«السوريون الأعداء» لفواز حداد: تصوير النظام وكشفه من الداخل / سالم الأخرس
2015-03-14
عندما تصادفك قطعة عسكرية مكشوفة في سوريا، تواجهك لافتة مكتوب عليها «منطقه عسكرية ممنوع الاقتراب والتصوير» ويفهم منها أن تبتعد عن المكان، وألا تستخدم آلة التصوير الفوتوغرافي، أو غيرها. لا ندري كيف سينظر القاضي العسكري لرواية «السوريون الاعداء» للكاتب فواز حداد (دار رياض الريس)، بافتراض قدمت دعوى ضد الرواية أمام المحكمة العسكرية بتهمة الاقتراب والتصوير، ليس للقطعة العسكرية وحسب، بل للمؤسسة العسكرية كلها، ودورها الخاص داخل الحياة السورية العامة. وحسب فهمنا للاعتبارات «القانونية» العسكرية، فإن أمر ممنوع الاقتراب والتصوير، يعني الاقتراب المحسوس والملموس من القطع العسكرية وتصويرها صورا شمسية، عن قرب وفي العمق. الأمر الذي يجعل الرواية وكاتبها خارج صلاحية القاضي العسكري، لذا فالأرجح محاكمة الرواية وكاتبها تحت صلاحيات المحكمة الميدانية العسكرية، المعتمدة في قراراتها على «الفراسة» باكتشاف نوايا المتهم، وما يضمره في أعماقه الدفينة تجاه «الوطن» من نوازع هدّامة. هذا في حال لم يكن هناك خشية من أن تسبب محاكمة الرواية وكاتبها إحراجا وفضيحة في الفضاء العام خصوصاً الإعلامي منها. لكن إذا كان هناك خشية، فربما من الافضل اللجوء الى الأجهزة التي لا تُرى بالعين، والتي تعتمد في عملها على اختيار فراغات المصادفات، واملاؤها بعنوان جريمة ضد مجهول.
ضمن هذه التأمّلات، يطرح السؤال نفسه: لماذا هذه الرواية الآن؟ ومن هو فواز حداد؟ بالاستعانة بالمتقصي العصري «غوغل»، نعرف أن الكاتب روائي سوري احترف الرواية في خريف العمر، أو قبله بقليل تحت شغف الوجدان الادبي، والبحث عن الزمن المفقود داخل روحه، وداخل النسيج الاجتماعي الذي يتنفس منه، فكانت دمشق التي ولد وعاش فيها، فغدت دمشق حية فيه. فبدأ يحكي عنها روائيا، وتحكي عنه كما أدركها واحسّ بها عبر العديد من الأحداث والمنعطفات والشخصيات. فكانت رحلة وجدانية، تنشد الاعتراف بالرضى عن العيش بهذه البلاد، وتؤكد الانتماء لها، عبر رؤية فكرية راحت تنمو وتنضج بلهيب الأحداث والصراعات، التي تصنع الحياة العامة السورية. ما يلفت النظر عند حداد، أنه عاش الزمن السوري كمثقف «عضوي»، يطرح رؤياه كأديب روائي يُصنّع أحداثه وأشخاصه حسب إلهامه الفني والفكري، ويسرد قناعاته ومواقفه كشيخ عقل، من دون أن يُظهر ثوب الحكمة والمعاني فيها مباشرة.
رواية حداد الأخيرة جاءت ضمن هذا النسق والسياق والأسلوب، ولكن بمادة جديدة تختلف عن سابقاتها، اذ اختار أحداث حماه الدامية أوائل الثمانينات، وربطها بالانفجار الكبير الذي عمّ البلاد، بداية العقد الثاني في القرن الجديد. فنبش أحداثا طالما حظر تناولها ومُنع الاقتراب منها وتصويرها، باعتبارها مسّا بالذات السلطانية، تكشف عن الآليات والطرق التي تعمل بها وتتنفس منها هذه القوى المتسلطة.
تسرد الرواية قصة النقيب «سليمان» المنحدر من جبال الساحل، وتتابع تطور حالته المهنية والنفسية، راصدة الطموحات الخاصة المعتملة داخله، وتأثيرها في تشكيل قناعاته وسلوكياته الخاصة والعامة. فتبدأ قصته مع أحداث حماه الثمانينات، مرورا بدمشق حتى تسلله للعمل داخل القصر الجمهوري. ولكي تتوضح شخصيه «سليمان» كانت شخصيه «لميس» الجذابة، الوافدة من الريف الى دمشق، لتحتل مكانها الواسع في أجواء الطموحات التصاعدية. يمكن القول إن الرواية نجحت في الكشف عن آليتين أساسيتين تعملان داخل المجتمع السوري، ولهما الأثر الحاسم في تشكيله وتطوره عامة. وفي ظنّي ومعرفتي أن الآلية الأولى تطرح هذه المسألة - المعضلة، مسألة السلطة والدولة، كمفهوم وممارسة وبنية، داخل النسق الأدبي السوري، وإن سبق وطُرحت فكرة السلطة وآثار ممارساتها في القطّاعات الاقتصادية والاجتماعية، والمنتوج النفسي والإنساني والحياتي الذي تخلّفه وراءها وأمامها وعلى جنبيها. إلا أن جديد رواية حداد إلقاؤها الضوء على أثر السلطة في عمل ركائز الدولة وأنظمتها. قدمت الرواية شخصيتين رئيسيتين يدور حول كل منهما اشخاص واحداث. شخصيه النقيب المهندس سليمان وشخصية المحامي القاضي سليم الراجي. الأولى تجسّد السلطة، والثانية تعبّر عن الدولة؛ السلطة التي تملك سلطان القوة والطموح، والدولة التي لا تعمل إلا بروح القانون وأصوله. في السلطة، الأنا الذاتية قوية الحضور يسودها منطق عاطفي خاص، بينما يسود الدولة منطق عام يقوم على مساواة طبيعية بين جميع أفرادها. على هذه المعادلة السلطة - الدولة، يتحدد مسار وحركة وتطور أي اجتماع إنساني حديث، فالتوازن بينهما يُنبئ ان هذا المجتمع مفتوح أمامه المستقبل الواعد، والخلل فيهما يبشّر أن هذا المجتمع ولود للأزمات المستعصية والحروب العبثية. وقد أسهبت الرواية في توضيح الآليات التي تعمل بها قوه السلطة عبر النقيب المهندس سليمان وسبرت العلاقات التي تسعى لنسجها ضمن النسيج الاجتماعي العام، والتخريب المدّمر الذي تحدثه داخل هذا النسيج، إن كان في حقل الاقتصاد أو السياسة أو الثقافة أو الاخلاق، ناهيك عن البعد الإنساني الذي يصعب تصوّره حتى بالخيال إذا ما نُظر إليه من جانب «وطني» أو إنساني عام. كما اوضحت الرواية حالة الدولة «العرجاء الفصعاء» حالما تصبح بمعزل عن القانون النابع من فلسفة الحق العام، تحت أهداف وشعارات، أكل الزمان عليها وشرب. جاءت شخصية القاضي سليم الراجي لتعبر عن حالة الدولة خير تعبير، فالقاضي باعتباره من حراس القانون ورجالاته مكث دائماً وابداً تحت سلطان غرور قوه السلطة وسيفها، تحت مسمّى «الأسباب الأمنية»، المرشد الاعلى للفكر السلطاني.
من جانب آخر، تفوّقت الرواية على نفسها عندما تطرّقت للمسألة الطائفية في سوريا، والتي تعد أيضا من المحرمات الكبرى المدرجة في خانة «وهن الأمة» ومشتقاتها. إذ ساد الرأي الذي يرفض الطائفية دون ان يُخضع هذه المسألة الى البحث والتنقيب التاريخي الرصين، فغدا التجاهل حلاً لهذه المسألة، كما أصبح رمي الجمرات عليها هو الدليل والبرهان على ان الطائفية قد تجاوزها الزمن، وأصبحت في متاحف التاريخ. فأتت رواية «السوريون الأعداء» لتسرد كيف تبرعمت المسألة الطائفية في سوريا في ظل دولة «قاصر» وتحت رعاية سلطة مغرورة رعناء. فكان لكسر هذا التابو المصطنع والمزيّف، الذي تكرس في الفضاء الثقافي والسياسي العام، فضيلة الشجاعة، وهو فرصة نبيلة وعظيمة، لتكون بادئة الدخول الى هذه المسألة بعمق ومسؤولية «وطنية»، كي لا تبقى القراءات «العامية» والتداول «الهامس» لها في المقاهي والغرف المغلقة هو سيد الموقف في هذه المسألة. ولا نستبعد أن تتعرض الرواية وكاتبها الى حملة شعواء ظالمة يشنها حملة لواء «وهن الأمة» وأصدقاؤهم، كل له أسبابه ودوافعه. ولكن هذا لن يغيّر حقيقة ان الرواية تفوّقت على نفسها، ولها وسام المسؤولية والأسبقية.
عن ملحق نوافذ