من أساء إلى الرّسول؟ / محمد عبد المطّلب الهوني
2015-01-18
إلى وقت ليس بالبعيد كنّا عندما نسمع مغنّياً يتسلطن في غنائه، أو مرتلاً يوصل إلى مسامعنا كلمات القرآن في صوت جميل، نقول : “الله الله !!” . كان ذلك تعبيراً عن طعم اللّذة الّتي يحدثها التناغم بين الذات المنفعلة وموضوعها الّذي تحاول أن تقبض عليه في هروبه الدائم على صهوة اللّحظات المنفلتة.
كنّا صغاراً عندما يصطحبنا أهلنا إلى صلاة العيد، فنسمع تلك الجوقة الجميلة يصدح بها المؤمنون “الله أكبر الله أكبر ولله الحمد”. كان اسم الله جميلاً في أيّام طفولتنا، وكان يمثّل لنا ذلك الأب السرمدي الّذي يحنو علينا ونلجأ إليه في لحظات الشدّة ونحمده على أوقات النعمة. كان إلهنا هو الرحمان الرحيم. أمّا اليوم فنحن نرى شيئاً مختلفاً كلّ الاختلاف : يذبح الإنسان أخاه الإنسان من الوريد إلى الوريد ويمهر فعلته بعبارة “الله أكبر”.
يفجّر الإرهابيّ نفسه في الأسواق والجوامع والشوارع ويترك لنا تسجيلاً بالصوت والصورة يعلن فيه أنّه ذاهب إلى قتل بشر لا يعرفهم وليس بينه وبينهم أيّ خصومة وإنّما هو ذاهب إلى إفنائهم تَقَرباً إلى الله.
نحن نرى في كلّ يوم مئات الأشخاص يحملون الأسلحة الثقيلة ويطلقون قذائفهم على أبناء جلدتهم وهم يصرخون “الله أكبر”.
ماذا حدث يا ترى؟ أين الله الّذي أعرفه؟ أين الله الّذي كانت جدّتي تسبح باسمه وكثيراً ما كنت أنام على ترتيل ذكره؟ أين الله الّذي كنت أستجير به من الشرور؟ فأصبحت الشرور تأتيني مصحوبة باسمه؟
كيف أمكن تحويل الله الجميل إلى آمر بالقتل لا يرضى بغير رؤية الدماء والأشلاء؟ ما دمنا نؤمن بأن الله واحد غير متعدد، فهل يعني ذلك أنّه قد وقع في الأسر؟ ولكن باعتبار أنّ الله ليس كائناً متجسداً كما تعلمنا لك منذ الصغر، فهذا يعني أنّه فكرة غير قابلة للأسر أو الاستحواذ.
هذا يقودنا حتما ًإلى أنّ فكرة الله قد تعددت وهذا يعتبر ارتداداً إلى مرحلة الوثنية وهذه أكبر إساءة إلى أيّ دين توحيدي.
سوف نحاول أن نتجنّب هذه الفكرة الكارثيّة بإيجادِ حلٍّ وسط لاهوتيٍّ أو فلسفيٍّ، ولكن مهما حاولنا فستبوء محاولاتنا بالفشل لاستحالتها العقليّة. فكيف نستطيع أن نتعرّف على إلهنا متطابقاً مع إله القاعدة وجبهة النصرة وداعش وأنصار الشريعة وبوكو حرام؟ إنّهم يؤمنون بإله يحضّ على قتل الأطفال وقتل المختلفين لا في الدّين فقط بل حتّى في المذهب داخل الدين نفسه، ويأمر ببيع النّساء في سوق النّخاسة، وتدمير دور العبادة على رؤوس المؤمنين واستعمال الشباب قنابل تتفجر في الأسواق ومجالس العزاء.
إذًن هناك مشكلة كبيرة غير قابلة للحلّ في المستقبل المنظور. ولذلك وجب علينا نحن العزل الأبرياء، نحن مشاريع القتل والاضطهاد، أن نفضح إله الشرّ، ذلك الوثن البغيض الّذي اتّخذه الإرهابيون ربًّاً فعمّدوا أرواحهم في مغطس الحقد والكراهية.
كيف يمكن لنا ذلك بدون الرجوع إلى الحياة الّتي يحتقرها هؤلاء، والتي يبدو أنّ الضحك - بوصفه المظهر الأهم من مظاهرها - هو السلاح الوحيد الّذي بحوزتنا اليوم في مواجهة التعصب؟ ذلك أنّ صنمهم يحرّم الفرحة ويعتبرها خطيئة توقع الإنسان في شرك غير قابل للغفران. يقول المفكر الإيطالي إمبرتو إيكو إنّ الإنسان هو المخلوق الوحيد الّذي يضحك لأنّه المخلوق الوحيد الّذي يدرك الموت. أمّا هؤلاء الّذين يعبدون ذلك الصنم المتجهم، فإنّهم يريدون منا أن نبكي ونقضي الفترة بين الولادة والموت في نحيب متصل بانتظار الفناء.
هذا ما يفسّر فعلتهم الأخيرة الّتي أطلقوا عليها اسم “غزوة باريس”، عندما تناكبوا الأسلحة الرشاشة وأطلقوا النّار على مجموعة من الإعلاميّين والرسّامين الّذين لم يكن لديهم إلّا سلاح واحد هو القلم بلا رصاص. وبرروا فعلتهم تلك بأنّهم يدافعون عن الرّسول وكأنّ الرّسول لا زال يقاتل في معركة أُحُد، وكأنّ المشركين قد أحاطوا به من كلّ صوب وكأنّ حياته أضحت في خطر محدق.
كانت الرسوم الّتي اعتبروها مسيئة للنّبي غير ذائعة في النّاس، فقدت كانت هذه الصحيفة الكاريكاتورية على شفا الإفلاس، وكانت لا تطبع أكثر من عشرة آلاف نسخة، وربّما كان جزء من قرائها ينفرون من بعض تلك الرسوم أو لا يجيزونه، أمّا اليوم وبفضل هذه الفعلة فقد أصبح قرّاءها والمطّلعون عليها مئات الملايين من البشر، وأعادت أكثر صحف العالم نشر رسومها تضامناً مع الضحايا وذوداً عن حريّة التعبير، وأنّ العدد الّذي يلي هذا الحدث سوف يرتفع إلى ثلاثة ملايين نسخة، فهل في مقدور هؤلاء القتلة أن يقتلوا جميع صحفييِّ العالم ورسّاميه؟
السؤال الّذي يجب أن يطرح هو: من أساء أكثر إلى النّبي وشهّر به؟ هل هم قلّة من الرّسامين في مبنى منزو في إحدى ضواحي باريس؟ أم أولئك المجرمون الّذين بفضل جريمتهم هذه جعلوا من هذه الرّسوم مشاعة في البشرية جمعاء؟
ثمّ هل يمكن لأحد أن يكون له خصومة مع نبيّ قد وافاه الأجل منذ أربعة عشر قرناً؟ أم أنّ الخصومة هي ضدّ أفعال بعض تابعيه الّذين أعلنوا الحرب على العالم أجمع ودمّروا مجتمعاتهم واليوم يذهبون إلى باريس لإخضاعها حتّى تتخلّى عن مكاسب الحداثة الّتي دفع أهلها من أجل الوصول إليها الأكلاف الغالية؟
إنّ الكاريكاتور الحيّ أكثر إضحاكاً وأكثر إسفافاً من الكاريكاتور المرسوم. فتلك اللحى الطويلة والشعور المرسلة والألبسة الغريبة وبيع النّساء في الأسواق وفتاوى جهاد النكاح أليست كاريكاتوراً مضحكاً إلى درجة البكاء؟
والمنحرف من بائعي المخدرات عندما يلتقي في السجن بمجرم يحرص على القتل باسم الدّين ويقنعه بأنّ ارتكاب القتل أفضل من بيع المخدرات، فيخرج بعد انقضاء العقوبة ليملأ الدنيا رعباً باسم الدّين، أليس كاريكاتوراً حيّاً أكثر تعبيراً من الرّسوم؟
والمرضى النفسانيون من ذوي النزعات الإجراميّة والّذين ينحدرون من ديانات أخرى ونراهم يعتنقون الإسلام قبل أيّام قلائل من ارتكابهم القتل كما حدث في بريطانيا وفرنسا أليسوا كاريكاتوراً مضحكاً إلى حدّ الموت؟
إن عشرات الآلاف من الإرهابيين وملايين المسلمين الّذين يتعاطفون معهم أو يبررون أفعالهم وفقهاءهم المنتشرين في كلّ الدول العربية والإسلامية قد صادروا الدّين الإسلامي واستبدلوه بالشريعة واعتبروها ملكية خاصة يفعلون بها ما يشاؤون.
ثمّ اختطفوا الرّسول الكريم بحجّة الدفاع عنه والانتقام له وكأنّه شيخ قبيلة وليس نبيّاً له أكثر من مليار إنسان يؤمن بما أتى به. ولكنّ الأخطر من ذلك كلّه اجتراحهم إلها آخر من مخيّلاتهم المريضة، كما كان الّذين من قبلهم يقدّونه من الحجارة ويريدون إرغام البشر على السجود عند قدميه!
عن موقع إيلاف