من دولة الهوية البسيطة إلى دولة الهوية المركبة / مصطفى العمّو
2015-02-23
تمرّ سوريا في مرحلة عبور دموية شرسة، هيّأت مناخاً سياسيّاً واقعيّاً للتفكير والحوار حول مشروع الانتقال من دولة الهوية البسيطة الواحدة، والسهلة، إلى دولة الهوية المُركّبة والمُعقّدة، لأنّ هذا المشروع هو الحلّ البراغماتي الوحيد، وأيّ بديل للدولة المُركّبة هو التقسيم.
سقوط الاستبداد حتميّ تاريخيّاً، وهو يعيش مرحلة الشيخوخة الطبيعية، ورحيله بعد أن أصبح عائقاً أمام ديناميكيّة تغيّر المجتمع وتمدنه وتركيبة الدولة وبنائها، التوقيت يختلف، ولكن الموت أو الرحيل حتميّ، فجمهوريّة البعث في سوريا تفسّخت، والفكر الشموليّ المركزيّ تعفّن، ونفوذ اقلية من الأقليّة العلويّة في السلطة انتهت صلاحيتها السياسية والاخلاقية، وهذا النفوذ في طريقه إلى التآكل والتصدّع والتفتت والهدم. ولا أظنّ أنّ بإمكان أيّة هوية سياسية أو إثنية أو دينية بناء منظومة مركزية استبدادية جديدة في سوريا خلفا للاستبداد، أو الذي يجب ان يرحل.
إذا نجحت الكتل السياسية الوضعية أو الدينية المؤمنة ببناء منظومة شمولية جديدة بالعنف، ستكون منظومة معوقة مؤقتة وقابلة للاختناق لأنها سوف تفتقر إلى الأوكسجين، أي (الإجماع السوري)، وحظوظها في البقاء طويلا قليلة، والسبب يعود إلى تعدّد الهويات السورية، وديناميكية الثقافة الديموقراطية التي أثبتت حتى الآن أنّها نجحت في إدارة المجتمعات من دون اصطدامات بين الهويات الإثنية والدينية والهويات السياسية المتعددة، وهذا من خلال تحييد السلطة والتسلط دستوريا وقانونيا وقضائيا.
تتجه سوريا الى حرب الهويات الشاملة أو الجزئية، خصوصاً في مناطق التّماس بين الهويات، وبالتحديد الحدود الجغرافية المحتملة أن تكون حدود اطمئنان للهويات المتعددة ضمن اطار سياسي جديد، أو تجاوز شكل الماضي للدولة والدستور، وبناء عقد اجتماعي جديد توافقي مرحلي مؤقت بين الهويات السورية من انتاج العقل الجمعي المتعدد للقيام بتحضير المجتمع، ذهنيّا، وثقافيا، واقتصاديا وسياسيا إلى مرحلة التحوّل الديموقراطي الحقيقي.
الدستور البلجيكي - كما هو معلوم - هو أكثر الدساتير حداثة في العالم الديموقراطي كحل لدولة متعددة الإثنيّات. هذا الدستور، ممكن أن يكون حلا ديموقراطياً سياسياً في ما يتعلق بالعلاقة بين الهويات العرقية أو الدينية والمذهبية، ووضع حلول للقضايا الرمزية اسم الدولة والعلم والنشيد الوطني. فالأغلبية الفلامانية في بلجيكا لا يحق لها دستوريا تغيير أيّة مادة في الدستور، أو تغيير القوانين من دون موافقة الأقلية الوالونية، أو من دون اتفاقات سياسية معها، فالنموذج الفيدرالي البلجيكي، في بنيته استراتيجيّة وقائيّة من تقسيم الدولة، ومناعة من الاصطدامات بين الهويات الإثنية.
إنّ تحييد سلطة الأغلبية الإثنية على الهوية العربية السورية، موقوف على القبول بفكرة موت الدولة القومية ودولة الهوية البسيطة الواحدة، إذا كانت الدولة حريصة على وحدة الوطن وحياة المواطن. وعلى تيّارات الاسلام السياسي أيضاً أن لا تفكر بفرض الهوية الدينية البسيطة على دولة متعددة الهويات الدينية والمذهبية اذا كان لديها الاستعداد أن تكون جزءاً من العملية الديموقراطية. لذا فالمراهنة على العنف كوسيلة لفرض الهوية البسيطة الجديدة هو مشروع قسري جديد، يمكن أن ينجح مؤقتاً، غير أنه لا يمكن إلّا أن يكون تحضيراً لحرب مقبلة. فمشروع المواطنة المطروح من قبل المعارضة السياسية السورية هو مشروع تجريدي وافتراضي أقرب إلى المثالية وما زال المجتمع السوري غير ناضج ذهنياً وبنيوياً، أي ما قبل التمدن العاطفي الوطني، وهو على الأغلب كان خطابا لطمأنة الأقليات، أو أبعد من هذا، هو الحفاظ على الهوية البسيطة ووهم الخوف من تقسيم سوريا، وهو وهم الأغلبية لتشريع السلوكيات السياسية السلبية من الخطاب الأحدي إلى العنف الأحدي فقط لفرض الهوية الواحدة السهلة.
إنّ تقسيم سوريا هو آخر ما يجب التفكير به، إذ لا يمكن تقسيم سوريا من دون تقسيم خارطة الشرق الاوسط بأكمله، ولا يوجد دولة إقليمية لها مصلحة في تقسيم سوريا لا الدول العربية ولا حتى إيران ولا تركيا ولا المجتمع الدولي ككل.
إن الثورة السورية فرضت أرضية للنقاش حول تركيبة الدولة، وهو واجب تاريخي تجاه شهداء الثورة وضمان للأجيال المقبلة بدستور يمنع من اعادة الاستبداد، وإغلاق أبواب المجازر. والمناعة تكمن في دستور الدولة المركبة لكون السوريين ذوي هويات مركبة.
سوريا بحاجة إلى رجال سياسة كبار وطنيين عظام ومبدعين في القانون وعباقرة في الإجتهاد الاسلامي لطرح مشروع دستور الدولة المركبة على أساس المناطق الجغرافية والإثنية والمذهبية. وهنا تكمن الوحدة الحقيقية لسوريا أرضاً وشعباً، والمناعة من التقسيم وصعود اي استبداد قومي أو ديني أو مذهبي، إنه اطمئنان ليس فقط للأقليات، وإنّما اطمئنان للأقليات داخل الأقليات أيضاً، وهذا سوف يشجع النخبة الديموقراطية والمدنية المنتجة صعود واجهة هوياتها الإثنية والدينية والمذهبية بدلا من العقائديين الذين لا يملكون سوى مشاريع أحدية الجانب ضد مصلحة الشعب السوري وأمنه واستقراره.
إنّ مشروع الدولة المركبة هو مشروع وطني عميق، والجيل السياسي القديم افتقر إلى الشجاعة والذهنية الوطنية العميقة تحت مسمى، بداية، تقسيم سوريا، وهذا ناتج عن الإيمان العميق بالشمولية والمركزية والهوية الواحدة للدولة في دولة متعددة الهويات. هذا التفكير هو التهديد الحقيقي لتقسيم سوريا لأنه يراهن على العنف في باطنه لا على الحوار.
عن جريدة المستقبل - ملحق نوافذ