هكذا تحدث نصر حامد أبو زيد / ابتسام القشورى
2015-01-06
بوفاة نصر حامد أبوزيد سنة 2010 خسرت الثقافة العربية واحدا من أهم مُفكّريها الذي ناضل من أجل انتصار العقل والاجتهاد على الجمود الفكري والجهل والخرافة، التي كانت ومازالت تنخر ثقافتنا العربية الإسلامية، فمن خلال دراساته في الفكر الإسلامي ومنذ اتخاذه الهيرميونيطيقا او ما سماه هو بالتأويل والتأويلية أسلوبا في تفكيك آليات النص القرآني، مثّل إزعاجا للسلطة الدينية في مصر وهدّد ثبوتيّتها، ولهذا صدّر الروائي كمال الرياحي كتابه «هكذا تحدّث نصر حامد أبو زيد، التفكير في وجه التكفير»، بقولة نيتشه «الذي لا يملك الشجاعة لان يكون مزعجا هو وعمله ليس بكلّ تأكيد مفكرا من الطراز الأول «.
هذا الإصدار الجديد هو حوار أجراه كمال الرياحي مع نصر حامد أبو زيد على امتداد سنة، وقد كان هذا الأخير في منفاه في هولندا، وهو يندرج ضمن سلسلة كتب حوارية سيرية خصّص كمال الرياحي احدها للكاتب الجزائري واسيني الأعرج، والآخر لمؤسس السيرة الذاتية فيليب لوجون .
ويعتبر هذا الحوار مع نصر حامد أبو زيد، الذي صدر مؤخرا عن دار كارم الشريف طبعة أولى 2014 من أهم الحوارات، وذلك لأهمية الأفكار التي تناولها والتي طفت على السطح من جديد بعد الثورات العربية وصعود الإخوان إلى سدة الحكم وتفشي ظاهرتي الإرهاب والتكفير، كما أنّ هذا الحوار هو آخر ما تحدث به نصر وصحّحه قبل وفاته تقريبا بشهر. أمّا من الناحية الإنسانية فان هذا المفكر ترك في هذا الحوار وصيته لزوجته.
وقد قسم كمال الرياحي هذا الحوار إلى عناوين عديدة منها: البداية: يتم/طرق المحظور/ السلطة والمشروعية الإسلام والإرهاب/ابن رشد بين الشريعة والحكمة / الإسلام الواحد المتعدد/الغرب هو الحل/الوصية وغيرها، وأنهاه بملحق خاص عن السيرة الذاتية والتفصيلية لإنتاج نصر حامد أبو زيد، كما مكنّ هذا الأخير كمال الرياحي من صور حصرية له نشرت في هذا الإصدار.
وسنركز في هذا المقال على أهم القضايا التي مثلت مركز تفكير نصر حامد أبو زيد، التي جعلته يجابه وحيدا مخاطر التكفير والإقصاء، تاركين للقراء متعة متابعة التفاصيل في هذا الإصدار الجديد
الوهية النص القرآني لاتنفي واقعيته:
بعد التطرق للبدايات، الطفولة اليتم المبكر والطموح الدراسي، يصل كمال الرياحي في هذه النقطة إلى بؤرة وخلاصة تفكير نصر، وهي المساحة المحظورة التي شكلت تواصلا لأبحاث ابن رشد والمعتزلة، خاصة في استعمال العقل وتقديمه على كل الوسائل الأخرى فبعد دراسته للمجاز في القرآن عند المعتزلة ودراسته للتأويل في القرآن عند ابن عربي الفيلسوف الصوفي، نصل إلى أنّ التساؤل الأساسي الذي يقبع وراء معظم دراسات نصر حامد أبو زيد هي في الكيفية التي نفهم بها ونقرأ ونفسّر النص القرآني، وهو مجال الهيرميونيطيقا (التأويل) فهو يرى أنّ القرآن نصّ لغوي بامتياز ومنتج ثقافي، بمعنى انّه مشروط ومحدد بأفق ثقافي معين ونظام لغوي محدد، وانّ ألوهية النص القرآني لا تنفي واقعيته، فعبر آلية التأويل يمكن لنا أن نفهم عملية الجدل والحوار الدّائم بين النص القرآني من جهة، والواقع المتغير من جهة أخرى، كما انه يؤكد على أنّ دعوته للتحرّر من سلطة النص دعوة يجب أن تتركز على كلمة سلطة لا على كلمة نصوص يقول «تتحول النصوص إلى سلطة حين يتمأسس الإيمان ويقدم نفسه لاهوتيا وهذا يحدث في سياقات تاريخية ترتبط غالبا بالخلافات السياسية والاجتماعية داخل مجتمع الإيمان»، كما يبين أنّ دور العقل هو إثبات الوحي أوّلا فالعقل لا ينكر مرجعية الوحي وإنما ينكر شمولية الوحي في تقديم حلول لكل النوازل في الحاضر والمستقبل، هناك الكثير مما هو متروك لمرجعية العقل وللاجتهاد.
ثقـافة التكفـير
نتيجة هذه الأبحاث وغيرها، التي مسّت السلطة كمصدر مطلق للحقيقة وللإيمان، يُكفّر نصر حامد أبو زيد بعد تقديمه هذه الأبحاث لنيل درجة الأستاذية، فتتكون لجنة يترأسها عبد الصبور شاهين فتقرر حرمانه من الأستاذية ولا تكتفي بذلك وإنّما تقدم تقريرا بتاريخ 18/3/1993 تضمّن عبارات التكفير واتهامه بالردة.
وعن تساؤل الرياحي حول الفرق بين قضيته وقضية طه حسين يجيب نصر أنّ الاختلاف بين الجامعتين «هو الاختلاف في الواقع المصري بين ثلاثينات القرن الماضي وتسعيناته» بين الليبرالية المقيدة في الثلاثينات وبين الديكتاتورية المطلقة في التسعينات، بين الجامعة المستقلة في عصر طه حسين والجامعة الخاضعة كليا للسلطة السياسية بداية من الثمانينات، خاصة بعد اغتيال السادات وتنامي الإرهاب وتغلل الفكر الديني المتشدد الذي اجتاح الجامعة وكذلك المجتمع.
طه حسين كُفر من خارج الجامعة والجامعة هي التي دافعت عنه وبرأته.
وفي حالة أبي زيد كُفِّر من داخل الجامعة وتم التخطيط في أروقتها لرفع دعوى التفريق بينه وبين زوجته بحكم الرّدة، وهذا ما وثّقه في كتابيه التفكير في زمن التكفير والقول المفيد في قصة أبو زيد.
الإسـلام والإرهـاب
يرى حامد نصر أبو زيد أنّ الفكر الإسلامي الراهن لا يرى في الغرب إلاّ التقدم المادي ويرى أنّ من سلبيات الغرب فراغهم الروحي الذي كان نتيجة غياب الدين وهو ميزة ثقافتنا، وهذا ما يسمح باستيراد المعلومات معزولة عن سياقها العلمي فقد تم تقبل الديمقراطية، من دون أن نحترم حرية الفرد. وتقبلنا الاقتصاد الحر من دون حرية التفكير، بل لم يحدث فصل بين السلطات لارتباط مفهوم السلطة بمفاهيم «قروسطية» مثل الراعي والزعيم وأمير المؤمنين.
ونظرا للتطور التكنولوجي والعولمة صار الفقير يرى مظاهر الثراء فكثُر الإحساس بالظلم والإحساس بالفقر وانعدام العدل، وهذا ما ضاعف الإحساس بالحقد والكراهية والتعصب، فالتعصب كما يعرفه في هذا الحوار هو حالة ذهنية تكون فيها الذات والجماعة مصدرا للحقيقة ومصدر الفضائل، ويرى الآخر على أنه الشيطان والشر المطلق وعليه يشرع لإبادته والتخلص منه، والتعصب الديني هو أسوأ أشكال التعصب، ولذلك يرى نصر أنّ العلمانية التي تفصل بين الدولة ونظامها السياسي وبين الدين هي وحدها الكفيلة التي تضمن الحرية والعقلانية وتعدد المعاني أمّا الدين فهو شان المتدين ومهمة الدولة أن تضمن حرية الجميع.
المثـقف والســــلطة
يرى نصر حامد أبو زيد أنّ على المثقف أن يحتفظ بمسافة عن السلطة، حتى لو كان النظام السياسي يتبنى بعض الأفكار التي يتبناها المثقف، فهذه المسافة هي التي ستسمح له بالاستقلالية التي تحميه من ضرورة تبرير قرارات السياسة أو الدفاع عنها، فالاستقلال عن السلطة يقول «لا تعني معاداتها بل تهدف إلى ترشيدها، فالسياسة هي تحقيق الممكن. والفكر يسعى لاكتشاف المجهول وفتح آفاق الممكن».
هذه بعض أهم الأفكار التي تباحث فيها كمال الرياحي ونصرحامد أبو زيد، وتبقى المواضيع الأخرى مهمة أيضا، الحديث عن الحجاب والوهابية والحداثة والتحديث، عن الجهاد عن المقاومة عن ابن رشد وغيرها من المواضيع المربكة، ولعل توقيت صدور هذا الحوار مهم جدا، باعتبار آنية هذه المواضيع ورجوعها بقوة إلى الساحة الاجتماعية والثقافية العربية.
كُفِّر أبو زيد ليس لأنه كافر أو مرتد ولكن لأنه مسلم يفكر داخل إطار الثقافة الإسلامية باستيعابها وتجاوز أفكارها والإتيان بالمختلف الذي يقضُّ مضجع السلطة الجامدة ويهدد استقرارها.
مات أبو زيد يوم 5 يوليو/تموز2010 ولم يمش في جنازته أحد من المثقفين، خوفا من اللعنة، رغم انه لم يتاجر بقضيته في الغرب، ورفض اللجوء السياسي، وبقي محتفظا بمصريته وجنسيته، مات ولكن أفكاره ودراساته لن تضمحل كما لم تضمحل أفكار ابن رشد وفرج فودة، وكل الذين اغتيلوا من اجل تنوير العقول وتبديد دوائر الخوف، وسننفذ وصية ابي زيد التي تركها مع كمال الرياحي في هذا الحوار، ان نبقى حالمين بمستقبل أفضل، إذ أوصى بان يكتبوا على قبره: «هنا يرقد احد الحالمين بمستقبل أفضل.
أيّها الزائر قبري لا تكفّ عن مواصلة الحلم".
عن القدس العربي.