من يصنع المحرمات.. الاعتراف الممنوع / محمود شعير
2015-02-11
الدين والجنس والسياسة، الثالوث المحرم في الثقافة العربية.. هل لا يزال محرماً؟ ربما، وربما أضيف إليها تابوهات أخرى، كالكتابة عن الأديان والطوائف الأخرى، وربما الكتابة عن أعداء الأمة، كأن تكتب عن رحلة إلى الكيان المحتل، فتجد نفسك خارج ما يسمى بالجماعة الثقافية، خارج الإجماع الثقافي المتوهم. بإمكاننا أن نضيف إلى هذه القائمة من المحرمات أشياء أخرى كثيرة.. لكن التأمل بعمق في الموضوع يجعلنا نيقن أن المحرمات القديمة لم تعد كذلك... بإمكانك أن تكتب في كل شيء.. أن تقول كل شيء. سواء بلغة مجازية أو بلغة صادمة.. الفضاءات مفتوحة لتجاوز كل الأسوار.. مطلوب منك فقط أن تتحمل نتيجة ما تقول او تكتب!
هل لدى المثقف العربي استعداد لكي يقول كل شيء؟ من يضع المحرمات له.. هل يضعها لنفسه.. أم أن هناك سلطة تضع قوائم «المرغوب والمسموح»؟
الثورات العربية اربكت الجميع، تحديدا المثقفين، الذين اكتشفوا فجأة أنهم يعيشون في كهف افلاطون، هم أبناء سلطة العمى، المثقف لم يكن سوى ذلك الابن البار الذي يسير بنفسه نحو «الأسلاك الشائكة» ولكنه غير مسموح له أن يتجاوزها، ولكنه أيضا لم يحاول المغامرة من أجل تجاوزها. المجال أصبح مفتوحا، ليس أمام المثقف سوى أن يقول ما يشاء وقت ما يشاء.. وأسئلة الغرف المغلقة لم يعد طرحها عملا محفوفا بالمخاطر، لأن المثقف الجديد ابن التعدد والانفتاح على العالم لم تعد تعنيه قداسات متوهمة، أو أسطورية قديمة، تجاوزها الزمن.
بعد أيام قليلة من تنحي مبارك عن السلطة، كانت إحدى الحافلات المتجهة من شارع «الهرم» إلى «وسط القاهرة، تحمل بين ركابها بعض السلفيين، أدار السائق أغنية عاطفية.. أحد السلفيين اعترض وطلب غلق الكاسيت، السائق أوقف سيارته، وأمر الراكب السلفي بالنزول صائحاً فيه: «قضينا 30 سنة في قمع مبارك.. مش حتيجوا انتو كمان تقهرونا..». صحيح جرت في النهر أمواج كثيرة، وصلت جماعات الإسلام السياسي إلى السلطة، وتركتها.. لكن عاماً واحداً في السلطة كان كفيلا لهد أحد تابوهات الثقافة العربية، ليس الدين بمعناه الروحي، ولكن بمعناه السياسي.. أصبح كل شيء قابلا للنقاش، للكتابة، للجدل.. أحيانا بنية صادقة، وأحيانا أخرى للاستهلاك الإعلامي، المحلي أو الغربي.. التابو الوحيد لدى المثقف العربي ـــ الآن ـــ هو أن يكتب عن ذاته، يكتب نفسه، لا الآخرين، لا أن يخوض معارك التابوهات القديمة.
كلامان
منذ سنوات سألت الروائي خيري شلبي عن سيرته الذاتية.. قال سيكتبها وستفوق في جرأتها «ألف ليلة وليلة». مضت سنوات أخرى وأعدت السؤال. لكن الاجابة اختلفت: «لدي أبناء كبار الآن..!» من هنا يمكن أن يقول يوسف إدريس إن الحرية الممنوحة للكاتب العربي لا تكفي كاتباً واحداً كي يبدع» أو أن يقول توفيق الحكيم عن الأزمة التي حدثت عندما نشر نصا مطولا في الأهرام بعنوان «رسالة إلى الله» أنه «لا يستطيع أن يكتب 5% مما يريد كتابته».. ليس فقط بسبب السلطة وإنما بسبب المجتمع.. وهكذا أيضا يمكن أن يمنع مثقف مثل رمسيس عوض إعادة نشر مذكرات شقيقه لويس عوض معتبراً انه تجاوز في شأن الأسرة. إذن المرات القليلة الي كتب فيها البعض اعترافاتهم بصراحة وجرأة، أو حاولوا أن يمسوا ذلك الثالوث المحرم: الدين والجنس والسياسة تعرضوا لعواصف من الانتقادات الحادة. لم يغفر الأزهر حتى الآن لطه حسين نقده اللاذع لشيوخ الأزهر، وللتعليم الأزهري في سيرته «الأيام» كما لم يغفر بعض المشتغلين بالسياسة ما قاله نجيب محفوظ لرجاء النقاش عن حرب الاستنزاف، ولم يغفر له الأخلاقيون حديثه عن حياة الصعلكة التي عاشها في شبابه، كما لم تغفر العائلة ما كتبه لويس عوض عنها في مذاكراته «أوراق العمر». لم تكن اعترافاتهم «تبريرا» أو «تفسيرا».. كانت اقترابا من الحقيقة وتعبيرا عن «قلق» ونقد للذات لا يكترث بتصورات الآخرين أو ردود افعالهم.
لم تعرف الثقافة العربية إذن كتابة الاعترافات كما عرفتها الثقافة الغربية، المناخ الثقافي لا يسمح دائما أن يقول الإنسان ما يريد، ويضطر ان يفصح عن رأيه في حديث مجالس يختلف كثيرا عما يكتبه ويعلنه، يصبح للمثقف العربي «كلامان»: كلام للورق وكلام عليه. ولكن لماذا غابت ثقافة الاعترافات فى الثقافة العربية، بأشكالها المختلفة (سيرة ذاتية، رسائل..)؟
هل يتعلق الأمر بطقس الاعتراف في الكنيسة/ الغرب وغيابه عن الثقافة الإسلامية؟
الاعتراف هو سر من أسرار الكنيسة السبعة، لا توبة أو غفران إلا به، ظل هذا الطقس مسيطراً حتى في المجتمعات العلمانية. بينما الثقافة العربية هي ثقافة «الستر والحجب». قد لا يكون ذلك هو السبب الوحيد لغياب «الاعترافات» إذ يرصد تينتز رووكي في كتابه (في طفولتي.. دراسة في السيرة الذاتية العربية): «إن حرية التعبير مكبلة في دول العالم العربي كلها، والسلطة والمؤسسات شديدة الحساسية بالنسبة للنقد الصريح وللتمثلات الأخلاقية للواقع. من هنا أصبحت السرية والرقابة الذاتية إستراتيجية طبيعية للبقاء بالنسبة للكتاب على اختلافهم». وربما لا تزال الثقافة العربية أسيرة النظرة التقليدية لمفهوم الكتابة بأشكالها المحدودة (رواية، وقصة.. وقصيدة) بينما لا تعطى مساحة للأعمال الأخرى، مثل الرسائل وتعتبرها هامشية.
وهو الأمر الذي أشار إليه مرارا الشاعر أدونيس: الشعوب العربية منشطرة الشخصية ولذلك فلا نجد لدينا من ضمن أنواع الأدب العربي ما يُعرف باسم أدب الاعترافات لأن العربي توجد في مخيلته ثقافة راسخة تؤكد أنه يولد ويكبر ويموت معصومًا من الخطأ، وأن المخطئ دائمًا هو الآخر.».. معتبراً أن: «الثقافة العربية السائدة هي ثقافة لا تعلم إلا الكذب والنفاق والرياء، فإذا كانت الرقابة في المجتمع العربي جزءاً عضوياً من الثقافة العربية وليست فقط رقابة أهل السلطة، فرقابة أهل السلطة جزء من الرقابة الاجتماعية والسياسية، فأنا لا أستطيع أن أقول كل ما أفكر فيه وإذا قلته في قاعة كهذه لا أستطيع أن أقوله كله، وهذا يؤكد أن الثقافة العربية لا معنى لها فهي ثقافة وظيفية لا ثقافة بحث واكتشاف، كلنا موظفون في ثقافة سائدة». كتابة الرسائل، باعتبارها شكلا آخر من أشكال البوح والاعتراف، أمر نادر أيضا في الثقافة العربية، مهمل، وقد رصد لويس عوض منذ الستينيات هذا الإهمال في كتابه «مقالات في النقد والأدب» معتبرا أننا في الأدب العربي:
لا نحفل إلا بالأبحاث المنظمة في النقد الأدبي، أو فلسفة الفن، ولا نقيم وزنا كبيرا لخطابات الأدباء والفنانين أو مذكراتهم أو خواطرهم المتفرقة في الأدب والفن، وقلما نبذل مجهودا لجمع رسائل أديب أو فنان ونشرها بعد تحقيقها، برغم أهمية ما يرد في هذه الرسائل من آراء تلقي أضواء على الأدب والحياة. ولعل سبب ذلك أننا لا نسمي شيئا نقدا إلا إذا قال صاحبه في عنوانه، هذا نقد فاقرأوه، أو لعل سببه نظرتنا إلى الرسائل والمذكرات على أنها أوراق شخصية لا يجوز هتك حرمتها.
ويضيف عوض لو أننا استطعنا جمع خطابات شوقي أو ناجي أو حافظ إبراهيم أو أي عظيم من عظمائنا الراحلين «لاستطعنا أن ندرس عصره وعلاقاته وفنه وفكره من خلال خطاباته كما ندرسها من خلال انتاجه الرسمي».
كتابة الرسائل أيضا كما السيرة الذاتية استثناء الثقافة العربية، أعني الرسائل التي يمكن اعتبارها: «الأرض المثالية التي يركض الكاتب عليها، كطفل حافي القدمين، ويمارس فيها طفولته بكل ما فيها من براءة وحرارة وصدق، إنها اللحظات الصافية التي يشعر فيها الكاتب أنه غير مراقب وغير خاضع للإقامة الجبرية»، حسب وصف الشاعر نزار قباني في كتابه «100 رسالة حب». استثناءات قليلة تركت رسائل للنشر مثل جبران لمي زيادة، أنور المعداوي لفدوى طوقان، محمود درويش وسميح القاسم، محمد برادة ومحمد شكري، غسان كنفاني لغادة السمان، والطيب صالح لتوفيق صايغ، وهناك أيضا محاولة الناشر رياض الريس لجمع رسائل جبرا إبراهيم جبرا وتوفيق صايغ ويوسف الخال له في كتابه «ثلاثة شعراء وصحافي». هل يمكن أن نتحدث إذن عن ثالوث محرم تفرضه السلطة...؟ أم عن محرمات يفرضها الكاتب العربي على ذاته ونفسه..؟ عندما يتجاوز المثقف العربي نفسه الأسلاك الشائكة، لا أن يقف عندها يمكننا أن نتحدث إذن عن تابوهات من خارجه.
عن ملحق السفير الثقافي.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |