السرد الصافي في رسائل الجاحظ / د. قيس كاظم الجنابي
2015-04-15
أدب الرسائل ادب نثري متميز برع فيه العرب ايما يراعة، له ضوابطه واصوله، وهو ادب ضاع الان بين السرد القصصي والفنون الاخرى ، لدينا منه تراث ادبي كبير يعبر عن تنامي قوة التعبير وصفاء الاسلوب وبراعة التصوير ودقة الحوار يشتمل على حصافة وذكاء الكاتب وقدرته على استيعاب اساليب البناء.
ويعبر عن افكار ومضامين لها اثرها تجمع بين الفلسفة والادب، وقد كتب الجاحظ ت 255 هـ/ 871 م فيه وفلاسفة اخرون من امثال اخوان الصفا، وابن سينا وابن طفيل والفارابي والغزالي والسهروردي والتوحيدي.. وغيرهم.
يعد الجاحظ من السباقين الى الكتابة الادبية الفلسفية باعتماد الحوار الذهني والمباشر وتوظيف اسلوب المفاضلة بين المتضادات كما فعل في كتابه المحاسن والاضداد والحسد والعداوة والمزاح والهزل، وصاحب الجواري وصاحب الغلمان وصاحب الديك وصاحب الكلب وغيرها.. ويغطي هذا التوجه مساحة واسعة من تراثه وبالذات في كاتبيه الحيوان والرسائل ولانه معتزلي الفكر عربي الثقافة جدلي التوجه فان رسائله عبرت عن روح التلاقح الثقافي في عصره.
ــ 2 ــ
من اهم رسائله التي اثارت لغطا ثقافيا رسالته التربيع والتدبير وتتكون من ثمانية فصول صغيرة تبدأ بقوله فانظر في مسالمة النفوس مع تقارب منازلها ولم تجاذبت عند تقارب مراتبها ولم اختلف الكثير واتفق القليل ولم كانت الكثرة علة التخاذل والقلة سببا للتناصر؟ وما الفرق ما بين المجاراة والتحاسد وبين المنافسة والتغالب فانك متى عرفت ذلك استرحت منا ورجونا ان تستريح منك وكيف يعرف السبب من يجهل المسبب (1) فهذا الاستهلال يشير الى طبيعة الحوار الكامن في النص، وكيف استثمر الجاحظ السرد لاشاعة روح المناقشة وادامة الاتصال. وهو الذي يورد علاقة النص بالعنوان في هذه الرسالة فيقول:
ــ وقد نراهم وصفوا المستدير والعريض باكثر مما وصفوا القصيدة الطويلة.. وقلت:
ــ ووجدنا الافلاك وما فيها والارض وما عليها على التدوير دون التطويل كذلك الورق والحب والثمر والشجر(2).
ثم يشير الى علاقة التربيع بالجسم المربع وعلاقة المربع بالتجويف فيقول ان كل مربع في جوفه مدور فقد بان المدور بفضله وشارك المطول في حصته(3).
ثم اشار الى علاقة العنوان بالمتن فقال:
ــ وان قالوا في الحسن كانه طاقة ريحان او خيط اس وكانه قضيب خيزران وكانه غصن بان وكانه رمح رديني(...) وقلت والرمح ان طال فان التدوير عليه اغلب لان التدوير قائم ومفصل (...) وقلت:
ــ لا يوجب التربيع الا في المصنوع دون المخلوق(4) من اجل الوصول الى حوار مفتوح بين التربيع والتدوير لان احدهما يتمم الاخر في سلسلة تواصلية بين الداخل والخارج او السطح والجوف.
ــ 3 ــ
وقد تنبه الباحث مدني صالح الى اهمية كتابات الجاحظ حين صنف المؤرخين على ثلاثة اصناف جريا على ما استقاه من ابن خلدون فهم سرديون نقالون لا يزيدون ولا ينقصون ونقديون لا يقبلون بالخبر تاريخا من التاريخ الا بالنقد، وثالثهم خرافيون يزيدون في الاخبار وينقصون فيها ويبدلون ويطلقون حرية اعنة الاخيلة كلها في تداول الاخبار حتى يصير التاريخ عندهم قصصا من الادب وادبا من القصص النافع الممتع الجميل الذي منه خبر العداوة بين الجاحظ واحمد عبدالوهاب وخبر الخزرجي والجن وهارون الرشيد(5).
وقد ساقه هذا التوجه الى الكشف عن الاهمية الاساسية لرسائل الجاحظ وبالذات رسالة التربيع والتدوير فوصفه بانه انشاء صرف دار حول احمد بن عبدالوهاب ينأكده ويماريه ويعجزه على سبيل المناكدة وفضخ الجهل.. بل انك تجد ان الجاحظ يحسد احمد بن عبدالوهاب ويتهمه بالحسد، ويعانده في كل شيء ويتهمه بالمعاندة ويماريه في الجدل ويتهمه بالمراء ويناكد، ويتهمه بالمناكدة(6).
وقد حاكى مدني صالح الجاحظ في الجدل والمناكدة واثارة الاسئلة لغرض الوصول الى اجوبة فكرية ذات عمق فلسفي مع انها تتخذ اسلوب الادب او الرسالة الادبية رداء لها وهذا يعني ان ثمة خلافا واضحا بين الاسلوب والمعنى الذي يحيط به الكاتب وان الظاهر يشي بجزء من الباطن ولا يفصح عنه تماما فالجاحظ يقول وكيف يعرف الوصل من يجهل الفصل، وكيف يعرف الحدود من لم يسمع الفصول بل يعرف كيف الحجة من الشبهة والغدر من الحيلة والواجب من الممكن والفعل من الموسوم والمحال من الصحيح(7) مما يعني ان اسلوب ابي عثمان اسلوب مضلل وشخصيته مضللة وقد انساق مدين صالح معه في هذا التضليل فراح ينبش في خفايا حياة الجاحظ وبناء شخصيته من الناحية النفسية التي تبنت الصراع واتخذت من شخصية احمد بن عبدالوهاب وسيلة لاثارة الجدل؛ فراى ان حياة اليتم والعوز كانا سببا لمناكدته فقال: وكن الجاحظ ضع نفسك موضعه وقف موقفا في الكبر من كبار يلعبون ويمرحون ويشربون ويطربون والصالحية سكرانة باشعار احمد بن عبدالوهاب وتغنيها في اجل مجالس العراق قدرا واعلاها منزلة واكثرها وترفا وتلوينا للأنس والمؤانسة والمباهج واللذائذ والافراح ، الا تحسدهم وارزاقك لا تجري الاشحيحة بشق الانفس من شق القصبة والقرطاس(8).
اذا فمدني يرى في تضخم نزعة الحسد لدى الجاحظ سببا نفسيا لاظهار هذه المحاسدة التي تحولت الى شبه عداوة والملاحظ ان الجاحظ في رسالته التربيع والتدوير يناكد احمد بن عبدالوهاب ويفضل عليه ابراهيم بن السندي ثم صب جل مناكداته عليه متحدثا عنه بمضير المخاطب انت او بضمير الغيبة لذا بقي حضور احمد بن عبدالوهاب مركزيا وبالذات في هذه الرسالة، من هنا راى مدني صالح في الجاحظ بانه امير هجاء واحقاد وبيان وانه اتخذ من شخصية احمد بن عبدالوهاب رمزا دالا على الجهل والعناد والممارة لانه لم يشنه بما يشين الرجال وان كل كتاب التربيع والتدوير ليس فيه ما قد يسيء الى احمد بن عبدالوهاب باي من مقاييس الثقافة والاخلاق والحضارة والادب(9) وهذه لمحة ذكية قادرة على اكتشاف المعنى الخفي، الذي يشتغل عليه الجاحظ لانه كاتب مضلل قادر على ايهامنا بالحقيقة او بغيرها حسب ما يسوقه من مقولات الجدل والمماحكة وهو ماراه فيه مدني صالح حين وصفه بانه لم يكن متكلما في علم الكلام ولم يكن فيلسوفا في الفلسفة ولا عالما في العلم ولا مؤرخا في التاريخ.. وانما كان اديبا مؤسسا في الادب العربي لفلسفة التاريخ ولفلسفة الاحتجاج والاخلاق والطريقة العلمية في البحث ثم وصفه بانه اول اديب عربي يخرج بالنثر الفني من طور السرد والتفصيل والمناقشة وانه امير بيان ثقافي في الادب(10).
ــ 4 ــ
وراى فيه مدني صالح كاتبا ساخرا متهكما يتخذ من قصر قامة احمد بن عبدالوهاب وسيلة لاشاعة روح التندر وانه اتخذه رمزا للعناد وللمراء وللادعاء وقصر القامة واستفاضة الخاصرة والجهل والتظاهر بالمعرفة والحكمة(11) وانه لم يكن رمزا اعتباطيا وانه لم يوفق في ذلك لكونه لا يمتلك قوة الرمز الادبي لا تاريخيا ولا طبيعيا ولا اعتباطيا(12) وان كان صاحب جدل وحوار يكثر من طرح الاسئلة، ولا يجد الاجوبة المقنعة عنها ثم يتوقف في نهاية تتبعه له فيقول اجل انك تستطيع ان تعجز الدنيا كلها بمليون سؤال ولا يكون عليهم من هذا العجز جهل.. والا فما عليك من جهل ما لا تحتاج الى ان تعرفه انت او ان يعرفه احد(13) والحقيقة ان مدني صالح قد جارى الجاحظ في حسده لاحمد بن عبدالوهاب وسخريته منه، فحسده فغمط حقه، ولم يجعله رائدا مبتكرا في هذا الفن السردي وهو الذي صرح بانه هنا للدفاع عن احمد بن عبدالوهاب ضد اذكى ادباء العرب جميعا لا تستثنِ من هؤلاء الادباء احدا في كل تاريخ الثقافة العربية(14).
اذا في جدال الجاحظ وسخطه على احمد بن عبدالوهاب يوازيه جدال وسخط من مدني صالح على الجاحظ متبرعا في الدفاع عن احمد بن عبدالوهاب وهو يتبنى منهج السفسطة او التمويه الذي يعني الاخذ بالاقاويل اللفظية الخالية من الجد والرصافة وتمويه الحقائق(...) بقصد خداع الخصم واسكاته (15) وهو ما اتبعه الطرفان الجاحظ ومدني صالح لذا استخدام الاخير اسلوبا سرديا مشحونا بطاقة عالية من المماحكة في الكلام قصده الاقناع وتسفيه عقلية الجاحظ ونزوعها نحو الحسد وليس نحو النقد الادبي اللاذع من خلال استخدام اسلوب المقالة الساخرة وهي مقالة نثرية محكمة النسج، بليغة الالفاظ عبقة المعاني لها امتداد واضح الى ما وراء ذلك لانه يعول على ما خفي وبعد مرماه ولا يعول على ما ظهره منه واستبان.
ــ 5 ــ
السرد النثري الصرف، او الخالص الذي يكتب به الجاحظ يؤكد انه محمل بافكار ورؤى هي جماع او لب فلسفة الجاحظ في علم الكلام والتي تأخذ الحوار وسيلة، والجدل اداة من ادوات التعبير لايصال فكره وفلسفته التى جعلت النثر الفني اداة لها ولم تأخذ النثر الفلسفي العقلي اداة ووسيلة لانها اقرب الى النفس واخف واسهل في التغلغل الى ذهن المتلقي وهي افضل من كتب الفلسفة الجامدة في ايصال المعاني والافكار والاهداف الخفية المعلنة وغيرالمعلنة وقد راى في رسالته الى ابي الوليد محمد بن احمد بن ابي داود قاضي بغداد في خلافة المتوكل، وولاه القضاء بعد ان فلج ابوه احمد بن ابي داود ثم عزله ومات في حياة ابنه سنة 239 هـ(16) اي في مرحلة تراجع الفكر الاعتزالي وزوال هيبة انصاره في السلطة العباسية وكاني به يستنجد به حين يناقشه في نفي التشبيه وبروز افكار المشبهة الذين يشبهونالاله بالخلق وفي افكارهم شيء من مذاهب الحلولية والتناسخية وقد شبهت اليهود الخالق بالخلق والنصارى شبهت الخلق بالخالق(17) معرجا على افكار شيخه واصل بن عطاء الذي اعتزل حلقة شيخه الحسن البصري في قوله ما اجتمعوا الا ضروا ولا تفرقوا الا نفعوا(18) في اشاره الى قول علي بن ابي طالب: نعوذ بالله من اقوام اذا اجتمعوا لم يملكوا واذا تفرقوا لم يعرفوا فقيل له اي لواصل بن عطاء قد عرفنا مضرة الاجتماع فما منفعة الافتراق؟(19) في لعبة كلامية تثير الاسئلة لاكتشاف ما وراء ذلك، اي ان كلام الجاحظ لا يؤخذ على المباشر وانما يؤخذ على غير المباشر منه.
في رسالة اخرى لابي الوليد محمد بن احمد بن ابي دؤاد يقول وزعمت نابتة عصرنا ومتيمة دهرنا ان سبت ولاة السوء فتنة ولعن الجورة بدعة وان كانوا ياخذون السمي بالسمى والولي بالولي والقريب بالقريب(20) فهو يحرض على مجابهة الظلم مستفيدا من قدرته على توظيف الكلام، واعتماد فلسفة خاصة فجعل هذا السرد وسيلة من وسائل التلاعب بالالفاظ واثارة حفيظة الناس وتحرضهم ضد الولاة واتخاذ موقف واضح ضد السطات التي همشت الفكر وابعدت التيار المعتزلي عن دائرة النفوذ وهو الذي اشار في رسالة اخرى موجهة الى ابي عبدالله احمد بن ابي دؤاد ويبدو انها وجهت الى الاب القاضي حين كان امر المعتزلة نافقا ، فقال له كان يقال السلطان سوق وانما يجلب الى كل سوق ما ينفق فيها واتى اليها العالم معلم الخير وطالبه والداعي اليه وحامل الناس عليه في موضع السلطان بارفع مكان لان من جعل الله اليه مظالم العباد، ومصالح البلاد، وجعله متصفحا على القضاة وعتادا على الولاة (...) فقد وضعه بارفع المنازل واسنى المطالب(21).
اسلوب الجاحظ يميل الى اثارة الاسئلة واشاعة الحوار وفتح المناقشة والجدل من خلال ضمير المخاطب (انت) لاثارة المتلقي ودفعه للمساهمة في احلال روح المشاركة والحوار والتحريض على مساوئ الحكام لذا فانه كثيرا ما يبدا رسالته بمقدمة توضح الصلة الحية بين الكاتب والمكتوب له وهو القارئ المتلقي الاول الذي عليه ان يستجيب لمنطق الفهم لدى الجاحظ كما في رسالته (المعاش والمعاد) التي قال فيها فالفت لك كتابي هذا اليك، وانا واصف لك فيه الطبائع التي ركب عليها الخلق، وفطرت عليها البرايا كلهم فهم متسوون والى وجودها في انفسهم مضطرون وفي المعرفة بما يتولد عنها متفقون.
ثم مبين لك كيف تفترق بهم الحالات وتتفاوت بهم المنازل وما العلل التي يوجب بعضها وما الشيء الذي يكون سببا لغيره(22) فاذا كان الجاحظ هو من صنف رسائله وكتبه للاخرين ليعرض بضاعته عليهم فانه على الرغم من ذلك ـ ذم اخلاق الكتاب وشنع بهم يريد بهم كتاب الدواوين الحكومية حتى انه تجرد لزيدين ايوب الكاتب الذي عمل في ديوان الجند اربعين سنة (ثم صار في اخر عمره قوادا ليحيى بن اكثم أمر ذلك الغرض الى زيد بن ايوب وامره لا يفرض الا لأمرد بارع الجمال حسن القد والصورة فكان امر ذلك الفرض مشهورا متعالما(23) في اشارة الى ولع يحيى بن كثم بالغمان ومجاهرته باللواط مما يكف عن نقدات لاذعة ضد السلطة التي حكمت بالناس قاضيا لوطيا.
وكان قبل ذلك قد اشار في مقدمة رسالته (ذم اخلاق الكتاب) فذكر ما ورده من تعليقات حولها فقال:
ــ فقد قرأت كتابك ومدحتك اخلاق الكتاب وافعالهم ووصفك فضائلهم وايامهم وفهمته(24) مما يشير الى محدودية تحزبه للسلطة حتى في مراحل تبنيها للاتجاه المعتزلي في فكرها وسياستها ذلك انه لم يكن فيلسوفا ولا متكلما مختصا بالفلسفة او علم الكلام رغم ولعه بالمباحث الفلسفية او الكلامية واستغلاله لادوات الجدل ولمبادئ المنطق فلم تفسد المباحث الفلسفية البحثة براعته الادبية وقابليته الفنية بل لنقل انه اشبه بصاحب الهواية دون الاحتراف (25).
لقد صب جام غضبه وجليل نقده على الكتاب حتى انه روى عن نفسه في هذه الرسالة فقال:
وجلس الجاحظ يوما في بعض الدواوين فتأمل الكتاب فقال خلق حلوة وشمائل معشوقة وتظرف اهل الفهم ووقار اهل العلم فان القيت عليهم الاخلاص وجدتهم كالزبد يذهب جفاء، وكنبتة الربيع يحرقها الهيف من الرياح، لا يستندون من العلم الى وثيقة ولا يدينون بحقيقة ،اخفر الخلق لاماناتهم واشراهم بالثمن الخسيس لعهودهم الويل لهم مما كتبت ايديهم وويل لهم مما يكسبون(26).
انه ينزع نحو السخرية ويميل الى المفارقة ، ويركن الى النقد اللاذع والتهكم الواضح.
ــ 6 ــ
جاء سرد الجاحظ الصافي النقي انتقالة نوعية من سرد الوعظ الديني والاخلاقي الى السرد الادبي الذي يطمح ان يؤسس له ضوابطه ونظمه الفنية واتجاهاته العقلية البعيدة عن اطار المؤسسة الدينية، القريبة من منهج الحوار والجدل، والبحث عما هو بين السطور، حيث يشيع اسلوب التهكم، وتتصاعد روح المفارقة وهو الذي فصل اصناف العلم بالجزل والسخيف وموضع الحديث بانه مضحك ، فقال ان لكل نوع من العلم اهلا يقصدونه ويؤثرونه واصناف العلم لا تحصى منه الجزل ومنها السخيف واذا كان موضع الحديث على انه مضحك ومُلْهٍ، وداخل في باب حد المزح فأبدلت السخافة بالجزاله انقلب عن جبهته وصار الحديث الذي وضع على ان يسر النفوس يكربها ويغمها(27) فالهدف من الحديث هو الامتناع وهو ما يتضح على لغة الجاحظ في اختياره الالفاظ والعبارات وسوقه الحوار بين الاطراف كما فعل في كتابه الحيوان الذي يعد كتابا معرفيا مهما وهو ليس بكتاب علمي بقدر ما هو سرد حواري عقلي بين طرفين يحاول عبرهما ان يبرز قدراته اللغوية والفكرية لكي يخلق سيرورة حية في اثناء السرد الصافي/ النقي/ التصنيفي البعيد عن الغايات والنوايا السيئة وهو يمثل خير تمثيل مدرسة الاعتزال التي اسسها واصل بن عطاء ثم تبعه ابو الهذيل العلاف ثم تتلمذ على يد شيخه ابي اسحاق ابراهيم النظام ت 230 هـ/ 844م والى الجاحظ نسبت الجاحظية التي حملت فكره وهو الذي طالع الكثير من كتب الفلاسفة وخلط وروج بعبارته البليغة وحسن براعته اللطيفة، وكان في ايام المعتصم والمتوكل فاغتر تلاميذه بحسن بيانه فتابعوه(28).
وعلى الرغم من سعة علم ابي عثمان، وعلو همتهٍ وسمو مكانته، وميله الى الحوار، فانني اشعر بان الرجل (براغماتي) نفعي، سبق (عمانوئيل كانت) (1724-1804م) الاب الروحي لليبرالية، يسرد مقالته وانت لاتعرف أين يتجه؟ وماذا يريد؟ ومع من يميل؟ لذا نجده يحرر رسالة في (مناقب الترك) يحاول ان يستميل المعتصم لان امه تركية، ولان المعتصم كان معتزلياً، قريب النفس من الجاحظ، فيقول في مستهلها: ((هذا كتاب كنت كتبته ايام المعتصم بالله، رضى الله عنه، فلم يصل اليه لاسباب يطول شرحها، فلذلك اعرض للاخبار عنها، واحببت ان يكون كتاباً مقيّداً، ومذهباً عدلاً، ولايكون كتاب اسراف في مديح قوم، واغراق في هجاء آخرين، وان كان الكتاب كذلك شابه الكذب، وخالطه التزيّد، وبنى اساسه على التكلف، وخرج كلامه فخرج الاستكراه والتغليف)) (29).
انه يبدو على معرفة تامة في صنعة الكتابة، وما يقتضيه سياق الحديث عن الاقوام والامم، بطرق شتى، واساليب مديحة، ذلك لان الاستهلال هو المواجهة الاولى مع المتلقي، لذا تراه يفرد في غالب الاحيان توطئة لكل كتاب او رسالة يوجه بها القارئ/المتلقي نحو سبب التأليف، ولماذا وضعت في هذا الموضع، كما في تصديره لكتاب (البغال) حيث يقول: ((كان وجه التدبير في جملة القول في البغال، ان يكون مضموماً الى جملة القول في الحاضر كله، فيصير الجميع منقحاً تامّاً، كسائر مصاحف ((كتاب الحيوان)). والله المقدر الكافي))(30). لانه يحاول ان يجعل كتبه متصلة حتى تبدو حركة الفكر فيها منسقة، ومتلازمة، ومعبرة عن فيض المعاني، وجلالة الافكار، وطبيعة الاسلوب، وبلاغة العبارات وصلتها بالمعنى المباشر وغير المباشر، وكيف تمررعبر قناة واحدة هي الجسر الحقيقي لثقافة خاصة، وفلسفة كامنة، تربط بين المقدمات والمتون، وبين المتون والخواتيم او النهايات، والصلة بين رسائله كتابه (الحيوان) واضحة، فكل رسالة تناقش موضوعاً واحداً، وهي مشحونه بطاقة تواصلية مع المتلقي مفعمة بالحيوية والتأثير، لذا استحق ان يكون ((نسيج وحده في جميع العلوم، جمع بين علم الكلام والاخبار والفتيا والعربية وتأويل القرآن))(31). بيد ان منهجه في تعليم الصبيان وسم كتاباته بالتعليمية في سرده الواضح وضرب الامثلة والاتيان بالشواهد التوضيحية والموازنات والمفاضلات مع الالتزام بغاية الامتاع(32). وهذا ما يبدو واضحاً في كتابه (القيان) الذي يقول فيه ((ان الفروع لا محالة راجعة الى اصولها، والاعجاز لاحقة بصدورها، والموالي تبع لاوليائها، وامور العالم ممزوجة بالمشاكلة ومنفردة بالمضادّة، وبعضهم علة لبعض ، كالغيث عٍلّة السّحاب، والسّحاب علة الماء، والرطوبة، وكالحب عٍلّة الزرع))(33). حيث يربط الاسباب بمسبباتها، ويفلسف السرد بافكاره لتجعل كلامه حوارياً ومنطقياً وعلياً، وكأنه يضع لكل حكاية مقترباتها التي تتعلق بمحور تأثيرها، فاذا كان (عمانوئيل كانت) يعد الاب الروحي للمنهج الليبرالي في طروحاته، فان الجاحظ في سرد يعبر عن ازدواجية التفكير وحوارية الفكر، وسردية الابلاغ، في ايثاره سرد الحكاية أكثر من الجدل الفلسفي الثقيل، واعتماد العبارات المتلاحقة القادرة على الاقناع، وسلب المتلقي هواجسه الداخلية لصالح النص من خلال سوق الاسباب بالمسببات، كما في رسالته (في الحنين الى الاوطان) حيث يقول: ((وان السبب الذي يعين على جميع نتف من اخبار العرب في حنينها الى الاوطان، وشوقها الى تٌربها وبلداتها (...) اني فاوضت بعض من أنتقل من الملوك في ذكر الديار، والنزاع الى الاوطان، فسمعته يذكر انه اغترب من بلده الى آخر أمهد من وطنه))(34).
من هذا اصبح خطاب الجاحظ السردي خطاباً ذا ملامح فلسفية، وانساق نحو موثبات فكرية كشفت عن عقل الفيلسوف في قناع الاديب المتبحر الحاذق الذي يسوق الكلام باهداف معلنة، وغايات غير منظورة، ويجنّد قدراته الثقافية والبيانية للامساك بقوة التعبير، وشحن السرد بطاقات كلامية، لها تأثيرات نفسية وفلسفية واجتماعية، وتعبر عن قراءة فاحصة لجذور العقل العربي-الاسلامي، وفهم جلي للحياة الاجتماعية والفكرية لعصره، لان الجاحظ عبّر عن عصره خير تعبير، وكشف عن صراع الافكار، والمنطلقات الحقيقية لصيرورتها، وعن العلل والاسباب المنتجه لها.
هوامش
(1)رسائل الجاحظ:1/174 قرص مدمج DVD عن موقع العراق: http:///www.alwaraq.com
(2)نفسه:1/176.
(3)نفسه:1/176.
(4)نفسه:1/176.
(5)التربيع والتدوير، نظرية ومنهج وتطبيق:مدني صالح، الموسوعة الصغيرة، ع(268) وزارة الثقافة والاعلام/دار الشؤون الثقافية العامة (بغداد/1986م).:ص8-9.
(6)نفسه:ص7.
(7)رسائل الجاحظ:ا/174(حاسوب).
(8)التربيع،مدني صالح:ص31-32.
(9)نفسه:ص64-65.
(10)نفسه:ص69.
(11)نفسه:ص99.
(12)نفسه:ص99.
(13)نفسه:ص102.
(14)نفسه:ص80.
(15)مفاهيم الفلسفة والاجتماع: احمد خورشيد النورهجي،دار الشؤون الثقافية العامة (بغداد،1990م):ص152.
(16) تاريخ بغداد:الخطيب البغدادي، خط السعادة (القاهرة،1349هـ):1/297 ،301.
(17)الملل والنحل:الشهرستاني، خط مجازي (القاهرة،1948م):1/188-189.
(18)رسائل الجاحظ،تح عبد السلام هارون،خط الخانجي (القاهرة،1384هـ/1964م):1/283.
(19)رسائل الجاحظ:1/283.
(20)نفسه:2/14.
(21)نفسه:1/215.
(22)نفسه:1/97.
(23)نفسه:2/208.
(24)نفسه:2/188.
(25)الجاحظ/وديعة طه النجم، دار الجاحظ للنشر/دار الحرية للطباعة، الموسوعة الصغيرة ع (110)، (بغداد،1982م):ص68.
(26)رسائل الجاحظ:2/199.
(27)نفسه:2/91.
(28)الملل والنحل:1/99-100، الفرق بين الفرق: البغدادي، تح محمد محيي الدين عبد الحميد، خط المدني (القاهرة،د.ت):ص175.
(29)رسائل الجاحظ:1/36.
(30)نفسه:2/215.
(31)طبقات المعتزلة:ابن المرتضى،تح سوسنه فلزر (بيروت،1961م):ص68.
(32)الجاحظ لوديعة النجم:ص15.
(33)رسائل الجاحظ:2/146.
(34)نفسه:2/383.
عن جريدة الاتحاد.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |