أبــــو النـــواس .. فلســـفة القهـــر السياســـي ! / شوقي كريم
2015-03-26
الشعر لعبة أحلام تتحكم بها قواعد الوجود الاجتماعي ومؤثراته الفكرية والأحلام ديمومة حريته الروحية التي تجعله لا يشبه الا نفسه في تفحص العلاقات التفاعلية مازجاً بين أبدية الاتصال ومعاني الحاضر، لهذا نجد الشاعر يطلق دوي دواخله مانحا الكلمة بوجودها الاعتيادي ابعادا تستحق الديمومة، لأنها تتوافر على سيول من الاسئلة الحائرة التي تسهم في تفتيت النظم الاجتماعية وتغور عميقاً في الإرثية الانسانية، ولأن الأدب بعامته مجموعة أفكار متضادة لهذا نراها تعاني من مشكلة الهدف، فهل للأدب هدف دقيق ومتوافر على شروط فلسفية تجعله يشيد كشوفاته المتنافرة والمتضادة أصلاً؟!
وما هي هذه الكشوفات.. هل نراها فاعلة في الدوائر الاجتماعية والسياسية أو الاقتصادية، ولكل من هذه الدوائر حلقاتها المعرفية التي قد لا ترى في الادب شيئاً مهماً!!
يقول (روسو) يولد الانسان حراً، إلا أنه مقيد أينما كان!!كيف يمكن الجمع بين الحرية ذات الدلالات المبهرة، والقيد المحدود الاتجاه والوجود؟! وهل ينطبق هذا على الشاعر الذي يرى في كل الضوابط قيودا تؤدي الى تحجيم مهمته الجمالية وتسهم في أنظمة النظام نفسه؟! والى أين تسعى الهدفية التي أعطت للشاعر ولم تعط لغيره؟! ومن رسم طرق الانفلات ومعالمه حتى وصل به الأمر الى ركوب بحار المرارة والانهزام والاحساس بالنفي ولم يرفض الشعر السير في الطرق السهلة المعبدة، ولا يرغب بشاعر يجد نفسه وسط حشد من الناس لا يعرفون عن وجوده الشعري شيئاً، ولا يرغب هو في التعريف بهذا الوجود، هل لهذه الأسباب ارتبط الشاعر بالمطلق؟، وظل المجتمع لصيق علاقاته التقليدية التي عمقتها المفاهيم الأخلاقية، ورفض الشاعر أن يكون عنصرا من هذا النظام، وسعى الى تهديم ما هو سائد ليتجه بالحطام غير الجمالي الى مصاهر تجعل منه وجودا جماليا، ولهذا تميز الشاعر وأعطى لنفسه الحق في تحطيم السائد وكأنه يبحث عن مفقود اسمته الفلسفة جوهر الحقيقة. أن كم المشكلات التي ارتضت الوجود الشعري والشاعري جعلت من الشعر قوة تستقطب الوجود النفسي، وهذا ما فعلته العرب، حيث جعلت من الشعر ديوانهم المحمل بأفعال نفسية تجاه كل القضايا التي يعيشونها وأعطت للشاعر صوتاً مثمراً ونوعاً خاصاً وعالياً من الحياة وأستغلت العرب هذه الميزات، فربطوا الشعر بعوالم غيبية أسطرت المكان وأسكنته عفاريت خاصة في واد اشتقت منه فيما بعد كلمة عبقرية، وقد أخضعت هذه الأسطرة الشاعر الى ضرورات الانعزال النفسي الذي سمي الالهام، وقد استغل الشعراء بحسب مستويات وعيهم هذا الاضطراب الذي ازداد حدة بعد نشوء الدولة العباسية وانغمارها في تجديدات حضرية، ما كان العقل البدوي لولا هذا الانفتاح ان يتقبلها بسهولة، فثمة فرق لا يمكن تصوره بين الشويهة والبعير، والأطلال التي تسفيها الرياح والحمائم الواجمة، ورغد العيش وتكاثر الغواني وامتداد الحياة من الصحراء الى المدهش والغريب من المدن، وقد وعى الحسن بن هانئ (ابو نؤاس) هذا المتغير فأنغمس عميقاً في المدينة والتي ستبهر فيما بعد عدداً كبيراً من الشعراء يسلكون ذات الدرب الذي سلكه الشاعر وحدد النواسي مكانه الشعري حتى صار لسان التجديد الرافض لفكرة اجترار المعاني لأنه يدرك أن التجارب الحسية تمزج بين المتخيل الجمالي الذي تحتاجه الحياة، والواقع المحير، فلقد دفعت السياسة المضطربة بعد وفاة (هارون الرشيد) الى أن يختار الشاعر الواسع الخيال، الساعي داخل العابه الفكرية الى ان يختار بين الأمين والمأمون، وكلاهما عند الشاعر تكرار لفكرة القوة، لكن الوقت بحاجة الى ايضاح للموقف، لهذا انتمت قصائده في تلك الفترة الى ما يشبه الارتباك، حيث اضطربت ذهنيته المرتبكة اصلا، وصارت تسعى وراء كل ما هو سهل وبسيط، والنواسي ذائب في حساسيته المتأثرة بعاملين أساسيين، هما الموقف الباعث على التحليل، والتحليل بحسب ما تؤكد الفلسفة، هو الخالق لأن الفنان يتميز بالندرة لأنه يملك حساسية وقابلية على التحليل، وغالبا ما نجده يتفوق في هذا الجانب.
وهذا ما فعله الشاعر حيث لجأ الى تقنية اتصالية جديدة تحمل سمات لم يألفها العقل العربي الذي لم يتخلص بعد من بداوته، والذي هيمنت عليه العنصرية السياسية، والقبلية الدينية، فالأمين عربي التربية والسلوك والانتماء، فيما تشوب المأمون شائبة من أنه لأم فارسية، وأنه تربى وقاد بلاد فارس واليا لزمن طويل، ولأن الشاعر ماكر، يلعب بأوتار مغايرة أخذ الكوميديا الى مختبره وعالج من خلالها المشكلات الاجتماعية، وقد تفحص (أبا نؤاس) السلوكيات العربية الجديدة فوجدها مؤهلة لهذا النوع من الوهم الذي لا يخلو من خطورة، ورسم كوميدياه على قواعد تعتمد المشهد السياسي، واللغة المسجلة والمنتجة للوهم، وهذا الموقف الغريب والحساس جعل الناس تتخذ من الشاعر موقفاً مستغرباً أول الأمر، ورافضاً بعد أن قتل الأمين العربي، وجاء المأمون الى سدة الحكم حيث أبعد الشاعر ونأت به الحياة الى أمكنة شعرية أقل اضطراباً وأقرب الى رضا العامة، والى جانب المتعة الحسية في كوميديا الشاعر كانت تتستر ورائها مواقف لا يمكن أن تحتمل سوى هذا الشكل من أشكال التعبير، ولأن الكوميديا بحاجة الى ذكاء مفرط، وخفة، وجنون، كانت متواجدة لدى الشاعر لهذا استخدمها بأقصى ما يستطيع، محاولاً من خلال الكوميديا صدم الذائقة البدوية التي لم تستطع الاندماج والحضارة بشكل تام، فكانت تتعامل مع الأمكنة والموجودات بروح إرثية، وقد نجح الشاعر في هذا نجاحاً باهراً، دفعت به فيما بعد الى محاولته تهشيم التزمت العروبي بكل أنواعه، فأهمل عن عمد انتماءه القبلي، وصار يتنقل ساخراً بين القحطانية والنزارية والعدنانية، ومثل هذا التنقل السلبي في نظر المجتمع ما لبث ان فتح ابواب الطعن بالشاعر وأصوله الاجتماعية، والغريب ان ثمة أكثر من شاعر في ديوان الشعر العربي لم يكن عربياً، دون ان يطعن به أحد، فلم الحسن بن هانئ؟!
أن كوميديا الشاعر، كانت تتحمل الطعن والرفض الكامل في مرات عديدة أوصلته أكثر من مرة الى السجن وسيف الجلاد، فهل يعقل في مجتمع كان الخليفة يمثل فيه الارث السماوي الملتزم، ان يقوم الشاعر بأفعال متحدية ومحيرة، فيقول:
(يقول الناس قد تبت ولا والله ما تبت
فلا اترك تقبيل خدود المرد ما عشت
ارى المرد يميلون لمثلي حيثما ملت)
من أجل هذا وغيره الكثير الحقيقي والمدسوس أعطى المجتمع الحق لنفسه في تشويه الشاعر، وقد وجد النواسي نفسه مضطراً بعد أن أنهكته المغايرة ورفض ما هو سائد الى العودة ثانية لرفع راية الاستسلام وتقديس وتعظيم الثوابت التي قال فيها يوما:
(ما صح عندي في جميع الذي
يذكر الا الموت والقبر(
لقد أعاد الشاعر تكوينه ثانية نتيجة ثانية لتجديد سياسي، لكنه ظل تكوين ظاهري، فليس ثمة مغايرة في زهدياته التي أثارت شاعر مثل ابو العتاهية، فقال: سبقني ابو نؤاس الى ثلاثة أبيات، وددت أني سبقته اليها بكل ما قلته: (يا كبير الذنب عفو اللـــ....ـه من ذنبك أكبر).
وما قاله المأمون، وهو الكاره للشاعر، لو ان الدنيا سئلت ان تصف نفسها لما وجدت أحس مما قاله ابن هانئ:
(اذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق(
فما الجديد في هذا الاستقرار، وأين تراها ذهبت تلك الرغبة الجامحة في خلق فلسفة الدعابة؟! أو تراه الزمن الذي حفر في جرف الشعر النواسي، أم هو النكوص والاحساس بالخيبة، وأن كل شيء، انما هو وهم، وان الحقيقة الوحيدة هي اللجوء الى الخالق.
(يا من أقام على خطيئته
سدت عليك مذاهب الرشد
منتك نفسك ان تتوب غدا
او ما تخاف الموت دون غد
الموت ضيف فأستعد له
قبل النزول بأفضل العدد)
مثل هذا التراجع، جعل الشاعر الذي كان قوياً في معارضته، ضعيفا، ملتصقاً بالواقع الذي أدمن التراجع باتجاهات الغيب وقد ثأر العقل البدوي الكاره للتجديد من الحسن بن هانئ، فصاغ حوله أساطير وحكايات ونوادر لم يستطع تاريخ الشعر العربي بكامله ان يتحملها، فأنتقل الشاعر الى بقاع اسلامية ليكون الوجه الآخر للرفض متوزعاً بين جحا البغدادي والملا نصرالدين وما لا يعد من الشخصيات، وقد تحمل ابو نواس هذا كله لأنه ماجن، المذكي لأهواء العصيان، الوسيم المازج لتكوينات جنسية شاذة، المثقف الذواقة الرفيع الذي قال عنه الحسن البصري: والله لولا ما أخذه الناس عن ابا نؤاس لرويت عنه! العارف بالثقافات الانسانية، والذي لا يؤمن بالحياة دونما لذة، قرأ ماني وزرادشت، وأشعلت الفلسفة الهندية في قلبه النار فقال:
(فقل لمن يدعي العلم فلسفة
حفظت شيئا وغابت عنك أشياء(
تحت كل هذه العلوم كان الشاعر يرزح - وهو الذي أشاع، ما قاله زرادشت، كن سيد نفسك، كافح لتكون كاملا!
فهل كان هو كاملاً وسط كل هذا الضجيج، لهذا عايره الناس، ورسموا له صوراً تتأرجح بين الشك واليقين، لأنه ما كان يعرف سوى حريته؟!
أم هي تلك اللحظة التي جعلت أبواق المأمون، يخطبون من أجل تشويه سمعة الأمين، فقالوا انه يجالس الشاعر الذي قال:
يا أحمد المرتجى في كل نائبة
قم سيدي نعص جبار السموات
وأنه، أي الأمين يسمح لأهل العراق بالفسق والفجور وشرب الخمر وارتياد الماخور!
كل هذا والنواسي المقدم فيه، فهو الرائد، ولا بد من ضريبة يدفعها، فهل سيظل الشاعر يدفعها حتى تلك اللحظة التي أوجعت فؤاده فقال فيها:
يا نفس مردودك الصراط غدا
فتأهبي من قبل ان تتردي
ما حجتي يوم الحساب إذا
شهدت على بما جنيت يدي
أم ترانا نقرأ الشاعر قراءات متعددة لا تجعله جليس الكأس وسط شارعه المهجور والذي تمر من امامه وجوه لا تعرف للحياة معنى، وهو الذي قال لأهل بغداد معاتباً:
يا أهل بغداد القى ذا بحضرتكم
فكيف لو كنت بين الترك والخزر؟
سحت على سماء الحزن بعدكم
وأحدقت بي بحور الشوق والفكر.
***
عن جريدة الاتحاد.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |