ابن رشد والفتنة / فريد العليبي
2014-12-16
لا تزال جملة من المفاهيم والمصطلحات والأفكار الإسلامية التقليدية تمارس تأثيرها في واقع عربي يموج فيه الناس بعضهم في بعض، اقتتالا واحترابا، بما يحيل إلى مفهوم الفتنة فعودة “القديم” و“الفائت” أمر يسهل رصده اليوم في ارتباط بالحدث السياسي العام الذي يفرض طرح سؤال الفتنة من جديد .
ونبتـغى هنا الالتفات ناحية الفلسفة العــربية من خلال أحد أبرز رموزها، ونعنى ابن رشد لمساءلة هذا المفهوم ضمن متنه الفلسفي ، أملا في الإحـــاطة بجانب من جوانب رؤيته السياسية، و هو ما لا يمكن الوقوف عليه دون إعــادة النظر في الصراع الذي دار بين الكلام والفلســـفة، كما عرضه وحلله وشرحه فــيلسوف قرطبة على هذه الصعيد بالذات، بما من شأنه أن يمكننا من رسم الحدود بين خطابين متضــادين في السياسة، لكل منهما آلياته و استراتيجياته.(1)
لقد توارى مفهوم الفتنة عربيا عن الأنظار لمدة نصف قرن الماضية على الأقل، ليعود بقوة في علاقة بالمستجدات الراهنة كما ذكرنا، ففي واقع عربي معقد تلفه الغيوم و تعوي فيه العواصف يجرى توظيف الدين و المذهب و الطائفة و العشيرة في الصراعات السياسية المحتدمة التي تنفجر هنا و هناك و هي متسربلة بخطاب الفتنة.
وهذا ما طرح من جديد إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة، في إعادة إنتاج لمشكل قديم هو مشكل الصلة بين الشريعة و المدينة، أي ما حاول ابن رشد فهمه وتحليله قبل قرون، ومن هنا فإن الاتجاه ناحية مدونته الفلسفية لمساءلة خطابه حول الفتنة يفرض ذاته، فقد واجه المتكلمين من موقع الفلسفة، مبينا تهافت حججهم في صلة بإستراتيجية فكرية لا تتوانى عن كشف مقاصدها، ممثلة في محاربة الفتنة بما تحيل إليه من نزاعات وانكسارات ، وما تستوجبه من تطارح بدائل مرتكزة على وحدة المدينة وتناسقها وانسجامها، لأجل ذلك اندرج خطابه حول الفتنة ضمن مقاربته للمشكلة السياسية.
وعلى هذا النحو فإننا نحاول قراءة ذلك الخطاب في صلة بهواجس صاحبه السياسية، أي في علاقة بالتاريخ ومشكلاته العينية، فنحن نهتم بدراسة ابن رشد الواقعي قدر الطاقة ونحاول أن نضرب صفحا عن ابن رشد المتخيل ، الذي تقدمه لنا بعض الكتب و الدراسات.
والالتفات ناحية ابن رشد الواقعي والتاريخي يتيح لنا التساؤل عما إذا كان تلخيصه لكتب أرسطو وجمهورية أفلاطون و تأليفه للفصل والكشف وتهافت التهافت وبالتالي صدامه مع المتكلمين قد تم لغايات عملية تتصدرها الغاية السياسية أم لا؟ و من ثمة تبين ما إذا كان تكليفه بتلخيص أرسطو من قبل الخليفة الموحدي قد خضع لغاية علمية فقط أم لسبب سياسي أيضا مرتبط بالقضاء على جذور فتنة كانت تزحف شيئا فشيئا على مدينته لخنقها والفتك بها؟
لقد كانت محنة ابن رشد وما رافقها من سجن و نفى وطرد و تجريم و تحريم متصلة بالفتنة موضوع حديثنا، أي إن الجانبين الفلسفي ووقائع حياة ابن رشد ذاتها تكشف عن أهمية القراءة التي نود الإبانة عنها فحراسة المدينة وردّ الفتنة عنها تكون بالفلسفة، التي تؤدى هنا وظيفة سياسية و إيديولوجية، ليس فقط من موقع العلم و العقل و البرهان كما سوف نبينه، وإنما أيضا من موقع الانخراط في المعارك المحتدمة والاكتواء باضطراب الوقت، فقد كان ابن رشد شخصية قلقة من حيث صلته بالفكر الإسلامي، فهو من بين “أولئك الذين أشاعوا سورة التوتر الحي معرضين عن الظاهر الساذج المستقيم إلى الباطن الشائك الزاخر بالمتناقضات”،(2) وهو ما تكشف عنه عباراته المليئة بالمرارة و التوتر في كتاب فصل المقال حيث نقرأ “إن النفس مما تخلل هذه الشريعة من الأهواء الفاسدة و الاعتقادات المحرفة في غاية الحزن و التألم”. (3)
وفضلا عن هذا تطرح مساءلة الفتنة إشكاليات منهجية تتعلق بكيفية مناقشتها، حيث نجد مدخلين متضادين يتمثل أولهما في المناقشة التقليدية، فتبدو الفتنة كصراع مذهبي حول تأويلات ومصطلحات وأفكار ومعتقدات متنابذة، وهو ما يؤدى إلى استخلاص أنها صراعات عقيمة وجب تجاوزها حتى تعود الملة إلى الصراط المستقيم، أما الثاني فيتمثل في الذهاب إلى الترسبات الثاوية في قاعها ، وخاصة السياسية والاجتماعية، و بالتالي تمزيق قشرتها الخارجية للنفاذ إلى ما تخفيه، ومن ثمة النظر فيما إذا كنا إزاء اجتراح بدائل ممكنة أو الانزياح نحو حلول متخيلة ؟ وهو ما يدعونا إلى التساؤل عما إذا كان ابن رشد قد اتجه منهجيا ناحية المدخل الأول أم المدخل الثاني؟ أي الإجابة عن مدى انتباهه إلى الأسباب السياسية و الاجتماعية المحركة للفتنة أو ملامستها على الأقل أم إنه ظل بعيدا عن إدراك قيمتها؟ وبالتالي محاكمة القول الرشدى بهذا الخصوص في ضوء رهاناته المتحققة أو تلك التي ظلت مستعصية بالأمس كما اليوم، ليس فقط على يد صاحبها وإنما أيضا على يد تلامذته، وغنى عن البيان أننا لا ننظر لابن رشد كلحظة عابرة وإنما كمدرسة لها ديمومتها.
تحتاج الفتنة إلى حفريات فلسفية، فمن سماتها المخاتلة، فهي تقوم على إخفاء أغراضها و كتمان أسرارها، ولا وجود لفتنة تعلن عن نفسها، وبالتالي فإن محاكمتها لا يجب أن تتجه ناحية ما تصرح به بل إلى ما لا تقوله، فما تضمره وتسكت عنه هو الأكثر تعبيرا عنها، و من هنا فإن الاستغراق في سرد مواقف أصحاب الفتن كما تبدو في ظاهرها يجعل صاحبه ضحية خديعة منهجية، فيكون أسير خطابات الفتنة التي تستدعى التعامل معها على نحو آخر، أي تحليلها و تفكيكها وردها إلى الوقائع التي تحاول صرف الأنظار عنها، و هنا بالذات تتنزل مهمة الفلسفة التي تجد ضمن مقام حديثنا لدى ابن رشد تعبيرا عنها.
الفتنة مفهوم إسلامي متعدد الدلالات(4)، وهى تتجسد في وقائع مغروزة في التاريخ الإسلامي، غير إننا لا نبتغى هنا الإحاطة بحمولتها كلها ولا بكل ما تحيل إليه من وقائع، و إنما غرضنا تبين دلالتها السياسية و الإيديولوجية ، أي بما تحمله من مضامين على صعيد العلاقة بين الدين و الدولة.
وإذا كنا قد أسلفنا القول أننا معنيون رئيسيا بمساءلة ما قاله ابن رشد على وجه الحصر بخصوصها، واستنتاج ما يلزم عن خطابه بتأصيله ضمن مكانه و زمانه، فإن النظر في إمكانية تبيئته في زماننا و مكاننا يفرض ذاته أيضا ، و بالتالي الإجابة عن سؤال ما إذا كانت هناك حاجة لابن رشد لمواجهة الفتنة الآن وهنا؟ أي فحص آراء ابن رشد السياسية في صلة بما أل إليه الواقع العيني ذاته، هذا الواقع الذي نميل إلى أنه يندرج ضمن بنية تاريخية موسومة بقدر كبير من الركود على النحو الذي أضحى التاريخ يكرر فيه ذاته على مدار السنين، مما يجعل المعضلات التي واجهها ابن رشد و ظلت دون حل تطل برأسها مجددا .
تحيل الفتنة لغويا إلى معان متباينة، و ذلك وفق السياق الذي ترد فيه فيقال فتن المعدن بمعنى صهره بالنار ليختبره، وفلان فتن فلانا ليحوله عن رأيه أو دينه. وهي تتلبس في المراجع الإسلامية دلالات مختلفة فهي تقع في المال و النساء و الشهوات و السلطة، و لكنها تحيل غالبا إلى الدلالة السياسية و الإيديولوجية كما أسلفنا.
وإذا استنطقنا دلالتها ضمن النص القرآني فإننا نجد جملة من الآيات التي تحيل أيضا إلى معان مختلفة مثل تلك التي تقول: “إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ”(5). فالأمر يتصل هنا بتمزيق الصفوف وشرذمة الأمة وتقسيمها، لذلك يتوعد الله أصحاب هذا الإثم بعذاب عظيم، وكثيرا ما تربط الآيات التي تتحدث عن الفتنة بوصف مثيريها بالنفاق و المرض في الدين والمرجفين، والتحذير من أن الله سيذيقهم عذاب السعير لذلك يقول القرآن محذرا منها “واتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً”(6)، فضلا عن تنبيه الرسول المؤمنين إلى الفــــــتن القادمة “ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ”.
و ينظر إلى الفتنة كقطع الليل المظلم بالنظر إلى ما تتسبب فيه من أذى للملة بأسرها فهي فساد في الأرض واقتتال يحرمه الشرع فالقاتل و المقتول في النار حيث نقرأ في القرآن “ والْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ (7)، وفي الحديث ” إذا التقَى المسلمانِ بسيفيهما فالقاتلُ والمقتولُ في النَّار“(8)، غير أنه في خضم الفتنة يكفر المتحاربون بعضهم بعضا، و بالتالي يضفون شرعية دينية على القتل فالآخر من الخوارج أو الروافض أو النواصب الخ ...لذلك يجب الإجهاز عليه ، غير أنه يعسر غالبا على عموم الناس تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود على هذا الصعيد، فمن الصعب رسم خط الفصل بين المؤمنين و الكفرة بالوضوح الذي يزعمه صناع الفتن .
ولا تتعارض هذه الدلالة مع تلك التي ترد في المعاجم، بل إن هذه تستمد غالبا ما تصرح به من النص القرآني و تتماهى معه، فالفتنة مشبعة بمعاني الاحتراب داخل الملة لأسباب عقدية، فهي هرج ومرج بما يعنيه ذلك من تأليب الناس على بعضهم البعض .
الهوامش :
1- هناك من يرى أن الفلسفة العربية لم تعن بالسياسة و لم تبلور أطروحات سياسية، من ذلك ما يقوله هادى العلوي” إن الفلسفة التي وفرت معالجة حيوية للسياسة على يد الإغريق لم توفر ما يماثلها على يد المسلمين، و بخلاف السياسيات الإغريقية فإن حيوية الفكر السياسي في الإسلام تقع خارج الفلسفة “قبل أن يستدرك قائلا” و لا يفوتني أن انوه على سبيل الاستثناء بتلك النظرات السديدة التي صدر عنها كل من ابن باجة في تدبير المتوحد و ابن رشد في جوامع سياسية أفلاطون “ ، هادى العلوي، فصول من تاريخ الإسلام السياسي، الطبعة الأولى، نيقوسيا ـ قبرص :مركز الأبحاث و الدراسات الاشتراكية في العالم العربي 1995،ص89. غير إننا نجد في الفلسفة العربية اهتماما بالمسالة السياسية و تطارحا لمشكلاتها لا يخلو من الحيوية التي أشار العلوي إلى انعدامها، و هو ما حاولنا بيانه مستندين إلى تواليف فيلسوف قرطبة في كتابنا : رؤية ابن رشد السياسية، الطبعة الأولى، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية 2007 .
2- عبد الرحمان بدوى، شخصيات قلقة في الإسلام، الطبعة الثالثة، القاهرة : سينا للنشر 1995، ص 9.
3- ابن رشد، فصل المقال في ما بين الحكمة و الشريعة من الاتصال، الطبعة الأولى، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية 1977، ص 125.
4- عادة ما يوسم الطرف المقابل في حروب الفتنة بأنه من أهل البغي أو الردة أو الحرابة، و في علاقة بذلك هناك قتال أهل الردة، و قتال أهل البغي، و قتال المحاربين، و هو ما يدرجه الماوردى في باب الولاية على حروب المصالح، ففي الردة يقتل من بدل دينه سواء كان رجلا أو امرأة فـ” قد قتل رسول الله صلعم بالردة امرأة كانت تكنى أم رومان “الماوردى، الأحكام السلطانية، الطبعة الأولى، بيروت : دار الكتاب العربي، ص 114.
وعندما تخرج طائفة من المسلمين و تخالف رأى الجماعة و تنفرد بمذهب ابتدعته و تظهر معتقدها توجب على الحاكم / الإمام دعوتها إلى الرجوع عن ذلك فإن رفضت فإنها من أهل البغي الذين يجب مقاتلتهم طبقا لما جاء في الآية” وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ “سورة الحجرات، الآية 9 .
و يذكر الطبري في تفسيره لهذه الآية أنها نزلت عندما حدثت معركة بين طائفتين من الأوس والخزرج، اقتتلتا في بعض ما تناعتا فيه, و من بين ما قاله” قيل للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: لو أتيت عبد الله بن أُبيّ, قال: فانطلق إليه وركب حمارا، وانطلق المسلمون، وهي أرض سبخة، فلما أتاه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: إليك عني، فوالله لقد آذاني نتن حمارك, فقال رجل من الأنصار: والله لنتن حمار رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أطيب ريحا منك، قال: فغضب لعبد الله بن أُبيّ رجل من قومه قال: فغضب لكل واحد منهما أصحابه، قال: فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال, فبلغنا أنه نـزلت فيهم ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ). الطبري، جامع البيان في تأويل آي القرآن http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura49-aya9.html
و في الحرابة يقتل من يشهر السلاح و يقطع الطريق و يستولى على المال و يقتل النفوس لقول الآية “إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ” سورة المائدة، الاية 36.
5- سورة البروج، آية 10.
6- سورة الأنفال، آية 25.
7- سورة البقرة، آية191.
8- رواه البخاري .
9- الجاحظ، كتاب البخلاء، طبعة ليدن 1900، ص 10، موقع مكتبة المصطفى : http://www.al-mostafa.info/data/arabic/depot3/gap.php?file=i001145.pdf
عن موقع الأوان