يرى أنغمار برغمان، المخرج السويدي، أن خلق الفيلم هو عمل شهواني ذو قوة هائلة. وبالمثل يقول المخرج الإيطالي الشهير فديريكو فيلليني: "صناعة الأفلام بالنسبة لي هي مثل ممارسة الحب، لأنها شعور شامل تفقد نفسك فيه". ويضيف فيلليني في مكان آخر: "إن أسعد اللحظات عندي هي عندما أعمل فيلماً. ومع أن العمل يستحوذ عليّ كلية، ويستهلك وقتي وأفكاري وطاقتي كلها، فإنني أشعر بأنني أكثر حرية مني في أي وقت آخر. أشعر بالعافية حتى لو لم يغمض لي جفن. وما أستمتع به عادة في الحياة يزداد استمتاعي به، لأنني أكون في ذروة النشاط الذهني، الطعام يغدو أطيب، والجنس يغدو أفضل". تبدو جملة فيلليني الأولى وكأنها تعبير نموذجي عن النظرية الفرويدية في التصعيد، لولا أنه يوضّح فيما بعد ما تفعله الطاقة الإبداعية، حيث تحرّض طاقة الجسد ككل. ما يتفتح ليس الذهن وحسب، بل الجسد بأكمله، ففي مرة أخرى يضيف شرحاً بأنه أثناء صناعة الفيلم يغدو أكثر شراهة للأكل وأكثر استمتاعاً، وأكثر اشتهاء للجنس وأفضل أداء له. وهذه الرؤية الحسّية تفنّد النظرة الشاعرية الأحادية التي تعدّ الإبداع عملاً يسمو على الجسد، أو أن الإبداع غالباً ما يكون على حساب الجسد. هذا من ناحية المبدع. ولكن من ناحية المتلقي، أية طاقة يرسلها النص، سواء كان فيلماً أو رسماً أو كتابة؟ وبتعبير آخر، أية طاقة كامنة فينا يحرّضها ما نتلقاه من نصوص؟ في المقابل يصور مايكل آنجلو عمله النحتي كالتالي: إنني لا أفعل شيئاً سوى إزالة الزوائد عن الصخر لكي تظهر المنحوتة. بالطبع لا يملك الجميع عظمة ماكلآنجلو وبساطته في تصوير الإبداع، وربما وحدها العبقرية تجعل الإبداع ناجزاً بتلك البساطة، وهذا لا ينسحب على تلقّي أعمال مايكلآنجلو نفسه وما يتصف به ذلك من تركيب وتعدد. وعلى العموم يختلف المبدع والقارىء في سيرورة تعاملهما مع النص ذاته، فالعملية الإبداعية، في جانب منها، هي إلغاء لكثير من الاحتمالات، والمبدع عندما يبقي على احتمالات محدودة فهو يفترض قارئاً ما، لكنه سرعان ما يُفاجأ بقراءات (احتمالات) لم تخطر على باله، وقد لا يجد ذلك القارىء المفترض أبداً. من هنا يبدو المتلقي وكأنه يعود بالنص إلى لحظات تشكيله، ومن هنا فإن النص يحيا مرتين: حياته السرية لدى مبدعه، وحياته السرية لدى متلقّيه. وهذه السرية في الحالتين تأتي مما يُلغى من احتمالات لدى المبدع والمتلقي، أما ما يُجهر به من الطرفين فهو بمثابة الجزء الذي يدلّ على الكلّ. النص بصيغته النهائية ليس غير احتمال راجح بالنسبة للمبدع، وأغلب المبدعين ميّالون إلى استذكار تجربة انجاز النص بما تحمله من غنى، أكثر من الرجوع إلى النص نفسه. أما الرأي أو الانطباع الذي يخرج به المتلقي فهو إقصاء لزخم القراءة، والحمولة الحسية المرافقة لها، ناهيك عن الاحتمالات التي تتوالد وتنمحي في ذهن المتلقي أثناء ذلك. فمثلاً نقول عن لقطة سينمائية: إنها رائعة. وقد نقول: تقشعر لروعتها الأبدان. إن القشعريرة ليست مساوية للروعة، لا من حيث الدلالة، ولكن أيضاً من حيث الفعل الذي تؤديه اللقطة والطاقة التي تحرضها في الجسد بأكمله. بالطبع ليس من شأن كل المشاهد أن تؤثر هكذا، أو أن تؤثر في كل المشاهدين بالسوية ذاتها، فالواقع أن لكلّ متلقٍّ حساسيته ودرجة انفعاله المختلفتين، وهذه الحساسية قد تختلف من زمن إلى آخر بالنسبة للشخص ذاته، كما أن هذا الانفعال لا يخضع للعوامل الفنية بالضرورة، فقد ذكر لي أحد الأصدقاء أنه بكى مطولاً على موت الشخصية الرئيسية في نهاية رواية "الحب وشياطين أخرى" لغابرييل غارسيا ماركيز، مع أن موت تلك المرأة معروف من بداية الرواية، ومع أنه يرى هذه الرواية من الأعمال المتواضعة لماركيز، لكنه لن ينسى بالتأكيد أن هذه الرواية أبكته. إذن أيكون الإبداع ملازماً للإيروس، لا موازياً له أو استعاضةً عنه؟ الإجابة عن هذا السؤال قد تقتضي منا التفكير في أثر النصوص على حياة كلٍّ منا، وأن نتقصّى الفعل "التثقيفي" لها على مجمل شخصيتنا، بمعنى أن لا ننظر إلى النصوص كأشياء أخذت مكانها في مستودع الذهن، وأن لا ننظر إلى أذهاننا كأجزاء عليا ومنفصلة عن كليتنا. إن السؤال السابق يحاول التفكّر في الآثار الشخصية "لدى كل شخص منا" للعملية الإبداعية، من منطلق أن كل مشارك فيها هو فاعل إبداعي. وعلى هذا فالقراءة فعل ديمقراطي ينتفي معه الإجماع، أي أن العملية الإبداعية بمجملها هي فعل مضادّ لكل ما يؤطر الإيروس وينمّطه. قبل سنوات أُطلق موقع الكتروني عالمي للشعر، أتاح للمستخدمين المساهمة فيه من خلال تسجيل النصوص التي يحبونها بأصواتهم، وخلال أسبوع تلقى الموقع أكثر من مئة وثلاثين ألف نص شعري بأصوات القراء، وأصبح بإمكان الزائر أن يستمع إلى النص نفسه (لوالت ويتمان مثلاً) بتلاوات متعددة لقراء مختلفين. إن دلالة ما سبق لا تنحصر في الإرث المنبري للشعر، فالإقبال الشديد في أحد أوجهه يشي بالرغبة في إعادة النص المكتوب إلى نص أكثر فيزيائيةً. التلاوة الشخصية للنص، بعيداً عن المعنى مؤقتاً، تحمّله مساحة لا نهائية من الاختلاف هي بقدر احتمالات توزيع الصوت والسكون، ناهيك عن الشحنة الشعورية التي لا يمكن سبرها بدقة، والتي تحملها كل تلاوة، إنها تجعل له جسداً. لا يمكن للإبداع أن يصبح واقعياً مهما حاول ذلك، وأغلب النصوص التي سعت إلى الأمانة للواقع أتت شوهاء ورديئة، والحقيقة أن الزمن الفني يخرب معمار الزمن الواقعي مهما كان الإبداع كلاسيكياً. إن المفارقة الزمنية التي تنتجها اللغة "البصرية أو المكتوبة" هي أول اقتلاع حسي للمتلقي، وهذا ما يراهن عليه ولو على سبيل تزجية الوقت. فالتشويق النصي كما نعلم هو زمن، أو لعب بالزمن. والتشويق أيضاً هو رغبة، شحنة إيروتيكية تتطلب الإشباع. وأول المتع التي يتطلبها المتلقي هي كسر إحساسه الخطي بالزمن الواقعي، ومن ثم كسر إحساسه الخطي بالزمن الفني إن استطال على هذا النحو. وبتعبير آخر، إن خلق التوقعات لدى المتلقي هو زمن، واختراق هامش التوقعات لديه يغدو بمثابة زمن آخر يخلخل الزمن الفني الأول. وأعتقد، على سبيل المثال، أن لا أحد قرأ ثلاثية نجيب محفوظ ليتعرف على تاريخ مصر في تلك الحقبة، فالمحك الحقيقي للرواية كان في اجتراح شخصية "سي السيد" بما تحمله من تكثيف لـ"الزمن البطريركي"، وإذا بدا متوقعاً ذلك التنازع الجيلي، بين سي السيد وأبنائه، فإن براعة محفوظ، سواء قصد ذلك أو لم يقصده، تجلت في خلق زمن آخر يتقدم ببطء، هو زمن الزوجة "أمينة". إن حضور أمينة المتزايد، في مقابل تراجع سطوة سي السيد، يكاد يشبه ما يحدث في خلفية اللقطة السينمائية، وتخفيه مقدمة اللقطة وضوضاؤها، فلا نكتشفه فوراً، وعندما ننتبه إليه نستمتع بأننا، لزمنٍ ما، خُدعنا. بعض النصوص يحيل مباشرة إلى المستوى الحسي، ولعل رواية العطر لباتريك زوسكيد من أكثر هذه الأعمال تجسيداً للفكرة. الطريف في رواية "العطر" أنّ تذكَّرنا لها لا يقترن بأية رائحة، وقد يعجز الواحد منا عن تذكّر جملة منها، لكن الفعالية المستمرة للرواية هي في جعل المتلقي يمتلك أنفاً أكثر ثقافة، وما تفعله هذه الرواية هو أنها قد توقظ الروائح الدفينة لتجارب شخصية. إن الأثر المديد لـ"العطر" يتجلى في الحقل الحسي للشمّ، حيث لن يكون بإمكانك بعدها أن تشيح عن رائحة الآخر، أو الروائح المحيطة بك، بسهولة. وربما هذا ما راهن عليه أيضاً ماريو بارغاس يوسا، في روايته "امتداح الخالة"، فالفعل الإيروتيكي في الرواية لا يأتي من النمط الجمالي السائد عن الجسد، بل من خلال الكشف عن الغواية الكامنة فيه مهما كان هذا الجسد، ومهما كان "دميماً" بالقياس الشائع. يتجاوز يوسا العري، كحقل للنظر والملامسة وحتى الشمّ، فدون ريغوبيرتو، أحد شخصيات الرواية، يفكر: "هذه الليلة لن أفعل شيئاً سوى سماع الحب". ويقصد بذلك سماع ما يمور في داخل زوجته من سوائل وغازات. وبغض النظر عن المستوى التجريبي للرواية فإن استحمام دون ريغوبيرتو، بطقوسه الشبيهة بما هو متداول عن استحمام النساء، يكشف عن الإمكانات المهمَلة لجسد الرجل، وعن أن الإثارة العميقة لا تتوفر إلا بتأنيث جسد الرجل، بالمفهوم السائد للأنوثة. ألم يسبق لمحي الدين ابن عربي أن قال: كل ما لا يؤنّث لا يعوّل عليه؟ مع الأهمية الراهنية للعملية الإبداعية "إرسالاً وتلقّياً، فإن الأهم هو الأثر المديد لها، والمسألة هنا لا تتعلق بفكرة الخلود التي تنتمي بدورها إلى زمن الإجماع. إن النصّ الإبداعي هو الذي يجعل مبدعه يدرك أنه لن يعود أبداً كما كان قبل إنجاز النص، وأنه تجاوز عتبة لن يكون بوسعه المرور بها ثانية. وأنه، لو حصل وعاد، لن يجد ذلك البرق الذي لمع يوماً ما. قد يختلف الأمر بالنسبة إلى المتلقي، فالبعض منا لديه نصوصه التي لا يملّ من العودة إليها، ولربما يعثر كلَّ مرة عما هو جديد فيها، واستطراداً أعتقد أن لكلّ منا نصوصه الفاعلة والمؤسِّسة، وهذه النصوص أوصلتْه إلى عتبة لا يستطيع التراجع عنها. أما الأثر المديد لنصوص سبق تلقيها، فيمكن لكلّ منا أن يسترجع ما بقي سارياً فيه من أثر لتلك القراءات والمشاهدات الفنية. قد يكون هذا الأثر طعماً، أو رائحة، أو جملة واحدة من كتاب ضخم. ثمة نصوص نحنّ إلى العودة إليها، وقد نخشى تلك العودة، ونصوص خدشت "براءتنا" يوماً، ولن تستطيع ذلك ثانية. على الرغم من أن موروثنا يحتوي على استعارات من نوع: فلان كتاب مفتوح. أو: فلان مكتبة متنقلة. أو: خير جليس في الزمان كتاب. إلا أن النظرة السائدة ذهبت باضطراد إلى إقصاء العملية الإبداعية عن ساحة التفاعل البدني. وحتى عندما نتحدث عن الذائقة الشخصية يتم تصويرها على أنها شيء مجرد، أي يتم تفريغها من الدلالات الحسية للتذوق، بينما في الواقع تمتد ساحة التذوق الفني على عموم المساحة الشعورية، وحتى المكبوتة، للمتلقّي. وأعتقد أن تقصّي آثار العملية الإبداعية يعيدها إلى مكانها كوظيفة جسدية، تتناوب فيها الرغبة مع الإشباع، ويخلق فيها الإشباع عتبة جديدة من الرغبة. وعلى هذا نقرأ عبارتيْ برغمان وفيلليني، اللتين تمت الإشارة إليهما بدايةً، لا على سبيل الاستعارة، ولا على سبيل المزاج الذي يخص المبدع وحده، بل على أن الإبداع، بطرفيه، عمل شهواني كالجنس، وليس تصعيداً أو بديلاً عنه، إنه حافز للجسد كي يفجر طاقاته الكامنة كلها، تماماً كما يحدث في لحظات الانخطاف العائدة للجنس. ويجوز لنا أن نقترح مقاربة أخرى، فلحظة الانخطاف الجنسية هي خروج على الزمن الموضوعي إلى زمن نخلقه بأنفسنا (أجسادنا)، وهذا ما يفعله الإبداع أيضاً. .
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...