الديارات المؤلف : أبو الفرج الأصبهاني ج3
خاص ألف
2015-01-31
دير الخصيان
دير الخصيان: بغور البلقاء بين دمشق وبيت المقدس حكى أبو زيد الأسدي قال: دخلت على سليمان بن عبد الملك، وهو جالس على دكان مبلّط بالرخام الأحمر، مفروش بالديباج الأخضر، في وسط بستان ملتفة أشجاره، قد أينعت ثماره، وبإزاء كل شقّ من الدكان روض قد أزهر بنبت الربيع ونواره، وعلى رأسه وصائف كل واحدة أحسن من صواحبها، كأنهن اللؤلؤ المنثور، في أيديهن أباريق بألوان الخمور، وطاسات البلور، وقد أخذ منه الشراب، فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، وكان سليمان مطرقاً فرفع رأسه، وقال: أبا زيد، أفي مثل هذا اليوم تصاب حياً؟ فقلت: يا سيدي، يا أمير المؤمنين أوقامت القيامة؟ قال نعم، على أهل الهوى! ثم أطرق، ورفع رأسه وقال: أبا زيد ما يطيب في يومنا هذا ؟ فقلت: قهوة حمراء في زجاجة بيضاء تناولنيها مقدودة هيفاء، لفّاء مصطمرّة قنواء دعجاء، أشربها من كفّها وأمسح فمي بفمها، فأطرق سليمان مليّاً ودموعه تصدر، فلما رأى الوصائف ذلك منه تنحين عنه، وقال: أبا زيد، حللت والله في يوم فيه انقضاء أجلك، وتصرم مدتك، وفناء عمرك، والله لاضربن عنقك أو تخبرني بما أثار هذه الصفة من قلبك. فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، كنت جالساً على باب أخيك سعيد بن عبد الملك، وإذا جارية قد خرجت إلى رحبة القصر، عليها قميص سكب، تبين منه بياض ثدييها، وتدوير سرتها، ونقش تكتها، وفي رجلها نعلان قد أشرق بياض قدميها على حمرتها بفرد ذؤابة تضرب الحقو منها، وطرة قد زرفنت على جبينها، وصدغين كأنهما نونان على عارضيها، وحاجبين قد تقوسا على محاجر عينين مملؤتين سحراً، وأنف كأنه قصبة درّ.
وهي تقول: عباد الله ما الدواء لما يشتكى؟ وما العلاج ممّا لا ينسى؟ طال الحجاب، وابطأ الكتاب، فالعقل طائر واللب غائر، والعين عبرى، والأرق دائم، والوجد موجود، والنفس والهة، والفؤاد مختلس، والقلب محتبس، رحم الله قوماً عاشوا تجلداً، وماتوا كمداً، لو كان في الصبر حيلة، أو إلى العزاء وسيلة، فقلت: أيتها الجارية إنسية أنتِ أم جنّية؟ وسمائية أم أرضية؟ فقد أعجبني ذكاء عقلك، وأذهلني حسن منطقك، فسترت وجهها بكفِها وقالت: اعذر أيّها المتكلم، فما أوحش الوجد
بلا مساعدة، والمقاساة لصدّ معاندة، ثم انصرفت.
فوالله - يا أمير المؤمنين - ما أكلت طيباً إلا غصصت به، ولا رأيت حسناً إلا سمج في عيني لحسنها.
فقال سليمان: كاد الجهل يستفزني، والصبابة تعاودني، والحلم يعزب عني، تلك الذلفاء التي يقول فيها الشاعر:
إنما الذلفاءُ ياقوتةٌ ... أُخرجت من كيس دَهقانِ
شراؤها على أخي ألف ألف درهم، وهي عاشقة لفتى ابتاعها منه، والله لا مات من يموت إلا بحسرتها، ولا فارق الدنيا إلا بغصتها، وفي الصبر سلوة وفي توقع الموت بهتة، فاكتم - أبا زيد - المفاوضة، يا غلام: ثقل يده ببدرة.
قال: فلما مات سعيد صارت إلى سليمان، ولم يكن في عصرها أجمل منها، فملكت قلبه وغلبت عليه دون سائر نسائه وجواريه، فخرج يوماً بالقرب من دير الرهبان فضرب فسطاطه في روضة خضراء مونقة الزهر، ذات حدائق وبهجة، تحفها أنواع الزهر النضر الغض، ما بين أصفر فاقع وأبيض ناصع وأحمر ساطع، فهي مثل الثياب الحضرمية، والبرود الأنجمية، تحمل منها الريح نسيم المسك الأذفر ويتضوع عرفها برياً فتيت العنبر، وكان له مغنٍ يأنس به، ويسكن إليه ويكثر الخلوة معه، ويستمع لحديثه وغنائه، يقال له " سنان " ، وكان " سنان " - هذا - أحسن الناس وجهاً، وأظرفهم ظرفاً، فأمره فضرب فسطاطه في روضة خضراء مونقة الزهرات، ذات حدائق وبهجة، يحفها أنواع الزهر النضر الغض بالقرب منه، وكانت " الذلفاء " ، قد خرجت مع سليمان إلى ذلك المتنزه، فلم يزل سليمان يومه عند سنان في أكمل سرور وأتم حبور، إلى أن أتى الليل، فانصرف سليمان إلى فسطاطه، وانصرف سنان إلى موضعه، فوجد جماعة قد أناخوا به، فسلموا عليه، فرد عليهم سلام جذلان بوصولهم، فرح بنزولهم، فأحضرهم الطعام فأكلوا، وقدم الشراب فتناولوا منه، وقال: هل من حاجة؟ قالوا: ما جئناك إلا للقِرى.
فقال: بالمنزل الرحب حللتم، وبالجانب الخصب نزلتم.
فقالوا: أما الطعام فقد أكلنا، وأما الشراب حضر، وبقي السماع، قال: أما السماع فلا سبيل إليه مع غيرة أمير المؤمنين ونهيه إياي عن الغناء، إلا ما كان في مجلسه، قالوا له: فلا حاجة لنا في الطعام والشراب عندك ما لم تُسمعنا، فلما رآهم غير مغفلين عنه رفع عقيرته، وغنى بهذه الأبيات:
محجوبةٌ سمِعَتْ صَوْتي فأرّقها ... من آخر الليلِ حتى ملّها السَّهرُ
لم يحجب الصوت أحراس ولا غَلَقٌ ... فدمعها لطروق الصوت ينحدرُ
تدني على فخذيها من معصفرةٍ ... والحلي بادٍ على لبّاتها خَصَرُ
في ليلة البدر لا يدري مضاجعُها ... أوجهها عِندَه أبهى أم القمرُ؟
لو خُلِّيت لمشت نحوي على قَدَمٍ ... تكاد من رقّةٍ بالمشي تنفطرُ
فلما سمعت " الذلفاء " صوت " سنان " ، خرجت إلى صحن الفسطاط لتسمع الصوت، وجعلت لا تسمع شيئاً من نفثٍ حسن مع ما وافق ذلك من وقت الليلة المقمرة، إلا رأت ذلك كلّه في نفسها ووقتها وهيئتها، فحرك ذلك ساكناً كان في قلبها، فهملت عيناها بالدموع وعلا نحيبها، فانتبه سليمان فلم يجدها في الفسطاط، فخرج إلى صحنه فرآها على تلك الحالة، فقال لها: ما هذا يا " ذلفاء " فقالت يا أمير المؤمنين:
ألا ربّ صوتٍ رائعٍ من مشوَّهٍ ... قبيحِ المحيا واضع الأب والجَدِّ
يروعك منه صوته ولعلّه ... إلى أمةٍ يُدعى معاً وإلى عَبْدِ
قال سليمان: دعيني من هذا، فوالله لقد خامر قلبك منه ما خامره. يا غلام: عليّ " بسنان " ، فدعت " الذلفاء " خادماً لها، وقالت: إن سبقت إلى " سنان " فحذرته فلك عشرة آلاف درهم وأنت حر. فسبق رسول سليمان فأحضره، فلما وقف بين يديه وسليمان يرعد غيرة، قال سليمان: من أنت؟ قال: أنا " سنان " فقال:
تثكل في الثّكلى سناناً أمُّه ... كان لها ريحانةً تشمّه
وخاله يثكلُه وعمُّه ... ذو سَفَهٍ حياتُه تغمّه
فقال سِنان:
استبقني إلى الصباح أعتذرْ ... إنَّ لساني بالشراب مُنْكسر
فارسُك الكلبيُّ في يومٍ يكُر ... فإن يكن أذنب ذنباً أو عثرْ
فالسيّد العافي أحقّ من غَفَرْ
ثم قال: يا " سنان " ، ألم أنهك عن مثل هذا الفعل؟ فقال: يا أمير المؤمنين حملني الثمل، وقوم طرقوني، وأنا عبد أمير المؤمنين، فإن رأى ألا يضيّع حظّه مني فليفعل.
فقال: أما حظي منك فلا أضيّعه، ولكن لا تركت للنساء فيك حظاً، يا " سنان " أما علمت أن الرجل إذا تغنّى أصغت له المرأة، وأن الفرس إذا صهل تودّقت له الحجر، وأن الفحل إذا هدر ضبعت له الناقة، يا غلام ائتني بحجام فجبّه، فعاش بعد ذلك سنة ومات، فسمي ذلك الدير: دير الخصيان، وبه يعرف إلى اليوم.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري - وهذا الخبر أصحّ ما روى في ذلك إسناداً - قال أخبرنا أبو زيد عمر بن شبّة عن معن ابن عيسى.
وأخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدّثني عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان قال: قال ابن جناح حدثني معن بن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه وعن محمد بن معن الغفاري قالا: كان سبب ما خصي له المخنثون بالمدينة أن سليمان بن عبد الملك كان في نادية له يسمر ليلة على ظهر سطح، فتفرق عنه جلساؤه، فدعا بوضوء فجاءت به جارية له، فبينما هي تصب عليه إذ أومأ بيده وأشار بها مرتين أو ثلاثاً، فلم تصبّ عليه، فأنكر ذلك فرفع رأسه، فإذا هي مصغية بسمعها إلى ناحية العسكر، وإذا صوت رجل يغني، فأنصت له حتى سمع جميع ما تغنّى به، فلما أصبح أذن للناس، ثمّ أجرى ذكر الغناء فلين فيه حتّى ظن القوم أنه يشتهيه ويريده، فأفاضوا فيه بالتسهيل وذكر من كان يسمعه، فقال سليمان فهل بقي أحد يُسمع منه الغناء؟ فقال رجل من القوم: عندي يا أمير المؤمنين رجلان من أهل أبله مجيدان محكمان، قال: وأين منزلك؟ فأومأ إلى الناحية التي كان الغناء منها، قال: فابعث إليهما، ففعل، فوجد الرسول أحدهما، فأدخله على سليمان، فقال: ما اسمك؟ قال: سمير، فسأله عن الغناء، فاعترف به، فقال: متى عهدك به؟ قال: الليلة الماضية، قال: وأين كنت؟ فأشار إلى الناحية التي سمع سليمان منها الغناء، قال: فما غنيت به؟ فأخبره الشعر الذي سمعه سليمان، فأقبل على القوم فقال: هدر الجمل فضبعت الناقة، ونب التيس فشكرت الشاة وهدر الحمام فزافت الحمامة، وغنّى الرجل فطربت المرأة، ثم أمر به فخصي. وسأل عن الغناء أين أصله؟ فقيل: بالمدينة في المخنثين وهم أئمته والحذاق فيه. فكتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وكان عامله عليها، أن اخص من قبلك من المخنثين المغنين - فزعم موسى بن جعفر بن أبي كثير قال أخبرني بعض الكتّاب قال: قرأت كتاب سليمان في الديوان، فرأيت على الخاء نقطة كتمرة العجوة. قال: ومن لا يعلم يقول: إنه صحّف القارئ، وكانت احصِ - قال: فتتبعهم ابن حزم فخصى منهم تسعة، فمنهم: الدلال، وطريف، وحبيب نومة الضحى. وقال بعضهم حين خُصي: سلم الخاتن والمختون. وهذا كلام يقوله الصبيّ إذا ختن. قال: فزعم ابن أبي ثابت الأعرج. قال أخبرني حماد بن نشيط الحسني. قال: أقبلنا من مكة ومعنا بدراقس وهو الذي ختنهم، وكان غلامه قد أعانه على خصائهم، فنزلنا على حبيب نومة الضحى، فاحتفل لنا وأكرمنا، فقال له ثابت: من أنت؟ قال: يا بن أخي أتجهلني وأنت وليت ختاني! أو قال: وأنت ختنتني، قال: واسؤتاه! وأيهم أنت؟ قال: أنا حبيب، فاجتنبت طعامه، وخفت أن يسمّني. قال: وجعلت لحية الدلال بعد سنة أو سنتين تتناثر. وأما ابن الكلبي فإنه ذكر عن أبي مسكين ولقيط أن أيمن كتب بإحصاء من في المدينة من المخنثين ليعرفهم، فيوفد عليه من يختاره للوفادة، فظن أنه يريد الخصاء فخصاهم.
أخبرني وكيع قال: حدثني أبو أيوب المديني قال: حدثني محمد بن سلام قال حدثني ابن جعدبة - ونسخت أنا من كتاب أحمد بن الحارث الخراز - عن المديني عن ابن جُعدُبة واللفظ له:
أن الذي هاج سليمان بن عبد الملك على ما صنعه بمن كان بالمدينة من المخنثين، أنه كان مستلقياً على فراشه في الليل، وجارية له إلى جنبه، وعليها غلالة ورداء معصفران، وعليها وشاحان من ذهب، وفي عنقها فصلان من لؤلؤ وزبرجد وياقوت، وكان سليمان بها مشغوفاً، وفي عسكره رجل يقال له سمير الأبليّ يغنّي، فلم يفكر سليمان في غنائه شغلاً بها وإقبالاً عليها، وهي لاهية عنه لا تجيبه مصغية إلى الرجل، حتى طال ذلك عليه، فحول وجهه عنها مغضباً، ثم عاد إلى ما كان مشغولاً عن فهمه بها، فسمع سميراً يغني بأحسن صوت وأطيب نغمة:
محجوبة سمعت صوتي فأرقها ... من آخر الليل حتى شفها السهرُ
تدني على جيدها ثنيي معصفرة ... والحلي منها على لباتها خصرُ
في ليلة النصف ما يدري مضاجعها ... أوجهها عنده أبهى أم القمر
ويروى:
أوجهها ما يرى ... أم وجهها القمر
لو خليت لمشت نحوي على قدم ... تكاد من رقة للمشي تنفطر
- الغناء لسمير الأبلي رمل مطلق بالبنصر عن حبش.. وأخبرني ذكاء وجه الرزة أنه سمع فيه
لحناً للدلال من الثقيل الأول.
- فلم يشكك سليمان أن الذي بها مما سمعت، وأنها تهوى سميراً، فوجه من وقته من أحضره وحبسه، ودعا لها بسيف ونطع، وقال: والله لتصدقني أو لأضربن عنقك! قالت: سلني عما تريد، قال: أخبريني عما بينك وبين هذا الرجل؟ قالت: والله ما أعرفه ولا رأيته قط، وأنا جارية منشئي الحجاز، ومن هناك حملت إليك، ووالله ما أعرف بهذه البلاد أحداً سواك، فرقّ لها وأحضر الرجل فسأله، وتلطف له في المسألة، فلم يجد بينه وبينها سبيلاً، ولم تطب نفسه بتخليته سوياً فخصاه، وكتب في المخنثين بمثل ذلك.
هذه الرواية صحيحة.
دير درزيجان
دير درزيجان: قرب بغداد، على دجلة، بالجانب الغربي منها قال لي أبو الحسن الواسطي الصوفي: قرأت على حائط دير بدرزيجان: حضر فلان بن فلان الدمشقي وهو يقول:
لئن كان شحط البين فرّق بيننا ... فقلبي ثاوٍ عندكم ومقيم
دير الرصافة
دير الرصافة: ذكر ابن عساكر أن اسمه " دير حنينا " ، وأن اسم صاحب القصيدة: الفرخ. وأن المتوكل أمر بهدم الدير: ابن عساكر - مخطوطة الظاهرية - 19 - ق 145.
قال البكري: هو بدمشق 2 - 580.
- أوضح ياقوت أن هذا الدير يقع في رصافة هشام وهي تبعد عن دمشق ثمانية أيام.
معجم البلدان )دير الرصافة(.
- يستدل من البكري أنه من بناء الروم.. الروم الملكية.
البكري.
- ذكر ياقوت أنه رأى الدير، وقرر أنه من عجائب الدنيا حسناً وعمارة.
معجم البلدان )دير الرصافة( - وفي هذا الدير قال شاعر مشيراً إلى مجده، ومعرضاً بالأمويين:
نراك جزعت يا دير الرصافة ... غداة تحولت عنك الخلافه!
فلا تجزع وتذري الدمع حزناً ... فإن لكل مجتمعين آفه!
دير الرصافة
في رصافة هشام بن عبد الملك
اجتاز أبو نواس بهذا الدير وقال فيه:
ليس كالدير بالرصافة دير ... فيه ما تشتهي النفوس وتهوى
بته ليلة فقضيت أوطا ... راً ويوماً ملأت قطريه لهواً
قال أبو الفرج: حدثني جعفر بن قدامة، قال: حدثني أبو عبد الله بن حمدون قال: كنت مع المتوكل لما خرج إلى الشام، فركب يوماً من دمشق يتنزه في رصافة هشام، يزور قصوره وقصور ولده، ثم خرج، فدخل ديراً هناك قديماً، من بناء الروم، بين أنهار ومزارع وأشجار، فبينما هو يدور فيه، إذ بصر برقعة ملصقة، فأمر أن تقلع، فقلعت، فإذا فيها:
أيا منزلاً بالدير أصبح خالياً ... تلاعب فيه شمال ودبورُ
كأنك لم تسكنك بيض أوانس ... ولم يتبختر في فنائك حورُ
وأبناء أملاك عباشم سادة ... صغيرهم عند الأنام كبيرُ
إذا لبسوا أدراعهم فعنابس ... وإن لبسوا تيجانهم فبدورُ
على أنهم يوم اللقاء ضراغم ... وأنهم يوم العطاء بحورُ
وحولك رايات لهم وعساكر ... وخيل لها بعد الصهيل شخيرُ
ليالي هشام في الرصافة قاطن ... وفيك ابنه يا دير وهو أميرُ
إذ العيش غض والخلافة لدنة ... وأنت طرير والزمان غريرُ
وروضك مرتاض، ونورك نير ... وعيش بني مروان فيك نضيرُ
بلى، فسقاك الغيث صوب غمامة ... عليك لها بعد الرواح بكورُ
تذكرت قومي خالياً فبكيتهم ... بشجو، ومثلي بالبكاء جديرُ
وعزيت نفسي وهي نفس إذا جرى ... لها ذكر قومي أنة وزفيرُ
لعل زماناً جار يوماً عليهم ... له بالذي تهوى النفوس يدورُ
فيفرح محزون، وينعم بائس ... ويطلق من ضيق الوثاق أسيرُ
رويدك إن اليوم يتبعه غد ... وإن صروف الدائرات تدورُ!
قال: فلما قرأها المتوكل ارتاع لها وتطير وقال أعوذ بالله من سوء أقداره! ثم دعا بصاحب الدير، فقال له: من كتب هذه الرقعة؟ فأقسم أنه لا يدري. قال: وأنا مذ نزل أمير المؤمنين هذا الموضع، لا أملك من أمر هذا الدير شيئاً، يدخله الجند والشاكرية ويخرجون، وغاية قدرتي أني متوارٍ في قلايتي، فهم بضرب عنقه، وإخراب الدير، فكلمه صحبه إلى أن سكن غضبه، ثم بان بعد ذلك أن الذي كتب الأبيات رجل من بني روح بن زنباع الجذامي، وأمه من موالي هشام بن عبد الملك.
دير الرها
دير الرها: بالجزيرة بين الموصل والشام.
حدثني أبو محمد حمزة بن القاسم الشامي: قال: اجتزت بكنيسة الرها عند مسيري إلى العراق. فدخلتها لأشاهد ما كنت أسمعه عنها. فبينما أنا في تطوافي، إذ رأيت على ركن من أركانها مكتوباً بالحمرة: حضر فلان بن فلان وهو يقول: من إقبال ذي الفطنة، إذا ركبته المحنة انقطاع الحياة، وحضور الوفاة. وأشد العذاب تطاول الأعمار في ظل الإدبار. وأنا القائل:
ولي همة أدنى منازلها السها ... ونفس تعالت بالمكارم والنهى
وقد كنت ذا حال بمرو قريبة ... فبلغت الأيام بي بيعة الرها
ولو كنت معروفاً بها لم أقم بها ... ولكنني أصبحت ذا غربة بها
ومن عادة الأيام إبعاد مصطفى ... وتفريق مجموع وتنغيص مشتهى
فاستحسنت النظم والنثر وحفظتهما.
دير زرارة
دير زرارة: وهو بين الكوفة وحمام أعين، على يمين الحاج من بغداد، نزه، كثير الحانات والشراب، لا يخلو ممن يطلب اللهو واللعب، ويؤثر البطالة والقصف.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا العباس بن ميمون بن طائع قال حدثني ابن خرداذبة قال: خرج مطيع بن إياس، ويحيى بن زياد حاجين، فقدما أثقالهما وقال أحدهما للآخر: هل لك أن نمضي إلى زرارة فنقصف ليلتنا عنده، ثم نلحق أثقالنا؟ فما زال ذلك دأبهم، حتى انصرف الناس من مكة.
قال: فركبا بعيريهما وحلقا رؤوسهم ودخلا مع الحجاج المنصرفين، وقال مطيع في ذلك:
ألم ترني ويحيى قد حججنا ... وكان الحج من خير التجارة
خرجنا طالبي خير وبر ... فمال بنا الطريق إلى زرارة
فعاد الناس قد غنموا وحجوا ... وأبنا موقرين من الخسارة
وقد روي هذا الخبر لبشار بن برد وغيره.
دير زكَّى
دير زكّى: هو دير بالرها بإزائه تل يقال له: تل زفر، وهو زفر ابن الحارث الكلابي، وفيه ضيعة يقال لها الصالحية، اختطها عبد الملك بن صالح الهاشمي - كذا قال الأصبهاني - فيها بستان موصوف بالحسن، وفيه سروتان قديمتان. وقد ذكره الشعراء، وذكروا بهجته، وتشوقوه. أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن عبد الله بن مالك. وأخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو العباس الكاتب قال: كان الرشيد يحب ماردة - جاريته - وكان خلّفها بالرقة، فلما قدم إلى مدينة السلام اشتاقها، فكتب إليها:
سلام على النازح المغترب ... تحية صبٍّ به مكتئب
غزال مراتعه بالبليخ ... إلى دير زكّى فقصر الخشب
أيا من أعان على نفسه ... بتخليفه طائعاً من أحب
سأستر ... والستر من شيمتي هوى من أحب بمن لا أحب
فلما ورد كتابه عليها أمرت أبا حفص الشطرنجي - صاحب علية - فأجاب الرشيد عنها بهذه الأبيات، فقال:
أتاني كتابك يا سيدي ... وفيه العجائب كل العجب
أتزعم أنك لي عاشق ... وأنك بي مستهام وصب
فلو كان هذا كذا لم تكن ... لتتركني نهزة للكرب
وأنت ببغداد ترعى بها ... نبات اللذاذة مع من تحب
فيا من جفاني ولم أجفه ... ويا من شجاني بما في الكتب
كتابك قد زادني صبوة ... وأسعر قلبي بحرّ اللهب
فهبني نعم قد كتمت الهوى ... فكيف بكتمان دمع سرب
ولولا اتقاؤك يا سيدي ... لوافتك بي الناجيات النجب
فلما قرأ الرشيد كتابها أنفذ من وقته خادماً على البريد حتى حدرها إلى بغداد في الفرات، وأمر المغنين جميعاً، فغنوا في شعره.
دير سعد
دير سعد بغربي الموصل قريب من دجلة، منسوب إلى سعيد بن عبد الملك بن مروان.
قال أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني: أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال وجدت في كتاب بخط الضحاك قال: خرج عقيل بن علفة وابناه: علفة وجثامة، وابنته الجرباء حتى أتوا بنتاً له ناكحاً في بني مروان بالشام فآمت. ثم إنهم قفلوا بها حتى كانوا ببعض الطريق، فقال عقيل بن علفة:
قضت وطراً من دير سعد وطالما ... على عرض ناطحنه بالجماجم
إذا هبطت أرضاً يموت غرابها ... بها عطشاً أعطينهم بالخزائم
ثم قال: أنفذ يا علفة، فقال علفة:
فاصبحن بالموماة يحملن فتية ... نشاوى من الادلاج ميل العمائم
إذا علم غادرنه بتنوفة ... تذارعن بالأيدي لآخر طاسم
ثم قال: أنفذي يا جرباء، فقالت: وأنا آمنة؟ قال: نعم. فقالت:
كأن الكرى سقاهم صرخدية ... عقاراً تمشّى في المطا والقوائم
فقال عقيل: شربتها ورب الكعبة! لولا الأمان لضربت بالسيف تحت قرطك، أما وجدت من كلام غير هذا! فقال جثامة: وهل أساءت! إنما أجازت، وليس غيري وغيرك، فرماه عقيل بسهم فأصاب ساقه وأنفذ السهم ساقه والرحل، ثم شد على الجرباء فعقر ناقتها ثم حملها على ناقة جثامة وتركه عقيراً مع ناقة الجرباء. ثم قال: لولا أن تسبني بنو مرة ما ذقت الحياة.
ثم خرج متوجهاً إلى أهله وقال: لئن أخبرت أهلك بشأن جثامة، أو قلت لهم إنه أصابه غير الطاعون لأقتلنك. فلما قدموا على أهل أبير )وهم بنو القين( ندم عقيل على فعله بجثامة. فقال لهم: هل لكم في جزور انكسرت؟ قالوا: نعم. قالوا فالزموا أثر هذه الراحلة حتى تجدوا الجزور، فخرج القوم حتى انتهوا إلى جثامة فوجدوه قد أنزفه الدم، فاحتملوه وتقسموا الجزور، وأنزلوه عليهم، وعالجوه حتى برأ، وألحقوه بقومه، فلما كان قريباً منهم تغنى:
ايعذر لاحينا ويلحين في الصبا ... وما هن والفتيان إلا شقائق
فقال له القوم: إنما أفلت من الجراحة التي جرحك أبوك آنفاً وقد عاودت ما يكرهه فأمسك عن هذا ونحوه إذا لقيته لا يلحقك منه شر وعر، فقال: إنما هي خطرة خطرت والراكب إذا سار تغنى.
عمر سفر يشوع
عمر سفر يشوع: أسفل مدينة واسط.
حدثني أبو عبد الله الواسطي، الشاعر المعروف بابن الآجري قال: كنت أعاشر جماعة من أهل الظرف وأولاد الرؤساء ونجتمع على الشراب دائماً. فدعانا فتى منهم إلى العمر الذي في أسفل مدينة واسط، ويعرف العمر بعمر سفر يشوع. فمضينا ومعنا من الغناء والآلة والشراب كل شيء ظريف، وأقمنا ثلاثة أيام، ومضت لنا به أوقات طيبة، وانصرفنا في اليوم الرابع وتفرقنا بعد ذلك للمعايش والمتصرفات. فلما كان بعد ذلك بشهور دعينا إلى العمر، فلما حصلنا في القلاية التي كنا شربنا فيها في تلك الدفعة قال لنا الفتى: ألا أخبركم بحالي بعدكم؟ قلنا: بلى.
قال: إنكم لما انصرفتم من عندنا جاءني شاب له رواء ومنظر حسن، ومعه غلام نظيف الوجه في مثل زيه، أحسبه حبيباً له. فقال لي: أين الفتيان الذين كانوا عندك مجتمعين؟ فقد غلسوا في الانصراف. فحزن وتبينت الكآبة في وجهه. ثم سألني عن حالكم، وما صنعتم، وكم أقمتم. فحدثته فانبسط، واستدعى ما أكل هو وصاحبه، وأخذا في الشرب، وطربا، وأقاما على حالهما ثلاثة أيام، ففعل مثل فعلكم. فلما كان في اليوم الرابع ودعني وأخذ فحمة وكتب على حائط البيت شعراً، وقال: إن عادوا أوقفهم عليه، وانصرف.
فنهضنا إلى البيت فإذا هو:
إخوتي إني سمعت بكم ... قصدت العمر من طرب
فوجدت الدهر فرقكم ... وكذا الدهر ذا نوب
وسألت القس ما فعلوا ... فأجاب القس بالعجب
ففعلنا مثل فعلكم ... وشربنا من دم العنب
بنت كرم عتقت زمناً ... منذ عهد اللات والنصب
وجنينا الحلو من ثمر ... وأكلنا يانع الرطب
وتفرقنا على مضض ... كلنا يدعو بوا حربي
فلما عدنا إلى واسط بحثنا عن الرجل، فلم نعرف له خبراً، فعلمنا أنه غريب اجتاز بالبلد.
نهاية الجزء الثالث
ألف / خاص ألف/
يتبع ...
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |