Alef Logo
المرصد الصحفي
              

سورية حقيبة في السماء/ ديمة ونوس

2015-05-24

منهمكة بين الخوف والشوق. خائفة أجلس في المقعد المحاذي للشباك الصغير، ومتشوقة لأن ألمح قطعة أرض سورية. فكرت قبل صعودي إلى الطائرة أن أطلب من المضيفة طلباً صغيراً. أن تخبرني عندما ندخل إلى الأجواء السورية. ثم لم أطلب منها ذلك. وكأنه رفض داخلي للاعتراف بأنني اقتلعت من مكاني ولم يعد باستطاعتي رؤيته إلا من السماء. تلك السماء نفسها التي تسقط منها البراميل والصواريخ والغازات السامّة. رحت أتتبّع الأرض لحظة بلحظة. مررنا فوق طرابلس لأمر أجهله، ثم دارت الطائرة متجّهة من طرابلس إلى طرطوس فحمص فدمشق ومن ثم درعا على ما أعتقد. رحت أرسم طريقاً للطائرة يشبه الطرقات البرية التي أعرفها. ثم بدأت الطائرة بالاهتزاز مرتطمة بتيارات الهواء الساخن فوق صحراء موحشة. عرفت أننا دخلنا الأجواء الأردنية. وحطّت الطائرة مأخوذة بالهواء، تروح يميناً ويساراً وتتأرجح قبل أن تستقرّ على أرض عمّان.

رحت أفكّر كيف أنني منذ بدأت رحلتي مع الخوف من الطائرة، لم أنعم بلحظة هدوء لدى هبوطها! أعصابي تتمزّق بين آثار الحبوب المهدّئة وبين التوتّر المقاوم لأي هدوء. ذلك الخوف الذي من المفترض أن ينجلي عندما تحطّ الطائرة على المدرج، يظلّ ممسكاً بقلبي. عندما كنت أصل إلى مطار دمشق، وأخرج من الطائرة أتأرجح من دوار حبة المهدّئ، يقفز قلبي من خوف آخر. أمشي ببطء وكأنني أؤجل تلك اللحظة اللعينة التي تلتقي فيها عيناي بعيني عنصر الأمن الذي يتفحّصني باشمئزاز وضجر. يأخذ جواز السفر ويفتح صفحاته ببطء مغيظ. أذكر كيف أن تأشيرة الدخول (فيزا) الأجنبية على الجواز السوري كانت ذنباً ضمنياً نخاف منه نحن السوريون. يروح يتأمّل فيزا هنا وفيزا هناك بسخرية واستخفاف. وأنا على الرغم من معرفتي الأكيدة بأنني لم أرتكب ذنباً يستدعي الخوف، إلا أن خوفاً آخر عميقاً ومتجذراً في روحي، يتنطّط في شراييني ويهبط إلى معدتي. والموظف يعرف كأنه خوفي. يلعب بجواز السفر، ينقّل عينيه بضجر بيني وبين باقي المنتظرين. يمسك بالختم وينتظر. لا أعرف ماذا ينتظر. ثم يرفع يده في الهواء عالياً ويهبط بها على صفحة الجواز مصدراً صوتاً قوياً يعني الفرج.

الثورة العظيمة التي أزاحت من طريقنا قدراً يسيراً من الخوف، لم تخلّصنا حتى اللحظة من رهاب المطارات. وأنا أتحدّث بنون الجماعة إذ أن ملايين السوريين يعيشون الخوف نفسه في تنقّلاتهم العديدة بين البلدان والمطارات وعبر الحدود غير الشرعية وفي قوارب الموت.

أمشي بسرعة هذه المرة في مطار “الملكة عالية الدولي”، الأنيق، الفسيح، النظيف. كل تفاصيل المكان تدعو للاطمئنان. أصل إلى عنصر الأمن المسؤول عن ختم الجوازات. يتفحّص عيني جيداً وكأنهما مربوطتان إلى جهازه الإلكتروني. وأنا بدوري أنظر إليه مبتسمة لأداري خوفي من ألا يسمح لي الدخول إلى المدينة بتهمة أنني “أتمتع” بالجنسية السورية. يسألني عن سبب زيارتي وعما إذا سمعت بقوانين الدخول الجديدة إلى الأردن التي تمنع كل السوريين من الدخول إلى أراضيها باستثناء حاملي الإقامات الأجنبية. حتى الإقامة الخليجية لم تعد تشفع لحاملها ذنبه كسوري. قلت له إنني في إجازة اختصاراً لأسئلة أخرى مسهبة. رفع يديه في الهواء، هذه المرة كانت يداه خاليتان من الختم، الفرج. رفعهما في إشارة تعجّب من أمري. كيف يخطر في بالي أن آتي إلى عمّان، “البلد العربي الشقيق”، أنا التي لا تحمل سوى باسبوراً سورياً!

طلب مني الجلوس جانباً والانتظار. نعم، السوريون انتظروا كثيراً، أصلاً هم خلقوا لينتظروا. ينتظرون الطابور الطويل لشراء ربطة خبز ورتلاً من السيارات لملء خزّان السيارة بالوقود، وزحمة لا تطاق لدفع فاتورة الهاتف، وأياماً طويلة للحصول على موافقات أمنية لأمور حياتية تافهة، وبعد الثورة ينتظرون شهوراً للحصول على ساعتين متواصلتين من الكهرباء، وعلى الغاز والماء. ينتظرون أن يسقط النظام منذ أربعة سنوات. ينتظرون في الحرّ على أبواب الفروع الأمنية، علّهم يعرفون خبراً عن معتقل أو معذّب. ينتظرون للحصول على جثة من قتله الأمن تحت التعذيب. وينتظرون الائتلاف ريثما يصبح إنساناً كاملاً له صوت مؤثر. ينتظرون التعاطف الدولي. وينتظرون الفرج قائلين في سرّهم، المؤمن منهم والملحد: “إن الله معنا”.

انتظرت ما يقارب نصف الساعة. نادى لي الضابط. سرت باتّجاهه خائفة، هشّة، مفرّغة من إنسانسيتي لأنني سورية. إنني متهمة كباقي السوريين. إنني في تلك اللحظات مجرّد “داعشية” أو “شبّيحة”. ثورة أو نظام. إيران أو إسرائيل. إنني ذاكرة مشبعة بالخوف والترقّب والقلق. دخلت إلى الغرفة الصغيرة المليئة برجال يرتدون ملابس مدنية. تحقيق بسيط، أسئلة واضحة ومختصرة. ثم ختم يسمح لي بالعبور إلى عمّان. أتّجه بسعادة مفرطة، كمن عثر على حياته التي ضاعت بين حقائب السفر المزدحمة على أبواب المطارات، إلى مكان تجمّع الحقائب. أرى مشهداً، يشعرني في مكان ما من ذاكرتي بوجع عميق. أرى مكان الحقائب الكبير والطويل، فارغاً تماماً إلا من حقيبتي. كانت حقيبتي أنا السورية الوحيدة على متن تلك الطائرة القادمة من بيروت، تنتظرني وحيدة، في مكان موحش. الكلّ رحل. الكل صار الآن في الفندق أو البيت. وأنا أمسك الحقيبة الأخيرة المتبقية على الشريط الكاوتشوك وأخرج من المطار.

ألتقي بأصدقاء سوريين لم ألتق بهم منذ سنوات طويلة. يشرحون لي جغرافيا مدينة عمّان الصغيرة والصحراوية. يقولون إن الشارع الفلاني كشارع الحمرا. والشارع الفلاني كدمشق القديمة. وشارع آخر كالشعلان. نروح نتذكر مدننا. وأرى في أعينهم حنيناً يغلب عليه الإحباط. يستمتعون وهم يشبّهون الأحياء العمّانية بتلك الدمشقية. تمتعهم تلك الذاكرة البعيدة.

يمرّ أسبوع وأعود إلى المطار الأنيق لأركب طائرة إلى بيروت وستمرّ أيضاً فوق سورية. الخروج من عمّان كالدخول إليها، يحتاج إلى تحقيق وأسئلة واضحة ومختصرة. وأحصل على ختم السماح لي بالخروج.

أصل إلى مطار “رفيق الحريري الدولي”. وأيضاً، أنظر في عيني الموظف بارتباك. مع أنني أحمل إقامة سنوية. إلا أن الجنسية التي أحملها، تحمل بدورها مجموعة من المفاهيم الصعبة والمعقدة. وثمة مفارقة رهيبة في ذلك المطار. فأنت لا تخاف من كونك سورياً لأن النظام السوري متّهم باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري! بل لأنك ربما تكون معارضاً لذلك النظام!

عن كلنا شركاء
تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow