الديارات المؤلف : أبو الفرج الأصبهاني ج5
خاص ألف
2015-02-28
دير الثعالب
قرب بغداد، في كورة نهر عيسى، بالموضع المعروف بباب الحديد.
- خرجت أنا وأبو الفتح أحمد بن إبراهيم بن علي بن عيسى رحمه الله، ماضيين إلى دير الثعالب، في يوم من سنة خمس وخمسين وثلاث مئة للنزهة ومشاهدة اجتماع النصارى هناك، والشرب على نهر يزدجرد الذي يجري على باب هذا الدير فبينا نحن نطوف الدير، ومعنا جماعة من أولاد الكتّاب النصارى وأحداثهم، وإذا بفتاة كأنها الدينار المنقوش كما يقال، تتمايل وتتثنّى كغصن ريحان في نسيم شمال. فضربت بيدها إلى يد أبي الفتح وقالت: يا سيّدي، تعال اقرأ هذا الشعر المكتوب على حائط بيت الشاهد. فمضينا معها، وبنا من السرور بها وبظرفها وملاحة منطقها ما الله به عالم. فلما دخلنا البيت كشفت عن ذراع كالفضة، وأومأت إلى الموضع، وإذا فيه مكتوب:
خرجتْ يوم عِيدها ... في ثياب الرواهب
فسبت باختيالها ... كلّ جاءٍ وذاهب
لشقائي رأيتها ... يوم دير الثعالبِ
تتهادى بنسوةٍ ... كاعبٍ في كواعبِ
هي فيهم كأنها ال ... بدرُ بين الكواكبِ
فقلنا لها: أنتِ والله المقصودة بمعنى هذه الأبيات، ولم نشك أنها كتبت الأبيات، ولم تفارقنا بقية يومنا.
وقلت فيها هذه الأبيات، وأنشدتها إياها ففرحت:
مرّت بنا في الدير خَمصَانهْ ... ساحرةُ الناظر فتّانهْ
أبرزها الرهبان من خِدرها ... تعظّم الدير ورهبانهْ
مرّتْ بنا تخطرُ في مَشيها ... كأنّما قامتها بانهْ
هبت لها ريحٌ فمالتْ بها ... كما تثنّى غصنُ ريحانهْ
فتيَّمت قلبي وهاجتْ له ... أحزانَه قُدماً وأشجانه
وحصل بينها وبين أبي الفتح عشرة بعد ذلك. ثم خرج إلى الشام وتوفي بها، ولا أعرف لها خبراً بعد ذلك.
دير الجاثليق
دير الجاثليق - هما ديران يحملان نفس الاسم: - الأول: دير قديم في رأس الحدّ بين السواد وأرض تكريت.
- الثاني: كان في غربي مدينة بغداد، وصفه الشابشتي قائلاً: هذا الدير، يقرب من باب الحديد، وهو دير كبير، حسن، نَزِه، تحدق به البساتين والأشجار والرياحين. وهو يوازي دير الثعالب في النزهة والطّيب وعمارة الموضع، لأنهما في بقعة واحدة.
- وفي بعض المصادر، أن دير الجاثليق هذا، كان يقع على نهر الرفيل، من أنهار بغداد القديمة في أيام العباسيين، وكان مأخذه من نهر عيسى، ومصبّه في دجلة عند الجسر.
- إن دير الجاثليق البغدادي، كان يسمّى أيضاً " دير كليليشوع " وهي لفظة سريانية بمعنى " إكليل يسوع " .
- ويؤخذ من النصوص التاريخية، أن دير الجاثليق دير قديم يرقى زمن إنشائه إلى ما قبل تأسيس بغداد، بل إلى ما قبل ظهور الإسلام.
- أنظر أيضاً: - أخبار فطاركة كرسي المشرق من كتاب المجدل: لماري بن سليمان )74، 75، 77، 83، 110(.
- ابن الأثير 4 - 328.
- البدور المسفرة 21.
- بغداد في عهد الخلافة العباسية 182.
- ري سامراء في عهد الخلافة العباسية 1 - 196 - 197، 198، 199.
- دليل خارطة بغداد 104 - 108.
دير الجاثليق قرب بغداد دير قديم البناء، رحب الفناء من طسوج مسكن، قرب بغداد في غرب دجلة في عرض حربي، وهو في رأس الحد بين السواد وأرض تكريت، وعنده كانت الحرب بين عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير، وعنده قُتل مصعب بن الزبير، فقال عبيد الله بن قيس الرقيات يرثيه:
لقد أورثَ المِصرين حزناً وذِلةً ... قتيلٌ بدير الجاثليق مُقيم
فما قاتلتْ في الله بكر بن وائلٍ ... ولا صدقت عند اللقاء تميمُ
فلو كان في قيسٍ تعطّفَ حولَه ... كتائب يغلي حميُها ويدومُ
ولكنه ضاع الزمانَ ولم يكن ... بها مضريّ يوم ذاك كريمُ
جزى الله كوفياً بذاك ملامةً ... وبصريّهم إن الكريم كريمُ
- حدثني عمي عن محمد بن القاسم بن مهرويه، عن علي بن عبد الله بن سعد قال: كان بكر بن خارجة يتعشق غلاماً نصرانياً يقال له:عيسى بن البراء العبادي الصيرفي، وله فيه قصيدة مزدوجة يذكر فيها النصارى وشرائعهم وأعيادهم، ويسمي دياراتهم، ويفضلهم.
قال: وحدثني من شهد دعبلاً وقد أنشد قوله في عيسى بن البراء العبادي:
زُنّارهُ في خصره معقودُ ... كأنه من كبدي مقدودُ
فقال دِعبل: ما يعلم الله أني حسدت أحداً قط كما حسدت بكراً على هذين البيتين! وقال بكر بن خارجة في عيسى بن البراء العبادي:
فبالأنجيل تتلوه شيوخٌ ... رهابنةٌ بدير " الجاثليقِ "
وبالقربان والصلبان إلّا ... رثيت لقلبيَ الدَنفِ المشُوقِ
أجرني، متُّ قبلك من همومي ... وأرشدني إلى نهج الطريق
فقد ضاقت عليّ وجوه أمري ... وأنت المستجارُ من المضيقِ
وكان بكر بن خارجة كثير المقام بهذا الدير مشتهراً بالشراب فيه، افتتاناً بهذا الغلام النصراني، وفيه يقول أرجوزة مليحة منها قوله:
من عاشقٍ ناءٍ هواه دانِ ... ناطق دمعٍ صامتِ اللسانِ
موثقِ قلبٍ مطلقِ الجثمان ... معذب بالصدِّ والهجران
من غير ذنب كسبت يداهُ ... إلا هوى نمّت به عيناه
شوقاً إلى رؤية من أشقاه ... كأنما عافاه من أبلاه
يا ويحه من عاشق ما يلقى ... بأدمع منهلّة ما ترقى
ذاب إلى أن كاد يخفي عشقاً ... وعن دقيق الفكر فيه دقّا
لم يبق فيه غير طرفٍ يبكي ... بأدمع مثل نظام السلكِ
كأنه قطر السماء يحكي ... يخمد نيران الهوى ويذكي
إلى غزالٍ من بني النصارى ... عِذارُ خدّيه سبى العذارى
يترك ألباب الورى حيارى ... في ربقة الحبّ له أسارى
ريم بدير الروم رام قتلي ... بمقلةٍ كحلاء لا من كُحلِ
وطُرةٍ بها استطار عقلي ... وحسن دلّ وقبيح فعل
ها أنا ذا من قده مقدودُ ... والدمع من خدّي له أُخدود
ما ضرَّ من قلبي به معمودُ ... لو لم يكدِّر صفوه الصدودُ
يا ليتني كنت له صليبا ... فكنت منه أبداً قريباً
أبصر حسناً وأشمُّ طيبا ... لا واشياً أخشى ولا رقيبا
أو ليتني كنتُ له قُربانا ... ألثم منه الفمَ والبنانا
أو جاثليقاً كنت أو مطرانا ... كيما يرى الطاعة لي إيمانا
أو ليتني كنتُ له زنّارا ... يدور بي خصراه حيث دارا
حتى إذا الليل طوى النهارا ... صرت له تحت الدجى إزارا
يا ليتني في النحر منه عوذة ... أو خمرة يشربني ملذوذة
أو حلة يلبسني مقدودة ... ليست إذا ما أخلقت مقدودة
يا ليتني كنت لعمروٍ مصحفا ... أو قَلَماً يكتب بي ما ألّفا
من حسن أشعارٍ له قد صنّفا ... فإن لي من بعض هذا ما كفى
يا للذي بحسنه أضناني ... وابتزَّ صبري والضنى كساني
ظبيّ على البعاد والتداني ... حلَّ محلَّ الروح من جثماني
واكبدي من خده المضرج ... واحزني من ثغره المفلّج
لا شيء مثل الطرف منه الأدعج ... أذهب للنسك وللتحرجِ
إليك أشكو يا غزال الأنسِ ... يا من هلالي وجهُه وشمسي
ما بي من الوحشة بعد الأنسِ ... لا تُقْتل النفسُ بغير النفس
ها أنا في بحر الهوى غريقُ ... سكران من حبّك لا أفيقُ
محترقٌ ما مسَّني حريقُ ... يرحمني العدوُّ والصديقُ
ويقول فيها:
يا عمرو ناشدتك بالمسيحِ ... ألا سمعتَ القول من نصيحِ
يعرِبُ عن قلبٍ له قريحِ ... ليس من الحبِّ بمستريحِ
يا عمرو بالحق من اللاهوتِ ... والروح روح القدس والناسوتِ
ذاك الذي قد خُصَّ بالنعوتِ ... النطق في المهد وبالسكوت
بحق من في شامخ الصوامع ... من ساجدٍ لربه وراكعِ
يبكي إذا ما نام كلُّ هاجعِ ... خوفاً من الله بدمعٍ هامعِ
ثمّ يقسم عليه بكل قسم يعرفه النصارى ويقول:
ألا نظرت يا أميرَ أمري ... محتسباً فيَّ عظيم الأجر؟!
دير الجماجم
دير الجماجم بالكوفة قال أبو الفرج: هو دير بظاهر الكوفة، على طريق البر الذي يسلك إلى البصرة، وفيه كانت الوقعة بين الحجاج بن يوسف، وبين عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. وذلك أن ابن الأشعث لما رأى كثرة من معه من الجيش بالبصرة، وقد نازله الحجاج بها، خرج يريد الكوفة، ورأى أن أهلها أطوع له من أهل البصرة، لبغضهم الحجاج، ولأنه يجد بها من عشائره ومواليه أنصاراً كثيرة. فسار إليها، وسايره الحجاج، فنزل ابن الأشعث دير الجماجم، ونزل الحجاج بإزائه بدير قُرّة، ووقعت الحرب بينهما، ثّم انهزم ابن الأشعث، فعاد إلى البصرة.
وقد ذكرت الشعراء دير الجماجم كثيراً.
قال جرير يهجو الفرزدق:
ألم تشهد الجونين والشِّعب والصفا ... وكراتِ قيس يوم دَيرِ الجماجمِ
تحرّضُ يا بنَ القين قيساً ليجعلوا ... لقومك يوماً مثل يوم الأراقمِ
بسيف أبي رغوان سيف مجاشعٍ ... ضربتَ ولم تضرب بسيف ابن ظالمِ
ضربت به عند الإمام فأُرعشتْ ... يداك وقالوا مُحدثٌ غيرُ صارمِ
وفي هذا الدير يقول الضحاك اليربوعي:
وإن يهلك الحجاج فالمصر مصرنا ... وإلا فمثوانا بدير الجماجمِ
وإن تخرجوا سفيان تخرج إليكم ... أبا حازم في الخيل شعث المقادمِ
وإن تبرزوا للحرب تبرز سراتنا ... مصاليت شوساً بالسيف الصوارمِ
سفيان هذا: هو ابن الأبرد الكلبي، وكان من فرسان الحجاج.
دير حزقيال
دير حِزقيال قال أبو الفرج: حدثني جعفر بن قدامة قال: قال شريح الخزاعي قال: اجتزت بدير حِزقيال، فبينما أنا أدور به، إذا بكتابة على إسطوانة فقرأتها، فإذا هي:
ربَّ ليلٍ أمدّ نَفَس العا ... شق طولاً قطعتُه بانتحابِ
ونعيمٍ كوصل من كنت أهوا ... تبدّلته ببؤس العِتابِ
نسبوني إلى الجنون ليُخفوا ... ما بقلبي من صَبْوة واكتئابِ
ليت بي ما ادّعوه من فقد عقلي ... فهو خيرٌ من طول هذا العذابِ
وتحته مكتوب " هويتُ فمنعتُ، وطردتُ وشرِّدت، وفُرِّق بيني وبين الوطن، وحُجبتُ عن الإِلف والسَّكَن، وحُبِستُ في هذا الدَّير ظلماً وعدواناً، وصُفِّدت في الحديد أزماناً:
وإني على ما نابني وأصابني ... لذو مرة باق على الحَدَثان
فإن تُعقبِ الأيامُ أظفرْ ببغيتي ... وإن أبقَ مَرميّاً بي الرَّجوانِ
فكم ميّتٍ همّاً بغيظٍ وحسرةٍ ... صبورٌ لما يأتي به المَلَوانِ
قال: فكتبت ما وجدت، وسألت عن صاحبه، فقالوا: رجل هوى ابنة عمٍّ له، فحبسه عمّه في هذا الدير، خوفاً أن يفتضح في ابنته، فتجمع أهله، فجاءوا، فأخرجوه، وزوجوه بها كرهاً.
دير حنة - الأكيراح
دير حنة: بالاكيراح، بناحية البليخ.
وقد ذكر دير حنة أبو الفرج الأصفهاني وقال: ذكره أبو نواس في شعره، يعني في قوله:
يا دير حنَّة من ذات الاكيراحِ ... من يصحُ عنك فإني لستُ بالصاحي
يعتادُه كل مجفوٍّ مفارقه ... من الدِّهان عليه سَحْق أمساحِ
في فِتيةٍ لم يَدَعْ منهم تخوّفهمْ ... وقوعَ ما حذِروهُ غيرَ أشباحِ
لا يَدلُفون إلى ماء بآنيةٍ ... إلا إغترافاً من الغُدْران بالراحِ
قال: والاكيراح: بلد نزِه كثير البساتين والرياض والمياه.
قال: وبالحيرة أيضاً موضع يقال له الاكيراح فيه دير. والاكيراح قباب صغار يسكنها الرهبان. يقال للواحد منها: الكيرح.
وقد ذكر بكر بن خارجة هذا الدير أيضاً. فقال:
دع البساتين من آسٍ وتفّاحِ ... واقصد إلى الروض من ذاتَ الاكيراحِ
إلى الدساكر، فالدير المقابلها ... لدى الاكيراح من دير ابن وضاحِ
منازلاً لم أزلْ حيناً ألازمُها ... لزومَ غادٍ إلى اللذات روّاحِ
وبالحِيرة أيضاً موضع يقال له الاكيراح، وفيه دير بناه عبد بن حنيف من بني لحيان، الذين كانوا مع لخم، وملك الحيرة منهم ملكان، وأظنه الذي عناه بكر بن خارجة، لأنه كوفي في الشعر المتقدم إنشاده.
وفي هذه الاكيراح، يقول علي بن محمد العلوي، الحماني:
كم وقفةٍ لك بالخَوَر ... نق ما تُوازي بالمواقفْ
بين الغَدير إلى السدير ... إلى ديارات الأساقفْ
فمواقف الرّهبان في ... أطمارِ خائفةٍ وخائفْ
دِمَنٌ كأن رياضَها ... يُكسَين أعلامَ المطارفْ
وكأنما غُدرانُها ... فيها عُشُورٌ في المصاحفْ
تلقى أوائلها أوا ... خرها بألوان الرفارفْ
بحرية شتواتها ... بريّة فيها المصايف
درّية الحصباء كا ... فوريّة منها المشارف
باتت سواريها تمخض ... في رواعدها القواصف
وكأنَّ لمع بروقها ... في الجو أسياف المثاقف
ثم انبرت سحاً كبا ... كيةٍ بأربعةٍ ذَوارف
فكأنما أنوارُها ... تهتَزُ في الدرج العواصف
طُرَرُ الوصائف يلتفتن ... بها إلى طُرَر الوصائفْ
دافعتها عن دجنها ... بالقلّب البيض، الغطارفْ
يعبق يوم اليأ ... س شراً بين في يوم المتارفْ
سمح بحرّ المال وقّا ... فون في يوم المتالفْ
واهاً لأيام الشبا ... ب وما لبسن من الزخارفْ
وزوالهن بما عرفت ... من المناكر والمعارفْ
أيام ذكرك في دوا ... وين الصبا صَدر الصحائفْ
واهاً لأيامي وأيَّا ... م النقياتِ المراشفْ
والغارسات ألبان قُض ... باناً على كُثُبِ الرّوادفْ
والجاعلاتِ البدرَ ما ... بين الحواجبِ والسوالفْ
أيامَ يُظهرنَ الخلا ... ف بغير نيّات المخالفْ
وقف النعيم على الصِّبا ... وزللت عن تِلكَ المواقفْ
وقال أبو نواس:
دع البساتينَ من وردٍ وتفّاحِ ... واعدِلْ هُديتَ إلى دير الاكيراحِ
اعدِل إلى نَفَرٍ، دقّت شُخوصُهم ... من العبادة، إلا نِضوَ أشباحِ
يكرِّرون نواقيساً مرجَّعةً ... إلى الزَّبور بإمساءٍ، وإصباح
فعدّ سمعَك عن صَوتٍ تكرَّهه ... فلستُ تسمعُ فيه صوتَ فلّاحِ
إلا الدراسةَ للانجيلِ من كَثَبٍ ... ذِكرَ المسيح بابلاغٍ وإفصاحِ
يا طيبةً، وعتيقُ الراحِ تحفتُهم ... بكل نوعٍ من الطاسات رَحراحِ
يسقيكَها مُدمجُ الخصْرين، ذو هيَفٍ ... أخو مدارع صُوفٍ فوق أمساحِ
حكى أحمد بن عمر الكوفي، قال: كان بالكوفة رجل أديب ضعيف الحال يقبل مهما وقع في يده من شيء، أتي به دير حنَّة فيشرب فيه حتى يسكر، ثم ينصرف إلى أهله، ويقول: يعجبني من الغراب بكوره في طلب الرزق. وربما بات به، ويقول:
تطاولَ ليلُك بالزاويه ... وكان المبيتُ بها عافيهْ
ومن تحت رأسِك آجرةٌ ... وجنبك مُلقىً على باريهْ
وذلك خيرٌ من الانصراف ... فتحكُم فيك بنُو الزانيهْ
وتصبح إما رهين السُّجون ... وإما قتيلاً على ساقيهْ
قال: فوجد - والله - بعد أيام قتيلاً على ساقية! وهو القائل:
ما لَذةُ العيش عندي غيرُ واحدةٍ ... هي البكورُ إلى بعض المواخيرِ
لخامل الذكر مأمونٍ بوائقهُ ... سهلِ القياد من الفُره المدابيرِ
حتى يحلَّ على دير ابن كافرةٍ ... من النصارى يبيع الخمر مشهورِ
كأنما عَقَد الزُنّار فوق نَقا ... واعتمّ فوق دُجى الظَّلماء بالنورِ
وفيه قال الثروانيّ:
يومي بهيكل دير حنّة لم يزلْ ... غرُّ السَّحاب تجود فيه وتمرعُ
متجوشنٌ طوراً وطوراً شاهراً ... بيض السيوف وتارةً يتدّرعُ
وكذلك قال فيه بكر بن خارجة الكوفي:
ألا سُقي الخورنق من محلٍّ ... ظريفِ الروض مَعشوقٍ أنيقِ!
أقمتُ بدير حنَّتهِ زماناً ... بسُكرٍ في الصَّبوح وفي الغُبُوقِ
ومنّا لابسٌ إكليل زهرٍ ... ومختضبُ السوالف بالخَلُوقِ
كأن رياضَه حُسناً ونَوراً ... سحائب ذُهّبت بسنا البروقِ
كأن تقاطر الأشجار فيه ... إذا غِسَق الظلامُ، قِطارُ نُوقِ
وماذا شِئتَ من دُرّ الأقاحي ... هناك ومن يَواقيتِ الشَّقيقِ
دير حنة بالحيرة
دير حنة: في الحيرة قال أبو الفرج: هو دير قديم بناه حي من تنوخ، يقال لهم بنو ساطع، تحاذيه منارة عالية كالمرقب، تسمى القائم، لبني أوس بن عمرو، ثم لبطن منهم يقال لهم، بنو مبرق.
وكان فتيان الحيرة يألفونه ويشربون فيه، وإياه عنى الثرواني بقوله:
يا دير حنة عند القائم الساقي ... إلى الخورنق من دير ابن براقِ
ليس السلّو )وإن أصبحتُ ممتنعاً ... من بغيتي فيك( من شكلي وأخلاقي
سقياً لعافيك من عافٍ معالمه ... قفر وباقيك مثل الوشي من باقي
دير حنة: ذكره أبو نواس:
يا دير حنة من ذات الاكيراح ... من يصحُ عنك فإني لست بالصاحي
وذكر أبو الفرج بن الأصفهاني في كتاب " الديارات " : حنَّة، وأنه غير الذي ذكره أبو نواس، وذكر أن الثرواني قال فيه:
يا دير حنّة عند القائم الساقي ... إلى الخورنق من دير ابن برّاق
دير حنظلة الطائي
دير حنظلة الطائي: بالجزيرة قال أبو الفرج: حدثني هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعي قال حدثني الرياشي: حدثني أبو المحلّم: دير حنظلة بالجزيرة.
نُسب إلى رجل من طيء يقال له حنظلة بن أبي عفراء بن النعمان ابن حية بن سعنة بن الحارث بن الحويرث بن ربيعة بن مالك بن سفر بن هني بن عمرو بن الغوث بن طيء.
وحنظلة هو عم إياس بن قبيصة بن أبي عفراء الذي كان ملك الحيرة ومن رهطه أبو زبيد الطائي الشاعر، وكان من شعراء الجاهلية، وكان قد نسك في الجاهلية وتنصر وبنى هذا الدير فعرف به إلى الآن.
وحنظلة هذا هو القائل:
ومهما يكن ريبُ الزمان فإنني ... أرى قمرَ الليل المغرّب كالفتى
يهلُّ صغيراً ثم يعظم ضؤوه ... وصورتُه، حتى إذا ما هو استوى
وقرّب يخبو ضوءه وشعاعه ... ويمصحُ حتى يستسرّ فلا يُرى
كذلك زيدُ الأمر ثم انتقاصُه ... وتكرارُه: في دهره بعدما مضى
تُصبّح أهل الدار ... والدارُ زينةٌ وتأتي الجبالَ من شماريخها العُلى
فلا ذا غِنى يرجئن عن فضل ماله ... وإن قال أخّرني وخذ رِشوةً أبى
ولا عن فقير يأتخرن لفقره ... فتنفعه الشكوى إليهنّ إن شكى
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه حدثني أبو نجاح قال: كنت مع عبد الله بن محمد الأمين وقد خرج إلى نواحي الجزيرة. وكانت له هناك ضياع كثيرة حسنة، فاجتزنا بدير حنظلة هذا، وكانت أيام الربيع، وكانت حوله من الرياض ما ينسي حلل الوشي، وبسط خضرة وزهر، فنزلنا فيه وبعث إلى خمار بالقرب من الفرات، فشربنا وكان عبد الله حسن الصوت، حاذقاً بالغناء والطرب، ظريفاً كاملاً فقال:
ألا يا ديرَ حنظلة المفدّى ... لقد أودعتني تعباً وكدّا
أزفّ من العقار إليك زقّاً ... وأجعل فوقه الورق المندّى
وابدأ بالصّبوح أمام صحبي ... ومن ينشط لها فهو المفدّى
ألا يا دير جادتك الغوادي ... سحاباً حمّلت برقاً ورعداً
يزيد بناءك النامي نماءً ... ويكسو الروض حُسناً مستجدّاً
فاصطبحنا فيه عشرة أيام، وعبد الله ومن معنا من المغنين يغنّوننا. ولعبد الله في هذا الشعر لحن من خفيف الرمل، مليح.
وفي هذا الدير يقول الشاعر:
طرقتك سُعدى بين شطيّ بارقِ ... نفسي الفداءُ لطيفها من طارق
يا دير حنظلة المهيّج لي الهوى ... هل تستطيع دواء عشقِ العاشقِ
دير حنظلة اللخمي
دير حنظلة اللخمي: في الحيرة قال أبو الفرج: ومن ديارات بني علقمة بالحيرة، دير حنظلة بن عبد المسيح بن علقمة بن مالك بن ربّى بن نمارة بن لخم بن عديّ بن الحارث بن مرة بن أدد.
وُجد في صدر الدير مكتوب بالرصاص في ساجٍ محفور: " بنى هذا الهيكل المقدس، محبة لولاية الحق والأمانة، حنظلة بن عبد المسيح، يكون مع بقاء الدنيا تقديسه، وكما يذكر أولياؤه بالعصمة، يكون ذِكر الخاطئ حنظلة " .
وفيه يقول بعض الشعراء:
بساحة الحيرة دير حنظلةْ ... عليه أذيالُ السرور مُسْبَلَهْ
أحييتُ فيه ليلةً مُقْتَبله ... وكأسُنا بين النَّدامى مُعْملهْ
والراحُ فيها مثلُ نارٍ مُشْعَلهْ ... وكُلنا مُستنفِدٌ ما خُوِّلهْ
فيها يلذُّ عاصياً مَن عذَلَه ... مُبادراً قبل يُلاقي أجلَه
دير الخصيان
دير الخصيان: بغور البلقاء بين دمشق وبيت المقدس حكى أبو زيد الأسدي قال: دخلت على سليمان بن عبد الملك، وهو جالس على دكان مبلّط بالرخام الأحمر، مفروش بالديباج الأخضر، في وسط بستان ملتفة أشجاره، قد أينعت ثماره، وبإزاء كل شقّ من الدكان روض قد أزهر بنبت الربيع ونواره، وعلى رأسه وصائف كل واحدة أحسن من صواحبها، كأنهن اللؤلؤ المنثور، في أيديهن أباريق بألوان الخمور، وطاسات البلور، وقد أخذ منه الشراب، فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، وكان سليمان مطرقاً فرفع رأسه، وقال: أبا زيد، أفي مثل هذا اليوم تصاب حياً؟ فقلت: يا سيدي، يا أمير المؤمنين أوقامت القيامة؟ قال نعم، على أهل الهوى! ثم أطرق، ورفع رأسه وقال: أبا زيد ما يطيب في يومنا هذا ؟ فقلت: قهوة حمراء في زجاجة بيضاء تناولنيها مقدودة هيفاء، لفّاء مصطمرّة قنواء دعجاء، أشربها من كفّها وأمسح فمي بفمها، فأطرق سليمان مليّاً ودموعه تصدر، فلما رأى الوصائف ذلك منه تنحين عنه، وقال: أبا زيد، حللت والله في يوم فيه انقضاء أجلك، وتصرم مدتك، وفناء عمرك، والله لاضربن عنقك أو تخبرني بما أثار هذه الصفة من قلبك. فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، كنت جالساً على باب أخيك سعيد بن عبد الملك، وإذا جارية قد خرجت إلى رحبة القصر، عليها قميص سكب، تبين منه بياض ثدييها، وتدوير سرتها، ونقش تكتها، وفي رجلها نعلان قد أشرق بياض قدميها على حمرتها بفرد ذؤابة تضرب الحقو منها، وطرة قد زرفنت على جبينها، وصدغين كأنهما نونان على عارضيها، وحاجبين قد تقوسا على محاجر عينين مملؤتين سحراً، وأنف كأنه قصبة درّ.
وهي تقول: عباد الله ما الدواء لما يشتكى؟ وما العلاج ممّا لا ينسى؟ طال الحجاب، وابطأ الكتاب، فالعقل طائر واللب غائر، والعين عبرى، والأرق دائم، والوجد موجود، والنفس والهة، والفؤاد مختلس، والقلب محتبس، رحم الله قوماً عاشوا تجلداً، وماتوا كمداً، لو كان في الصبر حيلة، أو إلى العزاء وسيلة، فقلت: أيتها الجارية إنسية أنتِ أم جنّية؟ وسمائية أم أرضية؟ فقد أعجبني ذكاء عقلك، وأذهلني حسن منطقك، فسترت وجهها بكفِها وقالت: اعذر أيّها المتكلم، فما أوحش الوجد بلا مساعدة، والمقاساة لصدّ معاندة، ثم انصرفت.
فوالله - يا أمير المؤمنين - ما أكلت طيباً إلا غصصت به، ولا رأيت حسناً إلا سمج في عيني لحسنها.
فقال سليمان: كاد الجهل يستفزني، والصبابة تعاودني، والحلم يعزب عني، تلك الذلفاء التي يقول فيها الشاعر:
إنما الذلفاءُ ياقوتةٌ ... أُخرجت من كيس دَهقانِ
شراؤها على أخي ألف ألف درهم، وهي عاشقة لفتى ابتاعها منه، والله لا مات من يموت إلا بحسرتها، ولا فارق الدنيا إلا بغصتها، وفي الصبر سلوة وفي توقع الموت بهتة، فاكتم - أبا زيد - المفاوضة، يا غلام: ثقل يده ببدرة.
قال: فلما مات سعيد صارت إلى سليمان، ولم يكن في عصرها أجمل منها، فملكت قلبه وغلبت عليه دون سائر نسائه وجواريه، فخرج يوماً بالقرب من دير الرهبان فضرب فسطاطه في روضة خضراء مونقة الزهر، ذات حدائق وبهجة، تحفها أنواع الزهر النضر الغض، ما بين أصفر فاقع وأبيض ناصع وأحمر ساطع، فهي مثل الثياب الحضرمية، والبرود الأنجمية، تحمل منها الريح نسيم المسك الأذفر ويتضوع عرفها برياً فتيت العنبر، وكان له مغنٍ يأنس به، ويسكن إليه ويكثر الخلوة معه، ويستمع لحديثه وغنائه، يقال له " سنان " ، وكان " سنان " - هذا - أحسن الناس وجهاً، وأظرفهم ظرفاً، فأمره فضرب فسطاطه في روضة خضراء مونقة الزهرات، ذات حدائق وبهجة، يحفها أنواع الزهر النضر الغض بالقرب منه، وكانت " الذلفاء " ، قد خرجت مع سليمان إلى ذلك المتنزه، فلم يزل سليمان يومه عند سنان في أكمل سرور وأتم حبور، إلى أن أتى الليل، فانصرف سليمان إلى فسطاطه، وانصرف سنان إلى موضعه، فوجد جماعة قد أناخوا به، فسلموا عليه، فرد عليهم سلام جذلان بوصولهم، فرح بنزولهم، فأحضرهم الطعام فأكلوا، وقدم الشراب فتناولوا منه، وقال: هل من حاجة؟ قالوا: ما جئناك إلا للقِرى.
فقال: بالمنزل الرحب حللتم، وبالجانب الخصب نزلتم.
فقالوا: أما الطعام فقد أكلنا، وأما الشراب حضر، وبقي السماع، قال: أما السماع فلا سبيل إليه مع غيرة أمير المؤمنين ونهيه إياي عن الغناء، إلا ما كان في مجلسه، قالوا له: فلا حاجة لنا في الطعام والشراب عندك ما لم تُسمعنا، فلما رآهم غير مغفلين عنه رفع عقيرته، وغنى بهذه الأبيات:
محجوبةٌ سمِعَتْ صَوْتي فأرّقها ... من آخر الليلِ حتى ملّها السَّهرُ
لم يحجب الصوت أحراس ولا غَلَقٌ ... فدمعها لطروق الصوت ينحدرُ
تدني على فخذيها من معصفرةٍ ... والحلي بادٍ على لبّاتها خَصَرُ
في ليلة البدر لا يدري مضاجعُها ... أوجهها عِندَه أبهى أم القمرُ؟
لو خُلِّيت لمشت نحوي على قَدَمٍ ... تكاد من رقّةٍ بالمشي تنفطرُ
فلما سمعت " الذلفاء " صوت " سنان " ، خرجت إلى صحن الفسطاط لتسمع الصوت، وجعلت لا تسمع شيئاً من نفثٍ حسن مع ما وافق ذلك من وقت الليلة المقمرة، إلا رأت ذلك كلّه في نفسها ووقتها وهيئتها، فحرك ذلك ساكناً كان في قلبها، فهملت عيناها بالدموع وعلا نحيبها، فانتبه سليمان فلم يجدها في الفسطاط، فخرج إلى صحنه فرآها على تلك الحالة، فقال لها: ما هذا يا " ذلفاء " فقالت يا أمير المؤمنين:
ألا ربّ صوتٍ رائعٍ من مشوَّهٍ ... قبيحِ المحيا واضع الأب والجَدِّ
يروعك منه صوته ولعلّه ... إلى أمةٍ يُدعى معاً وإلى عَبْدِ
قال سليمان: دعيني من هذا، فوالله لقد خامر قلبك منه ما خامره. يا غلام: عليّ " بسنان " ، فدعت " الذلفاء " خادماً لها، وقالت: إن سبقت إلى " سنان " فحذرته فلك عشرة آلاف درهم وأنت حر. فسبق رسول سليمان فأحضره، فلما وقف بين يديه وسليمان يرعد غيرة، قال سليمان: من أنت؟ قال: أنا " سنان " فقال:
تثكل في الثّكلى سناناً أمُّه ... كان لها ريحانةً تشمّه
وخاله يثكلُه وعمُّه ... ذو سَفَهٍ حياتُه تغمّه
فقال سِنان:
استبقني إلى الصباح أعتذرْ ... إنَّ لساني بالشراب مُنْكسر
فارسُك الكلبيُّ في يومٍ يكُر ... فإن يكن أذنب ذنباً أو عثرْ
فالسيّد العافي أحقّ من غَفَرْ
ثم قال: يا " سنان " ، ألم أنهك عن مثل هذا الفعل؟ فقال: يا أمير المؤمنين حملني الثمل، وقوم طرقوني، وأنا عبد أمير المؤمنين، فإن رأى ألا يضيّع حظّه مني فليفعل.
فقال: أما حظي منك فلا أضيّعه، ولكن لا تركت للنساء فيك حظاً، يا " سنان " أما علمت أن الرجل إذا تغنّى أصغت له المرأة، وأن الفرس إذا صهل تودّقت له الحجر، وأن الفحل إذا هدر ضبعت له الناقة، يا غلام ائتني بحجام فجبّه، فعاش بعد ذلك سنة ومات، فسمي ذلك الدير: دير الخصيان، وبه يعرف إلى اليوم.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري - وهذا الخبر أصحّ ما روى في ذلك إسناداً - قال أخبرنا أبو زيد عمر بن شبّة عن معن ابن عيسى.
وأخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدّثني عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان قال: قال ابن جناح حدثني معن بن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه وعن محمد بن معن الغفاري قالا: كان سبب ما خصي له المخنثون بالمدينة أن سليمان بن عبد الملك كان في نادية له يسمر ليلة على ظهر سطح، فتفرق عنه جلساؤه، فدعا بوضوء فجاءت به جارية له، فبينما هي تصب عليه إذ أومأ بيده وأشار بها مرتين أو ثلاثاً، فلم تصبّ عليه، فأنكر ذلك فرفع رأسه، فإذا هي مصغية بسمعها إلى ناحية العسكر، وإذا صوت رجل يغني، فأنصت له حتى سمع جميع ما تغنّى به، فلما أصبح أذن للناس، ثمّ أجرى ذكر الغناء فلين فيه حتّى ظن القوم أنه يشتهيه ويريده، فأفاضوا فيه بالتسهيل وذكر من كان يسمعه، فقال سليمان فهل بقي أحد يُسمع منه الغناء؟ فقال رجل من القوم: عندي يا أمير المؤمنين رجلان من أهل أبله مجيدان محكمان، قال: وأين منزلك؟ فأومأ إلى الناحية التي كان الغناء منها، قال: فابعث إليهما، ففعل، فوجد الرسول أحدهما، فأدخله على سليمان، فقال: ما اسمك؟ قال: سمير، فسأله عن الغناء، فاعترف به، فقال: متى عهدك به؟ قال: الليلة الماضية، قال: وأين كنت؟ فأشار إلى الناحية التي سمع سليمان منها الغناء، قال: فما غنيت به؟ فأخبره الشعر الذي سمعه سليمان، فأقبل على القوم فقال: هدر الجمل فضبعت الناقة، ونب التيس فشكرت الشاة وهدر الحمام فزافت الحمامة، وغنّى الرجل فطربت المرأة، ثم أمر به فخصي. وسأل عن الغناء أين أصله؟ فقيل: بالمدينة في المخنثين وهم أئمته والحذاق فيه. فكتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وكان عامله عليها، أن اخص من قبلك من المخنثين المغنين - فزعم موسى بن جعفر بن أبي كثير قال أخبرني بعض الكتّاب قال: قرأت كتاب سليمان في الديوان، فرأيت على الخاء نقطة كتمرة العجوة. قال: ومن لا يعلم يقول: إنه صحّف القارئ، وكانت احصِ - قال: فتتبعهم ابن حزم فخصى منهم تسعة، فمنهم: الدلال، وطريف، وحبيب نومة الضحى. وقال بعضهم حين خُصي: سلم الخاتن والمختون. وهذا كلام يقوله الصبيّ إذا ختن. قال: فزعم ابن أبي ثابت الأعرج. قال أخبرني حماد بن نشيط الحسني. قال: أقبلنا من مكة ومعنا بدراقس وهو الذي ختنهم، وكان غلامه قد أعانه على خصائهم، فنزلنا على حبيب نومة الضحى، فاحتفل لنا وأكرمنا، فقال له ثابت: من أنت؟ قال: يا بن أخي أتجهلني وأنت وليت ختاني! أو قال: وأنت ختنتني، قال: واسؤتاه! وأيهم أنت؟ قال: أنا حبيب، فاجتنبت طعامه، وخفت أن يسمّني. قال: وجعلت لحية الدلال بعد سنة أو سنتين تتناثر. وأما ابن الكلبي فإنه ذكر عن أبي مسكين ولقيط أن أيمن كتب بإحصاء من في المدينة من المخنثين ليعرفهم، فيوفد عليه من يختاره للوفادة، فظن أنه يريد الخصاء فخصاهم.
أخبرني وكيع قال: حدثني أبو أيوب المديني قال: حدثني محمد بن سلام قال حدثني ابن جعدبة - ونسخت أنا من كتاب أحمد بن الحارث الخراز - عن المديني عن ابن جُعدُبة واللفظ له:
أن الذي هاج سليمان بن عبد الملك على ما صنعه بمن كان بالمدينة من المخنثين، أنه كان مستلقياً على فراشه في الليل، وجارية له إلى جنبه، وعليها غلالة ورداء معصفران، وعليها وشاحان من ذهب، وفي عنقها فصلان من لؤلؤ وزبرجد وياقوت، وكان سليمان بها مشغوفاً، وفي عسكره رجل يقال له سمير الأبليّ يغنّي، فلم يفكر سليمان في غنائه شغلاً بها وإقبالاً عليها، وهي لاهية عنه لا تجيبه مصغية إلى الرجل، حتى طال ذلك عليه، فحول وجهه عنها مغضباً، ثم عاد إلى ما كان مشغولاً عن فهمه بها، فسمع سميراً يغني بأحسن صوت وأطيب نغمة:
محجوبة سمعت صوتي فأرقها ... من آخر الليل حتى شفها السهرُ
تدني على جيدها ثنيي معصفرة ... والحلي منها على لباتها خصرُ
في ليلة النصف ما يدري مضاجعها ... أوجهها عنده أبهى أم القمر
ويروى:
أوجهها ما يرى ... أم وجهها القمر
لو خليت لمشت نحوي على قدم ... تكاد من رقة للمشي تنفطر
- الغناء لسمير الأبلي رمل مطلق بالبنصر عن حبش.. وأخبرني ذكاء وجه الرزة أنه سمع فيه لحناً للدلال من الثقيل الأول.
- فلم يشكك سليمان أن الذي بها مما سمعت، وأنها تهوى سميراً، فوجه من وقته من أحضره وحبسه، ودعا لها بسيف ونطع، وقال: والله لتصدقني أو لأضربن عنقك! قالت: سلني عما تريد، قال: أخبريني عما بينك وبين هذا الرجل؟ قالت: والله ما أعرفه ولا رأيته قط، وأنا جارية منشئي الحجاز، ومن هناك حملت إليك، ووالله ما أعرف بهذه البلاد أحداً سواك، فرقّ لها وأحضر الرجل فسأله، وتلطف له في المسألة، فلم يجد بينه وبينها سبيلاً، ولم تطب نفسه بتخليته سوياً فخصاه، وكتب في المخنثين بمثل ذلك.
هذه الرواية صحيحة.
نهاية الجزء السادس
يتبع ...
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |