العرب بوجه الانتصاريتَين، الإيرانية والداعشية / دلال البزري
2015-04-07
نحن لا نعرف الكثير عن المفاوضات النووية الأميركية الإيرانية؛ كل ما يرشح عنها عبارات تقنية مملة، قصداً ربما، عن تخصيب اليورانيوم الإيراني، تخفيض عدد المنشآت النووية الإيرانية، وتكثيف رقابة الوكالة الدولية للطاقة عليها الخ. لم ينضح عن هذه المفاوضات كلام رسمي واحد عما يدور على الأرض بالتزامن مع هذه المفاوضات. مع أن هذا الذي يحصل لا يقلّ ديناميكية، تتجاوز ديناميكيته المفاوضات بأسرها، بكل الإرهاق البادي على وجود الخائضين بها، وكل المواعيد المرصوصة والديباجات الإعلامية... الذي يحصل الآن، بالتزامن مع هذه المفاوضات، ليس أقل من الاستيلاء على أراض عربية، عبر ميليشيات مذهبية، استطاعت، حتى الآن أن تخرق أي إجماع وطني في كل من اليمن والعراق وسوريا ولبنان.
وحدها الإنتصارية الإيرانية، غير القادرة على كتْم فرحتها، خلافاً للتقية الذي اتسم بها كل تغلغلها السابق إلى هذه البلدان... وحدها هذه الإنتصارية تُفهمنا شيئا عن العلاقة العضوية القائمة بين المفاوضات النووية، وبين القبض على مصير أربع دول عربية. فما أن ينجلي تفاؤل ما عن تقدمها، حتى يطلق مسؤولون إيرانيون تصريحا امبراطوريا يشي بالغرض من الاستيلاء على قرار هذ البلدان الأربعة: من أن إيران صار لها اليد الطولى فيها، وانها أصبحت واحدة من محافظاتها، أو «عاصمة» لإمبراطوريتها، أو منطقة نفوذها الخ. ولكن هذا التهريج الإنتصاري لا يلبث أن يلحقه «توضيح»، أو «إعتذار»، من ان المقصود نوايا حسنة وحرص على سيادة هذه الدولة أو تلك... الخ. وذلك، كما يعلق كثيرون، تجنبا لـ»حساسية»، مجرّد حساسية، قد تخدش كبرياء العرب، من أن بلدانهم صارت نصف محتلة بميليشيات تحت إمرة القيادة الإيرانية (آخر التصريحات لحسن هاني زاده، رئيس تحرير وكالة «مهر» للأنباء شبه الرسمية، تدعو العراقيين الى ترك العروبة وتغيير ملابسهم).
ولكن، علينا أن نلعبها براءة، ونتساءل، كأن ريبة لم تنل منا: يا ترى، موضوع الميليشيات هذه، المؤتمرة بأوامر الحرس الثوري الإيراني، هل يتم تناولها في المفاوضات الإيرانية الأميركية؟ أمامنا واحد من احتمالين: انهم لا يتناولونها على الإطلاق، ويتركون الميدان على غاربه، ليسجل كل طرف لوحده نقاط تمركزه على هذه البقعة أو تلك. أو انهم يتناولونها، ولكن في الكتمان، من دون الضجيج الإعلامي النووي، ويتكلمون عنها، كل حسب مصلحته، ليشبكوا شأنها بالشأن النووي، فيكون الإتفاق النهائي حزمة نووية-عربية؛ حزمة تتيح لإيران «ضبط» هذه البلاد العربية المنفلتة من عقالها، بفضلها، وذلك تحت العنوان المشرف جدا :»الحرب ضد الإرهاب».
لذلك، فانه في الحالتين، بحثوا، أو لم يبحثوا بالقبْضة الإيرانية على دول عربية بعينها، فنحن العرب معنيون بقوة بالإتفاق الإيراني الأميركي. ليس لأن إيران سوف تملك سلاحا نوويا: فلو كانت إيران دولة «طبيعية»، لم تتسبب، حتى الآن، مع «تصديرها لثورتها»، بخراب أربع دول عربية، لم تؤسس، في قلبها، لأخطر السموم المذهبية، لم تؤطر ميليشياتها، وتدعمها بكل شيء، لم تورطنا بحروب مدمرة مع اسرائيل، باسم قضية عزيزة على قلبنا... ماذا سوف يعني لنا هذا الإتفاق؟ هل كنا سنتوجس من هذا الإتفاق؟
يقولون لك، «ماذا يعني رفض القنبلة النووية الإيرانية؟ ألا تملك إسرائيل القنبلة نفسها؟ إسرائيل العدو الأبدي!؟ فلما لا يكون لإيران الحق بها أيضا؟!». كلام حق لا يخفي باطله. إسرائيل لديها القنبلة، تستقوي بها ضدنا، لتقرر موتنا أو حياتنا. إيران تريد ان تمتلك القنبلة، لتحررنا من اسرائيل. أليس كذلك؟ والدليل ان ميليشياتها تخوض الآن حرباً ضروساً معها لتحرير القدس؛ ولكن تحت عنوان «الحرب على الارهاب»، أي الحرب على «داعش». وبعد انتصارها على «داعش»، سوف تحشد قنبلتها النووية من أجل تحرير كامل التراب الفلسطيني...!
إذا كانت إيران ممسكة عن الشبق التوسعي، إذا كانت صافية النوايا في قنبلتها النووية، إذا كانت لا تطالنا شظاياها، إذا لم يكن تقدمها النووي سوى مصدر للطاقة النظيفة التي ستستفيد منها كل بلدان المنطقة، فتعمر وتزدهر وتنمو... فلماذا نخشاها؟ لماذا نرى الإتفاق بينها وبين الأميركيين سوف يتم على ظهرنا وعلى حساب سيادتنا وحريتنا في تقرير ما نشاء من أنظمة سياسية، وطرق في التفكير أو العيش؟ لأن إيران لم تعد تخفي شبقها الإمبراطوري، ليس بالتصريحات المثيرة لـ»حساسية الشعوب العربية»، إنما بالوقائع التي على الأرض؛ في الدول الاربع المعنية، حيث بات الجميع يشاهد ما تخوضه من مناورات وحروب على ساحات اخترقتها، وأخرى تهدد كيانها على تخومها.
نحن العرب معنيون، أكثر من اي شعوب أخرى بالإتفاق الإيراني الأميركي. وعلينا بذل جهد واضح لصياغة موقفنا الدقيق منه. لا الإكتفاء بنقل ما يصدره غيرنا من الشعوب والقادة لنحدد هذا الموقف؛ فقط على ضوء مصالحنا الحيوية ومستقبلنا، هذا الإتفاق سوف يكون لغير صالحنا، وبالمطلق. وما يعطيه «مجاله الحيوي»، انه التقط فراغا عربيا هائلا، ونسج عليه بصبر وأناة خيوطا عنكبوتية تمكنت من القلب النابض لهذه البلدان، فكانت النتيجة ما نراه اليوم، من انها، أي إيران، أصبحت «مفتاح الحل»، باللغة الدبلوماسية اياها، لمعضلات كل هذه البلدان.
والمشكلة ان الفراغ المتبقي، الذي لم تتمكن القيادة الإيرانية ان تلمس جذره، بسبب حمّاها المذهبية، أو لهاثها مع الوقت المتسارع لصنع قنبلتها، هذا الفراغ لم يجد من يملأه غير تنظيم ميليشوي مذهبي، نظير، هو «داعش». وهو تنظيم نجح في إعادتنا ثانية إلى «الحرب على الارهاب»؛ ولكن بصفتها، الآن، ستارا لإعادة تموضع ايران على الرقعة الإقليمية، بما يؤهلها لتكون «الشرطي» الصالح الحكيم لإدارة تقاتلنا، كما كانت قبل ثورتها الإسلامية؛ شرطي له ميليشيات على الأرض، مشتركة في هذا التقاتل.
أن تكون المذهبيتان، الشيعية والسنية، كل بأسلوبها ونقاط ضعفها وقوتها وتحالفاتها المرئية وغير المرئية، هي التي تطلق الديناميكيات التاريخية، المشغّلة لحركة منطقتنا؛ أن تكون الأولى، الشيعية، بقيادة دولة ستكون نووية، وتبقى الثانية محرومة منها، وسط هذا التقاتل، فهذا لا ينبئ بأقل من بحور من الدماء المهدورة في تلك البلدان، لا سلاما واستقراراً، كما يدّعي أصحاب الإتفاق على النووي.
توقيع هذا الإتفاق سوف يضع حاضر العرب ومستقبلهم القريب في قلب حربين: حرب الإرهاب، و»الحرب ضد الارهاب». وأخطر ما في هاتين الحربين، هي تلك الإنتصارية التي تسدّد خطى قادتها: بين إيران التي تتصور نفسها وقد عادت امبراطورية فارسية مهيمنة على المشرق العربي، وبين «داعش» الذي لا تقل وجهته عن روما والأندلس والبيت الأبيض.
تعتقد إيران، انها، بالإتفاق مع الأميركيين، سوف تروّض إرهاب «داعش» وتكسر شوكته. وقد تهزمه عسكريا، قد تتمكن منه ميليشياتها، لأنها متفوقة في أصعدة لا تحصى. لكنها، مع إجادتها للعنصرية المذهبية، لن تلبث ان تحيي جذورا إرهابية، وجدت بالكمون، على امتداد مناطق سيطرتها. فيكون انتصار إيران على «داعش»، فوق جثثنا ودمارنا... أين منها «انتصارات» إيران على إسرائيل في حرب كانت نتيجتها «انتصارا استراتيجيا تاريخيا إلهيا».
هل فهمنا الآن مغزى تحميل كل هذه الصفات لحرب 2006، حرب «الوعد الصادق»؟
عن ملحق نوافذ