كتاب الصحافية الفرنسية آنا إيريل «في جِلْد جهاديّة»: غرام وقطع رؤوس عبر السكايب / طارق أبي سمرا
2015-03-26
طارق أبي سمرا
مكالمة عبر»السكايب»
آه، أنتِ هنا! لا زلتِ جميلة جداً كالعادة...
مع من كنتَ تتكلم؟
مقاتلون جاؤوا لإلقاء التحية عليّ.
آه، شعرتُ أنهم يبلغونكَ بما نفذوه... أعلم أنكَ لا تريد أن تتباهى، لكني متأكدة أنكَ قائد أو شيء من هذا القبيل...
صحيح، لا أحب أن أتباهى... لكني أحظى باحترام كبير...
لماذا؟ هل أنتَ أمير؟ (...)
لقد حزرتِ من أكون... لكني لا أريد أن أتباهى. علّ الأمر أن يبقى بيننا. لدينا جميعاً الهدف ذاته هنا.
تبدو شديد العزم... هل استطيع أن أسألكَ ما هو عملك؟
قتل الناس.
قتل الناس؟ هذا هو عملك؟ أحقاً هذا عمل؟
بالتأكيد! ماذا تعتقدين؟ أنا أعمل بجهد! هذا ليس الكلوب ميد (إسم منتجع سياحي) هنا!
هل تقتل الكفّار؟
نعم. والخونة أيضاً. وكل من يقف بوجه هيمنة الإسلام على العالم.
لماذا؟ هل ستغزو العالم بأكمله لاحقاً؟
خليفتنا أبو بكر البغدادي يقودنا من أجل إلغاء كل الحدود. سيستغرق الأمر بعض الوقت، لكن العالم كله لن يكون، قريباً، سوى أرض كبرى للمسلمين.
وإن لم يرضَ الناس بذلك؟
هههه... فإلى العمل إذاً! وسوف ننجح في نهاية المطاف...
إلى العمل؟ ستقتلهم جميعاً؟
أنا ورجالي! لا أستطيع أن أفعل هذا بمفردي! ما شاء الله.
أنا متأكدة أنكَ شاركتَ في الإستيلاء على الرقة... لقد انتشرت صور «داعش» في كل مكان(...)
أنتِ تضحكينني كثيراً! أجل، بالطبع، لقد فجرناهم! كان الأمر جنونياً... سأرسل لكِ صوراً (...) لكن دعينا من هذا الموضوع! أنتِ تطرحين الكثير من الأسئلة. حدثيني عن نفسكِ!
أخبِرْني شيئاً قبل ذلك... تقولُ لي أنكَ تقتل الأشخاص السيئين لتطهير العالم، لكن لمَ بَتْرُ الأعضاء؟ لمَ كل هذه البربرية إن كانت قضيتكم نبيلة؟
في الحقيقة، نحن نستولي على منطقة معينة عن طريق القضاء على جميع من فيها. لكن لكلٍ منا وظيفته المحددة. أنا على سبيل المثال بما أنني، من دون تباه، مهم جداً أُشرف في الغالب على سير العمليات. أعطي الأوامر. وبعد موت جميع الكفار، يقرر الأمير ماذا نفعل بالجثث.
ماذا يعني ذلك؟
ههه... لقد رأيتِ صوراً وتسجيلات فيديو، أليس كذلك؟ طلب منا الأمير، في ذلك اليوم مثلاً، أن نقطع الرؤوس. لكن هيا حدثيني عن نفسك! (...) ما الذي أرشدكِ إلى درب الله؟ (...)
لقد رحل أبي عندما كنتُ صغيرة جداً، فصار أخوالي يعتنون بي وقتما تكون أمي منهَكة. أحد أبناء أخوالي كان مسلماً، فسحرني السلام الداخلي الذي وجده من خلال الدين. هكذا اهتديت إلى الإسلام.
هل يعلم أنكِ تريدين القدوم إلى بلاد الشام؟ (...)
لا أعرف إن كنتُ سآتي...
إستمعي لي يا ميلاني... من بين جملة أمور أخرى، مهنتي هي تجنيد الأشخاص. أنا موهوب جداً في هذا المجال. يمكنك أن تثقي بي: ستعامَلين بطريقة حسنة جداً. ستكونين مهمة. وإن وافقت على الزواج مني، سأعاملك كملكة.
معاون البغدادي
مزيج الغرام وقطع الرؤوس في المقتطف المترجم أعلاه من كتاب «في جلد الجهاديّة» الصادر أخيراً عن دار «روبير لافون» في باريس، مثال نموذجي عما دار، عبر «السكايب»، بين الصحافية الفرنسية آنا إيريل و»أبي بلال»، مقاتل «داعش» الفرنسي الأقرب إلى زعيم «الدولة الإسلامية« أبو بكر البغدادي، وأحد معاونيه.
لبست آنا الحجاب وغيرت اسمها إلى ميلاني. اخترعت فتاة عشرينية ساذجة، تصغرها بعشرة أعوام، ودخلت في جلدها، طوال أمسيات شهر من ربيع العام 2014. من غرفتها، وعبر «السكايب»، راحت تتواصل مع «أبي بلال»، فشرع الأخير، ومنذ المكالمة الأولى، يدعوها للالتحاق بصفوف «داعش» والقدوم إلى سوريا للزواج منه.
جهاد المراهقين
كانت آنا إيريل، طوال العام الذي سبق تعرفها على «أبي بلال»، تجري تحقيقات صحافية حول ظاهرة التحاق أفراد فرنسيين بتنظيم «داعش». وبما أن التجنيد يتمّ عموماً عبر «الإنترنت»، قررت ولوج عالم الجهاد الرقمي هذا، فأنشأت حسابا على «فايسبوك» باسم ميلاني، وأخذت تتواصل عبره، بحذر، مع شبان وشابات من المتصفحين اليوميين، لساعات طويلة، مواقعَ البروباغندا التابعة لتنظيمات إسلامية جهادية، وبالأخص «داعش». المتصفحون هؤلاء، معظمهم مراهقون يحاولون الهرب من واقعهم اليومي، فيبحثون عن إثارة يجدونها في متناولهم خلف أبواب غرفهم المغلقة، عبر التسلل إلى دهاليز «الإنترنت» الجهادية.
لا يتعدى هذا الأمر كونه، بالنسبة لبعض من المراهقين، مجرد موضة سرعان ما يتخلون عنها، تقول إيريل؛ لكنه يشكل، بالنسبة للبعض الأخر، المرحلة الأولى من مسيرة تطرفهم. وما أوردته الصحافية، استطراداً وبشكل شديد الإقتضاب، حول أسباب هذا التطرف، من أبرز ما جاء في كتابها.
تشرح إيريل أن ظاهرة التحاق بعض الأوروبيين بتنظيم «داعش»، على علاقة وثيقة بإشكاليات عمر المراهقة وأزمة الهوية التي يمر بها كل فرد في هذه المرحلة المحورية من حياته. فأغلبية الشبان الذين يذهبون إلى سوريا أو العراق، وحتى لو كانوا من أصول عربية، لا تربطهم أي صلة فعلية أو عضوية بالبيئة الاجتماعية التي انبثقت منها «داعش». هم يغادرون بلادهم سعياً وراء حلم التحول إلى أبطال جبابرة. وهذا حلم تصوره لهم البروباغندا الجهادية على أنه يسيرٌ وبمتناول اليد. هكذا صار بعض الشبان ينظرون إلى الثورة على المجتمع من خلال السّكر والتهور والشغب والإتجار بالمخدرات، للوصول أخيراً إلى مرتبة «أزعر» أو «قبضاي» الحي، كمشروع وضيع مقارنة بإمكانية حمل السلاح والقتل والمشاركة في معارك حقيقية قد تغيّر وجه التاريخ، وكل ما يرافق ذلك من هيبة وإحساس بالقوة، وشهرة سريعة واسعة من خلال الصور وتسجيلات «الفيديو» التي تُنشر على «الإنترنت».
لكن «داعش، بحسب إيريل، تجتذب صنفاً آخراً من المراهقين أيضاً: أولئك الذين يمرون بأزمات نفسية حادة وصعوبات تكيّف تعزلهم عن المجتمع، فيجدون مخرجاً من عزلتهم في الإسلام الجهادي. على عكس الأفراد الذين ينتمون إلى الفئة الأولى، فإن أفراد الفئة الثانية لا يبحثون عن الإثارة والبطولات على وجه التخصيص، بل عن أحد يسيطر عليهم، فيُسيِّر حياتهم ويمنحها معنى.
الجانح مجاهدا
ميلاني، الفتاة العشرينية الوهمية، كما تخيلتها مبتكرتها آنا إيريل، واحدة من هؤلاء الشبان والشابات المأزومين والمنعزلين الذين وجدوا خلاصهم في الإسلام. غير أن ميلاني لم تكن بداية سوى اسم وصورة على حساب «فايسبوك»، تعرفت آنا، عبرهما، بالصدفة، على شخص يدعى «أبو بلال». تبادلا بضع رسائل على ال «فايسبوك»، ثم طلب «أبو بلال» محادثتها عبر «السكايب». خافت آنا وترددت، لكنها ما لبثت أن وافقت، إذ حدست أن الرجل مقاتل مخضرم قد يعطيها معلومات لم تكن أبداً تحلم بالحصول عليها.
إرتدت الحجاب وتقمصت شخصية ميلاني، بعد أن اخترعت لها حياة كاملة لكي تلعب دورها على أكمل وجه، فلا تساور الشكوك «أبا بلال». ومنذ الاتصال الأول عبر «السكايب» (المقتطف المترجم الوارد أعلاه)، عرفت أن محاورها شخص أكثر تعقيداً من المراهقين الذين كتبت عنهم في تحقيقاتها، وأيقنت انها اصطادت «سمكة كبيرة» لم تشأ إفلاتها.
علمت لاحقاً أن اسم «أبي بلال» الحقيقي هو رشيد. من أصول جزائرية، ولد في فرنسا عام 1976. ملفه القضائي حافل بجنح ارتكبها في شبابه: تجارة أسلحة خفيفة وسرقات على أنواعها. سافر مراراً إلى باكستان حيث درس الدين الإسلامي وتعلم تقنيات حرب العصابات. خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة، جاهد في مختلف أنحاء العالم، فقاوم الإحتلال الأميركي في العراق عام 2003، حيث تعرف على أبو بكر البغدادي، وقاتل إلى جانب الثوار الليبيين إبان سقوط نظام القذافي. أخيراً، وكأمير في تنظيم «الدولة الإسلامية» مقرّب من الخليفة، صار يُعرف ب»أبي بلال الفرنسي»، وتتوزع مهامه، في مدينة الرقة السورية، بين تجنيد المجاهدين وجباية الضرائب والإشراف على كتائب من المقاتلين.
الضائعة والمستبد
لو لم تكن مجرد قناع إختبأت خلفه صحافية، لكانت ميلاني قد علقت في شباك «أبي بلال» وأضحت زوجته الرابعة. ف»أبو بلال»، على ما وصفته آنا إيريل في كتابها إستناداً إلى محادثاتهما اليومية عبر «السكايب» طوال شهر، «بائع محترف» خبير في التجنيد، يتبَيَّن بسرعة مكامن ضعف فريسته، فيرسم لها بكلامه المعسول أحلاماً برّاقة؛ ثم، بعد تأكده من إحكام قبضته عليها، لا يلبث أن يتحول إلى طاغية مستبد من غير الوارد الخروج عن طاعته. وهو يشبه في ذلك زعماء الجماعات أو العصابات الدينية الصغيرة المنغلقة على نفسها، الذين يتمتعون بنوع من الكاريزما ويتحكمون بحيوات أتباعهم عبر غسل أدمغتهم.
لم يطرح «أبو بلال» سوى عدد قليل جداً من الأسئلة على آنا ميلاني. اكتفى بمعرفة أنها مسيحية عازبة اعتنقت الإسلام وتحجبت، وأنها تتصفح مواقع «الإنترنت» الجهادية، ليستنتج أنها شابة تائهة تبحث عن مخرج من حياتها الكئيبة الموحشة، فقدم لها هذا المخرج منذ الإتصال الأول عبر السكايب: أن تلتحق ب»داعش» وتتزوج منه. لم يعرض عليها هذا الحل كخيار يمكن قبوله أو رفضه، بل كأمر حتمي سيمنحها السعادة المطلقة في هذه الحياة، والجنة في الآخرة، وشرح لها أن كل من لا ينخرط في تنظيم «الدولة الإسلامية» كافر مصيره نار جهنم.
خطاب «أبي بلال» يضع فريسته في حالة حيرة دائمة من أجل إرباكها والتغلب على دفاعاتها. ينتقد النظام الرأسمالي ويعدد لميلاني جرائم الغرب ليشعرها بالذنب حيال نمط عيشها اللامسؤول في أوروبا. ثم، وللمفارقة، يَعدها بحياة مترفة ملكية كزوجته المستقبلية في سوريا. يغازلها ويحاول إثارتها عبر الكلام عن ليلة الدخلة، ثم يخبرها تواً عن بطولاته الدموية ويقترح عليها تَعَلُّم استخدام الأسلحة الرشاشة لكي تشاركه بقتل الكفار إن رغبت بذلك. «لنا الحق أن نفعل بالكفار ما يحلوا لنا»، يقول لها. ويتابع: «بإمكانكِ حرقهم أو خنقهم؛ فمتى قاسوا موتاً فظيعاً، تكونين قد قدمت خدمة لله».
هنالك جانب آخر من شخصية «أبي بلال» الأصولي المتطرف: مراهق بكل ما للكلمة من معنى، ناهز عمره الأربعين. فبالرغم من أنه اختبر المعارك والحروب على مدى سنوات طويلة، لا زال عالقاً في مخيلة فتى مهووس ببطولات شخصيات المافيا كما تصورها الأفلام الهوليوودية، فيتباهى بسلطانه وماله أمام ميلاني، مشبهاً نفسه بطوني مونتانا، شخصية بارون المخدرات الشهيرة التي لعبها آل باتشينو في «سكارفيس». يتباهى أيضاً بفحولته، ويقول لميلاني: «الكثير من النساء يحلمون بنا، نحن جنود الله».
الفتوى والفصام
خلال الساعات الطويلة التي أمضتها خلف جهاز «اللابتوب»، محاولة استنطاق الأمير «الداعشي» الفرنسي، الذي وافقت على الزواج منه، تقمصت آنا تماماً شخصية ميلاني، فصارت تشعر بأنها تعاني من الفصام. أرعبتها المكالمات عبر «السكايب»، لكنها، وبحسب قولها، أدمنت عليها، إذ أتاحت لها أن تختبر بنفسها تجربة التجنيد وأن «تتسلل إلى ذهن سفاح» يفتخر بقتله ألوف «الكفار». أدمنت أيضاً على الإثارة وتصاعد «الأدرينالين». وعندما أمرها أخيراً «أبو بلال» بالإلتحاق به في سوريا من طريق هولندا فتركيا ثم الحدود التركية السورية، لم تقوَ آنا، المدفوعة بفضول أضحى شيئاً من الهوس، على كبح نفسها من المضي بهذا التحقيق إلى أبعد حدٍ ممكن. قررت أن تبلغ الحدود التركية السورية من دون اجتيازها بالطبع للاطلاع أكثر على آليات التجنيد واستقطاب المجاهدين والمجاهدات. لكن الأمور لم تسر في هولندا كما كان متوقعاً، فشعرَت، بعد الكثير من التعقيدات غير المتوقعة، أن قناعها ربما قد سقط. عادت أدراجها وكتبت مقالة نشرتها في صحيفة، فظنّت أن القصة قد وصلت إلى خواتيمها، لكنها علمت لاحقاً أن فتوى قد صدرت بحقها، جاء في نصها ما يلي: «هي أنجس من كلب. اغتصبوها، ارجموها، واقتلوها. إن شاء الله».
تركت شقتها وغيرت رقم هاتفها. ثم وسّعت مقالتها، فغدت كتاباً عنونته «في جلد جهادية»، نشرته تحت إسم مستعار هو آنا إيريل. سرت شائعات حول مقتل «أبي بلال»، لكن الإستخبارات الفرنسية لا زالت تعتقد أنه حي يرزق.
«داعش» الكاريكاتورية
يغلق القارئ الكتاب وتنتابه خيبة أمل. فبعدما وعدته الكاتبة مراراً بمعلومات بالغة الأهمية والخطورة عن «أبي بلال» وتنظيم «الدولة الإسلامية»، لم تعطه آنا سوى ما هو متوفر يومياً في وسائل الإعلام على أنواعها. وبعدما كررت أن محادثاتها مع الأمير «الداعشي» ستمكنها من التسلل إلى ذهن سفاح، لم تتوصل إلى فهم لشخصيته أبعد من نعته ب»الوحش» بين الحين والآخر. وقد يكون «أبو بلال» وحشاً بحق، لكن تصنيفه على هذا المنوال لا يحتاج إلى تحقيق تجاوز طوله 250 صفحة.
ذاك النقص في المعلومات «الخطيرة»، كما استحالة فهم شخصية «أبي بلال»، سوى على نحو سطحي، تستعيض آنا عنهما بالإثارة الرخيصة، فيأتي كتابها على شاكلة فيلم حركة وتشويق موضوعه قطع الرؤوس والغرام. في فيلمها هذا، هي تلعب دور الضحية البريئة، فتستفيض في أجزاء طويلة من الكتاب، بالحديث عن ارتباكها، قلقها وخوفها، وكأن ذلك سيعطينا لمحة عما قد تختبره شابة «حقيقية» يتم تجنيدها فعلياً. أما «ابو بلال»، فيبدو، في المقتطف المترجم أعلاه مثلاً، وفي مقاطع عدة أخرى من الكتاب أيضاً، كشخصية كرتونية مسعورة، لا تمت إلى الواقع بصلة، خرجت لتوها من لعبة «فيديو» دموية وراحت تسرح في الدنيا وتبتر أعضاء كل من تصادفه في طريقها. ويبقى السؤال الأساسي: معرفة إن كانت صورة «داعش» الكرتونية الكاريكاتورية كما رسمتها الصحافية الفرنسية، مجرد تقصير من الكاتبة، أم هي تمثّل فعلاً حقيقة «الدولة الإسلامية»؟
عن ملحق نوافذ