المستبد العادل ومسألة الحرية في المجتمعات العربية الإسلامية / صلاح سالم
2015-03-21
حققت عصور الاستبداد (الملكي) للجماعة العربية الكثير من الإنجازات وعلى رأسها الفتوحات الإسلامية التي امتدت في العصرين: الأموي، والعباسي الأول، إلى مشارق الدنيا ومغاربها ناشرة للإسلام بين الشعوب، فضلاً عن بناء حضارة كبرى نهضت على مبدأ التسامح جوهرياً / عقدياً وإن حدثت استثناءات في ظل ملابسات سياسية بعينها. غير أن هذه الإنجازات لا ترجع الى ميزة في الاستبداد وإنما إلى أمرين آخرين: أولهما هو عقدية الإسلام الصافية، وروحانيته الجهادية الشماء، التي تولد عنها قوة اندفاع هائلة، وحيوية حضارية كبرى طيلة دورة كاملة من دورات التاريخ سطع فيها الإسلام وأشرق وجهه الحضاري، حتى إذا ما هدأ ذلك الاندفاع وآل إلى الركود شيئاً فشيئاً، كان ذلك بمثابة الانقلاب في دورة التاريخ العربي. وثانيهما هو روح العصر الذي تمت فيه، حيث كان الاستبداد منتشراً في أرجاء الدنيا ولم تكن فكرة الحرية قد نضجت في التاريخ بعد وبالتالي لم يكن المسلمون متخلفون عن مسارها قياساً إلى غيرهم.
وهنا تكمن المفارقة التي تفسر ولا تبرر كيف أمكن للخليفة الأموي معاوية، ونظيره العباسي هارون الرشيد أن ينجزا مصلحة الأمة بالاستبداد في بداية تاريخها، وكيف أوقعها صدام حسين، من داخل الجغرافيا نفسها، فريسة للأمم بالاستبداد نفسه في حاضر زمانها. إنها حقائق العالم وقد تغيرت بنضوج فكرة الحرية، التي كانت غائبة بلا شك عن معظم التاريخ الإنساني، ولكنها استمرت غائبة عن الحاضر العربي، وبغيابها استمر الأسلوب القديم في صياغة الشرعية، أو لنقل في تجاوز مسألة الشرعية، حيث وصلت الثقافة السياسية العربية إلى القرن العشرين مرهقة، عاجزة في مواجهة تنامي الحداثة السياسية، وقابلة لنظرية/ نموذج (المستبد العادل) التي قال بها الإمام محمد عبده، معتبراً إياها مدخلاً لحل معضلة السلطة في المجتمعات الإسلامية، التي كانت الديموقراطية الليبرالية تبدو عصية عليها عند نهايات القرن التاسع عشر، حيث انشغلت ثقافتها السياسية بمفهوم الأمة والجماعة، ولم تكترث أبداً بمفهوم الفرد ولا الطبقة، بحثاً عن التكامل المجتمعي على قاعدة التراحم الإنساني، وليس عن الصراع الاجتماعي على قاعدة الحقوق الفردية. ما أومأ إليه الإمام هو أن الحاكم المستبد، القوي، إذا ما كان عادلاً بين الرعية، أميناً على الأمة، يمكنه تحقيق صلاحها، وهو قول صادق في العموم، بل يمكننا الإضافة إليه ما يفسر منطقه، وهو أن الحاكم القوي الأمين، القادر على نشر العدل ورعاية المواطنين، والمتحرر من ضغوط الآخرين، أفضل كثيراً من أي نظام ديموقراطي تعددي، يقوم على أحزاب متصارعة، وينطوي على جماعات ضغط متحفزة، أي على فرقاء في الميول الإيديولوجية، والمواقع الاقتصادية، وكذلك في رؤية العالم وفي كيفية التعاطي مع الآخرين.
هذا الاختلاف يجعل إدارة الشأن العام نتاجاً لعمليات مساومة صعبة وتفاوض دائم وصدامات موقتة تجعل من مهمة اتخاذ القرارات الكبيرة وشق التوجهات الجديدة عملية صعبة وبطيئة، وتفرض على القائد حدوداً في الحركة وقيوداً في الزمن لا يستطيع تخطيها إلا بصعوبة بالغة، ولعلنا جميعاً نتذكر كيف أوشكت الحكومة الفيديرالية في الولايات المتحدة أن تسرح معظم موظفيها، لعجزها عن تدبير مرتباتهم، بفعل تأخر اعتماد الموازنة العامة إثر الخلاف بين الرئيس والكونغرس حول قضية التأمين الصحي للمواطنين!
ولا شك في أن قضية مثل هذه ليست بخطورة قرار مثل إعلان الحرب، والتي يكون للوقت فيها أثر حاسم في إدارة الصراع، وكسب المعارك. ومثل ذلك يمكن قوله عن عقد معاهدات للسلام يمكن أن تكون مفيدة، أو بناء تحالفات استراتيجية يمكن أن تكون مؤثرة، أو حتى توقيع صفقات تجارية قد تكون مربحة، وجميعها يمثل الوقت عنصراً حاسماً في إنجازها، على نحو يجعل المساومات المعقدة بين وجهات النظر المختلفة حولها عبئاً ثقيلاً عليها، قد يؤدي لإفشالها أو تقليل العائد المتوقع منها.
غير أن الدرس الذي يعلمنا التاريخ إياه، دولاً ومجتمعات وأفراداً، هو أن الإستبداد لا يمكن أن يكون عادلاً أبداً، حتى لو وجد مستبد واحد عادل. قد يأتي المستبد العادل فعلاً، ويكون عهده زاخراً بالرخاء حقاً، على منوال ما كان زمن الفاروق عمر بن الخطاب، أعدل حكام الزمان، الذي أسسوا للدولة على قاعدة العدل والشورى والاجتهاد، ولكن مجيء مثل هذا الرجل يظل صدفة رائعة لا تتكرر كثيراً، ولا يتوجب على مجتمعاتنا انتظارها. أما الإستبداد نفسه فيمثل بنية معقدة، وسياقاً ممتداً، يقود إلى الفساد والترهل والضعف والركود، ومن ثم يصير دوماً هو الظلم بعينه. درس التاريخ إذن أن الحاكم المستبد ولو كان عادلاً، لا يقيم أبداً مجتمعاً عادلاً بدافع أمرين أساسيين:
الأمر الأول، أنه لن يتمكن من ممارسة عدله على نطاق يتسع لكل دولته، فطاقته الإنسانية محدودة، وقدرته على المتابعة ضئيلة. كما أنه، وفي ظل مجتمعنا الحديث، القائم على التخصص الشديد، وتقسيم العمل المعقد، لن يكون قادراً على فهم جميع الظواهر المحيطة به، واتخاذ القرارات في كل المشكلات التي تواجهه. إذن فهو إما غير قادر على رؤية كل شيء بنفسه، أو إنه غير قادر على فهم حقيقة كل ما يراه، نتيجة لتعقيد وتخصص هذا الذي يراه. وفي الحالين سيكون مضطراً للاستعانة بآخرين سواء لينقلوا إليه ما لم يره بنفسه وهم (رجال السياسة والإدارة). أو ليحللوا له ما استغلق عليه فهمه وهم (رجال العلم والمعرفة).
وهكذا يتحول هؤلاء، من الصنفين، إلى رجال الحكم الحقيقيين، الذين سرعان ما يصطبغون بالبيئة السياسية التي يحكمون منها وفيها: فهي إما بيئة حرية وسيادة قانون، يصيرون معها نخبة حاكمة جيدة، خشية عقاب القانون ورقابة البرلمان، وسطوة الإعلام الحر، وضغوط الصحافة المستقلة... وإما بيئة تسلط وفساد، يتحولون فيها، بتأثير غياب الشفافية والرقابة القانونية والبرلمانية الفعالة، إلى بطانة سوء، وجماعة مصلحة، لا تتنافس مع آخرين للفوز بالسلطة، بل تجد السلطة في يدها، مثل ثمرة يانعة، تقبض على زمامها بسهولة لتدبر بها منافعها.
والأمر الثاني، أنه لن يستطع أن يمارس عدله في زمن ممتد، فالحاكم مهما كان صحيح البدن أو ضعيفه، له عمر رجل واحد لا يستطيع تجاوزه. إنه العمر البشري المحدود الذي سرعان ما ينقضى، ليرثه آخرون، غالباً ما يكون عدلهم أمراً محتملاً، يعكس أملاً في صدفة جديد سعيدة غالباً ما تكون نادرة. وفي المقابل، يكون استبدادهم أمراً مؤكداً، يكاد يشبه اليقين، إذ لم يعرف التاريخ تقريباً حاكماً عادلاً ورثه آخر أعدل منه، فيما عرف التاريخ كثيراً من الحكام الفاسدين والظالمين ورثهم من هم أفسد وأظلم منهم. فإذا كان عبد الناصر عادلاً مع الإستبداد، فقد ورث السادات استبداده من دون عدله، مع كونه رجل دولة حقيقياً، فيما ورث حسني مبارك الاستبداد من دون عدل ناصر، ودهاء السادات، فاستحالت مصر ليس فقط بلداً غير ديموقراطى، ولكنه أيضاً غير عادل، إذ جمع بين ثراء المهراجات، وفقر الشحاذين، بل الأهم من ذلك أنه صار بلداً رخواً، استحال ساحة للمنافسة عليه، يعيش حياته يوماً بيوم، على طريقة عمال التراحيل أو البائعة الجائلين، من دون يقين بمستقبل أتٍ، أو تخطيط لغد قادم سوى لمشروع التوريث الحزين، الذي كان بمثابة محاولة انقلابية على التراث الجمهوري كله، وليس على الموروث العادل منه.
درس التاريخ أخيراً... أن الحاكم العادل ليس إلا صدفة، لا يتوجب على المجتمعات انتظارها، أو التعلق بخلاص قد يأتي منها، أما العدل نفسه فهو القيمة التي يتوجب عليها أن تسعى إلى تكريسها في كل أنساق حياتها، لتكون ديدنها، والمنارة الهادية لها، التي تلهم وعيها وتحفز سيرها، فتبقى سيدة لنفسها، مالكة لمصيرها، عصية على الغواية والخداع.
عن جريدة الحياة.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |