جدلية المدوَّن والمتخيَّل في رؤية جرجي زيدان الثقافية لتاريخ الإسلام / أنطوان سيف
2015-01-31
في مئوية جرجي زيدان
في سعيه الدؤوب إلى المعرفة وغبطة الكشف ونشره، تغيبُ عن الوجدان المبدعِ الدلالاتُ البعيدةُ لمغامرته مندفعاً لإبراز الأقرب، من قيمها، إلى مقاصده الواعية التي تستبقي مضمراً، في التاريخ اللاحق، سرَّ موقعِها الحقيقي في مجراه. تلك كانت حال جرجي زيدان الصبيّ الفقير العامل في صنع الأحذية وفي خدمة مطعمٍ في بيروت القرن التاسع عشر التي باتت بسرعةٍ قياسيةٍ، غداة قدوم جيوش ابراهيم باشا المصري وإجراءاته المدنية الرائدة، وعقب انسحابه منها بعد عشر سنوات، مدينةً كوسموبوليتيةً عربيةً على الشواطئ الشرقية للمتوسط، درَّةَ التاج العثماني، بانفتاحها واختلاطها وتنوُّعها الثقافي المشظِّي للكثير من مظاهر الحداثة في جسد الشرق، الشاب الواعد المتفوق ذكاءً وتطلعات، طالب الطبِّ والصيدلة بعد ذاك الذي طُرِد من «جنَّة» جامعته الأميركية في رأس بيروت، أحد أبرز رموزِ التقدُّمِ التعليمي الحضاري الغربي على أرضنا، مذ ذاك وللساعة، إلى أرض مصر، حاملاً وزرَ التمرُّدِ على الموروث المقدَّس والانجرافِ في «إثمِ» اعتناقِ التطوُّرية الداروينية، أحدِ الانجراحاتِ الثلاثة في كبرياءِ الانسان، كما وصفَها فرويد، التي أسَّست للانعطافاتِ التاريخية الكبرى في الحضارة البشرية الحديثة. حدثٌ ستبقى أفاعيلُه مضمَرةً في نفسِ جرجي مدى عمره، ولكنْ سترسخ راعدةً باستمرار في مسيرة حياة صديقه ورفيقه من بيروت إلى القاهرة: شبلي الشميِّل. ها هي قاهرة محمَّد علي، العاصمة الكبرى للثقافة العربيةِ الحديثةِ والتقليديةِ على السواء وجدليَّتهما، والأكثرُ حريةً - تحت الانتداب البريطاني في أوائل عهده، القامعِ للحريات السياسية خصوصاً - من بيروت المنفتحةِ، هي أيضاً، ولكن تحت العيون الساهرة «للمكتوبجي» العثماني!
مفارقةٌ لافتةٌ: الاهتمامُ الفائق لدى جرجي زيدان المسيحي العربي بتاريخ الإسلام والمسلمين والعرب، لغةً وديناً وثقافةً! قدَّمَه بصيغةٍ حديثة في رواياتٍ أدبيةٍ متخيَّلةٍ تجري في إطار أحداثِ الماضي السياسية والعسكرية الكبرى المفصلية، المرويَّةِ بالتواتر والمدوَّنةِ في الكتب المراجع القديمة. ثلاثٌ وعشرون روايةً كتبَها تباعاً، في أزمنةٍ مكثفة حيناً ومتباعدة قليلاً حيناً، على مدى ثلاثٍ وعشرين سنةً حتى وفاته عام 1914، تغطِّي حوادثُها ثلاثةَ عشر قرناً هي مجمل تاريخ الإسلام لزمانه: من روايتِه «فتاة غسّان» (1899) التي تصف عادات العرب وتقاليدَهم وأخلاقَهم في آخر جاهليتهم وبدايةِ إسلامهم، إلى روايته «الانقلاب العثماني» (1911) التي تصف حالَ عصر السلطان عبد الحميد في نواحيه الاجتماعية والسياسية وجواسِيسه حيالَ نضالِ الأحرار في سبيل الدستور العصري الجديد. سبعَ عشرةَ رواية تغطِّي بالفعل كلَّ تاريخِ الإسلام السياسي القديمِ والمتوسطِ والحديث بمحاوره الأساسية، في مختلفِ جغرافياتِ المسلمين، عُرفت باسم «رواياتِ تاريخِ الإسلام». يُضاف إليها عددٌ قليلٌ آخرُ من الروايات، المتداخلة مع هذه، في أزمنة تأليفها كما في أزمنة حوادثها، منها روايةُ «المملوك الشارد»، وهي باكورة رواياته (1891)، ورواية «محمَّد علي» (1907)، ورواية «أسير المهدي» (1893) عن المهدوية في السودان، وقد شارك زيدان وهو في شبابه في البعثة الانكليزية إلى السودان مترجماً، وأضاف إلى ثورة السودان حكاياتٍ عن ثورةِ عُرابي المصرية.
لقاء الماضي بوعي الحاضر
ماذا نرى في روايات زيدان التاريخية عن الإسلام؟ نرى الحوادثَ الكبرى المدوَّنة في مراجعَ عربية قديمة لا يقاربُها الشك، ولوازمَها من الحوادثَ الصغرى المتخيَّلة ضمن إطارها؛ أي، بلغةٍ معاصرة، نشهد إعادة السياسيَّ المدوَّن والأنثروبولوجيَّ المُهمَل غيرَ المدوَّن ولكن المتخيَّل آناً، أي لقاء الماضي بوعي الحاضر له، الوعي الذي يدخل بوابةَ التاريخ ودارَه بسلاسة ويُسكِنه الذاكرةَ، فيتغيَّر بذلك الوعيُ العربيُّ الإسلاميُّ المعاصرُ في رؤيته لذاته الجديدة المغتبطةِ بإمساكها تاريخَها بعد قرون من الانحطاط والأمية والجهل والهزائم، على خلفية فلسفية هيغلية غير معلَنة كانت حينذاك «روح العصر» الحديث في الغرب وفي بعض أصدائه الطليعية الشرقية المحاكية تفاؤله العارم. هذا هو التغييرُ الكبير، التغييرُ المفتاحُ لولوج الحاضر وتحدِّياته والتوجُّه بثقةٍ نحو المستقبل، بحسب تصوُّر جرجي زيدان ومجايليه «النهضويين». وعي التاريخ، تاريخِ الإسلام، يغدو هكذا صناعةً ذاتيةً بعدما احتكره بأدواته الحديثة المستشرقون برؤاهم ومنهجياتهم الجديدة. لم يُخفِ زيدان بمتخيَّلِه الروائي الحوادثَ الماضية الاكثرَ تنغيصاً وإثارةً للحاضر، ولم يسعَ إلى تمويهها والتلاعب بوضعيَّتها التاريخية: من مقتلِ الإمام الحسين وأهل بيته في كربلاء، في رواية «غادة كربلاء» (1901)، ومقتلِ الخليفة عثمان بن عفّان، وخلافةِ الإمام عليَ والفتنةِ اللاحقة وواقعتَي الجمل وصفّين، في رواية «عذراء قريش» (1899)، وتفصيلِ مقتلِ الإمام عليّ وقيامِ الفتنة وأحوالِ الخوارج، واستئثارِ بني أميَّةَ بالخلافة وخروجِها من أهلِ البيت، في روايته «17 رمضان» (1899)، وحصارِ مكةَ على عهد عبدالله بن الزبير، في روايته «الحجاج بن يوسف» (1902)، إلى فتحِ الاندلس، ونكبة البرامكة في بغداد، وحربِ الأمين والمأمون، وظهورِ دولة الفاطميين في أفريقيا، وانتقالِ مصر من الفاطميين الى الأيوبيين إلخ... وصولاً إلى الانقلاب العثماني، المعاصرِ له.
إلاّ أنَّ تاريخ الإسلام عند جرجي زيدان لم يقتصر على هذه الروايات المؤلَّفة، أي على أسلوب «مسرحتِها» أدبياً، ولكن من غيرِ مسرح. فدوره فيها كمعلِّم أجيال يتقدَّمُ على دوره كأديبٍ روائي، برغم ريادتِه غيرِ المسبوقةِ في الرواية العربية الأدبية التي، على قصورها وبدائيتها التقنيَّة معه، أسَّست مع ذلك، بانتشارها الواسع وبأثرها الثقافي الفني الكبير، لما بات يُعرَف لاحقاً، ولاحقاً جداً، بهذا الاسم والمصطلح. ولا مجالَ ههنا للتوسُّع في هذه النقطة بالذات، لأنها تندرج - في مبتغى هذه المداخلة - في نطاق «المعنى الضيّق» للأدب ومعاييره وقواعده التي تغوي بالكلام المرسـَل لدى بعض المتأدِّبين المدرسيين، لا «المعنى الواسع» لمكانة زيدان المفصلية في تاريخ الثقافة العربية الحديثة.
التمدن والحضارة
فمقاربة التاريخ الثقافي والحضاري الشامل للإسلام، بنفَسٍ موسوعي، كانت فكرةً حديثةً عندنا، أسَّسها زيدان نفسُه بكتابه اللافت ذي الأجزاء الخمسة: «تاريخ التمدُّن الإسلامي»، الذي هو «أولُ كتابٍ شاملٍ في مجال تاريخ الحضارة وضعَه باحثٌ عربي»، وهو «أشملُ مطالعةٍ ممكنة وقتئذٍ للظواهر والمعالم الدالةِ على التمدُن الإسلامي... كالتنظيم السياسي والإداري، التراكمِ الاقتصادي والثروة، الحرب والتنظيم العسكري، العمران، الانتاجِ الفكريِّ والثقافي... وكان التشديدُ في هذا الكتاب المحيط على فكرةِ التمدُّنِ دالاً على رهاناتِ النص واتصالِه باستراتيجية التقدُّم...». فكان جرجي زيدان معلِّماً رائداً لمن جاء بعده: كطه حسين عن ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية، علامةً على التحول الذي طرأ على معنى تاريخِ الأفكارِ ومفهومه، والشيخ مصطفى عبد الرازق في كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية»، ومحمد حسين هيكل في كتابه عن النبي محمَّد، وجواد علي في كتابه عن الشيعة الاثني عشَرية، وبخاصةٍ أحمد أمين في موسوعته من ثلاثةِ أجزاء وثمانيةِ مجلداتٍ عن التاريخ الثقافي العربي الإسلامي، بعناوين: فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظُهر الإسلام، التي استأنف فيها ما قام به قبله بعقدين جرجي زيدان في كتابه «تاريخ التمدُّن الاسلامي». تلك كانت المرحلةَ الأولى في كتابة تاريخ حديث للثقافة العربية والإسلامية، بحسب المناهج الغربية الحديثة آنذاك، التي أسَّسها أوَّلاً جرجي زيدان، بحسب قراءة نبيهة للمفكر عبدالإله بلقزيز. أمّا المرحلةُ الفكرية الثانية، فبدأت في ثمانينيات القرن العشرين تحت عنوان: نقد التراث العربي والإسلامي، مع محمَّد أركون ومحمَّد عابد الجابري خصوصاً، وهي تتداخل وتتكامل برأيي مع مرحلة ثالثة معاصرة هي: نقد النقد، بدأها جورج طرابيشي وسواه...
دلالتان بارزتان في ظاهرة جرجي زيدان، على ما في مفهوم الظاهرة، بعددٍ من مزاياها، من تفرُّدٍ واستثناءٍ وابتعادٍ عن «النمذجة»، الأولى: حسُّه الفائقُ النباهة والرسوليُّ كعربيٍّ مسيحي يضع كامل مؤهلاته المعرفية التي لم يتوقف عن إغنائها، من غير كلل باتَ مضربَ المثَل شغفاً ومنهجياتٍ حديثة، في دراسته التمدُّن الإسلامي، كأساسٍ لثقافته هو كما لثقافة الملايين من مواطنيه، في رقيِّها وذاتيتها الحضارية، التي هي بمعناها الأوسع إحدى المراحل المضيئة في تاريخ الحضارة البشرية جمعاء. ومن أدهى المفارقات، أنَّ رغبته العارمة في تدريس هذه الحضارة في الجامعة المصرية التي كان هو من أوائل الداعين لإنشائها، أحبطتها قوىً في المؤسسة الدينية لم تلتحق بعصرها الحديث آنذاك، ولا انتماء لها بأنوار حضارتها السالفة التي أفنى زيدان حياته لإبراز معالمها، تحت حجَّةِ أنَّ مسيحياً هو غـــيرُ مؤهـــلٍ لتدريس الحضارة الإسلامية! هذا الموقـــف الذي صدقت تداعياتُه الانحطاطيةُ الظلامـــيةُ في واقعنا العربي والإسلامي الراهن، بخاصةٍ بــعد مئة سنة!
والثانية: تعليمُه العامُ الراقي الذي هو رهانُه والتزامُه لتمكين الوعي العربي الإسلامي المعاصر من الإحاطة بالبُعد الماضي لثقافته، متحرِّراً من زمانيَّته القديمة البائدة بسلبياتها الباقية، بانياً ثقته بذاته ركيزةَ تقدّمِه المأمول. وما الانتشار الواسع لـ «روايات تاريخ الاسلام» الزيدانية، وترجماتُها المختلفة إلى لغات المسلمين خصوصاً، وسواهم، إلاّ تأييدٌ لهذا الرهان الذي لا يلغي، مع ذلك وتالياً، تلك المآخذَ، التقنية الطابع، الصائبةَ بمجملها والمعاديةَ له على السواء.
مئوية جرجي زيدان الراهنة، بجوانبها المنيرة العميقة المضمَرة وبسقطاتها القاتمة الفاقعة الناتئة، تدعونا، مع ذلك، لنستأنفه ونتجاوزه، لنستأنفه بتجاوُزنا له، بعد أن أدَّى دوراً محورياً في التأسيس للتأريخ الثقافي للتمدن الإسلامي، ولتوحيده الرائد لآداب اللغة العربية، وعضده بالمؤازاة والتلازم صحافتَها الجديدة حينذاك والراقية بواحدٍ من نماذجها المميَّزة، مجلَّته «الهــلال»، وقـــد بات عمــرها اليوم 122 سنةً، وأن نتنبَّه، عنــد تقييـــمنا هــذه الانجــازات ودلالاتــها كمنعـــطفات كبرى، لمكانـــته المركزية في ثقافــتنا العربــية الحديثة، وأنها مبدعةٌ خصوصاً بانفتاحــها وتنوُّعهــا وحرّيتها، وبذلك هي القائدةِ الحقيــقية لـــنا في مسيرتـــنا الحضــارية الانســانية الواســـعة، والواعدةِ وحدهـــا بنهضةٍ مستدامة.
عن جريدة السفير.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |