«شيعة السفارة» وسواس حسن نصرالله / يوسف بزي
2015-06-01
في شهر نيسان من العام 2005، عقد نحو أربعمئة شخصية لبنانية في مقر «الكلية العاملية» ببيروت، ما أسموه «اللقاء الشيعي اللبناني»، معلنين وثيقتهم السياسية. وهي وثيقة تعلن بوضوح أن الكثير من المواطنين الشيعة لا يرضخون لواقع التماهي بين القيد المذهبي والانتماء السياسي، ولا يقبلون بحصرية تمثيل جماعة أو أفراد في حزب واحد.
هؤلاء الأربعمئة مندوب، كانوا يمثلون تجمعات وروابط اجتماعية وشخصيات اعتبارية، من مختلف المناطق اللبنانية، واختاروا مقر «العاملية» لما تمثله كمؤسسة شيعية لبنانية عريقة في مدنيتها وفي دورها التربوي الحديث، وحضورها في قلب العاصمة، وتاريخها الذي يدل على الانتماء اللبناني الحضاري.
وعلى الرغم من تنوع انتماءات المنضوين في «اللقاء»، ونزوع غالبيتهم إلى استنكار الهوية المذهبية، كتعريف للمواطنين، وتبرمهم من تبعات الطائفية السياسية، وتعدد أهوائهم السياسية والعقائدية، بين يساريين وعلمانيين ومتدينين وتقليديين ويمينيين وما لا عد له من هويات سياسية وفكرية، إلا أنهم ارتأوا تسمية لقائهم «الشيعي اللبناني»، لما لهذه التسمية من فاعلية «سياسية» محضة، طالما أن أهداف اللقاء كانت التأكيد على أن الشيعة اللبنانيين ليسوا قطيعا ولا كتلة صماء ولا هم جماعة مغلقة. إنهم مواطنون لبنانيون شديدو التنوع، وهم قبل كل شيء أفراد لهم حرية تكوين هويتهم الخاصة والفردية، ولهم حرية التفكير والانتماء، فلا يُؤخذون هكذا جسماً واحداً ولا يُحشرون تعريفاً بحزب أو حركة أو حتى بقيدهم المذهبي الذي لا خيار لهم بولادتهم الموسومين به.
هذا المسعى كان شديد الأهمية في ربيع 2005، إذ حدثت لحظة نادرة في التاريخ اللبناني من «الإجماع» الوطني، فمع اندلاع «انتفاضة الاستقلال» كان واضحاً أن المجموعات اللبنانية كطوائف: دروزاً ومسيحيين ومسلمين سنّة، وفي مقدّمهم وأمامهم ـ فعلاً وقولاً ـ النخبة المدنية وجموع «المواطنين» الذين لا يعرّفون أنفسهم بهويتهم الطائفية، جميعهم التقوا على مطلب «الحرية والسيادة والاستقلال». لكن الخلل الخطير في ذاك «الإجماع»، هو الغياب الواضح لـ»الشيعية السياسية» عن ذاك المشهد التاريخي طوال شهر شباط من العام 2005. وازداد فداحة يوم الثامن من آذار، حين سيّر «حزب الله» تظاهرة ضخمة مناوئة تماماً لسائر اللبنانيين تحت شعار «شكراً سوريا» في وقت لم يكن دم الرئيس رفيق الحريري قد جف بعد.
كانت الصدمة حينها، هي هذا الافتراق العميق الذي صنعه «حزب الله» بين «الشيعية السياسية» والإرادة العامة للبنانيين، افتراق يعني رفض تكامل إنجاز تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، مع إنجاز رفع الوصاية السورية وتحقيق الاستقلال الثاني. وبمعنى آخر وضع الشيعة في تضاد «قاتل» مع المجموعات اللبنانية وطموحاتها في تآلف واعد، يحيي لبنان المشتهى.
وخوفاً على صيغة «التعايش» بين الطوائف، وطمعاً بتسوية سياسية تتيح تدريجياً جذب «حزب الله» (و»حركة أمل») إلى واقع لبناني «سيادي واستقلالي»، بعيداً عن الوصاية السورية، معطوفاً على واقع المحاصصة الطائفية البائسة، ارتأت «الزعامات» الطائفية عقد صفقة انتخابية سُميت «الحلف الرباعي»، بما يضمن إعادة إنتاج التمثيل السياسي ليس فقط على أساس حشر كل طائفة في زعامة واحدة، بل أيضاً «تكتيل» كل طائفة في جسم واحد وتكريسها قطيعاً خاضعاً لا يخرج منه اختلاف أو تعدد.
أفضى «الحلف الرباعي» إلى إقرار حاسم من قبل الطوائف الأخرى ومن القوى السياسية المنضوية في ائتلاف 14 آذار، بأن «حزب الله» و»حركة أمل» هما الممثلان الحصريان للشيعة اللبنانيين. وهذا أدى إلى فرط عقد «اللقاء الشيعي اللبناني» وإطاحته على يد حلفائه قبل خصومه.
هكذا، عاد أولئك الذين انضووا في «اللقاء» إلى تشتتهم كأفراد، وكمواطنين متعددي الانتماءات والمشارب، وظل اعتراضهم على سياسات «حزب الله» مجرد اعتراض «نخبوي»، وثقافي معظم الأحيان، ومدني حتماً. وهم شكلوا حال «انشقاق» عن طائفتهم لا بالمعنى الديني ـ المذهبي، بل بالمعنى السياسي، طالما أنهم في خياراتهم وطموحاتهم بدولة مدنية، وبتعريفهم لأنفسهم كمواطنين أحرار، وبانحيازهم إلى لبنانيتهم أولاً، كانوا يضعون أنفسهم على الضد من طائفتهم (كجماعة سياسية) يقودها «حزب الله». وهو أمر لم يضطر إليه من غير الشيعة.
في السنوات القليلة الماضية، ومع تورط «حزب الله» في الحرب على الشعب السوري، تحالفاً مع نظام بشار الأسد، بدأ التململ العفوي من هذا التورط اللاأخلاقي يتفاقم في البيئة الشيعية، ما جعل هذا الحزب يتخوف من نمو حال اعتراض وربما انشقاق، يهدد سطوته وهيمنته على هذه البيئة. وهذا ما لا يطيقه ولا يحتمله.
ربما لهذا السبب، بات حسن نصرالله، مهجوساً بتلك القلة من النخب الشيعية، ومعظمها من الكتّاب والمثقفين والإعلاميين والمتعلمين، والتي أطلق عليها هو إسماً تبخيسياً: «شيعة السفارة» (الأميركية)، أي كما قال: عملاء وخونة وأغبياء. إنّ لصق هذه التسمية وتلك الصفات بها، والإصرار عليها، هو عمل دعائي ووقائي خبيث يهدف إلى جعل المواطنين الشيعة، خصوصاً، يأنفون مسبقاً ممن هم بحكم «المصابين بالجذام»: لا تقربوا منهم، لا تصغوا إليهم.. هؤلاء «خونة» و»أغبياء». وبالتالي سيكتم الشيعة في أنفسهم أدنى اعتراض أو شكوى؛ سيظلون هكذا في كنف «الجماعة» وتحت طاعة حزبهم و»سيدهم».
لكن تاريخ «حزب الله» السياسي و»الأمني» الذي يعرفه الجميع، بمن فيهم «الأغبياء»، يدلنا أن كلام نصرالله ليس مجرد «حملة دعائية»، إنه اشبه بأمر عمليات حقيقي. إنه تهديد علني وسافر، وتحريض مباشر، خطير ومخيف بلا شك. وهؤلاء الذين يطالهم التهديد، وعلى عكس أغلبية اللبنانيين، ليس لديهم ترف انتظار «داعش»، فسيف التخوين قد يسبق سيف التكفير.
هؤلاء القلة، هم الذين ليس لهم سوى «لبنانيتهم».
ملحق نوافذ
إ