوف يكتب بحرية عن موضوع تردد كثيرا في الكتابة عنه سابقا، وهو علاقته الجنسية بزوجته، إيكوكو. وما جعله مترددا سابقا هو خشيته من أن تكون زوجته تقرأ مذكراته، وبالتالي قد تشعر بالإهانة. فهي زوجة تقليدية وتفتخر بأخلاقها العتيقة وتربيتها المتزمتة، وترى في ذلك أنوثة وتواضعاً يجعلها تخجل من مناقشة أي موضوع حميمي بينهما. هي فقط تقوم بممارسة الفعل في صمت وفي الظلام وتحت أغطية كثيرة، ولا تجعل زوجها يرى من جسدها أي جزء أسفل خصرها. ويتساءل الزوج «هل هذا زواج حقيقي؟«. ورغم أنه يحب زوجته ولا يمل منها إلا أنه مصاب بالإحباط، وهو السبب الذي يجعله يكتب الآن، آملا أن تقرأ زوجته مذكراته خلسة: «أنا سأفترض أنها تقرأ، وأنني أتحدث اليها مباشرة«. ويعترف الزوج بأن قدرته الجنسية لا تضاهي قدرة وشهوة زوجته، فهو يبلغ من العمر عاما وهي تبلغ عاما، وأنه يجد نفسه متعبا من ممارسة الجنس، وأن مرة أسبوعيا تناسبه، لكن زوجته متطلبة. فيبدأ الزوج في تخيل ماذا لو ارتبطت زوجته بشخص آخر.
الفصل التالي بتاريخ يناير (كانون الثاني)، وفيه تقرر الزوجة، كتابة مذكراتها. وتبدأ بالإشارة إلى مفتاح الدرج الذي يخبئ فيه الزوج مذكراته، والذي تركه الزوج في مكان بارز في غرفة مكتبه. وتتساءل الزوجة، هل يريدني أن أقرأ ما يكتب؟ لكنها تعلن أنها غير راغبة في سبر أغوار نفسه، فهي شخصيا لا تحب أن يعرف الآخرون ما يدور في نفسها. ثم تبدأ في الحديث عن ليلة رأس السنة من منظورها: «كالعادة بدا زوجي وكأنه وصل إلى ذروة شهوته، وكالعادة تُركت غير مشبعة. شعرت بالبؤس بعد ذلك. هو دائما يعتذر عن عدم تكافؤه معي، ومع ذلك يتهمني بالبرود وأنني طوال سنة لم أحد عن الطريقة التقليدية وعن الوضعيات ذاتها في ممارسة الجنس«. ومع ذلك، تعترف أن زوجها يستجيب لرغباتها التي تلمح لها فعلا، من دون أن تفصح عنها بالكلام. وتتابع الزوجة الكتابة من منظورها قائلة أن زوجها يتهمها بأنها لا تحبه قدر حبه لها، وأنها تعتبره ضرورة، وضرورة معيبة أيضا. وأنها مسؤولة جزئيا عن عدم اشباعها. وتعترف الزوجة بأن أبويها ربياها على أن تكون امرأة هادئة، خجولة، متواضعة، وألا تبادر أبدا بالفعل مع الرجل. لكنها أيضا تعترف بأنه لا ينقصها الشغف، لكن هذه المشاعر عميقة جدا بداخلها وتحتاج لشخص قادر على استثارتها من دون أن تعلن هي عن ذلك. ثم تفكر بأن زواجها كان غلطة شنيعة. لكنها في النهاية تحب زوجها وتكرهه في الوقت ذاته. تحبه لأنه زوجها وتكره جسده ومحاولاته المستميتة لإشباع خيالاته الجنسية، مثل تقبيل قدميها، ورؤيتها عارية والتي لا تسمح بها مطلقا.
تتوالى الفصول- اليوميات من وجهتي نظر الزوج والزوجة. ومن اللافت للنظر أن الزوجة لا تذكر اسم زوجها مطلقا، فقط تقول «زوجي«، في حين يستخدم الزوج اسم زوجته مرارا. ومن خلال تلك اليوميات نتعرف على كيمورا، وهو شاب يأمل الزوجان أن يصبح زوجا لابنتهما توشيكو. لكن الابنة لا تعره كثير انتباه. في حين يلاحظ الزوج اهتماما ما ولطفا واضحا ما بين زوجته وكيمورا، خصوصاً بعد أن شربت كثيرا من البراندي، ويشعر بالغيرة. لا يتحدث عن شعوره مع زوجته لكن يذكر ذلك في يومياته. يستمر الزوج في دعوة كيمورا إلى العشاء وشرب براندي من نوع خاص يجعل إيكوكو تسكر حتى الثمالة، فتذهب إلى الحمام وتسقط في البانيو. وتنتهي الليلة بأن يحمل الزوج زوجته إلى الفراش بمساعدة الصديق الذي يرى جسد إيكوكو عارياً. في تلك الليلة، التي ستتكرر أحداثها، يعري الزوج زوجته وهي فاقدة للوعي، ويأتي بمصباح فلورسنتي ويقربه من زوجته ويبدأ في تأمل تفاصيل جسدها، التي لم يرها من قبل مطلقا، ويبدأ في ممارسة خيالاته الحسية معها مستخدماً لسانه، والقيام بأفعال تصفها زوجته «بالمشينة«. ينم عن الزوجة ما يجعل الزوج يعتقد أنها تدعي النوم، فيقرر الاستمرار فيما يفعله اختبارا لأي مدى ستتركه يعبث بجسدها إلى أن تصل شهوته لأعلى درجاتها ويجامعها، وتتفاعل الزوجة معه بقوة لتصل لذروتها عدة مرات وهي تغمغم باسم كيمورا. ويتساءل الزوج هل كانت زوجته تحلم بأنها تمارس الجنس مع كيمورا؟ أم تريد أن تخبرني كم تتمناه؟ أو ربما تحذرني؟
في الفصل التالي تحكي الزوجة تفاصيل ما تذكره من تلك الليلة من وجهة نظرها. وتقول: «من المؤكد أن ذلك كان حلماً. ولكن هل يعقل أن يكون الحلم بهذه الدرجة من القوة والحسية؟ في الأول تعجبت من إحساسي بأنني على وشك الوصول إلى الذروة ومن هذا الاحساس الحاد باللذة، نوع من التحقق الحسي لم أحسب أن زوجي قادر على منحه لي. لكنني سريعاً ما عرفت أن الرجل الذي أشاركه الفراش هو كيمورا. هل مكث الليل بجواري.. وأين ذهب زوجي وهل يليق بي مثل هذا التصرف اللاخلاقي؟ ولكنني أدركت أيضا أنني في منطقة بين الحلم والواقع. بطريقة ما، الرجل الذي يعانقني بدا لي كيمورا، لكنه في الواقع كان زوجي». تتأمل الزوجة ما حدث، وتتساءل: هل كان ذلك وهما، وهل هذا الوهم الممتع نتيجة شرب البراندي؟ تشكر زوجها على تلك التجربة الفريدة، وتقرر أن تتناول هذا البراندي بشكل متكرر. وتفكر بكيمورا الذي تخيلته معها في الفراش، ولم تره إلا مرتديا ثيابه وتقرر أنها ترغب في معرفته بشكل «حقيقي».
تتطور العلاقة ما بين إيكوكو وكيمورا بتواطؤ من الزوج والابنة. يعطي كيمورا كاميرا بولارويد للزوج وهو يعلم بطريقة ما أن الزوج يحب رؤية زوجته عارية، ويرغب في تصوير تفاصيل جسدها. يصور الزوج زوجته في أوضاع مختلفة وهي عارية، بعد أن تسكر وتصبح في حال ما بين الوعي واللاوعي. ويطلب الزوج من كيمورا تحميض الفيلم. تترك الابنة بيت عائلتها وتستأجر غرفة ملحقة ببيت مدرستها، وتدعو أمها وكيمورا للعشاء عندها. تسكر الأم وتفقد الوعي، يحملها كيمورا إلى الفراش. تذهب الابنة لإخبار والدها وتترك أمها مع كيمورا بمفرديهما. يبدأ الزوج في تخيل ما قد يمكن حدوثه بين زوجته وكيمورا. تشتعل غيرته ويستعيد قوته الجنسية ويجامعها بكل قوة وشغف.
تناقش الزوجة وضعها مع كيمورا، الأمر الذي لا تفعله مطلقا مع زوجها. وتسأله إن كانت لا تزال مخلصة لزوجها. فيجيب كيمورا بأنه لم يلمس ذلك الجزء الذي نهاه الزوج عن ملامسته. وتقول الزوجة بأنه لولا أن وضع زوجها كيمورا بينهما، وعذبه بهذه الطريقة ما تأججت مشاعر الزوج. وأن زوجها بطريقة ما متماه مع كيمورا. إن الإثنين هما شخص واحد.
في تلك الأثناء يطّلع كلا من الزوجين على مذكراتهما على نحو سري. ويتساءل الزوج لأي مدى ستبقى زوجته مخلصة له، أي إلى أي مدي ستحافظ على تلك الشعرة التي تفصلها عن ارتكاب فعل الزنا. لن تصمد الزوجة طويلا وستمنح كيمورا نفسها كلية. وستشتعل علاقتها الجنسية بزوجها أيضا إلى أن يصاب بجلطة أثناء الفعل. تمكث إيكوكو بجوار زوجها، لكنه وابنتهما سيحثانها على الاستمرار في علاقتها بكيمورا. يموت الزوج في النهاية. وتتساءل الزوجة، في يومياتها، عن دوافعها الحقيقية التي جعلتها تواصل تلك اللعبة، التي أدت إلى وفاة زوجها مع علمها بمرضه. وتنتهي إلى أنها منحته السعادة التي طلبها.
تنتهي الرواية بأن يتزوج كيمورا من توشيكو، بعد فترة الحداد، حفاظا على الشكليات، على أن يعيش الثلاثة معاً، الأم والابنة والعشيق.
هكذا، ورغم حسية الموضوع، وجرأة تناوله، بخاصة في تلك الفترة الزمنية، إلا أن الكاتب لم يستخدم أي من تلك الألفاظ أو الأوصاف مما اصطلح على وصفها بالإباحية أو البذيئة. وحافظ تماما على الرهافة اللغوية التي تميز أدب هذه المنطقة من العالم.
عن المستقبل