كتاب : معجز أحمد أبو العلاء المعري ألف ج2
خاص ألف
2015-03-29
فقال ابن جنى: إن المتنبي كان يجيب إذا سئل عن هذا البيت بأن يقول: تفسيره أنه كان كثيراً ما يشبه فيقال: كأنه الأسد، وكأنه البحر، ونحو ذلك. فقال هو معرضاً عن هذا القول: أمط عنك تشبيهي بما وكأن، فجاء بحرف التشبيه وهو كأن وبلفظ ما التي كانت سؤالاً فأجيب عنها بكأن التي للتشبيه وأدخل ما للتشبيه لأن جوابها يتضمن التشبيه، فذكر السبب والمسبب جميعاً.
قال: وقد نقل أهل اللغة مثل هذا فقالوا: الهمزة والألف في حمراء هما علامتا التأنيث، وإنما العلامة في الحقيقة الهمزة.
وقال القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني: إن المتنبي سئل فذكر: أن ما تأتي لتحقيق التشبيه كقول عبد الله الأسد: ما عبد الله إلا الأسد، وإلا كالأسد تنفي أن يشبه بغيره، فكأن قائلاً قال: ما هو إلا كذا، وآخر قال: كأنه كذا، فقال أمط عنك تشبيهي بما وكأنه. وما في التحقيق للنفي في هذا الموضع، ولكنها تضمنت نفي الأشباه سوى المستثنى منها فمن هذا الوجه نسب التشبيه إلى ما وكأن، إذا كان له هذا الأثر.
وذرني وإياه وطرفي وذابلي ... نكن واحداً نلق الورى وانظرن فعلي
الهاء في إياه: للنصل. والطرف: الفرس الكريم.
يخاطب من يشبهه بشيء فيقول: دعني مع فرسي وسيفي المذكور، ورمحي، حتى نصير مثل الشيء الواحد في التعاون، نلقي الخلق طراً، ثم انظر فعلي عند ذلك حتى تعلم ما يمكنك أن تشبهني أم لا؟ وأشهر الروايتين يلقى حملاً على الواحد وروى: نلقى اتباعاً لقوله: نكن حملاً على المعنى.
وقال وهو في المكتب يمدح إنساناً وأراد أن يستكشفه عن مذهبه:
كفي أراني، ويك، لومك ألوما ... همٌّ أقام على فؤادٍ أنجما
الخطاب للعاذلة، وويك: قريبة من ويحك، وأنجم: أقلع.
وقال ابن جبي: تقدير البيت: كفي ويك، أراني هم أقام على فؤادٍ أنجما، لومك ألوم.
ويكون أراني على هذا منقولاً من رأيت بمعنى: علمت، فيتعدى إلى المفعولين، وإذا عديته بالهمزة تعدى إلى ثلاثة مفاعيل، والفاعل ها هنا هم والمفعول الأول الياء في أراني والثاني لومك والثالث ألوما.
ويكون المعنى: إن الهم الموصوف أعلمني أن لومك إياي أولى بأن يلام، فعلى هذا يكون المصراع الأول متعلقاً بالثاني.
وقال غيره: إن أراني مضارع رأيت بمعنى علمت، فيكون المراد: أرى نفسي، لأن أفعال اشك واليقين يجوز فيها مثل ذلك، ويكون لومك مفعول كفى وألوم المفعول الثاني، من أراني، والمفعول الأول هو الياء.
والمعنى: كفي ويك لومك فإني أراني ألوم منك، أي أكثر لوماً منك، وأحق بأن يلومك على لومك إياي؛ وعلى هذا، المصراع يكون مستقلاً بنفسه، ثم ابتدأ في المصراع الثاني يشكو داءه، وقوله: على فؤادٍ أنجما. أي خارج خلف الأحباب منقلع من أصله كإقلاع السحاب فيكون همٌّ مرفوعاً، لأنه خبر ابتداء محذوف، وتقديره: حالي همٌّ هذه صفته، أو يكون مبتدأ وخبره محذوف تقديره: همٌّ هذه صفته شكواي وألوم على المعنى الأول في معنى الملوم، أي أحق بأن يكون ملوماً فيكون في أفعل مبالغة في المفعول مثل أشغل من ذوات الحنين مبالغة في المشغول، وعلى الثاني بمعنى اللائم أي أقدر على أن يكون لائماً فيكون أفعل المبالغة في الفاعل، وروى: أثجما بالثاء أي أقام وهذا أولى، لأنه يفيد أن الفوائد لم يقلع بالملام عن الهوى.
وخيال جسمٍ لم يخل له الهوى ... لحماً فينحله السقام ولا دما
خيال عطف على هم شبه جسمه بالخيال الذي لا حقيقة له لدقته، وأخبر أن الهوى لم يترك له لحماً ولا دماً يكون للسقام فيه تأثير، وينحله: أي يعطيه من النحلة، وقيل: هذا أولى؛ لأن النحول لا يكون في الدم.
وحقوق قلبٍ لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لظننت فيه جهنما
وحقوق عطف على خيال وهو الضعف والاضطراب، ورأيت خطاب للمحبوبة دون العاذلة؛ بدلالة قوله: يا جنتي وهو حشوٌ حسنٌ؛ والغرض: المطابقة بين الجنة وجنهم.
يقول: لي اضطراب قلبٍ لو رأيت لهيبه يا جنتي لظننت فيه ألهاب جهنم؛ شبهها بالجنة لحسنها وما فيها من الراحة عند وصلها.
وإذا سحابة صد حبٍ أبرقت ... تركت حلاوة كل حبٍّ علقما
الحب: المحبوب والعلقم: شجر ذو ثمر مرٍّ.
يقول: إذا ظهرت دلائل هج الحبيب، تركت حلاوة كل حب مرارةً، فجعل علامة الصدود سحابة، لأنها علامة الهجر، كما أن السحابة علامة المطر.
يا وجه داهية الذي لولاك ما ... أكل الضنا جسدي ورض الأعظما
الضنا: طول المرض، وقيل: داهية، ولهذا لم ينونها كما لا ينون الأسماء الأعلام عند التأنيث كفاطمة، وقيل: إنها كناية عنها وليس باسم لها، وإنما لم ينونها لأنه أقامها مقام اسمها من ترك التنوين كما تقول: رأيت فلانة فلا تنون.
يقول: يا وجه الحبيبة التي هي كالداهية: وهي الأمر العظيم، لولاك ما أكل المرض جسمي وما كسر عظمي، يدل به على أن هواها قد أمرضه مرضاً أثر في جسمه وعظامه!
إن كان أغناها السلو فإنني ... أمسيت من كبدي ومنها معدما
روى منها رداً إلى المحبوبة، ومنه رداً إلى السلو، وروى: معدما ومصرما
يقول: إن كان أغنى هذه المرأة عني خلو قلبها عن محبتي، فإني أمسيت فقيراً منها ومن كبدي؛ لأنها قد صحبتها وفارقتني إليها فعدمتها، وعدمت الصبر الذي كان في قلبي وكبدي، ولأن الكبد تلفت في محبتها.
غصنٌ على نقوى فلاةٍ نابتٌ ... شمس النهار تقل ليلاً مظلماً
يجوز في غصنٌ أن يكون مبتدأ، وخبره محذوف، وتقديره: حبيبتي، غصن هذه صفته، وهكذا التقدير في شمس النهار، وأراد بالغصن: قدها، والنقوى: تثنية النقا: وهو الكثيب من الرمل، وعني بهما ردفيها، وبشمس النهار: وجهها، وتقل: تحمل، والليل المظلم: شعرها.
لم تجمع الأضداد في متشابهٍ ... إلا لتجعلني لغرمي مغنما
أراد بالأضداد ما تقدم في البيت المتقدم من دقة وسطها، وثقل ردفيها، وبياض وجهها، وسواد شعرها، في متشابه أي بدن متشابه، أي يشبه بعضه بعضاً في الحسن، وليس بعضها أحسن من بعض، والغرم: ضد الغنم وأصله اللزوم.
يقول: إنها لم تجمع هذه الأضداد في بدن متشابه في الحسن، إلا لتجعلني لغرمي: أي لعشقي إياها غنيمة، فتجمع علي هذين الضدين أيضاً، وهما: المغرم والمغنم، وروى: لم تجمع الأضداد لأنها لم تجعل ذلك، فبنى على ما لم يسم فاعله.
كصفات أوحدنا أبي الفضل التي ... بهرت فأنطق واصفيه وأفحما
أي صفات هذه المرأة في اشتمالها على هذه الأضداد، كصفات هذا الممدوح المشتملة على أمرين ضدين: أحدهما: أنها أنطقت الواصفين بذكرها.
والثاني: أنها أفحمت الواصفين دون إدراك غاياتها، وروى المتنبي: أنطقهم بجزيل العطاء، وأفحمهم بالقصور عن المدح والثناء. فعلى هذا نصب واصفيه، بأنطق، وقيل: تقديره كصفات أبي الفضل التي بهرت واصفيه. فأنطق: هو وأفحم.
يعطيك مبتدئاً فإن أعجلته ... أعطاك معتذراً كمن قد أجرما
يقول: يعطيك مبتدئاً بالعطاء قبل السؤال، فإن استعجلته العطاء، أعطاك معتذراً، كمن قد أذنب.
ويرى التعظم أن يرى متواضعاً ... ويرى التواضع أن يرى متعظما
المعنى: أنه يرى بلوغ عظمته في التواضع للناس، ويرى التذلل في حال رؤية الناس إياها متعظماً.
نصر الفعال على المطال كأنما ... خال السؤال على النوال محرما
الفعال بفتح الفاء: الفعل الجميل.
يقول: ينصر الفعل الجميل على المطال ويجعل له الغلبة، حتى كأنه ظن السؤال محرماً، وروى: على المقال وهو: إما السؤال، وإما وعد الممدوح بالعطاء، فكأنه يقول: يقدم العطاء على السؤال وعلى الوعد.
يا أيها الملك المصفى جوهراً ... من ذات ذي الملكوت أسمى من سما
يقول: يا أيها الملك المصفى، يا أسمى، وأراد ذات الله تعالى: الذي هو ذو الملكوت، وهذا ظاهره يوهم الكفر ويقال: إن هذا الممدوح كان نصرانياً فأظهر الإسلام وهو متهم بالتنصر، فأراد أن يستكشفه عن مذهبه فأورد عبارات النصارى على وجه الانتحال، وغرضه استكشاف حاله ووصف منهجه، فعلى هذا لا يلزم الكفر، ويجوز أن يحمل على أن المراد بالذات: الصنع، فكأنه قال: يأيها الملك المصفى جوهراً من صنع ذي الملكوت، وأراد بذلك تعظيمه وتفضيله. وقوله: أسمى من سما يجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر ابتداء محذوف، فكأنه يقول أنت أعلى من علا، ويجوز أن يكون في الجر صفة لذات ذي الملكوت، أو الذات أو الملكوت، أي أنه أعلى من كل علاً في الأرض.
وروى عنه أنه قال: نعوذ بالله تعالى من الكفر، إنما قلت جوهراً وبينهما تضمين يزيل الظن.
نورٌ تظاهر فيك لاهوتيةً ... فتكاد تعلم علم ما لن يعلما
تظاهر: أي تولى. ولاهوتيةً: نصب على المصدر كما يقال: إلهية وروى لاهوتيه ويكون رفعاً لأنه فاعل تظاهر، وهذا، إذا حمل على ظاهره فلا يسلم من الكفر، فيحمل حينئذٍ على أنه أراد به أن النور الذي تفرد به هذا الممدوح نور إلهي. كما يقال: أمر سماوي وإلهي فيكاد يعلم ما لم يعلم من أجل هذا النور، فكأنه يقول: إنك مؤيد بنور، لأجله تقرب من أن تعلم ما لا يعلمه أحدٌ من الأمور.
ويهم فيك إذا نطقت فصاحةً ... من كل عضو منك أن يتكلما
يقول: يهم كل عضو منك إذا تكلمت لفرط فصاحتك.
أنا مبصرٌ وأظن أني نائمٌ ... من كان يحلم بالإله فأحلما
يقول: أنا مبصرٌ بعيني وأظنني نائماً، من استعظام ما رأيت من هذا الرجل من العظائم والأمور العجائب!! ثم قال: من كان يحلم بالإله فأحلم أنا أيضاً! أي أنه لا يمكن أن يرى في المنام لأنه لا يشبهه شيء فشبه هذا الممدوح بما لا يجوز التشبيه به فقال: لا أدرك كنه وصفك، كما لا يدرك حقيقة ذات الباري تعالى. وهذا إفراط منكر قريب من الكفر.
وقيل: إن في الكلام حذفاً، كأنه قال: من كان يحلم بصنع الله تعالى فأحلم أنا، فكأنه يقول: من كان يحلم بصنع الله تعالى وينسب نفسه إلى النوم دون اليقظة عند عظمته حتىأقول: أنا إنما أرى ذلك في المنام.
كبر العيان علي حتى إنه ... صار اليقين من العيان توهما
يقول: تأكيداً للبيت الأول قبله: كبرت المعاينة علي بخروجه عن العادة حتى صار اليقين المعاين متوهماً.
يا من لجود يديه في أمواله ... نقمٌ تعود على اليتامى أنعما
يقول: يا من يصب على أمواله نقماً بتفريقها والاستهانة بها، وتعود تلك النقم على اليتامى نعماً وافرة.
حتى يقول الناس: ماذا عاقلاً! ... ويقول بيت المال: ماذا مسلماً
يقول: يا من هو في السخاء يصفه بقول الناس: إنه ليس بعاقل؛ حيث يفقر نفسه، ويقول بيت المال: إنه ليس بمسلم؛ لأنه لا يرد إليه شيئاً من المال ويبقيه، وحكم الإسلام يقتضي حفظ بيت المال.
وروى عنه: ماذا غافلاً يعني عن كسب المكارم في الدنيا والثواب في الآخرة، ونصب غافلاً ومسلماً لأنهما خبر ما.
إذكار مثلك ترك إذكاري له ... إذ لا تريد لما أريد مترجماً
يقول: إذكار مثلك ترك الإذكار، لأنك عارف بما في قلبي، غير محتاج إلى التنبيه لعلمك به، وهذا مثل قول أبي تمام:
وإذا الجود كان عوني على المر ... ء تقاضيته بترك التقاضي
وقال في أيام الصبا في الحماسة:
إلى أي حينٍ أنت في زي محرم؟ ... وحتى متى في شقوة وإلى كم؟!
يخاطب نفسه ويلومها فيقول: إلى أي وقتٍ أنت في زي الإحرام؟، فكأنه يقول: إلى أي وقت تكون عارياً؟ قاعداً عن القتال؟ ومنازلة الرجال؟ وحتى متى تعيش في الشقاء؟ ولا تطلب العز والثناء؟ وروى في غفلة وروى في زي مجرم بالجيم. يعني: إلى متى تعيش ذليلاً كالمتهم المذنب. والمعنى جيد.
وإلا تمت تحت السيوف مكرماً ... تمت وتقاسي الذل غير مكرم
يقول: إن لم تمت تحت السيوف في الحرب مكرماً، تمت مقاسياً للمذلة ساقط الرتبة حتف أنفك، والأصل فيه قولهم: موتٌ في عزٍّ خيرٌ من حياةٍ في ذل ويجوز تقاس بحذف الياء للجزم عطفاً على جواب الشرط، وهو قوله تمت ويجوز بالياء فيكون في موضع نصب على الحال: إن تمت مقاسياً للذل.
فثب واثقاً بالله وثبة ماجدٍ ... يرى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم
الهيجا: بالمد والقصر: الحرب. وجنى النحل: العسل المجتنى من النحل، والماجد: الشريف.
يقول ثب إلى طلب المعالي واثقاً بالله تعالى، وثبة رجل ماجدٍ؛ يرى للموت في الحرب حلاوة كالعسل في الفم كما قال الآخر:
الموت أحلى عندنا من العسل
الشاميات
وقال في صباه يمدح سعيد بن عبد الله بن الحسين الكلابي:
أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا ... والبين جار على ضعفي وما عدلا
في أحيا تقديران: أحدهما، أنه أفعل تفضيل من الحياة، وتقديره إني أكثر حياة مع أن أيسر ما قاسيت، ما قتل غيري ومع أن البين أيضاً جار على ضعفي وما عدل. والثاني، أنه فعل مضارع من الحياة ثم فيه تقديران: أحدهما، الخبر، والآخر الاستفهام. فأما الخبر فتقديره كأن يقول على وجه التعجب: إني أحيا، وأيسر ما لقيته في محبة هذه المرأة ما قتل غيري! وقد أضيف إليه فراق الحبيب الذي جار علي مع ضعفي، ومع ذلك فإني مقيم باقٍ! وهذا موضع التعجب! ولعله كان به ضعف، وأما الاستفهام فتقديره أأحيا؟! وأيسر شيء قاسيته في حبها هو الذي يقتل!
والوجد يقوى كما تقوى النوى أبداً ... والصبر ينحل في جسمي كما نحلا
يقول على وجه التعجب أيضاً: إني باقٍ! مع اجتماع هذه الأمور القاتلة، وهي: ازدياد الحزن بازدياد البعد، ونقصان الصبر، ونحوله، كما أن الجسم يضعف وينحل.
يصف ازداد البعد ونحول الجسم والصبر بعد البعد.
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
الهاء في لها: للمنايا، أو للمفارقة.
كأنه يقول: لولا مفارقة الأحباب ما وجدت المنايا لأنفسها وللمفارقة طرقاً تصل إلى أرواحنا. وهو كقول أبي تمام الطائي:
لو حار مرتاد المنية لم يجد ... إلا الفراق على النفوس دليلا
بما بجفنيك من سحرٍ صل دنفاً ... يهوى الحياة، فأما إن صددت فلا
بما بجفنيك: قسم.
يقول: بحق ما بجفنيك من سحرٍ، صلى من تناهى في المرض؛ حزناً على البعد منك؛ فإنه إنما يهوى الحياة إن واصلت، وإن لم تصلى فلا يهوى الحياة. فلا هنا جواب إن كقوله تعالى: " وأما إن كان من أصحاب اليمين، فسلامٌ لك " وروى: بما بجفنيك من سقمٍ وقوله: يهوى الحياة في موضع نصب صفة لدنف.
إلا يشب فلقد شابت له كبدٌ ... شيباً إذا خضبته سلوةٌ نصلا
قوله إلا يشب: فاعل يشب ضمير الدنف الذي ذكره في البيت قبله.
يقول: إلا يشب الشعر فقد شابت الكبد، شيباً أعظم من شيب الرأس؛ من حيث أن شيب الشعر يقبل الخضاب، وشيب الكبد لا يقبله فكلما خضبته السلوة نصل الخضاب في الحال، وشيب الكبد لا يقبله، كناية عن ضعفها. ومثله لأبي تمام قوله:
شاب رأسي وما رأيت مشيب الرأ ... س إلا من فضل شيب الفؤاد
وزاد المتنبي عليه بذكر الخضاب، والنصول، قيل إنها تصفر وقيل إنها تبيض عندما تصيبها الآفة كما قال الحكمي:
يا دعد قد أصبحت مبيضةً كبدي ... فاصبغي بياضاً بعصفر العنب
إلا أن لفظة المشيب لا تطلق على كل البياض.
يحن شوقاً فلولا أن رائحةً ... تزوره في رياح الشرق ما عقلا
يقول: إن هذا المحب يحن شوقاً إلى محبوبته، فلولا أن رائحةً من رياح الشرق تأتيه لما عقل؛ كأن المحبوبة كانت في جانب الشرق. وروى: زياد الشوق والأول أكثر. وروى: يجن أي يظهر الجنون؛ وهذا أولى بالمطابقة.
ها فانظري أو فظني بي ترى حرقاً ... من لم يذق طرفاً منها فقد وألا
ها: تنبيه المخاطب لما بعده.
يقول: لمحبوبته: انظري إلي لتدري ما بي من الحزن، فإن لم تريني أهلاً للنظر فظني بي ترى حرقاً من لم يذق بعضاً منها فقد وأل: أي نجا من البلاء، من وأل يئل إذا نجا.
عل الأمير يرى ذلي فيشفع لي ... إلى التي تركتني في الهوى مثلا
عل: بمعنى لعل، يقول: لعل الأمير الذي هو الممدوح إذا رأى ذلي يتشفع لي، إلى المرأة التي تركتني في الهوى مثلاً مضروباً كسائر العشاق من العرب؛ ووجه تشفعه إليها أن يصل جناحه بما يصل به إلى المراد بها، ويحظى عندها لمكانه منها. وهذا مأخوذ من قول أبي نواس.
سأشكو إلى الفضل بن يحى بن خالد ... هناها لعل الفضل يجمع بيننا
أيقنت أن سعيداً طالبٌ بدمي ... لما بصرت به بالرمح معتقلا
يقول: لما رأيت الممدوح وهو سعيد معتقلا برمحه على هيئة المحاربين، تحققت أنه يطلب بدمي من هذه المرأة القاتلة لي، على سبيل القتل والقصاص منها، لأن قتل النساء نقص، ولكن من حيث أن عادته اغتنام الأموال في الحرب، لأن ذلك كسب الشجعان، وإن المال الذي يغتنمه يجعل له حظاً منه ليصل إلى مراده منها، وانتقل الرجاء الذي في البيت الأول إلى اليقين، من حيث أنه قد رآه تأهب للحرب، لأنه إذا حارب يظفر بالأعداء وينهب الأموال، وإذا نهبها فرقها، لأن خلاف ذلك من البخل.
وقد قيل: إن هذا البيت منقطع عما قبله كأنه يقول: لما رأيته كذلك أيقنت أنه ينتقم من أعدائي.
وأنني غير محص فضل والده ... ونائلٌ دون نيلي وصفه زحلا
قوله نائل: اسم فاعل، من نال الشيء يناله. ومفعوله: زحل ونيلي: مصدر مضاف إلى فاعله، وهو ضمير المتكلم، ومفعوله: وصفه.
يقول: إني لا أحصي فضل والده، فجمع بين مدحه ومدح والده. يقول: وإني نائل زحلاً قبل أن أنال وصف والده. وروى فضل نائله فيكون مدحاً له.
قيلٌ بمنبج مثواه ونائله ... في الأفق يسأل عمن غيره سألا
القيل: الملك من ملوك حمير. ومنبج: بلد بالشام.
يقول: إن الممدوح ملكٌ، مقامه بمنبج. وعطاؤه في أفق الدنيا؛ يستخبر عمن يطلب من غيره العطاء، حتى يدل عليه بالسؤال الأول، وهو الاستخبار، والثاني: الذي هو سأل السؤال الذي هو طلب العطاء وهو كقول أبي تمام:
فأضحت عطاياه نوازع شردا ... تسائل في الآفاق عن كل سائل
يلوح بدر الدجى في صحن غرته ... ويحمل الموت في الهيجاء إن حملا
روى: الهيجاء بالمد فتكون حينئذ في الهيجاء إن حملا. وروى: مقصوراً، فعلى هذا يكون في الهيجا إذا حملا.
يقول: إن الممدوح موصوف بخصلتين: إحداهما: الحسن وهو قوله:
يلوح بدر الدجى في صحن غربته
والثانية: الشجاعة وذلك قوله: ويحمل الموت في الهيجاء إن حملا يعني أن الموت ناصره ومعه.
ترابه في كلابٍ كحل أعينها ... وسيفه في جنابٍ يسبق العذلا
كلابٌ، وجناب: قبيلتان. وقيل: إن بينه وبينهما معاداة.
والمعنى على هذا: إن الممدوح يهجم بخيله على بني كلاب ويوقع بهم، فغبار خيله في عيونهم بمنزلة الكحل، وكذلك سيفه في جناب، يسبق عذل العاذل. يعني: إذا ظفر بعدوه قتله، ولا يبالي بلوم اللائم. وقد نظمه من مثل سائر وهو سبق السيف العذل وأول من قاله ضبة بن أد إذ ظفر بقاتل ابنه في الشهر الحرام فقتله! فلما ليم عليه قال هذا القول
وقيل: إن بني كلاب كانوا أولياءه. فيكون المعنى: إنهم لحبهم له يتخذون تراب قدمه كحلاً لأعينهم، ويتبركون به.
لنوره في سماء المجد مخترقٌ ... لو صاعد الفكر فيه الدهر ما نزلا
مخترق: يجوز أن يكون مصدراً، ويجوز أن يكون اسماً لموضع الاختراق.
يقول: إن للمدوح فخر إلى السماء وذلك مثلٌ لعلو فخره، وإن له نوراً، منفذه في سماء فخره، بحيث لو صاعده الفكر وغالبه في الصعود في ذلك المنفذ، لم يكن له نزول أبداً، من حيث أنه ليس له نهاية، حتى يبلغها، ثم ينزل عنها، وقد روى: محترق بالحاء المهملة، والأولى الأول.
هو الهمام الذي بادت تميم به ... قدماً وساق إليها حينها الأجلا
وروى: هو الأمير، ولم يصرف تميم للتعريف، والتأنيث للقبيلة.
يقول: هو الأمير الذي هلكت به تميم منذ قديم الزمان، وساق به إليها هلاكها الأجل، أي لما عادوه أوقع بهم وأهلكهم.
لما رأته وخيل النصر مقبلةٌ ... والحرب غير عوانٍ أسلموا الحللا
الحرب العوان: التي تكررت بخلاف البكر. والحللا: جمع الحلة، وهم القوم الذين ينزلون في مكان واحد.
يقول: إن تميماً لما رأت هذا الممدوح، وخيل النصر مقبلةٌ، أسلموا جماعتهم وبلدتهم، ثم بين أن ذلك في أول الحرب، قبل أن تتكرر، ليدل ذلك على فضل خوفهم منه وأنهم انهزموا في أول الأمر.
وضاقت الأرض حتى كأن هاربهم ... إذا رأى غير شيءٍ ظنه رجلا
يقول: ضاقت الأرض عليهم لما هربوا منه، حتى أن هاربهم من شدة خوفه كان إذا رأى غير شيء لا يبالي به من صغره، ظنه رجلاً من أصحابه! وهذا المعنى، اشتقه من قول الله تعالى: " يحسبون كل صيحةٍ عليهم هم العدو " وهذا كقول جرير:
ما زلت تحسب كل شيءٍ بعدهم ... خيلاً تكر عليهم ورجالا
فبعده وإلى ذا اليوم لو ركضت ... بالخيل في لهوات الطفل ما سعلا
يقول: فبعد ذلك اليوم الذي قاتلتهم وهزمتهم، إلى هذا اليوم؛ لو ركضت تميم بخيولهم في لهوات الطفل وحنكه لما أثرت فيه تأثيراً يسعل الطفل منه؛ مع أنه يتأذى بأقل شيء، وذلك إشارة إلى قلتهم، وأنه لم يبق منهم بعد ذلك الحرب عناء، ولا قوم يمكنهم أن يضروا أدنى ضرر.
قال القارىء عليه قلت له: لم لا يسعل؟! قال: لحسن طاعته!
فقد تركت الألى لاقيتهم جزراً ... وقد قتلت الألى لم تلقهم وجلا
الألى: بمعنى الذين. وجزراً: أي مقطعين بالسيوف. وقوله: وجلا: مصدر واقع موقع الاسم. يعني: وجلين.
يقول: قد تركت الذين لقيتهم في الحرب قطعاً بالسيوف، وتركت الذين لم تلقهم وجلين خائفين منك.
كم مهمةٍ قذفٍ قلب الدليل به ... قلب المحب قضاني بعد ما مطلا
المهمة: الفلاة القذف: الواسع البعيد النواحي. والقضاء والمطل: نقيضان.
يقول: كم فلاةٍ بعيدة الأطراف، قلب الدليل فيها خافقٌ خوف الضلال، كخفقان قلب المحب؛ خوف الهجران؛ أدتني تلك الفلاة إلى أقصاها، بعد ما مطلتني مدة مديدة، وقضاؤها إياه: بلوغها به إلى أقصاها، ومطلها، مدة لبثه فيها.
عقدت بالنجم طرفي في مفاوزه ... وحر وجهي بحر الشمس إذ أفلا
الهاء في مفاوزه: للمهمه. وحر الوجه: الخد. والنجم، قيل: هو اسم للثريا خاصة؛ وقيل: اسم الجنس. وافل: فعل النجم.
يصف مواصلة سيره بالسرى ويقول: عقدت طرفي بالنجم ليلاً، وعقدت حر وجهي بحر الشمس، إذا غاب النجم؛ يمن بذلك عليه ليكون أعرف بحقه.
وروى عنه قال: عقدت بالنجم طرفي، خوف الضلال بالشمس لأني كنت مشرقاً.
أنكحت صم حصاها خف يعملة ... تغشمرت بي إليك السهل والجبلا
اليعملة: الناقة العمولة في سرعة المشي أي أسرعت وتغشمرت: تعسفت وأخذت قصداً وغير قصدٍ، والإنكاح هو: الجمع.
يقول: جمعت بين خف ناقتي وبين الحصا الصم التي كانت في الفلاة المذكورة، وعسفت بي السهل والجبل؛ حتى أوصلتني إليك.
لو كنت حشو قميصي فوق نمرقها ... سمعت للجن في غيطانها زجلا
النمرق: الوسادة التي يعتمد عليها الراكب. والزجل: الصوت. وحشو قميصي: أي وسطه.
يقول: لو كنت أيها الممدوح مكاني فوق رحل هذه الناقة، لسمعت صوت الجن في غيطان هذه المفاوز!
حتى وصلت بنفسٍ مات أكثرها ... وليتني عشت منها بالذي فضلا
يقول: كنت على الحال الموصوفة، حتى وصلت إليك بنفس مات أكثرها تعباً وخوفاً، ولم يبق منها إلا فضلٌ أخشى عليه، لأني وقيت ما مر بي ولا آمن أن يكون عاقبته الهلاك. وغرضه بهذه الأبيات الامتنان عليه بما ناله من ذلك.
أرجو نداك ولا أخشى المطال به ... يا من إذا وهب الدنيا فقد بخلا
قوله: أرجو: أي راجياً، في موضع نصب لأنه في موضع الحال.
يقول: جبت هذه المفاوز إليك ثقة بك، إنك لا تمطل بوعدك، وإنك تجزل العطاء؛ لأنك إذا وهبت الدنيا تستقلها فكأنك قد بخلت.
وقال أيضاً في صباه في الحماسة والفخر:
كم قتيلٍ كما قتلت شهيدٍ ... ببياض الطلى وورد الخدود
الطلى: الأعناق، واحدها طلية. وتقدير البيت: كم قتيلٍ شهيدٍ ببياض الطلى وورد الخدود؛ كما قتلت أنا؛ يعتذر في قتل الهوى إياه. ويقول: لست بأول قتيل الهوى فكم من قتيلٍ شهيد! قتل ببياض الأعناق وحمرة الخدود! وجعل القتل بسبب الهوى شهادة أخذه من الحديث من عشق وعف مات وهو شهيد.
وعيون المها ولا كعيونٍ ... فتكت بالمتيم المعمود
المها: بقر الوحش، واحدتها مهاة. والفتك: القتل غيلة. والمتيم: الذي استعبده الحب. والمعمود الذي أصيب عمود قلبه وهو وسطه بالحب. وجر عيوناً: عطفاً على ورد الخدود.
يقول: كم قتيلٍ ببياض الطلى، وورد الخدود. وعيون المها: وهي بقر الوحش من حسنها، وملاحتها ولا كعيون النساء التي أصابتني وقتلتني غيلة، بل هذه أحسن منها، فضل هذه العيون على عيون المها. وقيل: أراد بالمها: الحسان العيون من النساء. ثم فضل العيون التي قتلته على تلك العيون.
در در الصبا أيام تجري ... ر ذيولي بدار أثلة عودي
الدر في أصل اللغة: اللبن. ثم استعمل في كل خير.
كأنه يقول على وجه الدعاء: كثر خير الصبا. ثم نادى فقال: أأيام تجريري والهمزة الأولى حرف النداء، والرواية تجريري بدار أثلة موصلة الألف بالراء كقوله تعالى: عاداً الأولى، وروى بدار الأثلة عودي قيل: الأثلة. مكان بالكوفة، وقيل: بالشام. وقيل: إن أثلة بغير ألف ولام، وروى قتلة وهي اسم امرأة. وعودي: أمر من العود، وهو: خطاب للأيام.
يقول مخاطباً لأيامه التي مضت مستعيداً لها: يا أيام بطالتي حين كنت أسحب ذيلي بهذا المكان، عودي إلي وارجعي فإني مشتاق إليك.
عمرك الله هل رأيت بدوراً ... قبلها في براقعٍ وعقود
أصله: تعميرك الله، وهو مصدر من عمرك الله تعميراً، إلا أنه حذف ما كان زائداً، ورده إلى تركيب الكلمة. فقال: عمرك الله فكأنه قال: سألت الله تعميرك. أيها الصاحب، هل رأيت بدوراً مثل هؤلاء النساء اللواتي هن بدوراً في الحسن والبهاء في براقع وعقود؟! لأن البراقع والعقود من آلة النساء، ولم تعد في البدور.
رامياتٍ بأسهم ريشها الهد ... ب تشق القلوب قبل الجلود
رامياتٍ: في موضع نصب صفة لبدور.
يقول لصاحبه: هل رأيت بدوراً ترمى بسهام؟! قدودها الهدب، وهي تشق القلوب قبل الجلود! بخلاف سائر السهام التي تصيب الجلود قبل القلوب. وعني بالسهام: العيون. وهو مأخوذ من قول كثير:
رمتني بسهم ريشه الهدب لم يصب ... ظواهر جلدي وهو في القلب جارح
يترشفن من فمي رشفاتٍ ... هن فيه أحلى من التوحيد
يقول: إن هذه النسوة يمصصن من فمي مصات لميلهن إلي. هن: يعني الرشفات. في فمي أحلى من حلاوة التوحيد في قلب الموحد، وهو المقر بوحدانية الله تعالى! وهذا أحد ما نسب المتنبي لأجله إلى الكفر؛ حيث جعل الترشف أحلى من التوحيد! وروى: هن فيه حلاوة التوحيد يعني: للترشف في الفم حلاوة التوحيد. وهذا أخف من الأول. وقيل: إنه المعشوق بعاشقه، أي قوله: أنت واحدى؛ عند إقباله على وصاله، من دون أن يعرف غيره، فلهذا أحلى ما يكون للعاشق إذا كان معشوقه لا يعرف سواه، ولا يقول إلا به، وإذا فعل ذلك فقد وحده، فكأنه يقول: هن في الفم أحلى من هذا التوحيد.
كل خمصانةٍ أرق من الخم ... ر بقلبٍ أقسى من الجلمود
الخمصانة: الدقيقة الخاصرة. والجلمود: الصخر الصلب. روى: أرق في موضع الجر صفة لخمصانة، وبالرفع صفة لكل.
يقول: كل واحدة من هذه المترشفات وهي: كل ضامرة البطن أرق بشرةً من الخمر، بقلبٍ أشد قساوة وصلابة من الصخر. شبه رقة بشرتها بالخمر، وقساوة قلبها بالحجر، وجعله أقسى منه: أي أقسى من الحجر الصلب.
ذات فرع كأنما ضرب العن ... بر فيه بماء وردٍ وعود
أي: كل خمصانة ذات فرع، كأنما خلط فيه العنبر بماء الورد والعود، طيباً ورائحة؛ وإنما كان ذلك خلقة، فلهذا قال: كأنما.
حالكٍ كالغداف جثل دجوجي ... ى أثيثٍ جعدٍ بلا تجعيد
الحالك: الشديد السواد. والغداف: الغراب الأسود. والجثل: الشعر الكثير. والدجوجى: الشديد السواد أيضاً. والأثيث: الكثيف الملتف.
والتجعيد: يجعل جعداً بتكلف.
يقول: هي ذات فرع أسود بهذه الصفة.
تحمل المسك عن غدائرها الري ... ح وتفتر عن شتيتٍ برود
الهاء في غدائرها للمرأة، وروى: من غدائره. أي: من غدائر الفرع والغدائر: هي الضفائر، واحدها غديرة، والريح: فاعلة تحمل والشتيت: صفة الأسنان، وهو المفلج، والبرود أيضاً.
يقول: إنها مع استغنائها عن الطيب، تستعمل الطيب الكثير، بحيث تحمل الريح عن غدائرها المسك. وتفتر: أي تضحك عن ثغر مفلج فيه ماء بارد، أو يبرد حرارة الكبد! وهو الريق المتحلب من بين الأسنان، وقيل: هو من البرد النازل من السماء، فوصف أسنانها بأنها مفلجة، وبأن ريقها بارد؛ لبياضه ونقائه وبرده إذا مص.
جمعت بين جسم أحمد والسقم ... وبين الجفون والتسهيد
أراد بأحمد: نفسه.
يقول: إن هذه المرأة جمعت بين جسمي، وبين السقم! وبين جفوني والتسهيد فبعدت عني الصحة والنوم.
هذه مهجتي لديك لحيني ... فانقصي من عذابها أو فزيدي
المهجة: النفس. والحين: الهلاك.
يقول: هذه نفسي عندك مسلمةً إليك للهلاك! فانقضى من عذابها، أو فزيدي في عذابها فحكمك نافذٌ فيها، وأخذه من قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم
" .
أهل ما بي من الضنى بطلٌ صي ... د بتصفيف طرةٍ وبجيد
الضنى: طول المرض والضعف وتصفيف الطرة: تسويتها من الصف وأهل: مرفوع لأنه خبر الابتداء، والابتداء: بطل. متأخر عن الخبر كأنه يقول: بطل صيد بتصفيف طرة أهل مابي.
ومعناه: إنني بطلٌ صيد؛ ومع ذلك أهلٌ لما بي، مستحق لطول المرض، وهذه الإشارات إلى شجاعة نفسه، وإنه مع ذلك قد صيد، بتصفيف طرة وبجيد. ويجوز أن يكون أهل مبتدأ، وبطلٌ خبره. ويجوز أن يكون أهل خبر مبتدأ محذوف كأنه قال: أنا أهل ما بي من الضنى؛ ثم بين العلة فقال: لأني بطل صيد بتصفيف طرةٍ وبجيد.
كل شيءٍ من الدماء حرامٌ ... شربه ما خلا دم العنقود
يقول: جميع الدماء حرام شربها، ما خلا دم العنقود: الذي هو الخمر. ثم أخذ في ذكر الخمر استسقاءً لها فقال:
فاسقنيها فدىً لعينيك نفسي ... من غزالٍ وطارفي وتليدي
يقول: اسقني هذه الخمرة فدىً لعينيك نفسي، وما اكتسبته من مالٍ، وما ورثته من آبائي وجعل المخاطب غزالاً بقوله: من غزال. فكأنه قال: من بين الغزلان ومن: هنا للتخصيص.
شيب رأسي وذلتي ونحولي ... ودموعي على هواك شهودي
يقول: أربعة أشياء شاهدات لي على هواك. وهي: الشيب؛ لحلوله قبل أوانه، ونزوله في غير زمانه. وذلي في هواك، ونحول جسمي، وانسكاب دموعي، والله تعالى أمر في القضاء بالشاهدين ولي أربعة شهود وهذا مثل قول القائل:
من ذا يكذب في شهودٍ أربعاً؟! ... وشهود كل قضيةٍ اثنان:
خفقان قلبي واضطراب مفاصلي ... ونحول جسمي واعتقال لساني
أي يومٍ سررتني بوصالٍ ... لم ترعني ثلاثةً بصدود
يقول: اذكر أيها الغزال أي يوم واصلتني فيه، فسررتني بوصلك ولم ترعني بصدود ثلاثة أيام!
ما مقامي بأرض نحلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود
روى: نخلة. بالمعجمة، قيل: هي محله بالكوفة، وروى: بالحاء المهملة وهو الأصح. وهو: مكانٌ بالشام. وقيل: إنه على ثلاثة أميال من بعلبك.
يقول: ليس مقامي بين أهل هذا المكان وإيذائهم إياي واستخفافهم بي، إلا كمقام السيد المسيح بأرض اليهود؛ لكثرة عداوتهم له.
وروى: أنه لقب المتنبي بهذا البيت.
وقيل: بل بالبيت الذي يقول فيه:
أنا في أمةٍ، تداركها الله ... غريبٌ كصالح في ثمود
مفرشي صهوة الحصان ولكن ... قميصي مسرودةٌ من حديد
لأمةٌ فاضةٌ أضاةٌ دلاصٌ ... أحكمت نسجها يدا داود
الصهوة: مقعد الفارس من الفرس. والحصان: الفرس الكريم الذكر. يصف بهذا شدة حذره من القوم، وهم أهل نحلة.
يقول: مفرشي مقعد الفارس؛ لكوني عليه ليلاً ونهاراً، وقميصي ودرعي التي هي مسرودة من حديد؛ لمواظبتي على الحرب وشدة تحرزي من أعدائي.
ثم وصف درعه الحديد فقال: لأمةٌ: أي ملتئمة الصنعة، مجتمعة فاضةٌ: سابغة. أضاةٌ: أي صافية.
وهي صفة الغدير شبهها به لصفائها وزرقتها كالماء الذي في الغدير. دلاصٌ: أي براقة. أحكمت نسجها: يدا داود: أي هي من عمل داوود عليه السلام، وهي أوثق ما تكون من الدروع؛ لأنها مسرودة غير مسمورة، وهذا غاية ما يمدح به الدرع
.
أين فضلي إذا قنعت من الده ... ر بعيشٍ معجل التنكيد؟!
التنكيد: التقليل. يشكو سوء حاله مع فضله، وبعد محله.
فيقول: أين فضلي إذا رضيت من الدهر بعيش قليل الخير؟
ضاق صدري وطال في طلب الرز ... ق قيامي وقل عنه قعودي.
نهاية الجزء الثاني
ألف / خاص ألف /
يتبع ...
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |