أنثروبولوجيا السلطة العربية / قراءة سياسية في كتاب «الشيخ والمريد» لعبدالله حمودي/ محمد الدوهو
2015-01-04
1 - المدخل الأول
أيسر مدخل لفهم النسق الثقافي للسلطة العربية هو الحفر في الجذور الانتربولوجية والثقافية لهذه السلطة. يشكل كتاب عبدالله حمودي (الشيخ والمريد) نموذجا لهذه الحفريات الانتروبولوجية والثقافية في النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة. فالكتاب كتب أولا واخيرا، وكما يؤكد على ذلك عبدالله حمودي، للحفر في تربة الاستبداد العربي بغية الكشف عن الاواليات الانتروبولوجية والسياسية العميقة التي تتحكم في "إعادة إنتاج الأسس الثقافية للسلطة في المجتمعات العربية"، وإهمال هذه الأطروحة يعد ثغرة في كل قراءة للكتاب. (ص287).
يدفعنا كتاب "الشيخ والمريد" إلى التفكير من داخل النسق الثقافي للسلطة العربية بحكم أنها كسلطة مرجعية متعالية لا تقتصر في إنتاج وإعادة -إنتاج سلطتها المعرفية على ما هو سياسي وديني وسوسيولوجي ونفسي . . ولكنها تعتمد أيضا على ما هو انتروبولوجي في فرض وإعادة فرض قوتها على عقول الأحياء ووجدانهم. ومن تم يتعين التفكير من داخل ثبات النسق الثقافي للسلطة العربية بغية اكتشاف الأواليات العميقة التي تتحكم في صيرورته وبعبارة أوضح يتعين التفكير في الثابت للكشف عن صيرورته في النسق السياسي العربي.
إن جدلية الثابت والمتحول، إن نحن استعرنا لغة ادونيس،(2) في صيرورة النسق الثقافي للسلطة العربية تبقى مسألة نسبية في حياة العرب، لأنها جدلية مرهونة بتاريخ الذات الثقافية العربية والسلطة السياسية التي تتحكم في صيرورة انتاجها وإعادة إنتاجها. المسألة واضحة عندما نطرق باب التاريخ المعاصر ورؤية الاستشراق إلى تاريخ العرب فالمستشرق عندما يقرأ تاريخ العرب انطلاقا من السياق الثقافي الذي يفكر من داخله يجد ان العرب محكومون بأنساق تجعلهم دائما ثابتون ومشدودون إلى نموذج ثقافي يؤطر وجودهم على كافة المستويات. وعندما يتأمل مثقف عربي "ما بعد حداثي" كالدكتور علي حرب وضع العرب وموقعهم في صيرورة التاريخ الكوني يجد نفسه بصيغة شعورية او لاشعورية يتبنى موقف المستشرق، فيصيح قائلا: إن النموذج الحضاري العربي فقد فاعليته ومصداقيته، أي قدرته على الخلق والإنتاج بدليل أننا لم نقدم بعد إلى العالم في هذا العصر، ما نفرض به أنفسنا أكان ذلك فكرة أم صيغة، أم سلطة أم مادة(3). هذا رأي له ما يبرره تاريخيا واقتصادي وسياسيا، إذا ما نحن تأملنا مليا موقع العرب في صيرورة التاريخ الكوني، لكن كيف التحرر من هذه الرؤية العدمية التاريخية التي تشكك في أهمية الذات الثقافية العربية من حيث صيرورتها التاريخية والثقافية.
لا بد من نقد الذات الثقافية العربية. هناك أسباب كامنة وثاوية في لاشعور هذه الذات الثقافية تجعلها متحركة من حيث الشكل، تعيش حداثة الشكل، لكن جوهرها يضرب بجذوره في تربة تاريخ –ماضي- الذات البعيد. ما علينا سوى الحفر في تربته ومحاورته لمعرفة أسباب استمراره فينا حتى نتمكن من تجاوزه في إطار قطيعة موضوعية. يجب محاورة المتأصل فينا نحن العرب وفهم أسباب استمراره فينا، ونبذ تلك الرؤية الاستشراقية التي تقرأ المتأصل فينا قراءة انتروبولوجية واثنولوجية تجعلنا شعوريا اولا شعوريا نحتكم إليها كلما اردنا أن نقرأ أسباب تأخر العرب منذ ما يزيذ عن قرن والنصف قرن.
من ينكر الآن أن المشترك الأطروحي، بين المثقف العربي المهووس بتقدم العرب والمستشرق، هو الثبات؟ الفرق القائم بينهما أن المثقف العربي يريد أن يزول ضباب التأخر التاريخي من طريق العرب ليسرعوا الخطو أملا في اللحاق بركب التاريخ الكوني الذي لا يعرف التوقف، أما الثاني فيرى في الثبات سمة جوهرية للتاريخ العربي، وبالتالي فرؤيته برانية تقرأ تاريخ العرب عبر مفاهيم انتجها الغرب الاستشراقي وثقافته الإمبريالية.
ينكتب كتاب "الشيخ والمريد" ضمن هذا التصور، فهو يرسم حفريات معرفية في أصول التسلطية العربية، منتقدا التصور الاستشراقي الانقساميsegmentariste في تحليله للسلطة العربية، وتحديدا في المغرب(4). ليمر إلى الحفر في جدور المتأصل الانتروبولوجي السياسي الذي يشكل النسق العميق للتسلطية العربية، وبنيته العميقة والمقصود نسق "الشيخ والمريد".
2 - المدخل الثاني
يقودنا ما سلف ذكره إلى طرق باب المدخل الثاني الذي يؤطر في العمق كتاب "الشيخ والمريد" فالكتاب محكوم بخلفية ثقافية وتاريخية وحضارية تتمثل في انتماء عبدالله حمودي إلى هؤلاء الكتاب في دول العالم الثالث وبعد الاستقلالات الوطنية لشعوبهم "يعزون معظم التصرفات البربرية الراهنة والطغيان والانحطاط في بلدانهم إلى تواريخهم الاصلانية ذاتها، وهي تواريخ كانت على درجة عالية من السوء قبل الاستعمار ثم انقلبت إلى حالتها السابقة بعد انتهاء الاستعمار"(5).
وإذا كانت القوميات يضيف إدوارد سعيد رغم كل نجاحاتها بسبب نجاحها في تخليص أقاليم كثيرة من أسيادها الاستعماريين، فإنها ظلت تمثل اشكالا سياسيا عميقا، فحين أخرجت القومية الناس إلى الشوارع في مسيرات ضد السيد الأبيض، كانت في كثير من الحالات بقيادة محامين واطباء وكتاب كانت القوة الاستعمارية هي التي شكلتهم جزئيا وانتجتهم إلى حد ما. لكن ما حدث بعد الاستقلالات الوطنية في دول العالم الثالث انحراف تاريخي وسياسي إذ مالت "الطبقوسطيات ونخبها المتخصصة، التي تحدث عنها فانون بلغة منذرة مخوفة، في الواقع الفعلي إلى استبدال القوة الاستعمارية بقوة جديدة طبقية المقومات ومستغلة في نهاية، ومستغلة في نهاية المطاف، نسخت البنى الاستعمارية القديمة في إطار مصطلحات (ومعطيات) جديدة . تتمة دول عبر العالم الذي كان خاضعا للاستعمار بأسره أنتجت مرضيات القوة pathologies of power كما يسميها إقبال أحمد".(6).
3 - البنية العميقة: نسق الشيخ والمريد وتمفصلاته العميقة
يرتهن تاريخيا ومنهجيا كتاب "الشيخ والمريد" بسؤال السلطة في النسق الثقافي للسلطة العربية ومنذ البداية يحدد عبدالله حمودي الأطروحة التي ستوجه حفرياته المعرفية في نسق التسلطية العربية قائلا: "كيف يمكن مواجهة السلطوية فكريا وعمليا؟" والمواجهة هنا تعني التحليل والتفسير."(ص7) ومن تم يرتهن السؤال بسؤال آخر "أستبد بالمثقفين العرب، قد تتنوع صيغ هذا السؤال إلا أنه يتخذ في جوهره الشكل التالي: كيف يمكن أن نفسر أن تحكم مجتمعاتنا، من المحيط إلى الخليج بنيات تسلطية. إنها انظمة ترفض التحكيم العمومي بخصوص المصالح والصراعات في إطار مؤسسات نابعة من المجتمع المدني، بحيث إن المركز السياسي الوحيد يباشر توزيع السلطات والموارد، وفقا لتوازن تحدده أجهزته الخاصة." (ص16)
ما هو هذا المركز السياسي الوحيد الذي يؤثث في العمق المسار التوليدي السياسي للنسق الثقافي للسلطة العربية؟ إذا ما نحن اعتبرنا، مع أ. ج كريماص وج. كورتيس، أن كل موضوع سيميائي يمكن أن يتحدد تبعا لصيغ إنتاجه، بحكم أن المكونات التي تتدخل في صيرورة هذا الإنتاج تتمفصل فيما بينها لتشكل هذا الموضوع في بنائه السيميائي، وهذا يعني أن انتاج الدلالة يتمفصل بين بنية عميقة وبنية السطح. والانتقال من بينة العمق -القعر- إلى بنية السطح يمر عبر تمفصلات سيميائية عميقة محكومة بالتركيب الخطابي وعناصره التي هي صوغ بنيات الممثلين Actorialisationوالتفضية Spatialisationوالتزمين Temporalisationوبطبيعة الحال فالتركيب الخطابي يمر عبر محفل التلفظ أو المرسل المتعالي - السلطة المتعالية التي تصوغ الخطاب وتلزم الاحياء – الافراد بلعب الدور المسند إليهم تحت طائلة الزجر. ما يلاحظ على عملية صوغ الخطاب انها محكومة في تجلياتها بجدل الاتصال بموضوع قيمة أو الانفصال عنه.(7)
لنلاحظ التمفصلات العميقة لنسق السلطة العربية الثقافي كما يطرحها عبدالله حمودي والمسارات السيميائية والسياسية التي تقطعها لتتجلى. ما هي البنية العميقة التي تؤثث في العمق الحفريات الانتروبولوجية التي يرسمها عبد الله حمودي؟ إنها تتمثل في المحور الانتروبولوجي التالي: الشيخ والمريد. وعندما نخضع سيميائيا هذا المحور لتمفصلاته العميقة وبناء على جدل الاتصال والانفصال فإن بنيته العميقة ستتخذ المسار التالي:
المريد U الشيخ← المريد Лالشيخ.
حتى يمر المريد من حالة الانفصال بالمشيخة إلى الاتصال بها وتحوله من مريد إلى شيخ لا بد له من تحولات وقطائع في حياته الاجتماعية للاعتراف به. جدل الاتصال والانفصال محكوم بمحكي- مجهريMicro-récit تتحول فيه رحلة بحث المريد عن قيم المشيخة إلى مسار يبدأ بالكفاءة ويختتم بالإنجاز. أي لابد من اختبار مؤهل واختبار حاسم ليتم الاعتراف به للمرور إلى الاختبار المتوج. بطبيعة الحال لا بد من مرسل ومرسل إليه يوجه عملية البحث عن المشيخة. في هذه الحال يتحول المريد إلى مرسل ومرسل إليه. من يكون المرسل المتعالي الذي يوجه المريد ويملي في الخفاء عليه كل الأدوار العاملية التي يتوجب عليه أن يتقمصها إن أراد أن يصير شيخا؟. إنه نسق "الشيخ والمريد" والذي لا يمكن الاتصال بقيمه دون المرور باختبارات أولها كما سبق الذكر الاختبار المؤهل* الذي يقتضي تحولا يقطع مع اليومي والمعتاد وتتويج هذا التحول بالقطع مع الجماعة التي ينتمي إليها.
قبل الدخول في تحليل مسار التعلم، لا بد من التفكير في المرحلة السابقة عن بداية مسار التعلم. يقول عبدالله حمودي: "غالبا ما تتكشف الميول إلى هذا النوع من الحياة في أوقات التحولات، عند الخروج من المراهقة أو بعد دراسات متألقة في علوم الظاهر، أو عشية الارتباط بحرفة، وأحيانا مباشرة قبل الزواج، وبالنسبة للغالبية، تنكشف الميول إجمالا عقب الدخول في سن الرجال، ويضطر البعض إلى التخلي عن الحرفة والأبناء ويرتاد المغامرة. وقد يرتمي آخرون في هذه المغامرة عقب نكبة أو مصيبة".(8) ما يهم في هذا الإطار أن برنامج القطيعة مع الجماعة التي ينتمي إليها –المريد- تتوجها الجماعة بالزجر لما أحدثه "تحدي" المريد من إهانة لشرف الجماعة، وهو ما يثبته سي الحاج علي عندما عاد يتسول في قرية أسرته: حيث أنه قبض عليه ووضع في "قيد ولطم لطما متكررا، غير أن هذا لم يثنه، فقد أصر على تسول قوته بصوت عال".(ص118)
رحلة البحث مغامرة محفوفة بالمخاطر. وبما أن المغامرة هي رحلة بحث تبتدأ بالذهاب- والتنقل نحو أمكنة لمواجهة المخاطر بغية الحصول على موضوع قيمة-ثم تنتهي الرحلة بالعودة-الرجوع إلى نقطة الانطلاقة. قد يتساءل متسائل ما هي نوعية المغامرة-التي يقودها البطل-الذات(المريد) وضد من يخوض المواجهة والصراع؟ في الواقع، وهذا ما تكشف عنه حفريات عبدالله حمودي، إن رحلة المريد رحلة في قلب المجتمع ومغامرة ضد قيمه لفترة ما ثم العودة "الواعية" إلى المجتمع -الجماعة- للاعتراف به كشيخ له سلطته الدينية والثقافية. تبدأ مغامرة المريد بالانزياح عن تصرفات الرجل العادي، ذلك أن هذا الأخير يندمج في "مجموعته البشرية (قرية، قبيلة، حي، مدينة.) بالزواج وممارسة شغل باكتساب سمعة ودور. وحين يكبر يشغل مواقع ضبط الحياة اليومية واعتدالها، أما المرشح للمشيخة والقداسة فعكس ذلك. إنه يهجر مجموعته، ويفسخ علاقته بالأماكن التي يثبت فيها الرجل العادي قيمته ومكانته. فليس الرسو/ الاستقرار/ التجذر هو الأهم بل الحركية، وهذا سبب يأس الأسر من الأفراد الذين يدفعهم هاجس ركوب الطريقة الصعب. (ص179).
المواجهة مواجهة بين نسقين، بين الفرد الجماعة، يسعى بواسطتها الفرد المريد إلى الانفصال عن الجماعة. وكما تكشف عن ذلك سيرة سيدي الحاج علي الدرقاوي، إن الأهم يكمن في تزمين وتفضية رحلة البحث ذلك "أن الخروج من أجل التلقين يترجم عمليا، بالتخلي المذهل والعاجل عن القيم التي تتحكم في اليومي. فعوض الزواج يفر الطالب من القرية وبيوتها، وعوض العمل لكسب القوت يحتقر كل نشاط مكسب، وبعيدا عن أي تراكم يعهد بحاجاته إلى الله، وعوض الاستقرار يختار التحرك والسياحة والتجوال، وعوض الإخلاص إلى عشيرة أو قبيلة أو دولة، ينتفض بحثا عن شيخ وعن جماعة لدنية، فيعبر فضاءات يعتمد فيها فقط على آثار كشوف وتجليات ماضية، أو على علامات فتوحات روحانيةّ. (ص117). القطيعة مع الجماعة لحظة الاختبار المؤهل وقبول الانتماء إلى نسق الشيخ والمريد لا يمكن، وكما سلف الذكر، أن يمر دون ازعاج الجماعة وسلطاتها المعنوية والسياسية. (ص117).
تنتهي مرحلة القطيعة مع اليومي والجماعة بالاتصال بالشيخ-المعلم. لتبدأ المرحلة الثانية الحاسمة في تلقين وتعلم المريد، وما يميز هذه المرحلة هو خضوع المريد لسلطة الشيخ، ذلك أن المريد "المتعطش للمطلق"(ص179)، عليه أن يجل ويتواضع أمام الشيخ، وهذا الإجلال والتواضع عليه أن يلازماه طوال مرحلة ملازمة الشيخ-المعلم(9). لكن ما يميز مسار تلقين المريد في علاقته بالشيخ والزاوية هو ذلك الخضوع المطلق تجاه الشيخ باعتباره ينبوع السلطة الثقافية والدينية التي يتعين الامتثال لها وإذا "كان الشيخ لا يقوم إلا بتنفيذ مشيئة الله، فإن "العناية الإلهية وحدها تحرر المريد من المهام الواجب عليه تنفيذها، وتصل درجة خدمة الشيخ وطاعته حدودا قصوى "لا تقل إدهاشا ومفاجأة لحساسيتنا وللمعايير والممارسات المقبولة". بل إن صيرورة التلقين تنفتح على صيرورة التأنيث، تجعل الاتصال بالشيخ تصل العلاقة الجنسية، ويغدو المريد امرأة لفترة معينة. يتعين عليه أن يتقمص دور الخنثى إنه رجل وأمراة في الآن ذاته، وهو دور عاملي يتوجب على المريد أن يحققه في صيرورة التعلم قصد الاعتراف به. إنه "إحبال المريد في إطار دينامية تكوين تشبه الانجاب. فمن الشاب الذي يهرع نحو الشيخ، الذي يحدث اللقاء به بلبلة في الحواس، يولد شيخ، وإجمالا، فالشيخ يؤنثه كي ينتج اللدنية فيه:إنها استعارة الإخصاب والحمل والولادة".(ص181). بهذه المرحلة نصل إلى مرحلة التتويج والاعتراف التي تتمثل في نهاية محكي البحث والمغامرة بالاتصال بموضوع القيمة المشيخة.
ما يهم في هذا الإطار أن العلاقة القائمة بين الشيخ والمريد محكومة بالأبوة المطلقة التي يدعيها الشيخ(في علاقاته بمريديه) هي نفسها التي يمارسها الزعيم في علاقاته برعاياه. (ص183)
4 - النسق وتبديله السيميو-سياسي
على الرغم مما يثير مفهوم التبديل السيميائي conversion sémiotique من قضايا ابستمولوجية في عملية تبنين الخطاب وتمفصلاته العميقة على مستوى المسار التوليدي(10)، فإن أهميته في ضبط تَبَنيٌنات الخطاب وتجلياته تبدو حاسمة في رصد رهانات المعنى. فالتبديل عملية خطابية تطرح أثناء إنتاج الخطاب عملية تبنين المعنى من البينة العميقة إلى بنية السطح وهذه العملية تنطلق من البنية الأولية للدلالة، أي البنية العميقة ن ثم تتدرج صعدا نحو تجلياتها في الملفوظ كخطاب يحكي عن شيء ما في الزمان والمكان ومحكوم بعملية الاتصال والانفصال(11). وهذا ما يلاحظ على نسق الشيخ والمريد، فالمحور الدلالي شيخ/ مريد كبنية عميقة تنظم النسق السياسي للتسلطية العربية، محكوم في تمفصلاته العميقة بجدل الإثبات والنفي فلكي يمر المريد إلى حالة الاتصال بموضوع القيمة-المشيخة-لا بد أن ينفي حالته السابقة والمتمثلة في القطيعة مع اليومي والمألوف لينتقل إلى حالة أخرى هي بدا مسار الإثبات أهليته لولوج عالم الزاوية والشيخ. ومن تم وهذا هو المهم في النسق الانتروبولوجي للتسلطية العربية إن" علاقة الشيخ بالمريد هي العلاقة النموذجية لعلاقات السلطة الأخرى، ومن خلالها تظهر تطابقاتها البنيوية مع تلك العلاقة(ص12) .
ويلاحظ عبدالله حمودي أن عملية تبديل نسق الشيخ والمريد في تمفصلاته العميقة على مستوى بنية السطح في الخطاب السياسي للدولة المخزنية في المغرب "أن المقولات نفسها، من خدمة وطاعة وتقرب، التي تتحكم في العلاقة بين الشيخ والمريد، تشكل مواقف خدام الملك - دار الملك، أو على الأقل رغبات الزعيم إزاء رجاله. ومن هذا المنظور فالنخبة الدينية والنخبة السياسية والبيروقراطية تمتثل للقواعد والمعايير نفسها التي تميزها عن الرجال العاديين. وأخيرا فالمريد وخدام الدولة يعتقدون من خلال ممارستهم والعادات الخاصة التي يتمثلونها أنهم يقتربون من النجاح بالوفاء والطاعة للشيخ/ الزعيم وليس بالمجهود والعمل الشخصيين"(ص122).
إن صيرورة التأنيث التي تميز مسار المريد في المرحلة الحاسمة للتعلم تكشف إلى أي حد "يبدو أن الشيخ والمريد يجليان وجهين للالتباس متصلين بالغيب (وهذا معنى الولاية) من خلال الجمع بين المبدأين (الأنثى والذكر)، والحال أن حضورهما المستمر بصفته تسنما للدنية لا ينقطع، هو الذي يدعم المجتمع المغربي، وتواصل هذه العشيرة النموذجية، الشبيهة بتلك التي أحدثتها النبوءة، الارتواء من ينابيع حياتها بفضل معجزة وجوه خنثوية."(ص182) هذا المسار التأنيثي يجعلنا ندرك، يضيف عبدالله حمودي، "الصلات التي يمكن أن نقول أنها استثنائية- بين المجموعة التي يشكلها الشيخ ومريدوه، والمجموعة التي تشكلها دار الملك وزعيمها من جهة أخرى، فالملقن الصوفي يتزين بلقب الشيخ، وهو لقب يتمتع به كل أولئك الذين يستندون إلى رفعة أو استعلاء "شيخ علوم الظاهر وبالباطن، والشيخ الصانع، وشيخ القبيلة، وشيخ الحي، وشيخ المرأة (أب زوجها)، والشيخ أو القيدوم الذي يحوز السلطة و"حقوق الاستغلال" الأخرى في التجمعات البشرية. وهذا التعدد الدلالي الموحي يوسع لائحة المقولات التي تعمل على نشر القوالب والصيغ الطرقية والصوفية في الحياة الاجتماعية والسياسية العادية. وفضلا عن ذلك، فالأبوة المطلقة التي يدعيها الشيخ (في علاقاته بمريديه) هي نفسها التي يمارسها الزعيم في علاقاته برعاياه. (ص182) في كلتا الحالتين هنا مركز جذب ينظم حركة الاعتراف والانتماء من جانب الشيخ/ الزعيم. لا اعتراف دون شيخ/ زعيم، وفي هذه الحال تتحول العلاقة بين الشيخ والمريد إلى بنية ثقافية انتروبولوجية عميقة تنظم كل مناحي الحياة الاجتماعية لتتحول الدولة إلى زاوية كبيرة، أو تحول مُكَبَر لثقافة الخضوع في الزاويا(11).
ما تكشف عنه حفريات عبدالله حمودي أن سلطة المرجع محكومة بنسق-الشيخ/ الزعيم هذا الواحد المركز الناظم لحركية النسق السياسي، صحيح، أن عبدالله حمودي يفسر حركية النسق السياسي المغرب ضمن تفسير كلي Holiste يرجع صيرورة هذا النسق ونشأته إلى نسق الشيخ والمريد(12)، لكن حفرياته تفتح أمام الفكر النقدي العربي والثقافة العربية مدخلا انتروبولوجيا لنقد التسلط في المجتمعات العربية ولا شعورها الانتروبولوجي السياسي، ذلك أن قراءة مستويات التماثل بين الشيخ والزعيم والنسق السياسي للتسلطية العربية ونسق الشيخ والمريد قائلا في مقطع طويل نسبيا، يصف النسق السياسي المغربي، نورده لأهميته في الكشف عن مستويات هذا التماثل، "إن الأعيان هم الزعماء الطبيعيون، في إطار نموذج للسلطة يفرض نفسه ويقوم بالوساطة مع الممثل الأسمى الذي يقود الأمة، ويمتلك هذا الأخير، خلافا للأعيان كل الوسائل "القهرية والرمزية في الآن نفسه، وله سمات من القداسة وينتمي إلى سلالة لدنية لا تشاركه فيها إلا قلة من الأعيان. وكل الذين يتحلقون حول هذه الصورة المركزية من دار ملك ومستشارين وحكومة وأحزاب وثقافات وشعب ليسوا إلا "تلاميذه" وهو الشيخ والزعيم و"السيد".(ص61)
وإذا كان التقرب من الشيخ معناه التقرب من سلطة ثقافية لابد من الامتثال لها لتعترف به، فإن الشيء نفسه ينسحب على علاقة التلاميذ مع دار الملك ذلك أن "ولوج عالم الأعيان معناه التقرب من هذه الصورة المركزية ونيل رضاها ويحظى الأعيان المهمون بالوصول المباشر إلى شخص الشيخ الذي يشع نوره. والذين يحققون هذه الخطوة يصبحون جزءا من دائرة المريدين، ويقلدون أنفسهم وظيفة (منشودة جهارا) وهي تأويل فكره وتفسيره."(ص62) وهكذا يضيف عبدالله حمودي شارحا عملية التبديل السيميو-سياسي لنسق الشيخ والمريد قائلا: "الحكومة تطبق التعليمات، والبرلمان يسجل القرارات الناضجة في إطار دائرة محصورة من الأوفياء. فكلهم "خدام". ولكي يصير الشخص "خديما"، وهو شرف يحسد عليه، لابد له من مخالطة طويلة ومن خضوع تجليه سلوكات التواضع والصغارة في حضرة الشيخ. ويتجسد إبراز هذه الآلية الحيوية، التي تقع في مركز ممارسة هذا النوع من السلطة، في مسرحة الخضوع والصغارة بتقبيل اليد الذي على الأعيان أن يقوموا به في كل المناسبات الخاصة. ويتم تضخيم هذا المشهد وترسيخه بإيصاله إلى البيوت عبر وسائل الاتصال. فممارسة السلطة، بصفتها طاقة حية، تتخذ هنا شكلا واضحا".(ص64)
هذا فيما يتعلق بالمغرب. ماذا عن مصر؟ يجيبنا عبدالله حمودي قائلا: "أما في مصر، وبما أن الشيخ كان سيد المريدين، فإنه لم يجرؤ أحد من المريدين أن يسمو إلى مقامه، وبذلك كان عبد الناصر وحيدا، وظل كذلك حتى وفاته، ولم يبرز علي صبري والشافعي وجمعه بوصفهم رجالا أقوياء محتملين إلا في حرب "الخلافة" التي قادوها ضد ذلك المخلص الآخر منذ وقت مبكر، وهو أنور السادات بوضعية باهتة، وقد فجر نزاع الإرث تنافسا ظل مكبوتا لمدة طويلة، وتذكرنا هذه الظاهرة بالمنافسة بين الإخوة، وبضراوة الصراع داخل الزوايا بعد وفاة الشيخ".(ص226)
أما في الجزائر كما في المغرب فيكتب عبدالله حمودي قائلا: "يتم تكوين أتباع مخلصين للشيخ، ويعهد إليهم بمهام حكومية، وعلى هؤلاء الأتباع أن يتركوا كل الارتباطات القديمة مع الاحتفاظ بالصلات التي تربطهم بمجموعاتهم البشرية الأصلية، وكذا بآدابهم وأخلاقياتهم، وهي شروط ضرورية لإقامة كل الحلقات التي تتشكل منها سلاسل التوسط والرعاية. يصف مقاوم كبير عاش وقائع التسلط الجزائري في بداياته، تكوين الأتباع على يد زعيم مهيب ينتمي إلى جبهة التحرير الوطني، وهو بوصوف، الذي كان شيخ من سيصير فيما بعد رئيسا (ونعني بومدين)، فيقول: "إنه متجذر في البلدة. يعرف، مثل قياد الماضي، كيف يخلق أنصارا لا يصيرون له خداما فحسب، بل أدوات سلطة ونفوذ كذلك، إنه يخلق مريدين."(ص212)
وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن عبدالله حمودي يسعى في حفرياته المعرفية في أصول الدولة المخزنية يسعى إلى تجاوز كما سلف الذكر التصور الانتروبولوجي الاستشراقي الانقسامي وبالتالي تصبح الدولة دولة معاصرة مستثمرة بقيم الدولة المخزنية التقليدية. متجاوزا بذلك رؤية ارنست جلنر الانقسامية التي تقرأ تاريخ المغرب ومعطياته الانتروبولوجية بناء على رؤية قبلية تقرأ النسق السياسي المغربي قراءة انقسامية، تسم المجتمع المغربي بمجتمع اللا-دولة. وتأتي خلاصات الكتاب لتعمق من سؤال التبديل السياسي conversion politique للبنية العميقة المتمثلة في نسق الشيخ والمريد على مستوى الممارسة السياسية والنسق السياسي للدولة العربية. وهي خلاصات تؤكد الموقف الذي دفعنا إلى القول أن حفريات عبدالله حمودي لا يمكن عزلها عن الانتروبولوجيا ما -بعد الكولونيالية والتي تكشف إلى أي حد أن الممارسات التسلطية في المجتمعات العربية نابعة من التاريخ الأصلاني للشعوب العربية، ذلك أن إنتاج وإعادة- إنتاج نسق الشيخ والمريد يجعلنا نقف أمام بنية سياسية تؤثث في العمق الممارسة السياسية وتجلياتها في كل البلاد العربية وهي بنية يمكن أن ننظر إلى مكوناتها من خلال خمسة مظاهر.
أولا : حصر سلطة اتخاذ سلطة القرار في مجموعة صغيرة من الرجال يبرز واحد فقط على الساحة العمومية. وبلغة انتروبولوجية سياسية إننا أمام سلطة الواحد- الشيخ.
ثانيا: حرمان المجتمع المدني من وسائل مؤسسية يمارس بواسطتها المراقبة على جهاز الدولة، وبالمقابل يسيطر علي المجتمع المدني جهاز قمعي أو رقابي متطور ومتشعب. أي أننا أمام دولة استبدادية تلتف سلطتها المطلقة في الزمان والمكان على مؤسسات المجتمع المدني وعسكرته. وهو ما يؤدي بنا إلى المظهر الثالث من بنية التسلط وذلك عندما تصبح المجتمعات العربية ملزمة بالتقيد المطلق نسبيا "بما تعتبره: أعراف الشعب" ويرافق هذا اللزوم لزوم التعلق المعلن بإيديولوجية محددة. وتحدد هذه الأخيرة عموما على أساس إثني أو ديني أو عليهما".
رابعا: ونتيجة لذلك تتحول الدولة إلى دولة طوطاليتارية تذيب التنوع، على كافة المستويات، في الوحدة وميتافيزيقا الهوية التي تذيب الاختلاف الايديولوجي والطبقي والمعرفي والإثني في إيديولوجيا الدولة المهيمنة والنتيجة، كما يقول عبدالله حمودي، "لا يسمح، باستثناء محاولات حديثة العهد، إلا بتنوع من الليبرالية تحدد المصالح الرسمية. فالدولة المتسلطة لا تسمح رسميا بتنوعات لغوية أو مذهبية أو إقليمية، فالنموذج عندها مجتمع متساو ومنسجم حيث يترك كل الأفراد "الواجب نحو البلاد: غير أن النظام يبني موقفا مزدوجا إزاء كل هذه التعدديات، إنه ينكرها رسميا أو يتجاهلها أو يقبلها في حدود، فيما يسخرها أحيانا، غير أن هذا لا يمنع الدولة من أن تنصب نفسها وسيطا وحيدا مسموحا به بين القوى السياسية والاجتماعية".(ص239)
نصل الآن إلى المظهر الخامس من تمظهرات بنية التسلط والمقصود تغلل بنية الطاعة والخضوع في الجسد الاجتماعي تجاه الرئيس/ الشيخ إذ "تتخذ الطاعة والقيام بالواجب أشكال خضوع تفاخري للرئيس أو القائد الأعلى ويتجسد السلوك في العلاقات البيروقراطية وفق هذه العلاقة الأولية: ففي كل نظام سلمي تراتبي يوافق الخضوع المطلوب من المرؤوس نشاط رئيسه وبسط سلطته. ونعثر على هذه الثنائية في كل مكان في البيروقراطية حيث الكل رئيس ومرؤوس بالمناوبة في سد الوظائف. فهذا التفاعل يمحو السلطة القانونية والمؤسسة في علاقة الهيمنة أو يضعفها". ص239 لكن أهم ما يميز هذا التبديل السيميو-سياسي لنسق "الشيخ والمريد" هو نمط الرؤية التي تنتج حول القائد الأعلى/ الشيخ ومسألة استخلافه، ايضا مسالة مراقبة جهاز الحكم، "فالقائد الأعلى هو الذي يمارس هذه المراقبة بواسطة حلقة مصغرة من الخدام المخلصين ينتقي منهم تابعا يكون أقرب الناس إليه، وهذا التابع هو ما يسمى في الأدبيات الرسمية والسياسية العربية"الرجل القوي" ومن تم يضيف حمودي لا يسير السياسة الداخلية والسياسة الاقتصادية إلا الرجال الأقوياء.(ص240)
لكن أهم ما يطرح في إطار العلاقة القائمة بين الشيخ والمريد هي أنهما يعيشان في علاقة ازدواج وتأرجح، وبما أنه "لا توجد قواعد موضوعة وتامة الوضوح تقنن عملية الاستخلاف، ولا مؤسسات ثابتة وقارة تسمح للمجتمع المدني بأن يلعب دورا توازنيا في المراحل الانتقالية، فإنه يظل من الممكن الانتقال من الطاعة المطلقة للرئيس إلى التخلص منه بصورة أو بأخرى . والنتيجة "إن السلطة الممارسة بهذا الوجه لا يعني أن الدولة التسلطية تعيش خارج المجتمع، العكس هو الصحيح، يضيف عبدالله حمودي، ذلك أنه يجب أن نسجل الثنائية الموجودة في علاقة الرئيس/ المرؤوس، والشيخ والمريد، والأب/ الابن تفعل داخل مركز العلاقات الاجتماعية وفي صلبها. (ص241) وكما يلاحظ القارئ فعلاقة التماثل بين نسق الشيخ والمريد ونسق الزعيم/ الرئيس/ الملك ومريديه/ خدامه وتابعيه تتخذ بعدا دائريا فهي تنطلق من حيث ابتدأت. إذ تتحول الزاوية بنسقها الثقافي وعوامله الثقافية-الشيخ والمريد-إلى مكون ثقافي بنيوي يشكل مدخلا لنقد الانتروبولوجيا المهيمنة للنسق الثقافي للسلطة العربية.(13)
ما هي وسائل مراقبة المجتمع التي تعمل بواسطتها السلطة العربية على الاستفراد بالسلطة السياسية والاقتصادية والإيديولوجية؟. هناك ثلاث دعائم/ وسائل للمراقبة هي التنمية الاقتصادية المتسارعة والايديولوجيا والقمع.(ص241) ففيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية المتسارعة يبدو أن الرهان فشل لسبب يتمثل في كونها أدت إلى "التبادل اللامتكافئ وانعدام مسايرة التقنية التي تحصل في العالم، وهذا يؤذي إلى الانفجارات الاجتماعية المطردة وإلى قمعها بواسطة القوة. وهذا ما يفسر سطوة الجيش في تاريخ العرب (18-23) ومن ثم يتحول الجيش إلى طريق ملكي للارتقاء الاجتماعي، وبما "أن السلطة تبقى هشة لا يمكن للقائد الأعلى أن يبني عليها سلطته، وهو ما يجعل اللعبة السياسية وقوانينها تتسم بالتناقض بحيث، "يستعمل الجيش لقهر الرأي والتشكيلات السياسية النخب الحاكمة إلى التحالف مع هذه التشكيلات كي لايتدعم الجيش بصفته يهدد الرئاسة.(ص241).
ها نحن إذن أمام سلطة الزعيم/ الشيخ القائد الأعلى في نسق السلطة العربية، ذلك أن القائد الأعلى يجسد وحدة الأمة، و"الويل لمن يمس حياته أو عمله بخطاب أو فعل وهو بذلك يتموضع مع الدولة التسلطية بين إرادة تسوية الأوضاع وإضفاء التجانس التام على الحياة الوطنية من جهة، والتنوع الذي تفترضه سلطة الرئيس من جهة أخرى فوظيفة التوسط بين هذه النزاعات ضرورية في تحديد مهام الرئيس".(ص241) بقيت مسألة الايدولوجيا. إن الدولة هي العامل المتعال الوحيد الذي ينتج الايديولوجيا، وتكريس التعلق بها عن طريق رموز مرئية كالألبسة الوطنية والتعلق بالتراث وكل المظاهر، بغية تكريس الخصوصية الثقافية للدولة التسلطية لتتحول الايديولوجيا إلى "إيديولوجيتنا"(ص241).
وتسعى إيديولوجيا الدولة التسلطية إلى نبذ كل ما هو دخيل وبالتالي تحارب الأفكار المناقضة للفكر السلفي كالليبرالية والاشتراكية وكل الأفكار التي يمكن أن تنافس إيديولوجية الثقافة السياسية المهيمنة، وبالتالي تعبر نزعة الرفض هذه لكل ما هو براني عن نزعة"الصفاء الإيديولوجي" الذي يجعل السلطة العربية تنزع نحو تجنب كل عدوى خارجية.(ص242)
5 - الشيخ والمريد وسؤال القطيعة
كما سبق القول يمنحنا كتاب حمودي تصورا انتروبولوجيا سياسيا للحفر وتفكيك النسق الثقافي لبنية التسلط في المجتمعات العربية. إنه كتاب يفكر من داخل النسق الانتروبولوجي المهيمن للاستبداد السياسي في المجتمعات العربية، ليؤكد تلك الصورة التي تميز الاستبداد الشرقي حيث السيطرة المطلقة للدولة التي تصبح أقوى من المجتمع.(14) يأتي كتاب حمودي ليحلل نشأة الاستبداد واستمراريته في البقاء بإعادة النظر في بعض مقولات الانتروبولوجيا الكولونيالية في تركيزها على صيغ التمفصل من دولة تقليدية إلى دولة حديثة (20 عبدالرحمان مصلوحي). وبالتالي فإن القرون الثلاثة الأخيرة من تاريخ المغرب تعتبر مرحلة مفصلية وميدانا لاكتشاف بشكل واضح المنطق الأواليات التي تتحكم في هذا الانتقال في المجتمعات الغير غربية. من هنا يأتي كتاب "الشيخ والمريد" لينقض تلك الثنائية الموروثة عن الانتروبولوجيا الكولونيالية والتي تميز بين مجتمع الدولة ومجتمعات اللادولة، وعلى عكس الأطروحة ذات النزعة التطورية développementaliste التي تريد أن تخضع "الحلقات الانتقالية" لمسار تراكمي لتوليد ونشأة الدولة المعاصرة، يكشف كتاب الشيخ والمريد أن الدولة المغربية هي نتاج لإعادة إحياء لقيم تقليدية واستخدامها كأشكال معاصرة لتنظيم السلطة. وبعبارة أوضح فالدولة الوطنية هي نتاج لعملية توفيق بين قيم الدولة السلطانية، والقيم التكنو-بيروقراطية الموروثة عن عهد الحماية. والنتيجة نسق سياسي غير مكتمل البنيان. ما بين صراع نسقين متناقضين من حيث الجوهر التاريخي والسياسي يولد نسقا متناقضا من حيث الشكل والمضمون. فلا نحن أمام مجتمع حداثي معاصر ولا نحن أمام مجتمع تقليدي. إنه مجتمع التناقضات.
تنكتب أطروحة عبدالله حمودي ضمن إطار –مشروع ثقافي، ميز الانتلجنسيا المغربية الشابة بين 1960 و1970، يروم نقد الانتروبولوجيا الاستعمارية ونظرتها الانقسامية لتاريخ المغرب والاستشراق، مع عبدالله العروي وعبدالكبير الخطيبي وبول باسكون. ما يهم في هذا الإطار أن نزعة التسلط كما يطرحها كتاب "الشيخ المريد" يتعين النظر إليها من زاوية الشيء ونقيضه، كل نظام كما يقول جورج بلاندييه يحمل في جوهره اللا-نظام* الذي يهدد ثباته(15). ومن تم يمكن مشكلة problématiser مفهوم النسق لأن كل تنظيم غير تام، عابر وغير مكتمل، يتعلق الأمر بدراسة الصيرورات المتعددة التي تكشف لنا ماذا تفعل التشكيلات الاجتماعية بالنظام واللا-نظام وأيضا باللا-نظام في علاقته بالنظام. فالمجتمعات التقليدية لم تكن مجتمعات نظام فقط بل كانت تحمل بين طياتها بذور عميقة للا-نظام وتهدد ثباته(16). وهو ما مثله ادب الأسطورة والالهة التي كانت تخرق صيرورة النظام، لكن اهم ما يكشف هذا التداخل العميق للنظام واللانظام هو أن خلخلة صيرورة ثبات النظام-النسق المهيمن-وهو ما تكشف عنه العصور الحديثة - يتم عبر إقحام التغيير واللا-نظام ي صلب النظام عبر إسقاط فعل اللانظام في متخيل اللا-نظامl'imaginaire du désordre والمتمثل في تطور مختلف الانتاجات الرمزية. لا ننسى أعمال روائية مهمة كأعمال الرائي عبدالرحمان منيف ساهمت إلى جانب اعمال رائية اخرى في تجيرر نسق الاستبداد.
إن تحليل عبدالله حمودي يدفعنا إلى التفكير من الزاوية الانتروبولوجية في صيرورة نظام الاستبداد والكشف عن الجانب النظامي فيه وذلك باختراق النسق الثقافي للتسلط العربي، وإذا ما نحن عدنا إلى متخيل اللا-نظام الذي يكشف عن رغبة الفرد والجماعة في خرق النظام بحكم انه يشكل سلطة مهيمنة، في هذا، ألا يمكن، وإن نحن استحضرنا ميخائيل باختين، اعتبار بوجلود كرنفالا سياسا يسخر من سلطة الشيخ والمريد؟ ما يهم أيضا أن كتاب (الشيخ والمريد) يدفعنا إلى التفكير في سؤال القطيعة عبر النقد الانتروبولوجي للنسق الثقافي للاستبداد أي أن القطيعة مع التسلطية تبدأ بنقد مكونات البنية الفوقية للدولة التسلطية، بالمعنى الجرامشي للبنية الفوقية، والانتروبولوجيا السياسية مساهمة ثقافية في الكشف عن المكون الانتروبولوجي للتسلط في المجتمعات العربية للكشف عن الانتروبولوجيا المهيمنة التي تنتج وتعيد- إنتاج الاستبداد. صحيح ان الزاوية كان لها دورها السياسي الذي يصل إلى حدود الصراع الخفي بينها وبين المخزن والسلطان(17)، لكن ما يهم هو أن هذه الأخيرة كمؤسسة وكبنية من البنيات المشكلة للنسق السياسي للمخزن، تشكل تابتا بنيويا وسياسيا واجتماعيا و، هذا هو المهم، انتروبولوجيا في صيرورة النسق الثقافي للمخزن كما يطرحه حمودي.
والواقع أن كتاب (الشيخ والمريد) يسعى إلى توجيه نقد للنخب الحاكمة في المجتمع العربي، فبماشرة وكما سلف الذكر مع إدوارد سعيد مالت النخب الحاكمة إلى التفرد بالسلطة واستبدلت القوة الاستعمارية بقوة جديدة طبقية المقومات ومستغلة في نهاية ومستغلة في نهاية المطاف، نسخت البنى الاستعمارية القديمة في إطار مصطلحات (ومعطيات) جديدة. في حالة المغرب، وهذه ملاحظة عبدالله حمودي، رغم ان المنظمات السرية قامت باغتيال او إخفاء رفقاء الكلاوي، مثل القايد الشتوي والكلاوي وغيرهم من القيادات غير أن معظم أعضاء هذه الشبكة نجوا من الاعصار الذي لم يمس أعوانهم من "خلايف وشيوخ ومقدمين وجرايا".(ص361) المعضلة تكمن في كون النخبة الحاكمة بعد الاستقلالات الوطنية قتلت المجتمع المدني وتمت عسكرته، وتمت العودة في إطار الدولة المستقلة إلى إحياء الممارسات السلطوية للاستعمار، وإحياء الموروث السياسي للدولة السلطانية القديمة في حالة المغرب. في مرحلة الاستعمار كرس الاستعمار الفرنسي تسلطا على المغاربة يقول حمودي: "تكمن خصوصية النظام الكولونيالي الجديد بالمغرب في جعل زعماء الأهالي تحت الوصاية، وبتركيز السلط في أيديهم على حساب مجالس القرى والقبائل (الجماعة)، والحق أن التطور في هذا الاتجاه كان قد رسم حتى قبل عقد الحماية (1912). (ص142) أما في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت الوصاية على المغاربة مزدوجة "وصاية الضابط المراقب الفرنسي ووصاية رئيس الأهالي (المدن) بلديات البشوات. أما القايد فيمارس (حكمه) بتعاون مع ضابط شؤون الأهالي. (ص143)
لكن ماذا حدث بعد الاستقلال؟ يجيب عبدالله حمودي قائلا: "أعيدت بنينة الجهاز الموروث من الحماية بسرعة وتم الاستيلاء على الموارد الأساسية بغرض تأسيس اقتصاد سياسي وفي ظل هذه الشروط تآكلت مكتسبات المجتمع المدني كما أن علاقة الرعاية التي اختفت وقتا ما أمام أخلاقيات المساوات (خلال الكفاح) والتي تخفت وأسقطت على الحزب المعادي وكانت آفته، عثرت من جديد على المصداقية والمعقولية"(ص169)، وباختصار فالأمر يتعلق هنا برؤية تحاول أن تتجاوز التلفيقية السياسية التي تميز بنية الدولة العربية في علاقتها بالشعوب العربية والأفراد(18)، إذ أن المرور إلى الاستقلال لم يصاحب باستقلال ثقافي للنخبة الحاكمة، وما يلاحظه علي الكنز على الحالة الجزائرية يمكن أن يسحب على كافة الدول العربية ونخبها الحاكمة. ذلك أن الانتقال إلى الاستقلال –أو الاستقلالات الوطنية- لم يكن انتقالا بنيويا تاريخيا.
ركزت النخب الحاكمة على الاقتصاد وأهملت الإبداع الثقافي والفكري ولم "تعتن بالإعداد الايديولوجي وخوض معركة نشر أشكال جديدة من الإدراك والوعي، وهي الأشكال التي بإمكانها أن تعطي واقعية أكثر لتشكل الطبقات، غير أنه لا ينبغي أن نعد ذلك بمثابة المفاجأة ذلك أن هذه الأشكال من الإدراك والوعي تركت لتعاليم الإسلام الذي ورث منه، علاوة على هذا، مبدأ سيادة الأمة على الموارد ومصائر الأفراد. هذه السيادة التي تدافع عنها الدولة القوية الجديدة. فقد تركت أشكال الإدراك والوعي لممارسة ثقافية يتحكم فيها تقليد أعيد ابتكاره في سياق المواجهة مع القوة الغربية". (ص208)
إذا كان امتلاك المعرفة يشكل جوهر بحث المريد ليتحول إلى شيخ وبالتالي اكتساب الاعتراف النهائي من طرف السلطة الثقافية للشيخ وبالتالي يمتلك الشفرة الثقافيةcode culturel التي تجعل الجماعة تعترف به، فهذا يعني أن المعرفة تتحول إلى رهان انتروبولوجي عميق يضبط العلاقة بين السلطة والفرد والمجتمع، لكن ألا يمكن النظر إلى المعرفة ومن زاوية تعالق السلطة والمعرفة على أنها، وكما يرى ديل ف إكلمان Dale F Eickelman، اكتساب لعلوم الدين. فبالإضافة إلى أن اكتساب علوم الدين هي تأكيد ثقافي وتميز للطالب بلغة إكلمان والمريد بالنسبة لحمودي، فإن القراءة السياسية والاجتماعية لهذا الاكتساب للعلوم الدينية لا يتوقف عند ما هو معرفي بل يتجاوزه نحو ما هو اجتماعي في مغرب ما قبل الاستقلال وما بعده أيضا، ذلك أن امتلاك معرفة علوم الدين يتضمن علاوة على ذلك "الانخراط في شبكات اجتماعية مكونة من أشخاص ذوي حيثيات متنوعة ومن مناطق مختلفة من المغرب، ومن تم فإن هذه الشبكات شكلت في حد ذاتها مراكز للسلطة أو كانت تفتح أبواب مراكز النفوذ والسلطة للمنخرطين فيها. ولم تكن هناك إمكانيات أخرى، من غير العمل في حاشية السلطان، وبالتالي ويمكن للفرد الوصول إلى مثل هذه المجالات النافذة، وبديهي أن المعرفة بعلوم الدين كانت أساسية للقيام ببعض الوظائف مثل القضاء والعدالة والكتابة لدى الحكومة أو تدرس علوم الدين. ويضيف إكلمان قائلا: "غير أن هذه المعرفة منحت أصحابها أيضا قواعد انطلقوا منها للقيام بالعديد من النشاطات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتخطى المجال المحلي. وقد بقيت هذه المعرفة تضطلع بهذا الدور مل لم توجد بدائل كبرى يستعاض بها عن التعليم الإسلامي العالي أو بقيت إلى الحين الذي وجدت به تلك البدائل".(19)
ألا يمكن في نهاية المطاف اعتبار العلاقة القائمة بين الشيخ والمريد من الزاوية النفسية-الانتروبولوجية قطاعا من قطاعات اللاواعي في الذات العربية"(20)، خاصة إذا ما اعتبرنا أن الشيخ يشكل نمطا مثاليا type idéeal يشكل التعلق به ومصاحبته، وهو حيا، رغبة في السمو إلى مرتبة هذا الكائن الذي يجسد المثال بكرامته، أو ليس تشبت التسلطية العربية بنسق الشيخ والمريد هروب من النظرة الموضوعية تجاه التاريخ وخوف النخب العربية الحاكمة من تجاوز التصور التقليداني تجاه الدولة على اعتبار أن هذه الأخيرة تشكل ميدانا لتربية النوع الانساني وترسيخ ثقافة الحرية والديمقراطية واصول مجتمع مدني يراقب شطط السلطة والاستبداد في المجتمعات العربية.
يمتلك الشيخ مكانة اجتماعية ودينية تجعل منه سلطة ثقافية لاهوتية، وبما انه كذلك فهو يمتلك سمات sémes دلالية ترفعه إلى مصاف هذا المحفل المتسامي مركز فيض البركة والكرامة، لشيوخ الزوايا دورهم الاجتماعي الاصلاحي والوطني وهذه حالة المغرب، لكن الا يمكن اعتبار استمرارية الشيخ وكراماته ترجمة للجانب الاخر من الصورة فالكرامات، كما يقول علي زيعور، هي "الجانب الكامن من الذات العربية إنها القطاع المقنع المختفي المبني، المهمل والمضمر في التاريخ والذات".(21)
هوامش:
1-عبدالله حمودي، " الشيخ والمريد –النسق الثقافي في المجتمعات العربية الحديثة- يليه مقالة في النقد والتأويل- ط4-2010. دار توبقال للنشر- ترجمة عبد المجيد جحفة.
2-أحمد علي سعيد-أدونيس، "الثبات والمتحول، بحث في الأصول والإبداع عند العرب. ج1، الأصول، دار العودة بيروت، 1974. ط1.
3-علي حرب، "أوهام النخب" لمثقف"نط3، 2004ن المركز الثقافي العربي.
4- E. Gellner, Les saints de l’Atlas, Paris, Bouchêne, 2003, p. 41. Dans un dernier essai (Conditions of Liberty. Social Society and its Rivals
5-ادوار سعيد، الثقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبوديب، دار الآداب، ط4، 2004. ص281.
6-نورد النص المترجم والمستشهد به هنا بالإنجليزية
instead the main issue for contention was whether things in the third World hadn't in fact declined after the colonies had been emancipated, and whether it might not to be better on the whole to liten to the rara –luckly, I might add; extremely rare-third World intellectellectuals who manfully ascribed most of tyeir presents barbaries, tyranies, and degradation to of their own native histories, histories that were pretty bad beffore colonialism and that reverted to that state after colonialism.
Edward. w. said-Culture and Imperialism. Vintage Books A division of Randon House inc-New york-1994-p21
7-A. J. Greimas-J. Courtes-Dictionnaire raisonné de la théorie du langage-hachette. 1979. Article . Objet .
8-من مظاهر هذا التواضع أن المريد إذا قدم للشيخ أكلا وقف المريد على الباب "، ينتظر بقايا وجبة الشيخ التي لتهمها والسعادة تغمره. فالمريد لا يأكل مع شيخه، ولا يقاسمه غرفته، ولا يمد رجليه ولا يضحك في حضرته، وعليه أن يطأطأ رأسه الإطراق التام)، فهذه قواعد سلوكية تعلن عن المواقف التي ينبغي اتخاذها في كل ظرف وحين"(ص122). وتصل درجة الخضوع والإذعان للشيخ على درجات يصفها حمودي قائل
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |