اعتداء صارخ على إرادة بابلو نيرودا / بول شاوول
2015-05-21
نشر قصائد للشاعر التشيلي قد تبرأ منها في حياته:
اعتداء صارخ على إرادة بابلو نيرودا
هل يحق لورثة شاعر أو فنان أو كاتب أو فيلسوف... أن ينشروا كتاباً بعد رحيله، خصوصاً إذا كان المؤلف نفسه لم ينشره عمداً ضمن أعماله، لاعتقاده أنه «دون المستوى» أو أنه من بداياته الخجولة أو الواعدة، والتي لم يكن قد استكمل عدّته الكتابية؟ إنه سؤال مهم، يعود إلى مئات السنين، دون حل من دون احترام لإرادة الكاتب.
وهذا ما حصل مع كثيرين؛ خصوصاً عندما تصبح دور النشر متلهفة لأي جديد بعد رحيل الكاتب، لا سيما إذا كان كبيراً، ويتمتع بشهرة واسعة، أو برواج في بيع كتبه. وهذا ما حصل عندما كانت تنشر أحياناً قصائد، أو شذرات آراء، أو روايات غير مكتملة، أو قصاصات خلفها الكاتب وراءه، من دون أن تدرك المطابع.
هذا حصل مع رواية ألبير كامو «الرجل الأخير» غير المنجزة، عندما نشرت بموافقة الورثة (علماً أن كامو الذي قتل بحادثة سير لم يتسن له أن يمنع نشرها).
وهذا ما حصل مع بعض ما نشر من أبيات او قصائد لبول ايلويار. وقبل أشهر، صدر ديوان شعر حب لبول فاليري بعد سنوات من رحيله، كتبه لامرأة «سرية»، واحتفظ بالقصائد في دُرجه. وبعد سنوات من المباحثات، وإقناع أقرباء الشاعر الراحل، لا سيما ابنته، بالسماح بنشر هذا الكتاب... صدر وكان مجموعة من القصائد والرسائل الرائعة!
إنها نصوص «حميمة» لعلاقة حميمة، ازدادت ذيوعاً بعد نشرها. السؤال: ما كان يمكن أن يقول فاليري، بعد توزيع أسراره الشعرية وخصوصياته، وهو الذي كان معروفاً كمفكر بجدية، وهيبة، وبهالته الأكاديمية؟
وماذا نقول عندما أقدمت شقيقة الفيلسوف الألماني الكبير نيتشه، على تشويه أحد كتبه بعد موته، وتغيير مضامينه، لتتلاءم فلسفته مع النازية، وليستخدمها هتلر في دعاياته السياسية، ويشوه بذلك موقف نيتشه من العالم؟
وماذا نقول عن رواية الكبير نجيب محفوظ «أولاد حارتنا» التي اعتبرها بعض المتطرفين الإسلاميين أنها «مس بالذات الإلهية»، وكفّر محفوظ على أساسها وأهدر دمه، خصوصاً وأن الرواية لم تصدر طبعتها الأولى في مصر بل في بيروت؛ ليعاد نشرها في إحدى المجلات المصرية بعد رحيل الكاتب.
ونذكر هنا أن محفوظ، في حياته، كان قد «تبرأ» منها، بعد الضغوط الهائلة، والتهديدات، التي مورست عليه؟
وحتى شكسبير تعرض، وإن من جانب آخر، لمثل هذه القضية، عندما ادعى بعضهم أنه اكتشف مسرحية لم تمثل ولم تنشر لصاحب «هملت»، علماً أن الباحثين، والخبراء، وعدداً من الكتاب، لم يؤكدوا ما إذا كانت هذه المسرحية لشكسبير أو سواه، خصوصاً وأن هناك شكوكاً، حتى بأبوة شكسبير لمسرحياته.
من هنا نتساءل: ماذا لو بحثنا اليوم، عن قصائد «أولى» للياس أبو شبكة، أو أنسي الحاج، أو السياب، منشورة في بعض المجلات، ولا تتوفر فيها الشروط الفنية، ونشرناها بعد رحيل هؤلاء؟ إنه سؤال فني، وأخلاقي، وثقافي: فإذا كان هؤلاء «تنصّلوا» أصلاً من تبنّي هذه النصوص لضعف مستوياتها، وتركوها في بطون المجلات والبواكير أو في الادراج، فهناك أمور خاصة مرتبطة بحالات الكُتّاب، وظروفهم، وحساسياتهم، ومفاهيمهم، يجب احترامها، كأنها وصايا. فعندما «يتبرأ» الكاتب، بطريقة غير مباشرة، من بعض ما كتب أو نشر، فهذا التبرؤ هو نوع من الوصية «المقدسة» التي يجب التقيد برغبة الكاتب فيها، كأنما تنشر رغماً عن الشاعر، ما يمتلك الشاعر أو تفضح خصوصيات ما كان يريد أن يفضحها لأسباب كثيرة، قد تكون سياسية أو حميمية، أو دينية، أو فكرية.. بل كأنما هو اعتداء على حرية الكاتب بعد موته! وبعد عدم قدرته على الدفاع عن نفسه أو مناقشة نتاجه. استغياب الغائب، في أقدس ما عنده.
[ نيرودا
اليوم، وصل الدور إلى الشاعر التشيلي الكبير بابلو نيرودا (صدر لي كتاب مختارات ومقدمة يتضمن قصائد من كل مراحله: منذ بداياته وحتى ما صدر بعد رحيله بعنوان «بابلو نيرودا، مختارات من شعره»). وكلنا يعرف أنه شاعر سياسي وإيديولوجي (شيوعي ويساري)، وملتزم، لم يفصل الشعر لا عن مشاعره الخاصة ولا عن القضايا العمومية. مناضل كبير، يروى أن الطاغية بينوشيه قد قتله بعد الانقلاب الذي نفذه في تشيلي. وعندما أقول أنه شاعر سياسي، فيعني أن الشعر عنده، أحياناً، وفي ظروف محددة، يخدم قضية أو فكرة، وصيغ بطريقة مباشرة، لا تتجاوز قيمتها المناسبة نفسها. نيرودا مزق عشرات القصائد التي حملت مثل هذه «الوظائف» المتصلة بالسياسة، أو بالمواقف، أو حتى بالنبرة الخطابية. والمُطّلع على مجمل شعر نيرودا يعرف جيداً أن مثل هذا الشعر كان جزءاً محدوداً من نتاجه، فهو شاعر الحب، وشاعر الأرض، وكتب بأساليب وتجارب عديدة: سوريالية أحياناً، وغنائية، ومجنونة، وجريئة، وحميمة، ووطنية، بل وعنده أشعار رائعة عن تفاصيل الواقع، أي كل ما لا يرتبط «بالتزامه» السياسي. وقد شوهت بعض الأحزاب اليسارية والشيوعية هذا التنوع العظيم عند نيرودا، بتركيزها، أو بتقديمها، أو بترجمتها القصائد ذات «الدعاية» المناسبة الحزبية، وكأنها أرادت أن تحجب كل ذلك النتاج الداخلي، والخصوصي، واليومي.
وهذا ما فعلته بعض الأحزاب الشيوعية العربية، عندما أدخلت جزءاً من شعر نيرودا في «أجندتها» الإيديولوجية التبسيطية، وكأن هذا كل ما هو مهم عنده. وهكذا شوهت «شمولية» نيرودا، وتعدديته، وخصبه، وتعاملت معه كمجرد «عضو» في أحزابها، ينفذ مشاريعها التكتيكية، علماً أنه شاعر عندما تقرأه كله يبدو «كقارة» شعرية، واسعة، متحررة، تنقل «النضال» من القضايا السياسية إلى الإبداع نفسه. ومن قال إن الإبداع الخاص لا ينتمي إلى الثورات وحتى الإيديولوجيات الكبرى؟ أي الثورة في اللغة الشعرية نفسها، هي الوجه الآخر للثورة الثقافية أو الفكرية.
[ الفضيحة
نيرودا، تعرض هذه المرة لاعتداء من نوع آخر: لا سياسي، ولا حزبي، بل ترويجي، لكي لا أقول تجارياً. والمشكلة التي أثارت سجالاً كبيراً في تشيلي وإسبانيا هي إصدار كتاب شعري يتضمن قصائد غير منشورة للشاعر بعنوان «قدميك المسهما في القمة» عن سيكس بارال، في تشيلي، ثم في إسبانيا، ولم تترجم بعد لا إلى الإنكليزية ولا إلى الفرنسية... ولغات أخرى.
وقد أعلن الشاعر المرموق ومدير دار نشر «سيكس بارال» «أنه أكبر اكتشاف في هذه السنوات الأخيرة في الآداب الإسبانية، حدث ضخم في الأدب العالمي»، في إعلانه العثور على 21 قصيدة لنيرودا.. ظهرت المجموعة في تشرين الثاني في سانتياغو وفي بداية 2015 في إسبانيا. لكن تصريحات الشاعر المذكور صاحب دار النشر المذكورة، لم يُحل دون هبوب عاصفة من الاعتراض، والإشكالية، والسجال بين الكتّاب والشعراء.
فقد ارتفعت أصوات عديدة تنتقد قرار نشر هذا القصائد التي فضّل الشاعر إهمالها، وحتى نشرها في الجرائد والمجلات في زمنه، فبأي حق يعاكس صاحب دار النشر إرادة شاعر كبير كنيرودا.
ومن الأصوات التي ارتفعت مستنكرة الإقدام على هذه الخطوة، الديبلوماسي التشيلي خورخي إدواردز في جريدة «الباييس« (إحدى كبريات الصحف الإسبانية) «إذا كان كاتب مثل نيرودا ترك بعض نصوصه غير منشورة، فلأن ذوقه الخاص، وحكمه النقدي، وحسه التأليفي، جعلته يرميها، وكان يختار القصائد التي ينشرها، وينسى منها ما لا يؤمن به».
فهذا الأخير، وهو قريب من نيرودا، نظم مع أرملة الشاعر نشر مختارات من أشعاره الأولى في بداياته تحت عنوان «النهر غير المرئي» عام 1980. نصوص هذا الإصدار لم تكن رأياً سلبياً من قبل الشاعر في حياته. ولهذا لم تثر أي ضجة. لأن نيرودا، وكما يعلم ناشروها، كان إلى حد ما راضياً عن هذه «القصائد»، وعلى علم بأنها تشكل إشارات إلى تجاربه المقبلة.
[ بلا اقلاع
«في هذه النصوص غير المنشورة التي أزاحها نيرودا عن مؤلفاته، يتملكنا أحياناً شعور أن الوحي سيقلع لكن القصائد مكررة دائماً، وتترك انطباعاً ناقماً بأنها بلا قيمة ولا جدوى. على كل حال، فإن اللحظات الغنائية التي تحوم حول بعض النصوص هي بعيدة كل البعد عن تلك اللحظات الكبيرة العالية في شعر نيرودا. ظهرت أمانة في النقل، لكن لم نقرأ أن أهم تلك الأمانات وهي الخضوع لإرادة الشاعر» كما يقول بدوره الناقد الأدبي فرانشسكو ايستيفيز في جريدة «الامبرسيال» (الإسبانية) ويضيف «نجد في هذا العمل كتاباً جيداً بالنسبة إلى «المسحورين« بالكاتب، ولكن ليس بالنسبة لهواة الشعر الحقيقيين». ويشير الشاعر الإسباني مانويل فالس في جريدة «ا.ب.ث» «ABC»، «أن نيرودا اليوم هو «ماركة» مسجلة، مثل سرفانتس، شكسبير، دانتي، لكن أيضاً مثل روبرتو بولانو الذي صدر كتابه غير المنشور «الرايخ الثالث» عام 2010، والذي أعجب المتحمسين على الرغم ما يعاني من ضعف، أو مثل خوسيه ساراماغو الذي أصدر له بعض الناشرين جزءاً من كتاب (فقط خمسة فصول) كان الشاعر يعمل عليه قبل وفاته.
يبقى أن «اكتشاف النصوص غير المنشورة المزعومة يتيح لوضع منتوج عمل أدبي في السوق كان موجوداً أصلاً منذ وقت طويل كما قال مانويل فالس. كتاب لن تقرأه بالطبع، سوى أقلية مثقفة».
وهذا ممتاز: «دون بابلو يظهر من جديد في صفحات اليوم». وهذا ما يثير حقاً الشفقة؟
ولا بد، في هذا المجال، سوى تأييد هذا الاستنكار الكبير الذي عبّر عنه نقاد وشعراء في إسبانيا وكذلك في التشيلي، وبلدان أخرى، والذي ومن حس تجاري رخيص، واستهلاكي ارخص في نشر «قصائد» بدايات، تبرأ منها الشاعر في حياته، وأبعدها عن احتمال للنشر. كأنما كان نيرودا يقول، هذه للحفظ. وهي غير مهيّأة لتعلن في العلن، وأنها لا توحي حتى بالمسار الشعري الخصب، والمتنوع، وتلك الغنائيات الملونة في كتبه التي أحدثت دويّاً عند صدورها مثل «مئة قصيدة حب» و»النشيد العمومي» و»حجارة التشيلي» و»الأوراق المنفصلة»... إلخ، والتي وضعها الشاعر كمعمارية ضخمة، أو خاضها «كقارة» مترامية الفضاءات، بكل مغامراتها، ومجازافاتها، وحسها الفني المرهف، وصوغها العالي، وقوتها التعبيرية، على غير انغلاق أو غموض، لتكون جزءاً من عقل الجماهير ومخيلته، وذاكرته، ومشاعره وقضاياه. ولهذا فنيرودا لم يكتب لفئة نخبوية معينة، أو حتى لفئة جماعية أخرى مُعيّنة، أنه كتب، وفي باله الناس، وقضايا الحرية، والديموقراطية، ومواجهة الطغاة (بينوشيه والأميركيين الداعمين لانقلاب هذا الجنرال المجرم)، والمرأة، والحدائق، والشجر، والأطفال...
كتب نيرودا فانتشرت قصائده كالهواء هنا، وكالعاصفة هناك، وكالنار هنالك، وكالدمعة، وكالصرخة، وكالهمسة... وكأنها قصيدة واحدة، كتبها مع كل الناس، لكن صاغها وكأنها فتوحات جديدة!
إنه زمن الاستهلاك، لا توفر التجارة أي وسيلة، للرواج والربح. أي تحويل كل الإرث العظيم إلى سلعة، بل ومصادرة الشعراء الكبار، والروائيين، والفلاسفة، لطحنهم في طواحينها التجارية.