مخيم اليرموك: قصة قتل معلن / سمير الزبن
2015-04-22
مخيم اليرموك هو المكان المنتمي واللامنتمي، ينتمي إلى سوريا بقوة المكان، وينتمي إلى الحلم الفلسطيني بقوة السكان. اليرموك مكان التناقضات، مكان الفقر والغنى، مكان الثقافة والتسطيح، مكان التجارة والخسارة، مكان العمل السياسي والسخافات، مكان الجادين والمدعين، هو المركزي والهامشي، هو أحزمة البؤس وهو الأغنياء الجدد.. اليرموك كل هذا ويزيد.
كل من عرف اليرموك عن قرب، يعرف هذه التناقضات، ومن عرفه على مستوى السطح لم يرَ فيه سوى سوق تجاري رائج، نافس أسواق دمشق الرئيسية، الحميدية والصالحية، بجودة بضاعته ورخصها. لكن خلف السوق المزدهرة التي غزاها التجار الشوام، كانت هناك جيولوجيا بشرية أخرى، طبقات من الطيبة والتعقيد والصراعات والأزمات، أزمات الهوية والانتماء التي لا تنتهي، العيش في الموقت إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. في بداياته ساهم المخيم في تأسيس الوطنية الفلسطينية الحديثة، وساهم في تأسيس عمل سياسي واعد بمساهمته في تأسيس الثورة الفلسطينية. هذا المخيم نفسه يشهد منذ عقود السلام مع اسرائيل، خفوت العمل السياسي وتراجعه، ويشهد إحباطاً اجتاح اللاجئين، وتحوّل الحلم إلى كابوس، وعاد سؤال الهوية ليحاصرهم: من نحن؟!
لم يكن هناك جواب. فالوطنية الفلسطينية الحديثة التي ولدت في المخيمات، وأعادت الفلسطينيين إلى الخريطة بوصفهم شعباً له وطن محتل، أخذت بالتفكك منذ الكلام عن حلول نهائية على أساس معطيات هزيمة العام 1967. لم يتخلَ الفلسطينيون عن حلمهم، واعتبروا الكلام عن دولة فلسطينية في الضفة الغربية والقطاع مجرد تكتيك لا يمس الحلم بالعودة. لكنهم مع وعد السلام التسعيني أصيب الحلم في مقتل، لا مكان للاجئي المخيمات في قطار التسوية، وعليهم أن يعيشوا كلاجئين في المنافي إلى الأبد. بتوطين أو بغيره ليس هذا المهم، المهم أن حلم العودة أصابه العطب. هذه الإصابة القاتلة أصابت الوطنية الفلسطينية ذاتها بحالة تفكك، وادخلت تجمعات اللاجئين بحالة من القلق على مصيرهم المقبل. قد يكون الفلسطينيون السوريون هم الأكثر تعلقاً في مكان تواجدهم بين اللاجئين الفلسطينيين، وإذا خيروا جدياً بين العودة إلى فلسطين، والبقاء في سوريا، قد تختار غالبيتهم الساحقة البقاء في سوريا. وأنا واحد ممن سيختارون هذا الخيار. ولكن فكرة أن هناك وطناً يحلمون ويعملون من أجل العودة اليه، كانت تعطيهم مسافة هوياتية عن السوريين، إذا صح التعبير. نوع من هوية مركبة ومتناقضة لكنها متصالحة مع حالة لجوء طويلة وغير مفهومة. إلى اليوم، يحمل الفلسطينيون في سوريا «بطاقة إقامة موقتة» بعد سبع وستين عاماً من اللجوء. لم يصبحوا مثل الأرمن، لاجئون بجنسيات سورية، يحنون إلى وطنهم.
كانت الهوية المركبة والمتناقضة للفلسطينيين، هوية هشة، وقد انكشفت هشاشتها مع الانتفاضة السورية في وجه النظام الاستبدادي في دمشق. لم يعد السؤال هذه المرة، من نحن؟ بل أصبح السؤال مع من نحن؟ ولأنهم لا يريدون مواجهة السؤال عادوا للتمركز حول هويتهم بوصفهم لاجئين مقيمين موقتاً، بحسب هويتهم التي تصدرها السلطات السورية، أجابوا: «نحن على الحياد». فكان أن دعموا حيادهم، بأن تحول اليرموك وغيره من المخيمات الفلسطينية، إلى أماكن تضامنية مع الأماكن المنكوبة المحيطة، فأغاثت المخيمات من نزح اليها ولم تقصر على هذا الصعيد بشهادة السوريين أنفسهم. لم يكن الكلام عن حياد الفلسطينيين حقيقياً، كانت قشرة يغطي الفلسطينيون فيها انقسامهم المتطابق مع انقسام السوريين، وكانت الغالبية الكبيرة تؤيد مطالب المنتفضين على نظام الاستبداد، وكانت هناك أعداد متزايدة تنخرط في فعاليات الثورة السورية في مواجهة الاستبداد، شكّل ذروتها انتفاضة اليرموك في منتصف الشهر السابع من العام 2012، غداة قتل الأمن ثمانية متظاهرين في المخيم بينهم طفل.
مقابل هذا الانخراط مع الثورة، كان هناك انخراط مع النظام، وكان أحمد جبريل زعيم «الجبهة الشعبية - القيادة العامة» الوجه القبيح لهذا الانخراط، فهو ومن على شاكلته شكّلوا تاريخياً امتداداً للنظام الأمني السوري داخل الجسد الفلسطيني، المخترق من الجميع. في مرحلة مبكرة أطلق رجال جبريل النار على المتظاهرين الفلسطينيين، عندما تظاهر أهالي اليرموك احتجاجاً على إرسال الشباب العزل في الخامس من حزيران إلى الجولان، حيث سقط 24 شهيداً برصاص الاسرائيليين، لتحويل الأنظار عما يجري في سوريا. وكان الرصاص رد جبريل على المتظاهرين الذين حاصروه في مبنى الخالصة في المخيم، وأنقذه أسياده، لكن المتظاهرين أصروا على البقاء حتى احرقوا مقر «الخالصة»، ما ولَّد حقداً شخصياً عند الرجل تجاه المخيم. منذ ذلك الوقت أخذت «الجبهة الشعبية - القيادة العامة»، و»فتح - الانتفاضة»، و»جبهة النضال» - فصائل هامشية في الساحة الفلسطينية المريضة بالفصائل - بتجنيد أردأ شباب المخيم وتسليحهم، ونصب الحواجز داخل المخيم، وأخذوا يغلقون منافذ المخيم بوجه اللاجئين من الأماكن المحيطة، إلى أن كان الصدام مع «الجيش الحر»، الذي اجتاح المخيم خلال ساعات، وفرت مجموعات جبريل وحلفائهم، في منتصف الشهر الأخير من العام 2012. وكانت نكبة المخيم الكبرى، بخروج غالبية سكان المخيم بعد قصفه بالطيران الحربي السوري. وبذلك تحولت هذه المجموعات إلى حراس الحواجز التي تحاصر المخيم بإشراف المخابرات السورية، وأصبح هناك فلسطينيون يذلّون فلسطينيين يومياً على الحواجز التي تحاصر مخيمهم، واشتد الحصار إلى تجويع، وبعد ذلك إلى تعطيش، عداك عن القنص والقصف وكل أشكال الموت.
واحدة من النتائج التي كشفتها الانتفاضة السورية لتفكك الوطنية الفلسطينية، هي الموقف المخزي للقيادة الفلسطينية واليسار الفلسطيني. فكلما اشتد القتل على الفلسطينيين يطالبون بتحييد المخيم، المخيم تحول إلى مدينة أشباح وهم يطالبون بتحييد المخيم تحت شعار كاذب «عدم التدخل في الشؤون العربية» حتى لو كانت دماء الفلسطينيين تسيل. لقد وقفت السلطة الفلسطينية عملياً مع النظام في تكرار روايته عن الإرهابيين. والأسوأ من السلطة، كان موقف اليسار الفلسطيني، الذي كرر رواية النظام أيضاً، حتى إن المناضلة (الفذة!) ليلى خالد تحدثت عن معرفتها الأكيدة بوجود أفغان داخل المخيم، لتغطي على موقفها وموقف جبهتها المخزي في الوقوف إلى جانب النظام في وجه «المؤامرة». كان من المخزي فلسطينياً خلال السنوات الأربع من عمر الثورة السورية، أن تجد شخصيات فلسطينية، تغطي على قتل الفلسطينيين بأحاديث فارغة عن المؤامرة على سوريا، ليس أولهم عباس زكي عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح»، وليس آخرهم ليلى خالد عضو اللجنة المركزية «للجبهة الشعبية».
عندما هاجمت قطعان «داعش» مخيم اليرموك، كان المخيم قد شبع قتلاً، قُتل عندما تفككت الوطنية الفلسطينية بفعل التسوية التي دجنت القيادة الفلسطينية في سلطة لا حول لها ولا قوة. وقُتل عندما تخلت الفصائل عنه وانكشف كم هي فارغة وعديمة الجدوى، وقُتل لما تجرأ فلسطيني مأجور مثل أحمد جبريل باطلاق النار على الفلسطينيين، وقُتل يوم حاصر فلسطينيون المخيم وأذلوا أهله، ويوم قصفه النظام، ويوم جُوِّع ويوم عُطِّش. كل ذلك جعل المخيم لقمة طرية في فم «داعش»، الذي يعيش هو والنظام على التغذية العكسية.
كانت قصة قتل المخيم معلنة، والجميع خذل المساكين الذين بقوا في المخيم، والسكاكين تعمل أنصالها في رقابهم. ما جرى في مخيم اليرموك، عار في وجهنا كفلسطينيين، وعار يضاف على الكم الهائل من العار الذي غرق فيه النظام السوري، وعار آخر في وجه العرب، وعار في وجه الانسانية التي لم تستطع أن تحمي ثمانية عشر ألف مسكين من جميع الحراب التي ساهمت وتسهم في ذبحهم.
وأنا أرى المكان الذي قضيت فيه كل عمري يُقتل بناسه ومبانيه، أشعر بالارتعاد.
عن ملحق نوافذ
====