سركون بولص شاعر الأقلّية / محمّد صابر عبيد
2015-02-04
على الرغم من أنّ الشاعر العراقيّ سركون بولص ينتمي في ظلّ التقسيمات الشعرية المكانية أو الجيلية إلى "جماعة كركوك" أو الجيل الستينيّ في الشعرية العراقية، إلّا أنّه في حدود المعاينة النقدية الصافية والموضوعية والعلمية والنزيهة غير المؤدلجة، نسيج وحده، لا يمكن أن يشبهه أيّ شاعر آخر، لأنّه يتمتّع برؤيا شعرية خاصة لها حداثتها ومقولتها وفكرتها النوعية الخاصة، وحساسية تعبير شعرية أكثر خصوصية، لها حداثتها ومشروعها ولغتها أيضاً، على النحو الذي يمكننا فيه أن نُخرجه تماماً من كلّ هذه التقسيمات المتداولة المعروفة، ونضعه في طبقة شعرية مستقلة وأحادية لا تضمّ سواه، ونتعامل معه نقدياً وثقافياً على هذا الأساس، واستناداً إلى إشكالية هذه الرؤية ومقتضياتها وخباياها وخلفياتها وحدودها.
حداثة الرؤيا
تتحكّم في رؤيا سركون بولص الشعرية/الإنسانية نظرة إشكالية ذات انتماء حادّ شديد التماسك والحساسية والتكثيف إلى "حسّ الأقلية"، وهو حسّ طبيعيّ وواقعيّ وموضوعيّ وتاريخيّ مفروض على الزمان والمكان والأشياء، لا يمكن تجاوزه، أو إهماله، أو تفاديه، أو التغاضي عن خطورته، أو التقليل من أهميته، مهما تمتّعت الأكثرية المهيمنة بالتسامح والديموقراطية وقبول الآخر، ومهما أظهرت الأقلية في المقابل من ضروب الإذعان والاتساق والقبول ووهم الاندماج والتخلّي عن النموذج. لأنّ فاعلية الحضور والإنجاز وإثبات الذات للأقلية التي هي في طبيعة الحال حقّ طبيعيّ وأصيل وإنسانيّ لا شكّ فيه، تصطدم أبداً، حتى من دون وعي أحياناً، بحسّ الأقليّة الذي يُشعِر فَرْدَهُ بالدونية والمواطنة ذات الدرجة الثانية، في مجتمع بطريركيّ أبويّ عشائريّ متزمّت ومتمركز حول نموذجه تمركزاً شديداً، يقوم تاريخياً وحضارياً وثقافياً على حظوة الأكثرية بكلّ شيء، واستحواذها على المكان والزمان والفعل والسيادة، وكأنّه حقّ وراثيّ لا يقبل النقاش كفلته لها الشرائع الدينية والدنيوية.
كان على سركون بولص أن يواصل البحث الدؤوب والمضني وببسالة منقطعة النظير عن فضاء مغاير، يعبّر فيه عن رؤيته خارج أسوار الأكثرية ومهيمناتها الساحقة، وهو يشعر شعوراً عميقاً أنّ لديه ما يمكن أن ينمو ويعيش ويتمظهر إبداعياً خارج حدود نموذج الأكثرية المتسلّط، على النحو الذي يعثر فيه على قدرة التجاوز والاختراق في مكان آخر حرّ وديموقراطيّ ورحب، غير المكان الأليف والمصوغ على وفق منهج الأكثرية المقيّد، ودستورها الأنانيّ، ورؤيتها المسوّرة للأشياء.
لم يكن هذا السبيل الذي يجتهد في إيجاده والهدف الذي يسعى إلى ضربه في الصميم سوى اللغة نفسها، لغة الأكثرية، في الانقلاب عليها وتهديم بنيتها التحتية الشعرية الماثلة، والانبثاق الجديد شعرياً في سياقها، وصوغ نموذج لغويّ شعريّ آخر، ينحرف كثيراً عن قداسة المنطقة اللغوية التي فرضتها الأكثرية وشيّدت معالمها الشعرية فيها على نحو حاسم وإكراهيّ ونهائيّ، وتفتيت مركزيتها وتهديم ثوابتها والتلاعب بقانونها وتغيير فقهها، واختراع جماليات جديدة ومبتكرة لفضاء تعبيرها، تطلّ وتعمل وتجتهد من خارج السور وبمعزل عن الميثاق الاعتباريّ المتعاهد عليه ضمن السياقات السائدة.
يمكن وصف هذه التجربة الانقلابية في محاولة تغيير المسار الشعريّ الذي ينتهجه سركون بولص بآليّة الاقتصاص من اللغة (شعار الأكثرية وسلاحها وعلامتها الإقصائية)، بوصفها المجال الوحيد المتاح للتعبير عن الرؤيا الخاصة في هذا المجال، خارج الوصاية الصارمة التي فرضتها تقاليد لغة الأكثرية وأعرافها وأساليب تعبيرها على ذاتها وعلى المحيط الذي يضمّ الأقلية/الأقليات، وهي تتلبّث في مكان هامشيّ عادةً.
المكان المركزيّ بشتّى أنواعه ونماذجه وطُرُزه وطبقاته ومخرجاته وثماره هو من حصة الأكثرية، بعد إخضاع الشرائع والقوانين كافة وتكييفها ورسم خطوطها الحمراء لتنفيذ هذا التقسيم، ودعمه بحشود من البراهين والأدلة والقرائن والوثائق والأسانيد والبيانات (السموية والأرضية)، التي تؤسس لشرعية هذه القوانين وديمومتها وفرضها القسريّ على المحيط، على النحو الذي يدحض كل محاولة (مارقة!) من الأقلية لإعادة النظر في استراتيجيا هذا المناخ، أو التفكير في زحزحة قوة مركزيته وسلطة تبئيره.
تنقّلَ سركون بولص - وهو يبحث له عن سماء وأرض ومصير ومناخ وفضاء يقبل فكرته، ويسخّر لها الأرض المناسبة لتنفيذ مشروعه - في سلسلة من المدن الإشكالية، التي تتمظهر في منظوره أولاً بوصفها مدناً مركزية ثم لا تلبث بعد تجاوزها، والابتعاد مسافة وعي ونظر وتأمّل مناسبة عنها، أن تتخلّى عنده عن مركزيتها وتغدو هامشية.
ابتدأ من كركوك، عاصمة الشمال العراقيّ في المنظور المحلّي، مدينته ذات الفسيفسائية المدهشة والتنوع الإثنيّ والقوميّ والدينيّ اللافت، الذي لقّنه الدرس القهريّ الأول في أنّ الأقليّة التي ينتمي إليها، عليها أن تذعن إذعاناً شديد القسوة لثقافة الأكثريّة ورؤيتها ونظم تعبيرها وإيقاع لغتها، وكانت مثل هذه الدروس في طبيعة الحال ذات طبيعة جوّانية مسكوت عنها ولا تتحرّك على السطح، ولا يشعر بها إلّا من اتّسع وعيه، وتعمّقت رؤيته، وتنكّب مشروعاً ثقافياً وإبداعياً وحضارياً ورؤيوياً كما هي الحال لدى سركون بولص خصوصاً، و"جماعة كركوك" عموماً، حيث أغلبهم من الأقليات.
انتقل بعدها إلى بغداد العاصمة حيث الفضاء الأوسع والأقلّ حصاراً للأقليات بحكم طبيعة المدينة الإدارية والإنسانية، على النحو الذي بدت فيه كركوك في نظر سركون ليس أكثر من قرية كبيرة، إذ وجد نفسه بمظهره وسلوكه الكركوكيّ ريفياً بإزاء مدنية الحياة في بغداد، وصرّح في أكثر من مناسبة بأنّ بغداد هي محطّ نظر وقِبلة مثالية له، لما تتمتّع به من حرية في الكثير من مجالات الحياة (الذاتية والموضوعية) التي كانت تبدو له مقفلة في كركوك.
لكنّ الحقيقة تتمثّل واقعياً في أنّ الإحساس بقلّة ضغوط الأكثرية على الأقلية هو العنوان المركزيّ لتشكّل هذا الإحساس في بغداد، وهناك وجد مساحةً أوسعَ تتمظهر في سياقها روحُهُ الوثّابة وحساسيته المبدعة وفكره المتوقّد، ومجالاً أكثر رحابة لتنفيذ خططه في إنتاج اللغة الانقلابية (الأخرى) التي يطمح إلى إنجازها شعرياً (لغة الأقلية). إلّا أنّ بغداد تبقى على الرغم من ذلك كلّه مدينة الأكثرية، ولغتها لغة الأكثرية، وإيقاعها إيقاع الأكثرية، وثمة حدود ضيقة مسموح التحرّك بها، ومعها، ومنها في كلّ الأحوال، وعليه، بعد زوال عنصر الدهشة الأولى، البحث عن مكان جديد يتّسع لرؤياه، ويقبل أفكاره، ويتناغم مع إيقاعه.
لم يكن هذا المكان في مثل تلك الأوقات العصيبة الضاغطة سوى بيروت العاصمة العربية الذهبية، التي ينفرط فيها عقد هيمنة الأكثرية، وتتناثر خرزاته، ويتشتّت إيقاعه، وتتساوى الفرص أمام الجميع تقريباً، وفي وسع سركون بولص وغيره أن يشتغلوا على مشاريعهم الشخصية، مهما كانت، بكلّ حرية ورحابة وتركيز، لا بل إنّ الأقلية التي كان يعانيها سركون في كركوك على نحو عميق، وفي بغداد على نحو أقلّ، هي التي تلعب دور الأكثرية في بيروت من دون أن تتاح لها ممارسة الضغط والإكراه على الأقليات.
حين تعاظم وعيه، وتضاعف طموحه، ونضج إيقاعه الخاصّ، وتسلّح بقوّة القدرة على فرض النموذج وتغيير المصير، ترك بيروت واتجه صوب البلاد الجديدة التي لم تكن في جذرها وحقيقتها سوى موطن أصيل للأقليات، حيث لا أقليات بالمعنى الثقافيّ الناقص الذي عرفه سركون، وكان أن وصل سان فرنسيسكو ليحظى بالحرية المطلقة والرحابة المطلقة والمناخ المفتوح لكلّ ما يريد ويشتهي ويتطلّع.
تلبث هناك في محطته الأخيرة، حيث آخر حافة ممكنة في هذا العالم للتغيير والرحيل والغربة، حتى غادر الحياة سعيداً/حزيناً/ في حضنها الآمن الدافئ، وهو يبدو لنا مطمئناً إلى أنّه حقّق ما في وسعه وما كفلته له قدراته وإمكاناته وموهبته في إنتاج اللغة الشعرية (طموح الأقلية)، التي طالما اجتهد وسعى وتطلّع دوماً إلى إنجازها، وفرض بلاغتها، وتكريس منطقها الإبداعيّ، استجابةً لطموحه الشعريّ وحلمه الإنسانيّ، ونكايةً، معرفية وجمالية وثقافية متقصّدة، بلغة الأكثرية في آن واحد.
في الكلمة التي ألقاها الشاعر سركون بولص في "اليوم العالميّ للشعر" أتى على إيراد هذه الحكاية ونصّها: هناك حكاية تنسب إلى جلال الدين الرومي تقول: ذهب رجل إلى بيت المعشوق، قرع الباب. فسأله الرجل من داخل البيت: مَن هناك؟ فأجاب الرجل: إنه أنا. فقال له الصوت: هذا المكان لا يسعنا أنت وأنا. وبقي الباب مغلقاً. فانصرف الرجل، حائراً، مرتبكاً ومستغرباً من هذه الكلمات، متأملاً معانيها الخفيّة. وبعد سنة من العيش في عزلة، محروماً من أبسط متع الحياة، قرّر الخروج وقرع الباب ثانية. سأله ذات الرجل من داخل البيت: من هناك؟ فأجاب الرجل: إنه أنت. فانفتح الباب".
من الواضح تماماً أنّ سركون بولص لم يأت بهذه الحكاية بالذات في مثل هذه المناسبة الكبيرة من دون هدف جوهريّ ومركزيّ، يتصل بفلسفته الشعرية والإنسانية في علاقة الأنا بالآخر، وبأنّ هذه الأنا المركزية ليس في وسعها قبول آخر لا يماثلها، أو لا يكون هي على نحو ما. ويبدو أنّ هذه الأزمة، أزمة الأقليّة، ظلّت تستحوذ على طريقة تفكيره حتى وهو خارج أسوارها وسلطة وتأثيرها، فلم يكن من سبيل أمام الرجل الذي هو خارج بيت المعشوق (اللغة)، لدخول ميدانها، وتلقي لذائذها، والانتماء إلى راهنها، وإنهاء حالة العزلة والحرمان والعطش والجوع، إلّا في التخلّي عن أناه والانتماء إلى الـ أنت.
بهذه النتيجة الرمزية المثيرة والصارخة التي انتهى إليها سركون بولص يرتفع نموذجه في سلّم الشعرية ليكون شاعر الحيرة والقطيعة الأول، متجولاً أصيلاً في اللامكان كما تجلّى ذلك في ديوانه "الوصول إلى مدينة أين؟"، وساعياً إلى تمجيد غربة اللغة ورحلتها في التيه، والعمل على تغريبها لإنجاز فعل الحداثة (حداثته هو).
ومثلما كان الشاعر العربيّ (الإيقاعيّ) السيد على وزنه، كما يقول، حيث يتمكّن من تحقيق عنوانه وتكريس هويته، فإنّ سركون، كما يقول أيضاً، كان الشاعر السيد على نثره حيث تمكّن من تحقيق عنوانه وتكريس هويته أيضاً.
لطالما اعتقد سركون في سياق تعريفه لكائنه الشعريّ أنّ الثقافة غير كافية وحدها للشاعر، فاستعان ما وسعه ذلك بالرسم، إذ كانت اللوحة عنده كنزاً بصريّاً يملأه بالرغبة الشعرية، فضلاً عن التمثيل، وعما دعاه بـ"أسلوبي في الحياة"، معرّفاً الشاعر في هذا الإطار بأنه "كائن بدائيّ له معرفة عميقة بالأشياء"، عليه أن يقف دائماً خارج الأسوار ليكون في وسعه دائماً أن يرى، وهي من الوسائل المركزية التي اعتمدها وشغّلها بأقصى طاقاتها في تمكين حساسيته وتأهيل قدرته على إنتاج طموحه اللغوي الشعريّ.
حداثة التعبير الشعريّ
من حداثة الرؤيا تلك إلى حداثة التعبير الشعريّ، حيث اجتهد سركون بولص عميقاً في الوصول إلى طاقة تعبير شعريّ حداثية، تستمدّ رؤيتها وشروطها وحساسيتها من استلهام حيّ وحيويّ لفضاء الرؤيا في أسمى تجلياته، بوساطة لغة، وبلاغة، ونظم صوغ، ووسائل بناء، واستراتيجيا تصوير، وطراز إيقاع، لا يتوافر إلّا في قصيدته هو، حتى وإن استخدم البحور الشعرية العربية المعروفة على سبيل قهر سلطتها من داخلها وهزيمة نموذجها بقوّة النثر.
ففي قصيدة له بعنوان "أنا الذي" - وهو يحيل إحالة شخصانية واضحة على المتنبي -، يستخدم البحر الكامل في المقطع الأول منها بطريقة نثرية (حرّة) وكأنّ لا إيقاعَ ظاهراً في القصيدة، إذ سعى إلى تفتيت الكمونات الموسيقية المتلبثة أساساً في الحاضنة التفعيلية للبحر الشعري:
قال الرجل. قال الرجل لا ترمِ في مستنقعٍ حجراً ولا تطرق على بابٍ فلا أحدٌ وراءه غيرُ هذا الميّت الحيّ الموزع بينَ بينٍ في أناهُ، بلا أنا يأتي الصدى:
هل مات. من كانوا. هنا.
هو هنا يعيد إنتاج الحكاية التي رويت عن جلال الدين الرومي، واستشهد بها في كلمته الآنفة الذكر في يوم الشعر العالميّ، إلّا أنّه هنا ينحرف بالحكاية إلى مسار مغاير ليكون الرجل (هو) والحكاية حكايته، وليست حكاية رجل جلال الدين الباحث عن المعشوق، إذ ينصح ذاته المتخفية في طية السطور الشعرية بالتخلّي عن طرق الباب، حين يكون الثمن التخلّي عن الأنا والانتماء إلى هذا الآخر الوهميّ الذي ليس سوى صدى موت الغابرين.
إنّ سياسة التعبير الشعريّ هنا تنهض على تجريد اللغة من لعبة الانصياع الأثيرة للحاضنة الإيقاعية التقليدية التي يرسم البحر الكامل معالمها عادةً، وتسيير الجمل الشعرية على وفق نسق تعبيريّ يتحرّك بدأب وقصديّة نحو النثرية أكثر من تحركه في اتجاه الشعرية، أو ما يمكن أن نطلق عليه هنا "نثرنة" الإيقاع الشعريّ، وتموين الكلام المتحفزّ بأكبر طاقة من الهدوء والسكينة، واستظهار نوع من الاستشكال الصوتيّ الظاهر واللافت للأصوات، العامل على تغييب الحضور الموسيقيّ المنبثق تلقائياً من خلفية التفعيلة المتكررة في تتابع الكلام الشعريّ وكبته، وخنق حساسية التطريب والغناء في تناغم الأصوات ورقصتها المنتظرة للإيهام بلا وزنيته، في سياق تحديد حركة الدوال بطريقة تقطع أوصال الإيقاع، المهيأ للانبثاق والتمظهر السريع المعروف في هذا البحر الشعريّ الواسع التداول عند المتنبي خصوصاً.
في المقطع الثاني من القصيدة يعود من رحلة الانتصار الدونكيشوتية على إيقاعية البحر الشعريّ إلى فضائه النثريّ الحرّ الأثير والمستقلّ، وقد تخلّص من مهمة تحييد عنصر التطريب في الكلام الشعريّ، وخلق المناخ المناسب لولوج نموذجه ميدان الشعر بلا منافس، في هجاء ميدانيّ وتشكيليّ مرّ لفكرة الإيقاع المرسوم والمعدّ سلفاً في حاوية التفعيلة، وللأذن الكسولة غير المغامرة التي لا تنتظر إلّا أنغامه التي أدمنتها، وتآلفت مع أصواتها الرتيبة، واندرجت عميقاً في سياق أفق توقّعها.
المقطع الثاني وهو يسعى إلى الانقلاب على المقطع الأول، ينفتح على عتبة اللغة الجديدة التي يصوغ لسانها وقدرتها على التعبير في سياق فضاء الرؤيا وتعاليمها وهندسة تشكيلها:
جاء الواحدُ الذي يقولُ، والآخر الذي يصمتُ.
الذي يمضي، والآتي من هناك.
بينهما كلمةٌ، أو نأمةٌ.
بينهما أنهارٌ من الدم جرتْ، فيالقٌ تسبقها الطبولُ. ولم يستيقظ أحد. بينهما صيحةٌ الجنين على سنّ الرمح في يد أول جنديٍّ أعماهُ السُّكْر يخسفُ بابَ البيت.
بينهما مستفعلنٌ، أو ربّما متفاعلنٌ؟
لا ليس بينهما سوايَ: أنا الذي
المقطع أشبه بخريطة مفتوحة تجتمع فيها كلّ عناصر الطبيعة اللغوية المشتهاة، وهي تقوم على التضادّ والتشابك والتشاكل والمدّ والجزر، في فاعلية بلاغية مشاكسة تنهض على آليّة النقض والمحو وتغييب سهم المعنى في دائرة التأويل، إذ إنّ "الواحد" لا يقابل "الآخر" ولا يضاهيه، و"الذي يقول" ليس عكس "الذي يصمت" تماماً، و"الذي يمضي" لا يقابل "الآتي من هناك" ولا يعاكسه، لأنّ بينهما دائماً سيمياء اللغة (كلمة) وسيمياء الفعل الخفيّ (نأمة)، وتاريخ حافل بالمجازر (أنهار من دم جرت)، واستعراضات باذخة تعلن فيها الأكثرية عن جبروتها (فيالق تسبقها الطبول)، في ظلّ نوم عميق وسعيد للعدل والإنسانية والحقّ (ولم يستيقظ أحد)، والإيقاع المهيمن الذي تكلّست حكايته في الزمن وصرّفه المحرّفون بعيداً عن أصل الصوت وقصته (صيحة الجنين على سنّ الرمح)، وأخيراً وليس آخراً الحاوية الإيقاعية بمائها المقدّس (مستفعلن، أو ربما متفاعلن؟)، حيث تلتئم في صيحة الأنا الشاعرة (الانقلابية) التي تسطع بأداة الرفض الكلّيّ لمجمل هذه الطبقات الصورية (لا).
إذ يزيح وينحّي كلّ هذا التراث الهائل المشحون بالقسوة والقهر خارج دائرة فعله الشعريّ، ويصفّي دمه الشعريّ من مخلفاته وتركاته الثقيلة، مستبدلاً بها أناه الشهيدة المغامرة الباحثة عن المجد (ليس بينهما سواي)، حيث تندمج على نحو ما بـ"أنا المتنبي" القادمة من الأقاصي برمزيتها الكثيفة الخصبة، وهي تحكي قصة الانتصار على الفكرة، والهزيمة على أرض الواقع، في فاعلية إشكالية غامضة لا تنتهي إلى مأوى ولا تقود إلى مصير.
هذا هو الشاعر والإنسان والمثقف سركون بولص (أنا الذي) الخارج على بنيوية التخريج والتفصيل والتأويل، والمتمرّد على "أنوية" المتنبي المركزية، والملخّص للعبة اللغة وهي تؤدي وظيفة خارجة على القانون، ورافضة لإغراءات العودة الاستلابية إلى بيت الطاعة.
في قصيدته التي تكاد تتفجّر لشدّة كثافتها اللغوية والحكائية والدرامية الموسومة بـ"بستان الآشوريّ المتقاعد"، تحفل عتبة العنوان ذات الآليّة السردية التعريفية المباشرة بطاقة رمزية هائلة في التعبير عن إشكالية الانتماء وحسّ الأقليّة، التي تحرّك الماكينة الثقافية والإبداعية والإنسانية لسركون بولص في الزمان والمكان والشخصية والحدث.
فالدوال الثلاثة المؤلّفة لتشكيل العتبة العنوانية (بستان/الآشوري/ المتقاعد) تنطوي على تفجير حسّ الأقليّة على نحو غزير وفعّال ومتّقد وعميق، إذ ينفتح دالّ "بستان" على المعنى المتعالي اليوتوبيّ للجنّة، ويتمركز دالّ "الآشوري" عالياً في فضاء الإعلان والإشهار والسطوع والتمظهر والصيرورة والوضوح، في حين يشتغل دالّ "المتقاعد" - بمعناه المحلّيّ الإقليميّ الثقافيّ والاجتماعيّ - على تقليص الحياة، واختزال حركتها، وتصغير حدودها، ومضاعفة حسّ العجز والانكفاء فيها، وانتظار الموت القريب المغلّف بالوحدة والسأم والانشغال الإيهاميّ المخلّص بجنّة "البستان".
تتحرك القصيدة في نظام تواصليّ شديد التماسك والتنامي والتوالد والصيرورة، لا يمكن وضع حدود لفصل انتقالاتها وتحولاتها من أجل ترتيب صيغة نوعية ممنهجة لتلقّيها، هي لا تمنح ذاتها للتقسيم وتصرّ على وحدتها الحكائية والسردية والشعرية والدرامية والتمثيلية والتشكيلية.
لا سبيل إذاً أمام تحدّيها إلا في الاقتراب الحسّيّ منها، وعرضها برحابة وصدق وبصريّة عالية على شاشة التلقّي كما هي تماماً:
النجوم تنطفئ فوق سقوف كركوك وتلقي
الأفلاك برماحها العمياء إلى آبار النفط المشتعلة في الهواء إلى كلب ينبح في الليل مقيداً إلى المزراب حزناً؟ أو رعباً أو ندماً وضفادع تجثم على أعراشها الآسنة في بستان مهجور عندما تشق حجاب الليل صرخة مقهورة إنه الآشوري المتقاعد يقلع ضرسه
المنخور بخيط مشمع يربطه إلى أكرة الباب
ثم يرفس الباب بكل قواه مترنحاً وهو يئن مغمض العينين إلى الوراء.
التمهيد الوصفيّ والمكانيّ الكركوكيّ بطبقاته المتراصّة التي تشبه بنيوية قشرة البصلة، ينفتح على سلسلة دوائر وتشكيلات وصور ورموز وإيحاءات ونيّات وخلاصات، في كلّ دائرة وتشكيل وصورة تثوي حكاية، وتلتثم قصة، ويتكوّن شريط فيلميّ، وتنمو لوحة، وتتشكّل بذور ملحمة. ليصل المشهد الاستهلاليّ في عملياته التي تسير على خطّ هندسيّ واحد إلى قلب المحتوى المكانيّ المعلّق في سلّة العنوان "في بستان/مهجور"، حيث تنضاف صفة إقصائية جديدة (مهجور) إلى مساحة "بستان الآشوريّ المتقاعد" في عتبة العنوان، تحاكي صفة "المتقاعد" وتتماهى معها، وتنضوي تحت ظلالها، وتشتغل أرضياً في إطارها.
يتصل هذا التوصيف المكانيّ الجديد (في بستان/مهجور) بظرف فضائيّ (عندما)، يقود فوراً إلى لبّ الحكاية الشعرية وجوهر دلالتها، إذ يتمظهر الشريط الملتبس على شاشة المشهد في بصريّة طاغية، تلخّص أزمة الآشوريّ المتقاعد ومحنته الثقافية وتجربته المرّة وسيرته الذاتية الفقيرة. وهو يعالج خيبته التاريخية (ضرسه/المنخور) بمفرده في غفلة من المكان والزمن والجغرافيا، ليعبّر عن وضعه "الأقلّيّ" في دراما سلسلة الأفعال والصفات والأحوال السالبة التي ترسم صورته الناقصة في سلّم اللغة (تنطفئ/تلقي/ينبح/تجثم/تشقّ/يقلع/يربط/يرفس/يئن ـــ العمياء/المشتعلة/مقيداً/حزناً/رعباً/ندماً/الآسنة/مهجور/مقهورة/المتقاعد تقاعد/المنخور/مترنحاً/ مغمض))، وتنتهي إلى الموقع الخلفيّ الهامشيّ حيث تتلبّث الأقلية دوماً (إلى الوراء).
لا شكّ في أنّ حداثة التعبير الشعريّ عند سركون بولص تستجيب على نحو فعّال وقاسٍ ودمويّ لأطروحته في ابتكار لغة شعرية خاصة بالأقلية، يكون في وسعها أن تعبّر عنها بلا وصاية ولا رعاية أبوية قهرية غير معترف بها، مؤسسة على الرغبة في قتل الأب غير الشرعيّ، واختراع أب من صنعها يحمل معه لغته الأخرى المغايرة.
لم تكن استراتيجيا الانحراف التي أحدثها سركون بولص في سكّة اللغة الشعرية قضية تقانية بنيوية صرفاً، تنهض على تأكيد مهارة اللعب الشعريّ على اللغة وبها في المجال النصوصيّ كما يفعل أدونيس مثلاً، بل هي مرتبطة عنده بالموقف العنيف والمتوتّر من العالم، وتعيين منطقة لغوية - شعرية حرّة تمثّل شعار الأقليّة، وتتحدّث بلسانها، وتعبّر عن قيمها ورؤيتها، وتعلن عن مكان مستقلّ لها تحت الشمس.
الأمر طبعاً يحتاج إلى قراءة موسّعة ومعمّقة تقترحها قراءتنا وتحفر مجراها، عليها أن تطوف طوافاً تفصيلياً محايداً في طبقات المتن الشعري لسركون، وتخومه وظلاله وخلفياته ومرجعياته وزواياه وندوبه ومنعرجاته وخيباته، لترصد آليّات معجمه الشعريّ وأشكاله ومستوياته وحدوده، الذي يمكن أن نصفه بمعجم الأقليّة، وتحديد متنها الشعريّ تحديداً صارماً وواضحاً - لسانياً وثقافياً - على هذا الأساس. على النحو الذي يمكن في سياقه فتح مجال جديد للدراسة الثقافية الخاصة بالرؤية الشعرية، التي يمكن أن تعيد النظر كاملاً بالمسلّمات المحدودة التي تلبثت عندها قراءة الشعرية العربية قديماً وحديثاً، إذ إنّ قراءة "شعرية الأقليّة" في التراث الشعريّ العربيّ لا تزال مسألة مغيّبة ومسكوتاً عنها وهامشية، ولا تخضع للرصد العلميّ العميق والصادق والموضوعيّ والديموقراطيّ والليبيراليّ والعلمانيّ، ولا تزال محجوبة في نظر المركزية التي تحفل بها الرؤية النقدية العربية في نطاق إعادة قراءة الشعرية العربية من هذا المسار، وما يمكن أن يقود إليه من مسارات جديدة، لا تنظر إلى فضاء الشعر العربيّ بوصفه فضاءً تقانياً أجناسياً محضاً، بل وسيلة من وسائل اكتشاف نظرة الشاعر العربيّ إلى الأشياء وموقفه من العالم، على وفق تجربته الثقافية داخل منجزه الشعريّ.
يمكن في هذا السياق إعادة قراءة مقولة "الشعر ديوان العرب" عبر التعامل مع مفردة "ديوان" بوصفها مناخاً ومزاجاً وتاريخاً سريّاً غائراً في أعماق الروح الشعرية للشاعر والتجربة، لا مجرد استئثار خارجيّ يتلبث في القشرة اللغوية ومعانيها ودلالاتها ورموزها، داخل محيطها النصّيّ الأدبيّ المستقلّ عن المحيط الثقافيّ التكوينيّ والماحول السوسيوثقافيّ.
عن جريدة الحياة.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |