«داعش»: المشاهد الدموية بوصفها أقصى السياسة / سمير الزبن
2015-02-21
دو تصميم إعدام «داعش« للطيار الأردني معاذ الكساسبة، مأخوذاً من أفلام الرعب الأميركية، وبالكثير من الحرفية. فتقنية التصوير والديكور المحيطة بالعملية، وترتيب المقاتلين، والعناية الفائقة بملابسهم، زوايا التصوير لنظرات المسلحين، أسلحتهم، توزيعهم، أقنعتهم، القفص الذي وضع فيه الكساسبة لحصر حركته، وللتحكم بها في «زوم« تصويري محدّد، إضافة إلى استعراضية ومسرحة مشعل النار لحرق الطيار الأردني الأسير... الخ، هي مشهدية مطلوبة في مثل إعدام كهذا.
لا تفسر المشهدية والوحشية الارهابية، العناية الفائقة لـ«داعش« بعملية إعدام الطيار الأردني. فقد أعدمت «داعش« المئات من السكان المحليين في الأراضي العراقية والسورية التي تسيطر عليها، لكن أياً من هذه الإعدامات لم يحظَ بأي اهتمام تصويري من «داعش«. فهؤلاء ليس لهم أي أهمية حتى يتم تصوير إعدامهم، وإعدامهم لا يرهب أحداً، فلا أحد يكترث بهم، فهم يعدمون على عجل وبطلقة في الرأس وأمام جمهور حضر بالصدفة، يكون عادة من المارة الذين لا يعرفون شيئاً عن المنفذ فيه حكم الإعدام، ولم ينجُ لا الأطفال ولا المجانين من هذه الإعدامات، كل صورهم مرت من دون اهتمام من العالم، أو من «داعش« ذاتها، التي لا ترى أي أهمية لحياة البشر، وبذلك تستسهل إعدامهم. من لا قيمة لحياتهم، فليذهبوا الى موتهم من دون ترف تصويرهم استعراضياً، فحياتهم لا تعني من تريد «داعش« توصيل الرسالة لهم، ولا يصلحون رسالة أصلاً. فليس هناك من هو مشغول بهم أمواتاً أم أحياء أصلاً، فليذهبوا الى موتهم ليضيفوا رقماً إحصائياً إلى نار مشتعلة هنا وهناك، ليس أكثر.
لأن ليس كل المعدومين لهم المكانة عينها، فهناك منهم من يستحق أن يحمل موته رسالة، وبذلك يستحق تصويره بتقنية هوليودية، وأن يتم مونتاج أفلامهم بطريقة حرفية، كأنه تلفزيون الواقع يبث موتهم حياً بطريقة بالغة المشهدية. من يعدم في الرقة أو الموصل من سوريين أو عراقيين حياتهم لا تتساوى مع مواطنين غربيين وقعوا في قبضة «داعش«. ليس مهماً أن يكون صحافياً أو عامل إغاثة، المهم أن إعدامه، يشكّل رسالة قوية إلى مجتمعه. فهذا المواطن، له حياة ستتحدّث عنها الميديا والصحافة الغربية، عن عائلته، عن أصدقائه عن عمله... وعن... وعن... وليس مهماً، أن يقتل هؤلاء يقتلون بلا جريمة ارتكبوها، بل فقط لأنهم ينتمون الى دول تعتقد «داعش« أنها في حرب مطلقة معها. فجيمس فولي المصور الصحافي الأميركي الذي بدأ «داعش« به الإعدام المشهدي، وموظف الإغاثة البريطاني ديفيد هينز، والصحافي الأميركي ستيفن سوتلوف، والصحافي الياباني كينجي غوتو... وغيرهم من الرهائن، جريمتهم أنهم ينتمون الى دول تعتبر «داعش« نفسها في حرب معها، وأن هذه الدول ضمن التحالف الذي يحاربها. لذلك فدم مواطنيها مستباح، بوصفهم كفاراً بصرف النظر عن أعمالهم وبراءتهم من أعمال دولهم. والأهم أنهم يصلحون لتوجيه رسالة سياسية لدولهم والى العالم أجمع، ويصلحون أن يعطوا صورة عن «داعش« ونظرتها الى الصراع والى العالم والى التحالفات.
كما أن إظهار القوة بالصور الاستعراضية عند الدول، له وظيفة سياسية، ويسعى الى إيصال رسالة الى الأعداء، كذلك الأمر عند «داعش« الرسالة الاعلامية، والمشهدية الدموية، هي جزء أساسي من السياسة التي تسعى «داعش« الى تكريسها، بتكريس صورة ذاتية لها، ولعالم إسلامي، ولإسلام دموي، يخدم مصالحها وتوجهاتها السياسية. ليس أقصى التطرف هو خروج من السياسة ودخول في الإجرام المجرد. وإن كان هذا التطرف لا يخلو من الإجرام، فإنه إجرام بوظيفة سياسية، تنطلق من رؤية سياسية تقوم على ممارسة أقصى التطرف، بوصف الصراع هو صراع بين فسطاطين، فسطاط الحق وفسطاس الباطل. فالسياسة في أقصى التطرف هي سياسة عدمية، سياسة كل شيء أو لا شيء، لذلك، لا يمارس التطرف السياسة، بمنطق المساومة والهدنة والوصول الى حلول وسط. التطرف يمارس السياسة في أقصاها، واقصى السياسة، هو إذعان الآخر، بـ«الدخول إلى الإسلام« أو القتل للكفار، وبالتالي فالسياسة تمارس بوصفها «تغيير للعالم« وفق التصور الداعشي، الذي يمارس السياسة بوصفها «ادارة للتوحش« كما تقول إحدى وثائقه. وفي السياسة أيضاً، تحاول «داعش« احتكار صورة الإسلام، وتعميم صورته بوصفه «إسلاماً دموياً». وأمام المشهدية الدموية التي تنتجها «داعش« يختفي تنوع الإسلام، الذي لم يكن يوماً واحداً، وتصبح صورة «داعش« الصورة النمطية للإسلام، ما يثير العداء ليس ضدها فحسب، بل ضد العالم الإسلامي، ما يعزز العداء والصراع بين المسلمين و«الكفار«. والعداء ضد الإسلام يأتي بالمزيد من الشعبية لـ»داعش« الدموية بوصفها انتقاماً لآلام المسلمين من الكفار في الداخل والخارج. إن تعزيز صورة «الاسلام الدموي« واحتكار «داعش« للصورة النمطية للاسلام، يصبان في مصلحة سياسة أقصى التطرف التي تتبعها «داعش« من خلال تصوير جرائم القتل بطريقة مشهدية، تخيفنا نحن، فما بالك ما تفعله هذه الصورة في الأوساط الشعبية الغربية.
ما مارسته «داعش« من قتل مشهدي في إعدام المصور الصحافي جيمس فولي ومن قتل بعده، شكّل جزءاً أساسياً من دعاية سياسية لـ«داعش«. ومع أسر الطيار الأردني، ذهبت «داعش« في وحشية القتل المشهدي حتى نهايتها، فهذه المرة حظيت «داعش« بأحد أفراد «العدو« المقاتلين، إنه طيار وكان يُغير على مواقعها، ولا بد من إنتاج مشهدية موت أقسى وأقصى من تلك التي أنتجتها سابقاً، فكان ما شهدناه في مشهد حرق الكساسبة، وكانت ذروة المشهدية الإرهابية، مستلة من فقه دموي قروسطي، يبرر كل الجرائم بوصفها جرائم مشروعة. لذلك يستشهد فيلم القتل الذي أنتجته «داعش« بابن تيمية بقوله: «فأما إذا كان في التمثيل الشائع دعاء لهم الى الإيمان أو زجر لهم عن العدوان، فإنه هنا من إقامة الحدود والجهاد المشروع«. إنه دعوة الى الإيمان بأرداً صوره، والجهاد بأحط طرقه، لكنه إنتاج لأقصى التطرف، وبالتالي لأقصى السياسة، السياسة بوصفها القطيعة النهائية مع الآخر والتعامل معه. السياسة العدمية، إما قاتل وإما مقتول، لذلك كل مشاهد القتل التي ستنتجها «داعش« بعد الآن، هو تنويع على أقصى المشهدية التي انتجتها بإعدام الكساسبة.
عن جريدة المستقبل - ملحق نوافذ