سقوط في هاوية «داعش» / حسن شامي
2015-05-26
ما إن جرى الإعلان عن تقدم تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) نحو مدينة تدمر الأثرية، حتى أخذت الأنفاس تحتبس بطريقة مختلفة عن احتباس الأنفاس، إلى حدّ الاختناق أمام الفظاعة السورية المفتوحة على مزيد من الفظائع.
والحق أن مجرد اقتراب التنظيم الإسلامي ذي السمعة الشمشونية الجهادية، من لؤلؤة البادية السورية، كان كافياً لحبس أنفاس من نوع خاص. إنها أنفاس القيّمين على التراث العالمي للبشرية. فمن المعلوم أن منظمة اليونسكو الدولية أدرجت تدمر الأثرية، إلى جانب ستة مواقع سورية أخرى، في عداد المواقع التراثية العالمية الجديرة بالحماية والرعاية. يمكن أن نضيف إلى القيمين بصفة مؤسساتية كل المعنيين بآثار الأزمنة والحضارات القديمة ولغير اعتبار. من الصعب أن نفصل اضطلاع الهيئات، الدولية وغير الدولية، بحماية المعالم الأثرية والشواهد التاريخية عن صورة مطلوبة للعلاقة بين أزمنة الماضي الكثيرة والحاضر.
أصبحنا اليوم في حال أصعب. فاستيلاء «داعش» على كامل تدمر بعد انسحاب القوات النظامية منها، وإخلاء المدنيين ونقل مئات التماثيل والتحف الأثرية إلى دمشق، يعد بإثارة وتشويق مشهديين قد يفوقان ما صنعه التنظيم الإسلامي بالمعالم الأثرية في الموصل ومواقع أخرى. أصبحنا أمام مشهد سريالي. بات «داعش» يحتجز مواقع أثرية حظيت طوال عقود بصيانة ورعاية شبه طبية، ولاعتبارات لا تقتصر على مردودها الاقتصادي السياحي. فحراسة المعالم العمرانية ورعايتها تمنحان أي نظام أمني قيمة مضافة يحتاج إليها لتثبيت سلطته أمام الخارج بطريقة لائقة.
في يد «داعش» الآن رهينة ثمينة جداً اسمها تدمر. لقد دخل الفيل إلى قاعة مليئة بالأوعية الزجاجية النادرة. ولا يعلم أحد حتى الآن ماذا سيفعل الفيل الهائج باللآلئ الحجرية الشاهدة على حضارات بشرية تعود إلى ثلاثة أو أربعة آلاف سنة. هامش الابتزاز والمقايضة كبير، بحيث يكاد يتحوّل ههنا إلى متن استراتيجي. وقد انهالت التصريحات الدولية تعبيراً عن قلق وخشية كبيرين من وقوع كارثة «حضارية» مرتقبة. فالخارجية البريطانية اعتبرت سقوط تدمر «مأساة». والمديرة العامة لمنظمة اليونسكو، إيرينا بوكوفا، حذرت من أن تدمير الآثار في تدمر لا يعدّ جريمة حرب فحسب، بل سيكون خسارة هائلة للبشرية. ودعا الرئيس الفرنسي إلى التحرك لمواجهة الخطر الإرهابي بعد استيلاء «داعش» على تدمر. أما الإدارة الأميركية، فاعترفت بحصول انتكاسة في استراتيجية الحرب ضد «داعش»، خصوصاً بعد سقوط مدينة الرمادي العراقية في قبضته. لكنها لا تشك في استرداد المدينة ولا في الانتصار على التنظيم الإرهابي.
ثمة بالطبع سوريون كثر يرون في قلق المنظـــمات الدولية على مصير تدمر الأثرية، ترفاً أرستقراطياً فيما الواقع السوري يغـــوص أكثر فأكثر في الوحل. لا نستبعد أن يرى البعض في هذا القلق ضرباً من اللهفة الجمالية الزائدة، ما يجعله أشبه بحرص المرأة العجوز على الاحتفاظ بدميتها في زمن الكوليرا أو في قلب الزلزال. غير أن تسويق القلق أو تظهيره لا ينفصل، في ما يبــدو، عن حسابات ومناورات دعوية باتـــت مـــدار السياسة في الجحيم السوري. فقبيل استيلاء «داعش» على تدمر، ناشد ائتلاف قوى المعارضة السورية منظمة اليونسكو التدخل لحماية الآثار، معتبراً أن النظام الأسدي سيتهاون في الدفاع عنها. وهو كلام إعلـــامي يهدف استباقياً إلى تسجيل موقف لائق بصورة المعارضة الخارجية. ألم يكن من الأنسب مناشدة التحالف الدولي الــذي تقوده الولايات المتحدة رسمياً وعلناً ضد «داعش»، كي يتدخل لمنع التنظيم من اجتياح تدمر؟. ذلك أن قيادة الائتلاف ذات الصلات بقوى دولية وإقليمية نافذة، تعلم أن قوات اليونسكو تعادل قوات بابا الفاتيكان، وفق تصريح شهير لستالين.
هناك رمزية أخرى لتدمر غير رمزيتها الأثرية. وهي رمزية حاضرة في ذاكرة العديد من السجناء السوريين. ففي تدمر سجن سيئ الذكر والسمعة. فقد جرى فيه إعدام مئات الإسلاميين في مطلع الثمانينات، إثر محاولة اغتيال فاشلة استهدفت الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد. ومع أن سجن تدمر أُغلق في بداية عهد بشار الأسد، فقد أعيد فتحه قبل أربع سنوات مع حملات الاعتقال التي شنّها النظام ضد المحتجّين. وليس معلوماً بدقة ما حلّ بهؤلاء السجناء، وإن كان مدير المرصد السوري يؤكد أن السجناء الجدد هم من العسكريين الذين رفضوا الأوامر أو حاولوا الانشقاق. وليس معلوماً كذلك، ماذا سيفعل «داعش» بهذه الرمزية، وهل سيوظفها في مناوراته الإعلامية وحربه النفسية. ما نعلمه هو أن «داعش» دشّن سيطرته على تدمر بإعدام 17 شخصاً من عناصر النظام وقوات الدفاع الشعبي التابعة له، ومن المدنيين المتهمين بالتعاون والتعامل معه. وكان قد سقط في المعارك التي بدأت قبل عشرة أيام بين قوات النظام و «داعش»، حوالى 500 قتيل. لا يمنع هذا من بقاء الأسئلة مفتوحة حول مبررات انسحاب القوات النظامية من تدمر.
هناك بالتأكيد اعتبارات استراتيجية دفعت بـ «داعش» إلى الاستيلاء على تدمر. فقد جرى الربط بين الداخل السوري ومنطقة الأنبار العراقية التي يسيطر عليها التنظيم، خصوصاً بعد سقوط الرمادي في يده. بات «الدولة الإسلامية» يسيطر جغرافياً على ما يقارب نصف مساحة سورية، وفق المرصد السوري الذي يمكن الوثوق به. هذه السيطرة تسمح له بالتحرك في إقليم جغرافي متّصل، يربط العراق بسورية ويجعل من حدود سايكس ـ بيكو أثراً بعد عين. وهذا بيت القصيد. فالجغرافيا، في عرف «داعش»، لا تنفصل عن تثبيت الزمن. ما يهدف إليه هذا التنظيم وأمثاله ليس إحياء ماض يمكن وصفه بالعصر الذهبي أو بالنقاء الأصلي، كما هي الحال في السلفيات الكلاسيكية. بل هو الاستيلاء العاري على الحاضر، بحيث يتطابق مع شحنات الشطط والعنف والثأر. ولا يستقيم هذا إلا تحت شعار تطبيق الشريعة وإعلان دولة الخلافة. المشروع الداعشي هو العيش خارج كل الأزمنة التاريخية، بما في ذلك الزمن الإسلامي نفسه. ما ينبغي أن يعيش هو تطابق القبيلة الجهادية المعولمة مع نفسها، أي مع رضوضها الكثيرة والبعيدة الغور. وهذا بالذات ما يعزز الخوف من تدمير تدمر الأثرية. قد يتشاطر التنظيم في التلاعب بالمخاوف، وقد يستفيد منها على غير صعيد.
عن ملحق تيارات