قابلية الصوفي وتعايش المتسامح / أحمد اليعربي
2015-01-28
المقابلة بين مفهومي «قابلية الصوفي» و «تعايش المتسامح» تبغي رسم الحدود الفاصلة بَيْنهمَا للفهم والإستكناه. يأتي المصطلح الأول من وحي ابن عربي في قوله: «لقد صار قلبي قابلاً كُل صورةٍ..»، أما المصطلح الثاني فهو مشهور مُذ تناولته أقلام المفكرين وقدمته كموضوع مستقلٍ للبحث والمناقشة، ومثال ذلك مقالة جون لوك في التسامح (١٦٣٢-١٧٠٤)، ومقالة فولتير في التسامح أيضاً (١٦٩٤-١٧٧٨).
إن إرادة الفصل ورسم الحدود تستوجبها خصيصة التشابه والتقاطع بين المصطلحين كما ذكرنا. يَقُول ابن عربي في «ترجمان الأشواق» متحدثاً عن نفسه: «لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي/إذا لم يكن ديني إلى دينه داني»، وهذا الإنكار الذي أشار إليه ابن عربي هو أقربُ إلى الجِبِلَّة التي تدفع الآدمي إلى النزوع صوبَ المشابهة والنفور أو قُل الإبتعاد عن المخالف، وبذا فإن الإنكار بوصفه جِبلَّة يُمكن له أن يحتلَ أي مكان في المنطقة الواقعة بين مجرد النفور النفسي ورفض هذا المُخالف واقعاً وإقصائه، ويجب ملاحظة مسألة مهمة قبل الإستطراد في البحث وهي طبيعة طَرَفَي المقياس، ففي أدنى هذا المقياس يقع مجرد النفور النفسي وهو الأمر الذي يدور جوهره في منطقة العاطفة والوجدان بعيداً من تقريرات العقل الواعية، و نجدُ في أعلى المقياس الرفض والإقصاء، ورغم أننا لا نستطيع فصل الإرتباط بين الرفض والإقصاء عن منطقة الوجدان، إلا أننا يمكننا التأكيد على أن هذا الأمر يشي بتدخل إرادة واعية لإحداث أثر واقعي مضمونه الرفض والإقصاء.
ويعود ابن عربي ليقرر أن قلبه «صارَ... قابلاً كلَ صُورةٍ»، ويورد أمثلةً لهذه الصور التي تشملها هذه القابلية، ونجد أن الرابط بين جميع هذه الصور أنها تمثيل للإنتماء إلى عقيدة دينية: «دَيرٌ لرُهبانِ»،ِ «وبيتٌ لأوثانٍ»، «وكعبةُ طائفٍ»، «وألواحُ توراةٍ»، «ومصحفُ قرآن». وتوظيف ابن عربي للإنتماء الديني يُعَدُّ لفتة ذكية سواء في ذكره للإنكار بقوله: «إذا لم يكن ديني إلى دينه داني»، أو في فاعلية هذه القابلية، فالإنتماء الديني أشد أنواع الإنتماء، ذلك أنه يتعامل مع الأسئلة الوجودية الكبرى (من، كيف، إلى أين) بصورة ناجزة ووثوقية ومطلقة، وبذلك يكون هذا الإنتماء يمثل ذات الإنسان، وهذه الأخيرة مقدمة على ما سواها. وعليه، ومن باب أولى، فإن حضور هذه القابلية سيكون مؤكداً بالنسبة للإنتماءات الأقل قوة من الإنتماءات الدينية.
وفي الجانب الآخر نجد أن الكتابات التي تتحدث عن التسامح كضرورة إجتماعية يتلخص مضمونها في التأكيد على ضرورة قبول الآخر والتعايش معه بصرف النظر عن إنتماءاته، سواء «آمن بالله أم آمن بالحجر» بحسب توصيف إلياس فرحات في أبياته الرائعة، وهذا الأمر ضروري لتحقيق السلم المجتمعي ومتطلب فعلي لدولة المواطنة.
ولئن كان كلاً من القابلية الموجودة لدى الصوفي ودعوة التعايش التي يتضمنها خطاب التسامح، أقول لئن كان كلاهما يفترض وجود آخر مختلف في الإنتماء وأن هذا الآخر يشكل موضوعاً للقبول أو للتعايش مَعَه، يبقى السؤال المطروح عن الفارق بين الأمرين؟!
القابلية التي نتحدث عنها هي في طبيعتها نتيجة منطقية للأحوال والمقامات التي يتقلب فيها الصوفي، ذلك أن العارف كلما ترقى في درجات العرفان يحدث له شيئان اثنان: الأول، تصطبغ كل الأشياء من حوله بصبغة الحب، وتكون موضوعاً للمحبة، ولذلك تغدو موضوعاً للتسامح أيضاً، فيكون العارف في أقصى درجات القبول للآخر المختلف، ويمكن استشفاف هذه الفكرة من ذات الأبيات لابن عربي بقوله: «أدين بدين الحب»، «فالحب ديني وإيماني». الثاني، تتضخم لديه الكليات الوجودية بصورة كبيرة ومضاعفة جداً، ويأتي في مقدمها حقيقة الوجود الإلهي - بغض النظر عن التصورات المختلفة لطبيعة هذا الوجود-، وهذا الأمر يكون في أغلب الأحيان على حساب الجزئيات والتفاصيل التي تتضاءل بإطراد وبصورة عكسية. وكنتيجة لهذا التضخم الرهيب، يبدأ العارف في النظر إلى الأشياء من خلال استحضاره للحقيقة الكبرى، فتغدو تلك الأشياء بلا قيمة حقيقية في ظل حضور الحقيقية الكبرى بالنسبة له، فينظر إلى تلك الأشياء على أنها سواء، لا لأنها متساوية في ذاتها، ولا يعني هذا بالضرورة أن هناك تقريراً عقلياً واعياً يقوم به العارف يخلُصُ به إلى نتيجة مفادها تساوي هذه الأشياء، وإنما تساويها يتأتى من حيث أنها تشترك في تضاؤلها وغياب قيمتها أمام الحقيقة الكبرى، وبنفس هذا المنطق يمكننا تقديم قراءة جديدة لمسألة صحة جميع الملل والأديان التي ألصقت بكثير من أعلام الصوفيّة، بمعنى أن أقوالهم وإشاراتهم بتساوي الملل والأديان لا يعني بالضرورة قوله بصحة جميع تلك العقائد والملل رغم الاختلافات الجوهرية في ما بينها، فلا يمكن الإفتراض أن ثمة إجتهاداً عقلياً واعٍ لتقرير صحة هذه العقيدة أو تلك، وإنما هذه العقائد والملل تشاركت في انطماس معالمها أمام شمس الحقيقة الكبرى عند المتصوف.
وهنا تأتي نقطة الإفتراق بين المصطلحين، وذلك أن القابلية عند الصوفي ليست خطاباً ودعوة لعموم الناس بحيث يتبنونها وتصبح خصيصة مجتمعية، ذلك لأنها مسألة ذاتية خاصة مغرقة في خصوصيتها، تنبُتُ في نفس العارف كنتيجةٍ لأمرٍ آخر. في حين أننا نجد دعوة التعايش والتسامح على النقيض تماماً، فهي دعوة مجتمعية عامة وليست حالة فردية خاصة، وهي وليدة الوعي بالإختلاف، وبضرورة إيجاد نوع من الإنسجام والتعايش بين المكونات المختلفة للجماعة وذلك بإعطاء الثقل للأساس الثابت المتمثل في حقيقة الشراكة في الوطن بين كل الأفراد بصرف النظر عن انتماءاتهم، وبالتالي فإن دعوة التسامح لا تعني قطعاً الإيمان بِلُب إنتماءات الآخر وعقائده، ولكنها تعني بالضرورة وجوب إحترام خيارات هذا الآخر في عقيدته وانتماءاته.
ويبقى السؤال عما إذا كان التسامح الحقيقي يفترض بالضرورة الإيمان بنسبية المعتقدات؟ بمعنى آخر هل الإيمان المطلق يتوافق واقعاً مع دعوة التسامح؟
أهمية طرح هذا التساؤل تكمُن في أن العقيدة هي عبارة عن فكرة جوهرية في حياة الإنسان، ثابتة، مطلقة، غير قابلة للشك، وغير قابلة للمساومة أمام أي فكرة أُخرى، وعليه فإنه في حالة اصطدام سلوك الآخر مع عقيدة شخص معين بأي شكل من الأشكال فإن النتيجة ستكون محسومة لصالح تلك العقيدة، وبالتالي عدم التسامح مع سلوك ذلك الآخر.
والملاحظة المُشاهدة بخصوص نسبية كثير من المسائل الدينية لدى الشخص المنفتح على عقائد الآخر وانتماءاته ليس سببه نسبية العقيدة لديه، ذلك أن مصطلح «نسبية العقيدة» مصطلح متناقض، بل أن سببه إنحسار مساحة المقدس لدى هذه الشخص، وبالتالي إنخفاض إحتمالية وقوع ذلك النوع من الإصطدام بين المقدس وسلوك الآخر، وهكذا يحق لنا أن نختتم بالقول أن ثمة علاقة عكسية بين مساحة المقدس ومعدل التسامح.
عن جريدة الحياة.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |