Alef Logo
المرصد الصحفي
              

الحرب على الإرهاب لم تبدأ بعد: مقدّمات لتفكيك “السينيزم” المقلوب / آدم فتحي

2015-05-09

“الكلب الأوّل” كان حكيمًا. إنّه ديوجين سلَفُنَا، سَلَفُ الكلبيّين جميعًا، الذي اختار أن “ينبح”، أي أن يُجاهر بالقول الساخر والفكر النقديّ والسؤال المؤرّق، أن يسكن برميلاً، أن يتشمّس على هضبة كرانيون، حاملاً مصباحًا في وضح النهار، يائسًا من العالَم محافظًا على تفاؤله بالإنسان، وإلاّ ما كان يستوقف المارّة ليوجّه إليهم رسالةً توضّح لهم الطريق إلى السعادة. لهذه الأسباب أُطلِقَ عليه اسم الكلب، وإلى هذه التسمية ينسب أغلب المؤرّخين مفهوم “الكلبيّة” أو “السينيزم”، مُقرّين بوجود قرابةٍ شديدة بين خصال الكلب وخصال كلّ ممثّل لهذه “الفلسفة”.
فلسفةٌ تستخفّ بالمظاهر وتلعب باللغة وتسخر من الجدّ الكاذب، لكنّها وفيّة لجوهر الإنسان. ترى في قسوة الحياة رياضةً للفكر لكنّها تميّز بين القسوة والهمجيّة. تعتبر الزهدَ في البهرج الاجتماعيّ شرطًا من شروط الحريّة لكنّها لا تكفّر الآخر المختلف. تلجأ إلى الطبيعة هربًا من رغبة المدينة في ترويض الفرد ونهجًا للتجرّد من النفاق المتنكّر في زيّ الأخلاق، لكنّها لا تذهب بالطبيعة إلى حدّ التوحّش والتفصّي من كلّ قانون مدنيّ.
كيف أمكن لفسلفة قديمة إنسانيّة مثل هذه أن تصبح آفةَ العصر؟ هكذا كان سياق سؤال ملفّ “لو ماغازين ليتيرير” لعدد شهر آذار 2014. وفيه يُذكّرنا فرنسوا لوات بأنّ الكلبيّة اليوم من الناحية السيكولوجيّة، تعبيرٌ عن يأسٍ شامل من المبدئيّة وتخلٍّ عن خدمة أيّ مصلحة غير المصلحة الشخصيّة، وهي من ثمّ نوعٌ من الأنانيّة الوقحة التي يسمّيها فرويد “سخرية الرذيلة”.
من هذا المدخل، أريد التوقّف عند دعاوى الحرب على الإرهاب التي أصبحت تتهاطل علينا من كلّ حدبٍ وصوب، بينما الإرهاب يزداد عربدةً وانتشارًا. حتى بات من المعقول الزعم بأنّنا أمام حرب “مع” الإرهاب لا “عليه”! لأنّ الحربَ على الإرهاب تقتضي شروطًا عدّة، في مقدمها التخلّص من هذه الكلبيّة الزائفة أو “السينيزم” المقلوب الغالب على الخطاب السائد.
علامات على الطريق
حدث في تونس بعد “غزوة متحف باردو” ما حدث في فرنسا بعد “غزوة شارلي إيبدو”: استنكار عامٌّ قام لأيّام أو لأسابيع بإخفاء الفجوة الفاغرة بين الشعب والنخَب. استنفار شامل محا الفوارق بين معظم الفرقاء السياسيّين. هبّةٌ جماعيّة آلت فيها الغلبة إلى رصّ الصفوف دفاعًا عن الحريّة والمواطَنة ومبادئ الجمهوريّة وقيم الدولة المدنيّة، ثمّ مسيرةٌ وطنيّة دوليّة كبرى تداعى إليها خصوم الأمس كي يقولوا بصوت واحد “لا للإرهاب|!
ثمّ ماذا؟ لا شيء يُذكر باستثناء اصطدام البلادين بصعوبة التصدّي للإرهاب أمام عودة”حليمة“السياسيّة بسرعة إلى عاداتها القديمة: الاصطفاف الإيديولوجيّ والهراش الإعلاميّ والمزايدات السياسواتيّة والتسويف البرلمانيّ في كلّ ما يتعلّق بخصوصيّة الحدث الإرهابيّ والبحث عن أكباش فداء أو عن حلول جزئيّة هي في معظم الأحيان حركات استعراضيّة شعبويّة ذات مردوديّة انتخابيّة مفترضة لا تعالج جوهر المشكلة.
النقطة الإيجابيّة الوحيدة في كلّ هذا، تتمثّل في يقظة الوعي النقديّ بعد غيبوبة. انقشعت حماسةُ ردّ الفعل وأخذ صنّاعُ الرأي في فرنسا يشيرون إلى أنّ من غير المعقول أن يشارك في المسيرة ضدّ الإرهاب ممثّلو الدّول المسؤولة عن وجوده ودعمه وتمويله، كما أخذ زملاؤهم التونسيّون يرفعون الصوت منادين بضرورة الفرز بين المتضرّرين من الإرهاب والمستفيدين منه كي تكتسب الحرب على الإرهاب صدقيّتها المطلوبة.
إلاّ أنّنا لم نكتشف بعدُ، لا هنا ولا هناك، ترجمةً واقعيّة لهذا الوعي النقديّ الخَطابيّ! وظلّ الجميع حتى الآن أشبَهَ بجوقة كرنفاليّة يتبادل عازفوها الأدوار أمام عصا قائد أوركسترا غير منظور، لا هَدَف له إلاّ إيهام الجمهور بأنّ حربًا بدأتْ في حين أنّها لم تبدأ بعد ولا شيء يدلّ حتى الآن على أنّ بدايتها وشيكة! تلك هي علامات السينيزم المتنكّر في عريه الفاضح.
انقلاب المارد على سيّده
من علامات الكلبيّة أو”السينيزم“الغالبة على طريقة التعامل مع ظاهرة الإرهاب، إصرار جانبٍ كبير من”فطاحلة التفكير والتحليل السياسيّ“على اختزال المشهد في صورة علاء الدين وهو يفرك قنديله السحريّ فيخرج منه عفريت يقول له”حبّيك لبّيك“، ثمّ يكشّر عن أنيابه وينقلب عليه! هكذا”يفسّرون“عربدةَ”القاعدة“وربيبها”داعش“! مارد يخرج من قمقمه عند الطلب كي يستطيع سيّد القمقم أن يمارس الابتزاز ويستبدّ بالأمر. إلاّ أنّ ماردَ الواقع (”القاعدة“في الأمس و”داعش“أو”بوكو حرام“اليوم) يتمرّد على سيّده وعلى حدود”المهمّة“ويرفض العودة إلى القمقم!
لا يخلو التفسير المؤامراتي من وجاهة نسبيّة وإغراء أكيد. وإذا كان لا بدّ من الابتعاد عن نظريّة المؤامرة، فإنّنا لا نستطيع إنكار وجود مؤامراتٍ كثيرة على امتداد مراحل التاريخ. إلاّ أنّ من الخطأ الفادح أن نكتفي بنظريّة المؤامرة لتشخيص عاهاتنا وتحديد استراتيجيّاتنا. التوظيف معتَرفٌ به على أعلى المستويات (راجع تصريحات السيّدة كلينتون وتصريحات كيري الأخيرة). كما أن ظاهرة”انقلاب المارد على سيّده“ليست جديدة، لا بالنسبة إلى حروب الدول العظمى بعضها ضدّ بعض ولا بالنسبة إلى ما سُمِّي بحروب الاستقلال في معظم البلدان التي شهدت استعمارًا.
لقد لعبت حركات المقاومة الوطنيّة في العديد من بلاد العالم على”الحبْل“نفسه للافادة من صراعات مستعمريها الداخليّة والخارجيّة، ثمّ”حاولت الاستقلال بأمرها“عند أوّل فرصة. الظاهرة نفسُها تجلّت أكثر من مرّة وبأكثر من طريقة لدى جلّ الحركات التي زاوجتْ إلى حين بين واجهةٍ سياسيّة وواجهة مسلّحة قبل أن تنتهي إلى المأزق نفسه: رغبة البندقيّة في الاستئثار بالحكم ما إن تشعر بأنّها هي”الرقم الوازن“، وانقلاب القياديّين العسكريّين على الواجهة السياسيّة ما إن يتدفّق المال ويكدَّس السلاح وما إن يتعلّق الأمر بجني ثمار المعركة، مع ما يعنيه ذلك من احتراب داخليّ شرس قد يكون أكثر دمويّة من الحرب ضدّ العدوّ المشترك.
هذه”المتلازمة“بيئة حاضنة لكلّ ظواهر الإرهاب (السابقة واللاحقة). وهي بيئة شهدت تحوّلاً شكلانيًّا في الغرب نتيجة استنفاد رأس المال الدمويّ والانتقال إلى الاستثمار في مجال الرمز: ذهبت القوّة إلى أقصى ممكناتها فانقلب عليها الجمهور، وطردها من المدينة في صيغتها الفجّة المباشرة، واستبدلها بلعبة سياسيّة لا تقلّ عنها بطشًا لكنّها تجعل السلاح حكرًا على الدولة وتعترف للسياسة، أي للرأس، بالأسبقيّة على المخلب.
أمّا عندنا فقد ظلّت حجّة القوّة سيّدةً على قوّة الحجّة، مهما اجتهد المجتهدون في إحكام الإخراج والديكور. لم تترسّخ فكرة المواطنة ولم نستوعب مفهوم العيش معًا، بل رُوِّج في أفضل الأحوال لفكرة التدافع الاجتماعيّ أو التوافق الإرغاميّ المُملَى من الخارج في أكثر الأحيان. هكذا نفهم أن يصبح سلاح المقاومة أحيانًا، عبئًا على مدنيّة السياسة. هكذا نفهم أن تتوق الأجنحة المسلّحة لبعض الحركات إلى الحلول محلّ الواجهة السياسيّة. هكذا نفهم أن يكون للاستبداد باسم الدنيا علاقة وثيقة بالاستبداد باسم الدين، مهما ظهر من تبايُنٍ بينهما، وأن يكون لكليهما، مهما كان الخطاب، طُرقٌ مباشرة أو التفافيّة تضعهما في حلفٍ موضوعيّ مع السلفيّة الجهاديّة.
الحرب في المكان الخطأ:
الحربُ على الإرهاب (أو على”داعش“باعتباره اليوم الجزء الظاهر من الأخطبوط الإرهابيّ) حربٌ ضروريّة، لكنّها تدارُ حتى الآن بالطريقة الخطأ وفي المكان الخطأ. لأنّ من العبث أن تُعلَنَ الحربُ على أيّ طرف في غياب استراتيجيا واضحة المعالم لما بعد الحرب، ولأنّ من العبث أنّ تُشنّ الحرب على عدوٍّ مزمن متفشٍّ في أكثر من مكان ومنتشر في أكثر من مرحلة كأنّه ظاهرة جديدة محصورة في مكانٍ معيّن وفي مرحلة معيّنة.
الإرهاب، سواء أكان من خلف عمامة أو من تحت خوذة، ليس ظاهرة جديدة بل هو تتويج لسيرورة، وهو المُعادِل الموضوعيّ أو الاسم الحركيّ للتخلّف. نحن هنا أمام”ثنائيّ“متلازم متكاتف لم يظهر اليوم ولم يُولد فجأة ولم يهبط علينا من المرّيخ بل أنجبناه بأنفسنا وزرعناه في أرضنا وسمحنا له بالنموّ دون وعي حينًا وعن وعيٍ في أغلب الأحيان، من خلف أقنعة كثيرة وعلى مراحل وفي فضاءات مختلفة، ولديه مموّلون وداعمون في البرلمانات وقصور الفخامات الحكوميّة والرئاسيّة، مرورًا بالشارع، وصولاً إلى الفضاءات الإعلاميّة المقروءة والسمعيّة البصريّة.
في عبارةٍ أخرى:”داعش“ليس سوى الوجه الدمويّ الهمجيّ السافر لحلف الفساد والاستبداد والمافيوزيّة، وهو ليس سوى النتيجة الطبيعيّة لرواسب القبليّة والطائفيّة والعنصريّة المتنكّرة في زيّ الهُوَويّة القوميّة أو الدينيّة أو الإيديولوجيّة، وهو ليس سوى تعلّة لقتل العقل وفصل السياسة عن الأخلاق بهدف إنتاج رعايا يحرّضهم الخوف على الخضوع إلى أنواع العبوديّات المختارة، وهو ليس سوى أعراض مرضٍ مزمن يغزو الجسد الجماعيّ مثل السرطان ليقتل فيه كل إمكان لتأسيس دولة العيش معًا، دولة المواطنة والتمدّن والكرامة والمؤسّسات والعدل والحقوق والحريّات والتقدّم.
الحرب على الإرهاب من خلال مواجهة”داعش“ومرادفات”التدعيش“، حربٌ ضروريّة شأنها في ذلك شأن كلّ حربٍ على أعراض مرضٍ من الأمراض. لكنّ مواجهة المرض الحقيقيّة تتمّ على صعيد أسبابه ولا تكتفي بالأعراض. ولن تصبح الحرب على الإرهاب حربًا رابحة ما لم يتمّ العمل بالتوازي على مواجهة الدواعش والقاعديّين والبوكو حراميّين المزروعين داخلنا، في ذهنيّتنا، في لغتنا، في خطابنا السياسيّ، في عدد كبير من أحزابنا وجمعيّاتنا، في علاقاتنا الاجتماعيّة، في فضاءاتنا الفكريّة والتربويّة، في ذهنيّتنا السلفيّة التي نتعامل بها مع الحاضر والمستقبل، أي في جانب كبير من جوانب حقيقتنا السياسيّة والثقافيّة والإعلاميّة.
الحرب في الاتّجاه الخطأ
وقف ديوجين على النقيض من مسلّمات عصره. رافضًا حكمة الصمت، رافعًا النُباح إلى مرتبة الحكمة. ولم ينقطع نسله برحيله فقد تطوّر نهجه على أيدي المبدعين الذين اتّخذوا الكلبيّين موضوعًا لأعمالهم، أو ارتقوا بمفهوم”السينيزم“إلى مستوى الأسلوب بواسطة الحيل التي استنبطوها للإبداع ومن خلال الشراك التي لا بدّ من إحكام نصْبها للوصول بالمتلقّي إلى نوع من الخيبة المستحبّة. من ثمّ، لا يخلو نصّ أو فكرٌ أو عملٌ إبداعيّ من بعض”السينيزم“إلاّ كان جسدًا بلا روح أو وردةً بلا رائحة.
إلاّ أنّ السلالة الكلبيّة سرعان ما تشوّهت بفعل الفجوة المتزايدة بين الفكر والسياسة وبين السياسة والأخلاق! كان ديوجين ينبح دفاعًا عن ذاته من طريق إيقاظ الآخر. اليوم أصبح شعار الكلبيّين”ليس الآخر بالنسبة إليك سوى وسيلة للحصول على ما تريد“. لذلك قال إيميل سيوران إنّ الكلبيّ الجديد ينظر إلى العالم من خلال عيني الثعبان الأوّل، الميت الإحساس، الذي شهد واقعة التفّاحة، والذي لا يقول ولا يفعل إلاّ كلّ ما يقتل الإحساس.
هكذا رأينا أحد وزراء بورقيبة يردّد في ثمانينات القرن العشرين ما قالته ماري أنطوانيت في العام 1789:”إذا لم يكن لديهم خبز فما عليهم إلاّ أنّ يأكلوا البريوش“! هكذا رأينا كريستين لاغارد تدعو العاطلين عن العمل إلى تأسيس شركاتهم الخاصّة(!) في تناغُمٍ كامل مع هلوسة أحد حكّام تونس الجدد وهو يسأل الشهداء في العام 2012”من قال لكم عرّضوا أنفسكم إلى الرصاص؟!“.
هذه الكلبيّة المضادّة، التي تتعمّد الذهاب في الاتّجاه الخطأ، هي التي نقف عليها اليوم حين نشاهد أشرطة الفيديو التي تصوّر جلاّدين يذبحون الأبرياء ويقطعون الرؤوس باسم الدين، في تناغُمٍ كامل مع نشرات الأخبار وهي تصوّر جلاّدين لا يقلّون عن زملائهم وحشيّة يهدّون البيوت على رؤوس أصحابها باسم الدفاع عن النفس أو باسم الحرب على الجلاّدين الآخرين!
هكذا أتاح”السينيزم“كَيْلَ التوحّش بمكيالين، وأتاح من ثمّ للتدعيش ومرادفاته بأن يتفشّى ويستفحل. كيف يمكن التمييز بين الإرهاب ونقيضه حين يُبَرَّر هنا ويُستَنكَر هناك؟! كيف يمكن تصديق الحرب على الإرهاب حين تقودها أنظمة إرهابيّة، هي الأنظمة نفسها التي صنعت الإرهاب أو الأنظمة التي فتحت للإرهابيّين الحدود وموّلتهم وسلّحتهم كي يكونوا مخالبها في معاركها الداخليّة أو الخارجيّة؟! ماذا ينتج عن كلّ هذا”السينيزم“حين يُفضَح، غير أن يصبح الإرهاب والتوحُّش مسألةً نسبيّة ومجرَّد وجهة نظر؟!
هذا”السينيزم“المتفشّي والمستعاد من طريق ضربٍ من السلفيّة الخطابيّة، هو الذي جعل الشعوب العربيّة الثائرة تكاد تشكّ في ثورتها وهي تراها توصل إلى الحكم رجعيّين لا يرون في الإمكان أبدع ممّا كان قبل قرون، أو تعود إلى الحكم بنكوصيّين لا يفهمون أنّ الوفاء لإيجابيّات عبد الناصر وبورقيبة وقاسم أمين والحدّاد والثعالبي يكون بالذهاب قُدمًا وليس بإحياء العظام وهي رميم. فإذا حيتان المال وحيتان السياسة هم أنفسهم مع رتوش قليلة، ينعمون بالتحالفات الخارجيّة والداخليّة نفسها، محرّكين المخالب الأمنيّة والإرهابيّة نفسها لمساومة المواطنين على حريّتهم وخبزهم بالأمن.
”السينيزم“المقلوب
هكذا انقلب”السينيزم“على نفسه، فإذا الجميع شركاء في جريمة قديمة جديدة: جريمة الحرب على العقل أو الحرب على الرأس، من خلال التواطؤ على محو الخطوط الفاصلة بين الانتخاب والبيعة، بين الديموقراطيّة والاستبداد، بين الداء والدواء، بين الضحيّة والجلاّد، بين المقاوم والإرهابيّ، بين الطبيعيّ والباثولوجيّ.
نتج من ذلك، إهمالُ السؤال المطروح والردّ على السؤال الذي لم يُطرح. مثل حملة”ليس باسمي“، التي دُفِع أو تدافع إليها مسلمو بريطانيا وفرنسا وغيرها من بلاد العالم بعد اغتيال الأميركيّين والفرنسيّ. أوّلاً لأنّ التفصّي من قاطعي الرؤوس لا يعني شيئًا في غياب شغلٍ حقيقيّ على النصوص والفتاوى والأدبيّات التي حرّكتهم، وفي غياب حسمٍ طال إرجاؤه لمسألة إعادة الدين إلى مجاله الذاتي بعيدًا من الشأن العامّ. وثانيًا لأنّنا أمام توحُّشٍ استبشعه الجميع لأسبابٍ تتخطّى كونهم مسيحيّين أو مسلمين، لكنّ ماكينة الوصم (La stigmatisation) سرعان ما شرعت في بثّ سمومها متسائلة عن ردّ فعل”الجالية الإسلاميّة“ومدى”ارتقائه“إلى مستوى بشاعة الحدث! في حين لم يدعُ أحدٌ مسيحيّي أوروبّا إلى حملة مماثلة يوم 22 تموز 2011، حين عمد النروجي أندرس بيرينغ إلى قتل أكثر من 80 شخصًا، بدعوى تعاطفهم مع الفلسطينيّين.
هذا”السينيزم“المقلوب هو الذي يلغي كلّ نجاعة عن التباين مع التكفيريّين من خلال البلاغة أو الحملات الاستعراضيّة، كما يُشكّ في مردوديّة الحرب على الإرهاب حين تقودها دولٌ صنعت الإرهاب وفتحت له الحدود ومدّته بالسلاح وزوّدته المال! وهو الذي يشكّك في نجاعة مواجهة التكفيريّين حين نشاهد الطائرات تضرب خزّانات النفط (لحاجات في نفوس يعاقبة كثيرين) بينما لا أحد يضرب خزّانات التكفير الكامنة في الخيارات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والتربويّة، أو في المجالس النيابيّة والوزارات والمساجد والسجون التي أصبحت مصانع لتفريخ الإرهاب ورديفه التخلّف، وحتى في فضاءات التعليم التي أصبحت تنتج في أفضل الأحوال متعلّمين غير مثقّفين، أي حفظة، أي سلفيّين، غير قادرين على التفكير في أنفسهم.
في السلفيّة الكلبيّة
هذا النوع من”الكلبيّين“هو الذي أصبح سائدًا اليوم. لذلك يطرح فرنسوا لوات السؤال المزعج منذ بداية ملفّ”لو ماغازين ليتيرير“المذكور: متى أصبح”السينيزم“ظاهرة حضاريّة جماعيّة وليس سيرة فرديّة؟ لكنّ السؤال يظل بلا جواب. لعلّ ذلك راجع إلى أنّه لم ينتبه إلى تحوّل السيرة الفرديّة إلى سلفيّة فكريّة.
السلفيّة، مهما كانت، ليس سوى انقلاب على الأصل الذي تدّعيه. إنّها نهر يكفّ عن حفْر مجراه ويعود إلى منبعه ناسيًا أن عودته خيانة. السلفيّة الفكريّة تُبطل الفكر وتحيي التكفير. السلفيّة الجهاديّة تقتل الجهاد وتُحيي القتل.
يئس ديوجين من كلّ شيء لكنّه ظلّ متفائلاً بالإنسان. لذلك كان حريصًا على إبلاغه رسالةً ما. إلاّ أنّ أحفاده أصبحوا”سلفيّين“يمارسون نوعًا من”الكلبيّة المضادّة“، باسم الدنيا وباسم الآخرة، على اليمين وعلى اليسار، من خلال شبكات وطوائف وعصابات مافيوزيّة وأحزاب وأحلاف وحروب رمزيّة وماديّة وشجرة سلاليّة مترامية الأطراف عابرة للثقافات.
مثل كلّ السلفيّين انقلب ورَثَةُ الكلب الأوّل على جوهر ميراثهم: ورثوا كلبيّة ديوجين وضيَّعوا حكمته! أخمدوا النباح وأطلقوا النواح! قتلوا الحكيم وأحيوا الكلب! وحين أصرّ الكلب على مواصلة النباح قطعوا رأسه! من هذه الزاوية ينبغي أن نفكّك المشهد، لعلّنا نظفر بما يجعلنا نفهم أنّنا لسنا أمام ظاهرة محض دينيّة، بل أمام حرب على الرأس تُشنّ على أكثر من جبهة، وأمام حلفٍ بين الإرهاب والتخلّف، علينا أن نقرّ بأنّ الحرب عليه لم تبدأ بعد.
محاولةٌ للفهم
لم يعد خافيًا على أحد، في ضوء هذا كلّه، أنّ الإرهاب ليس مجرَّد مشكلة أمنيّة طارئة على الجسد الجماعيّ، بل هو أوّلاً أداةُ حكمٍ وهيمنة، وهو ثانيًا نتيجةٌ مباشرة لغياب الفكر السياسيّ واختزال السياسة في نشاطٍ حركيٍّ (Activisme) مفتوح على الشيء ونقيضه، وهو ثالثًا ثمرة تهميشٍ اقتصاديّ واجتماعيّ وتصحيرٍ ثقافيّ نشأ عنهما انهيارُ القيم المثاليّة أمام قيم الأمر الواقع، كما نشأ عنهما عجزٌ عن اجتراح مثلٍ أعلى (Un idéal) جاذِب يمكن اقتراحه على شبابٍ عجَزَ عن تحديد هويّته ودوّخَه التمزّق بين الحاجة المفرطة والاستهلاك الكاسر، وغدا فريسةً للاستقطاب وبات من السهل تحويله إلى عبوّات ناسفة.
في ضوء هذا التشخيص اتّضح التشابه حدَّ التماهي بين الإرهاب والتخلّف بشكلٍ عامّ. وبات واضحًا أنّ الحرب على الإرهاب شأنها في ذلك شأن الحرب على التخلُّف، تظلّ شعارًا فضفاضًا، ما لم يُهزَم الأطرافُ الذين يستعملون الإرهاب والتخلُّف أداةً للحكم أو وسيلةً للهيمنة، وما لم يتمّ عقد صلحٍ جديدٍ بين الفكر والسياسة وبين الفعل السياسيّ والأخلاق بمعناها الإيطيقيّ العميق القادر على التجسّد في وعيٍ نقديّ متفتّح وفي مُثُلٍ عليا متجذّرة في الأرض، وما لم يتمّ العمل على الواجهة الأمنيّة بالتوازيّ التامّ مع الجبهات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والتربويّة الثقافيّة.
ليس من شكٍّ في ضوء ما سبق، أنّ كلّ خطاب يلتفّ على هذا التشخيص ويجزّئه أو يُرجِئه هو خطابٌ ديماغوجيّ زائف، لا يخلو من”السينيزم" الفاحش، الذي يجعل من الحرب على الإرهاب (كالحرب على التخلُّف) حربًا وهميّة لم تبدأ بعد، ولن تبدأ ما دام مُشعِلوها يحتكرون فيها دور الإطفائيّين!
عن ملحق النهار
تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow