أبو نواس فضيحة النقد والتلطيخ النقدي عند أدونيس / أحمد الواصل
2015-04-28
يعد الشاعر أبا نواس (الحسن بن هانئ) (762-813) أحد الأصوات الشعرية المشْكِلة نقدياً لدى مؤرخي الأدب وباحثيه ونقاده، وهو ما سيتكرر مع نزار قباني في القرن العشرين، فإن محاولات قراءة شعره تتم عبر سك أحكام أخلاقية لمحاولة تصنيفه وتعليل شعره.
أحد هذه الأحكام الأخلاقية (والإيديولوجية غالباً) قضية الشعوبية التي يبرر لها بموقفه من عدم البكاء على الأطلال مثل الشعراء القدامى! عند حسين خريس في كتابه "حركة الشعر العباسي في مجال التجديد بين أبي نواس ومعاصريه (1994)( ص: 96) ، وقضية الشك في إيمان أبي نواس الإنسان عجزاً عن استيعاب تعدد حالات الإنسان بين اللهو والجد، والتجربة الإنسانية عند محمد مصطفى هدارة في كتابه" اتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري (1963)(ص:89).
«كائن من كلم ينهض على نغم يتصرف في معنى ويحدث طرباً» توفيق بكار
وينسحب هذا على مجمل القضايا الثقافية ذات البعد الاجتماعي حين يحاولون تعليل إثر التحضر وتوطين البدو، وظهور الطبقات الاجتماعية والثقافية من حيث قضية الصنعة الشعرية والتيار الشعبي (ص: 105).
وقد ساق هنا الموقف النقدي عند ابن رشيق في كتابه"العمدة في صناعة الشعر ونقده" الذي وضع فروقاً بين الغزل عند أهل البادية والحاضرة ضمن منهج النقد الوصفي بينما يسوق خطل هذا النقد الحرباوي عند حسين خريس حيال "الشعوبية" - بصورتها الاتهامية - وسيلة نقدية تبريرية لشعر أبي نواس كاشفاً عن قصور هذا النقد، وما كان مفهوم التحضر سوى محاولة لاستدراج إدانة البداوة حسب تحولات معاصرة لا علاقة لها بالعصر المعني بالدراسة أو البحث إذ لمس ذلك عند حسين عطوان في كتابه "مقدمة القصيدة العربية في العصر العباسي الأول(1981) (ص:103).
ولم يسلم منهم أبو العتاهية (إسماعيل العيني) (747-826) من محمد مصطفى هدارة الذي وسم الشاعر الكبير بالتخنث لمجرد استخدامه بكثرة بحر "المنسرح" فهو يقول" إن روحه مخنثة، وإن المولدين استعملوه بكثرة" (ص:111).
ولا ينسى وصول النقد إلى مرحلة "العنف اللفظي" القصوى عبر جلد الشعر العربي بسوط خرافة "انعدام الوحدة العضوية" حين لا يراعى على الإطلاق مساءلة الرواية الشفوية والتدوين لا أبيات ولا طول وقصر النصوص الشعرية، ولا فهم مواضيعه ومضامينه بما هي عليه لا بما يفترض أن تكون عليه كما عند عطوان - سابق ذكره -، والتعريج باستمرار "التشنيع النقدي" ضد أبي نواس وتوهم "حداثة الشكل" عبر اندماج موضوع الخمريات بالقصص كما يرى مصطفى الشعكة في كتابه "الشعر والشعراء في العصر العباسي"(1973 ) (ص:123)، ويضيف الواد عبر لمحة سريعة وخاطفة في الهامش "سخافة النقد" عند عباس محمود العقاد في كتابه عن أبي نواس الذي علق عليه: "من وجهة نظر نفسانية لا علاقة لها في الحقيقة لا من قريب ولا من بعيد بالتحليل النفساني" (ص115).
ويختم هذا الفصل بقوله "والذي يخرج به الناظر في هذه الدراسات، وأكثرها ينتمي إلى البحوث الجامعية في مستوياتها الرفيعة، نعني الدكتوراه، أنها تتحدث عن كل شيء ، عدا الشعر، أحاديث لا تهم أحداً ولا تفيد أحداً" (ص: 125)، ويردف قوله "هذه المؤلفات لا تقدم معارف ثابتة وواضحة ودقيقة وموثوقاً بها لا عن السياسة ولا المجتمع ولا الثقافة ولا الحضارة في هذا العصر"(ص:126).
ويخلص الواد إلى تساؤلات ساخنة ضد الفهم المغلوط حين يظن الشعر صورة عن الشاعر والشاعر صورة عن مجتمعه: "ما الداعي إذن، إذا كان كذلك، إلى الهجوم على العنصر الفارسي وعلى المجون والزندقة والشعوبية؟ وما الداعي إلى الخوض في عقائد الشعراء وأخلاقهم؟ وما مسوغ إطلاق الأحكام من كل لون على شعراء بيننا وبينهم أكثر من ألف عام؟ وبأي حق يعتبر الدارس نفسه طرفاً في ما حصل وانتهى من التاريخ؟ " (ص:127).
أدونيس تلطيخ نقدي
وأما الفصل الثالث"الحرباء المقنعة" يخصصه الواد لقراءة كتابين للشاعر والناقد أدونيس (على أحمد سعيد)، وهما "مقدمة للشعر العربي"(1971)، وأطروحته للدكتوراه "الثابت والمتحول"(1977) يتلمس عنده هذا "النقد الحرباوي المقنع بالحداثة حيناً وبالاحتجاج المذهبي وبالتطورية وبالحتمية والمادية التاريخية وما إليها من النظريات الرثة التي تلهم، مع الخطأ المتأكد فيها معرفياً، أحلاماً شعرية جميلة تتلطخ بين الحين والحين برواسب من موروثات بشعة ظلت راسخة التعلق به رغم السيوف التي كان يتعمد إشهارها عليها والضجيج الذي يملأ رفضه لها" (ص: 136).
وأما الفصل الرابع"تحت الحرباء حرباء" يخص به الدراسات الأسلوبية المتأثرة باللسانيات وحاملة لصفة (البحوث اللغوية) مثل أطروحة عز الدين الذهبي "الأسلوب في شعر بشار"(2006) حيث رأى أن "النتائج التي وصل إليها ظلت لا تتجاوز الشاعر إلى فنه"(ص:137)، وأما أطروحة أمينة عبدالله الحشاني التي يصنفها ضمن خانة"نقد النقد" بعنوان "الدراسات النقدية الحديثة عن أبي نواس" (2006) فهي تفتقر إلى الوعي بمنهجية التلقي (ص: 139) برغم وصولها إلى نتائج حيال دراسة أطروحات نقدية لكل من طه حسين (1926) وعباس مصطفى عمار (1930) والنويهي(1935) والعقاد (1954) بأنهم "لم ينتفعوا لا بالمنهج التاريخي ولا بالمنهج الاجتماعي أو النفسي ولا بالمنهج الفني.. بل سطحوا، إلى أبعد حد، هذه المناهج عندما استعملوها ذلك الاستعمال الساذج، فروجوا منها لدى القراء صورة مغالطة تهون على أي دارس استعمالها في أي مجال" (ص:140). ويعلق الواد عليها "دراسات لا تخرج لا عن البلاغة القديمة ولا عن الانفعال بالنصوص والتأثر بها" (ص:141). ويكمل في هذا السياق ضمن إطار الدراسات اللسانية ذات البعد اللغوي بشكل ضمني، وهي نتاجات نقدية شهيرة عند يمنى العيد وعبدالله الغذامي وكمال أبو ديب، فيقول بأنها تتعامل مع الأدب بوصفه خطاباً مستقلاً عن الشاعر وعصره. وهو يشكل حالة نبذ للنقد الحرباوي الذي نصب نفسه مفتياً على الأدب العربي (ص:148).
نبذ النقد الحرباوي
وأما في الفصل الخامس"محاولات للانعتاق من شرك الحرباء" يؤسس الواد مفهوم "السلطة الأدبية" التي "تتحكم في الشعر وتميز بين ما هو شعري وما هو غير شعري لا تتجسم لا في النقاد ولا في السلطة السياسية والإعلامية.
بل إن ما يعتبر يوماً شعرياً لا يظل كذلك دائماً فمملكة الأدب ذات حدود قابلة للتوسع والتقليص والاختراق، تقصى منها نصوص كانت، في يوم من الأيام، تحظى بكثير من التقدير، وتدرج فيها نصوص أخرى كانت منبوذة مقصاة ومتروكة ومهملة" (ص: 149).
ويتمثل هنا هذا الانعتاق من النقد الحرباوي تجربتين نقديتين عند كل من توفيق بكار في كتابيه "شعريات عربيةI" (2000) وشعريات عربية II"(2009)، وسعيد السريحي في كتابه"شعر أبي تمام بين النقد القديم ورؤية النقد الجديد" (1983)، وكمال أبو ديب في كتابه" جدلية الخفاء والتجلي: دراسات بنيوية في الشعر"(1979)، ومحمد مساعدي في كتابه "تلقي الشعر العربي القديم: نماذج من تلقي شعر أبي نواس"(2005).
قدم بكار في شروحه لكل من شعر أبي نواس وبشار بن برد في ذينك الكتابين رؤية نقدية عن "النص من حيث هو عمل فني قدّ من كلام وأبدعت إنتاجه ذات فنانة مثقفة نظرت إلى الوجود نظرة فنية تعي وعياً خلاقاً أنه يختلف عن الموجود في الوجود ويباينه (ص: 151).
فهو يرى، بحسب الواد، أن للخطاب الشعري وحده المفترض دراسته لا من دراسة الخطاب العادي أو من أجناس الخطاب المفهومية المختلفة إلى دراسة الخطاب الأدبي، ومنه الخطاب الشعري (ص:150). لم تستطع النظريات والمناهج النقدية في كشف " ما الذي يجعل ذلك العمل (الأدبي ومنه الشعري) يستمر في الأخذ بمجامع الناس بعد فناء الظروف الموضوعية التي كانت قد ساعدت على إنتاجه" (ص:150).
ينظر بكار إلى القصيدة باعتبارها "كائن من كلم ينهض على نغم يتصرف في معنى ويحدث طرباً" (ص: 152).
ويرى الواد أن بكاراً "لم يصب على النصوص معارف مقتبسة وإنما حاور بها الرصيد المعرفي بالخطاب الشعري وهو يستجيب للتنظير ويند عنه فيدخل في جدل خلاص بعيداً عن السذاجة الحرباوية (ص: 158).
وينتقل إلى دراسة أبي ديب المتمثلة في كتابه الشهير"جدلية الخفاء والتجلي" (1979) الذي اعتمد منهجاً تناول به قصائد أبي تمام وأبي نواس محاولة لاكتشاف "بنية الفكر الإنساني نفسه والفاعلية الشعرية بما هي فاعلية رؤيوية تنبع من الإنسان مرتبطة بالتاريخ ومتجاوزة للتاريخ والتموضع الزمكاني للإنسان فيه"(ص:160).
وبرغم أن الواد يلاحظ على دراسته "ألواناً من الخلط بين المتضاربات بل من التلفيق والوثوقية والتبشير.. والطريق المسدودة" غير أن محاولة أبي ديب لا تطمح إلى "تقديم حلول نهائية لقضايا ذات طبيعة تاريخية مثل موقف أبي نواس من التراث الشعري المتمثل في الأطلال، ومن التراث الأخلاقي - الديني، فإن ما تطرحه يعين على بلورة منظور جديد لمعاينة هذا الموقف"( ص:162).
وأما دراسة سعيد السريحي في كتابه"شعر أبي تمام بين النقد القديم ورؤية النقد الجديد"(1983) فهي تسير في اتجاهين "أحدهما تاريخي تقويمي لموقف النقد والبلاغة من شعر أبي تمام، والآخر تحليلي لشعره" (ص:165).
وتكرس عملياً انعتاق السريحي في اتجاه فهمه الأبيات الشعرية في علاقة مكوناتها بعضها ببعض مع السعر إلى فهم اختيار الشاعر لها دون سواها سواء في اللفظ أو التركيب أو في العلاقات التي تنسجها داخلياً وتدل بها خارجياً" (ص:166).
ويختم هذا الفصل بالعمل النقدي لمحمد مساعدي الذي تناول شعر أبي نواس من خلال نقاده القدامى ورغم عيبه بأنه صب مفاهيم نظرية التلقي بشكل آلي (ص:171) غير أنه عمد إلى قراءة الشعر قراءة "تفاعلية" بين النص وقرائه المتعاقبين (ص:172).
وفي ختام كتابه - وأعني الواد - ينظر إلى أنه أخرج من مملكة النقد المتعلق بالنظرية الأدبية نقاد النظرية البلاغية التي لا ترى في النصوص الشعرية "كائنات من كلام تعيد صياغة الكلام الذي تستعمله وتصوغ من صوغها له ولنفسها صياغة لوجود بينه وبين الوجود المألوف من ضروب المناسبة والاختلاف ما ينزله في الحيز الذي يتنزل فيه" (ص:180).
وحين يؤكد عبارته"وجود الأعمال الأدبية في مملكة الأدب ليست ثابتاً قاراً" (ص: 179) فإن الدراسات النقدية الحرباوية التي تستملها مطايا لأغراضها "تسقط في النسيان" وهي "أردأ الدراسات" إذ تعمى عن لا محدود الثراء في ذلك الكنز وهو العمل الأدبي ومنه الشعري.
إذا كان الكتاب يحاول أن يقدم تسويقاً مبطناً - أو معيارياً - بين من لا يستخدم نظرية التلقي وهي إحدى مناهج النقد التابعة لسياق النظرية الأدبية لا النظرية البلاغية التي تبتلى الأعمال الأدبية والفنية أيضاً بها من الأوساط الأكاديمية في حقولها اللغوية والتاريخية والاجتماعية والنفسية إلخ..، فهو يضيق الخناق على نفسه في عدم متابعة نصوص نقدية خارج السياق الأكاديمي، والوسط التعليمي الذي ينتمي إليه الناقد والأستاذ الواد الذي بدوره ناشره حين عرفه لم يذكر نصوصه الأدبية بل اكتفى بدراساته النقدية والأكاديمية رغم إصداره قبل هذا الكتاب رواية "روائح المدينة" (2010)، وذات العام لكتابه النقدي روايته"سعادته السيد الوزير"(2011).
هوامش:
*"نظرية التلقي: هي تلك المشاركة الفعالة بين النص الذي ألفه المبدع والقارئ المتلقي. أي إن الفهم الحقيقي للأدب ينطلق من موقعة القارئ في مكانه الحقيقي وإعادة الاعتبار له باعتباره هو المرسل إليه والمستقبل للنص ومستهلكه وهو كذلك القارئ الحقيقي له: تلذذا ونقدا وتفاعلاً وحواراً".(حمداوي، أفق، 2006).
روابط:
منهج التلقي أو نظرية القراءة والتقبل.. د. جميل حمداوي، مجلة أفق الثقافية، 11 يوليو 2006:
http://ofouq.com/today/modules.php?name=News&file=article&sid=3210
حسين الواد: لدينا محترفو ثقافة ومرتزقون بها وليس مثقفين بما تعنيه الكلمة، حوار حكمت الحاج، البيان الثقافي، 2 مارس 2003، العدد 160(منقول في جهة الشعر):
عن جريدة الرياض.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |