واحدة من أقدم نُسَخ "الحسناء والوحش"، التي رويت باللاتينية على لسان ابوليوس في وقت ما من القرن الثاني، هي قصة أميرة يؤمرها الكاهن أن تكون زوجة تنين. خائفة على حياتها، لابسة ثوب الحداد، مهجورة من أسرتها، إنتظرت الأميرة زوجها المجنّح على قمة جبل. لم يظهر الوحش أبدا. بدلا من ذلك، رفعها نسيم وحملها الى الأسفل في واد هادئ، إنتصب فيه بيت من الذهب والفضة. رحّبت بها أصوات تتردد من العدم، وقدمت لها الطعام والشراب، وغنّت لها. عندما هبط الليل، لم يُوقَد ضوء، وفي الظلمة أحسّت بشخص قريب منها. ((أنا حبيبك وزوجك،)) قال صوت، وعلى نحو غامض زاولها الشعور بالخوف. عاشت الأميرة مع زوجها اللامرئي أياما عديدة.
ذات مساء، قالت لها الاصوات أن شقيقاتها يقتربن من البيت، باحثات عنها، فأحسّت برغبة شديدة في أن تراهنّ مرة أخرى وتروي لهن عن الأشياء الرائعة التي حدثت. حذرتها الأصوات من الذهاب، لكن توقها كان عظيما جدا. منادية بأسمائهن، هرعت للقائهن. في البدء بدت الشقيقات جد سعيدات، لكن ما أن سمعن قصتها حتى بكين ووصفنها بالبلهاء لأنها سمحت لنفسها بأن تُخدع بزوج يتستر بالظلمة. ((لا بد أن فيه شيء مرعب، يجعله لا يُظهر نفسه لك في النور،)) قلن لها، شاعرات بالأسى عليها.
في تلك الليلة، وهي تجهّز نفسها لكشف مرعب، أضاءت الأميرة مصباح زيت وتسللت حيث ينام زوجها. ما رأت لم يكن تنينا، بل شاب ذي جمال عادي، يتنفس بنعومة على وسادته. ملأتها البهجة، وكانت على وشك إطفاء المصبح حين سقطت قطرة من الزيت الساخن على الكتف الأيسر للنائم. إستيقظ، رأى الضوء، لم يقل كلمة واحدة وهرب.
يختفي ايروس(1) حين تحاول سايكي(2) أن تراه.
عندما كنت مراهقا، أقرأ عن ايروس وسايكي ذات ظهيرة حارة في منزلنا في بوينس آيرس، لم أؤمن بمغزى القصة. كنت مقتنعا أن في مكتبة والدي غير المستخدمة تقريبا، حيث كنت أجد الكثير من المتع السرية، سأعثر، وبصدفة سحرية، على الشيء المدهش الذي لا يوصف والذي ينسلّ الى أحلامي وكان هدف سخرية في ساحة المدرسة. لم يخب أملي. كنت لمحت ايروس خلال إستعراض "الى الأبد عنبر"(3)، في ترجمة بالية لـ "بيتون بليس"(4) ، في قصائد معينة لفيديريكو غارثيا لوركا، في فصل عربة النوم من رواية "الملتزم" لالبرتو مورافيا، التي قرأتها على نحو متقطّع في الثالثة عشرة من عمري، وفي "صداقات خاصة"(5) لروجيه بيريفيت.
ولم يختف ايروس.
بعد سنتين من ذلك، عندما أصبحت قادرا على مقارنة قراءاتي مع إحساسي بيدي وهي تمر بخفة للمرة الأولى على جسد محبوبتي، كان عليّ الاعتراف أنه هذه المرة فقط، كان الأدب قاصرا. ومع ذلك ظلت إثارة تلك الصفحات الممنوعة حيّة. الصفات المتلهفة، الأفعال الوقحة ربما لم تكن مجدية في وصف عواطفي المشوّشة، لكنها نقلت اليّ، مباشرة، شيئا رائعا ومذهلا وفريدا.
هذا الفرادة، التي كنت سأكتشفها فيما بعد، تَسِم كل تجاربنا الأساسية. ((نحن نعيش معا، نتصرّف وفق، نستجيب وفق، الواحد الآخر،)) كتب آلدوس هكسلي في "أبواب الإدراك الحسّي"، ((لكننا دائما وفي كل الظروف وحدنا. الشهداء يذهبون يدا بيد الى الأرينا(6)، إنهم يُعذَبون وحدهم. متعانقون، يحاول العشّاق بيأس أن يصهروا نشواتهم المعزولة في سموّ ذاتي وحيد؛ عبثا. بطبيعتها ذاتها تكون الروح المتجسّدة محكومة بأن تعاني وتفرح في العزلة.)) حتى في لحظة الحميمية الأعظم، يكون الفعل الايروتيكي فعلا منعزلا.
عَبْر كل العصور، حاول الكتّاب أن يجعلوا من هذه العزلة عزلة مشتركة. عَبْر كل التصنيفات المتكلفة الاسلوب (مقالات حول آداب المعاشرة، نصوص بلاطات الحب القروسطية)، عبر كل الامثلة (حكايات خرافية، روايات، أشعار)، سعت كل ثقافة الى فهم التجربة الايروتيكية بأمل أنه ربما يكون القارئ قادرا، إن كانت مصوَّرة بإخلاص في كلمات، أن يعيشها ثانية أو حتى يتعلمها، بنفس الطريقة التي نتوقع بها من شيء معين أن يحفظ ذاكرة أو من نَصْب يبعث الميت حيا.
من المفاجئ التفكير كم ستكون فاخرة مكتبة كونية تضم هذا الأدب الايروتيكي المرتجى. ستضم، كما أتخيّل، الحوارات الافلاطونية التي يناقش فيها سقراط أنواع ومزايا الحب؛ "Ars amatoria" ("فن الحب") لأوفيد عن روما الامبراطورية، التي يعتبر فيها ايروس وظيفة اجتماعية، مثل آداب المائدة؛ "نشيد الأناشيد"، التي يصبح فيها حب الملك سليمان والملكة السوداء لشيبا إنعكاسا للعالم الذي حولهم، الكاماسوترا الهندوسية(7) وكتاب كاليانا مالا(8)، التي يُنظر فيها الى المتعة كونها عنصر جمالي. "كتاب ينبوع المحبة" لآرسيبرست دي هيتا في اسبانيا القرن الرابع عشر، الذي يدّعي أن يستقي حكمته من مصادر شعبية؛ كتاب القرن الخامس عشر "الجنائن العطرة" للشيخ النفزاوي، الذي ينظم السلوك الايروتيكي طبقا لقانون اسلامي؛ الـ "Minnered" الالمانية، أو الأحاديث الغرامية القروسطية، التي يكون فيها الحب ، شأنه شأن السياسة، له خطابه الخاص به؛ استعارات مثل ’’ Roman de la rose ‘‘ في فرنسا و"ملكة الجن" في بريطانيا، التي يكتسب فيها الإسم التجريدي ’’حب‘‘ مرة أخرى، كما إكتسب ايروس، وجها إنسانيا أو ربانيا.
ستكون هناك أعمال أخرى، حتى أكثر غرابة، في هذه المكتبة المثالية: رواية " Clélie " ذات العشرة أجزاء ( 1654 – 60 )، بقلم مدموزيل دو سكوديري، التي تشمل على cart de tender( 9 )، خارطة تؤشر السبل الايروتيكية بمكافآتها وأخطارها؛ كتاب الماركيز دو ساد الذي دوّن، في فهرسة مسهبة ومملة، الانحرافات الجنسية التي يمكن أن يخضع لها مجموعة من البشر؛ الكتب النظرية لمعاصره القريب شارل فورييه، الذي إبتكر مجتمعات طوباوية بالكامل تتركز حول الأنشطة الجنسية لمواطنيها؛ اليوميات الجميمة لجاكومو كازانوفا، بنفينيتو تشيلليني، فرانك هاريس، أناييس نن، هنري ميللر، وجون ريكي، الذين حاولوا جميعهم إستذكار ايروس في مذكرات سيريذاتية.
ملتف في مقعد ذي مساند في مكتبة والدي وفي مقاعد أخرى، فيما بعد، في منازل لا يسعني تذكّرها كلها، وجدت ايروس يواصل الظهور في كل أنواع الأمكنة غير المتوقعة. برغم الطبيعة الاستثنائية للتجارب الملمّح اليها أو الموصوفة على صفحات خصوصية، حرّكت هذه القصص مشاعري، أيقظتني، همست لي بأسرار.
قد لا نشترك بالتجارب، لكننا يمكن أن نشترك بالرموز. وهي تُنقَل الى مملكة أخرى، تُحوَّل عن مواضيعها، تنجز الكتب الايروتيكية أحيانا شيئا من ذلك الفعل الخصوصي الأساسي، كما حين تصبح نشوات وآلام الرغبة الايروتيكية مفردات مجازية واسعة عن اللقاءات الصوفية. أتذكّر الإثارة التي قرأت بها، للمرة الأولى، الاتحاد الايروتيكي الذي يصفه القديس يوحنا الصليب.
أيتها الليلة التي كنتِ مرشدي!
أيتها الظلمة التي عندي أحَّب من زهو الصباح،
أيتها الليلة التي ضمّت المتيّم
الى عروسه الحبيبة
عاشق، منهمك بعاشق.
تركت نفسي تهلك
وجهي يضغط على جسد محبوبتي
كافَّاً عن كل محاولة،
فتحررتُ من همومي كلها
رميتها وسط هذا الليلك لتختفي.
أجيزي يديّ ودعيهما يجوسان
أمام، خلف، بين، فوق، تحت.
أه يا أمريكتي! يا أرضي البكر.
ومن ثم جون دون، الذي كان الفعل الايروتيكي والصوفي بالنسبة له هما أيضا فعلا إستكشاف جغرافي:
في زمن شكسبير، كانت الايروتيكا المستعارة من المفردات الجغرافية أصبحت شائعة على نحو يكفي لأن يجعلها محاكاة تهكمية. في "كوميديا الأخطاء"، يصف العبد دروميو السيراكوزي لسيده مفاتن خادمة شبقية تهيم به – ((إنها كروية، مثل الكرة الأرضية؛ بإمكاني العثور على أوطان فيها)) – ويواصل ليكتشف آيرلندا في ردفيها، اسكتلندا في راحة يدها القاحلة، أمريكا على أنفها، ((مزيّنة بأكملها بالياقوت، العقيق، الصَّفِّير؛ كل غناها فريسةً للنَفَس الحار لاسبانيا. ))
وليام كارترايت، المؤلف الغامض من القرن السابع عشر لـ "العبد الملوكي" (مسرحية نالت الاطراء من شارل الأول وبن جونسون معا)، جدير بأن يُتذكَّر بهذه الأبيات التالية، التي تُعيد الحب الروحي الى مصدره الأصلي:
كنت ذاك السفيه الذي كان يوما مهتاجا
ليمارس هذا الحب الرفيع
فإنحدرت من الجنس الى الروح، من الروح الى الفكر!
لكني بطيش بّعُدت من الفكر الى الروح، ومن ثم
من الروح حطّيت على الجنس ثانية.
بين الفينة والفينة، في قرائاتي العَرَضية، اجد أن صورة وحيدة يمكن أن تجعل من قصيدة غير قابلة للنسيان. هذه هي أبيات ألّفتها شاعرة سومرية نحو العام 1700 قبل الميلاد. تكتب:
حين اروح الى زوجي الشاب
سأغدو التفاحة
المتشبثة بالغصن،
الذي يحيط بالجذع،
بلحمي العذب.
في حالات قليلة، لا يحتاج الأمر أكثر من حذف وصف من أجل نقل القوة الايروتيكية لذاك المفقود. شاعر انكليزي مجهول كتب هذه الرباعيات الشهيرة جدا في وقت ما من العصور الوسطى المتأخرة:
أيمكن لرياح غريبة، حين تهب،
أن تمطر الى أسفل مطرا خفيفا؟
رباه، ليت حبي كان بين ذراعيّ،
وليتني الى الفراش أعود ثانية.
النثر، مع ذلك، هو شأن آخر.
من كل أنواع الأدب الايروتيكي، لاقى النثر، كما أعتقد، الأوقات الأصعب. رواية قصة ايروتيكية، قصة موضوعها يحجب نفسه عن الكلمات وعن الزمن، لا يبدو فقط مهمة لا طائل تحتها بل مهمة مستحيلة. قد يقال أن أي موضوع، في محض تعقيده أو بساطته، يجعل روايته مستحيلة، وأن كرسي أو غيمة أو ذكريات طفولة هي مواضيع لا يمكن ان تُذكَر أو تُوصَف مثلها مثل مواضيع ممارسة الحب، الحلم، الموسيقى.
ليس الأمر على هذا النحو.
لدينا في أغلب اللغات مفردات متنوعة وغنية تنقل على نحو معقول جدا، على يد شخص حِرَفي مجرِّب، الأحداث والعوامل التي يكون المجتمع فيها مرتاحا، تنقل التحف الزينية التي تمثل حيواناتها السياسية. لكن ذاك الذي يخاف منه المجتمع أو يفشل في فهمه، ذاك الذي يجبرني على التلفت خوفا صوب باب مكتبة والدي، ذاك الذي يصبح ممنوعا، حتى لا يمكن الاشارة اليه في العلن، لا يقدّم كلمات ملائمة يمكن مقاربتها. ((كتابة حلم، التي تشابه المسار الحقيقي لحلم، بكل تناقضاته، غرابته، وتخبطه،)) يشتكي ناثانيل هوثورن في "مفكرات امريكية"، ((مهمة لم يحالف النجاح فيها أحد، حتى الآن.)) كان يمكنه قول الشيء نفسه عن الفعل الايروتيكي.
اللغة الانكليزية، بوجه خاص، تجعل الأشياء صعبة لأنها ببساطة لا تمتلك مفردات ايروتيكية. الأعضاء الجنسية، الأفعال الجنسية تستعير الكلمات لتعيينها أما من علم البيولوجيا أو معجم الذمّ. بطريقة تحليلية هادئة، أو فظة، الكلمات التي توصف أعاجيب الجمال الجسدي وجذل المتعة الجنسية تدين، تطهّر، أو تهزأ بذاك الذي يجب أن يُحتفى به بدهشة. الاسبانية، الالمانية، الايطالية، والبرتغالية تعاني من هذا الضعف نفسه. الفرنسية هي، ربما، أكثر حظا بقليل. كلمة ’’ baiser ‘‘ للجماع، تستعير دلالتها من كلمة ’’قبلة ‘‘؛ كلمة ’’ verge ‘‘ للقضيب، هي نفس الكلمة لـ ’’قضيب من شجرة بتولا‘‘، التي بارتباطها بالأشجار تعطي ’’ verger ‘‘، ’’بستان‘‘؛ ’’ petit mort ‘‘، ’’ موت صغير ‘‘، للحظة النشوة بعد بلوغ ذروة التهيّج الجنسي، التي يكون فيها للتربيتة الصغيرة - التي تأخذ الأبدية من الموت لكنها تُبْقي على الإحساس السعيد بمغادرة العالم - قليلا من طبيعة الرَّجْفِ والرهس لـ ’النكاح والنخس والقذف‘. المهبل في الفرنسية لا يحظى ( ويا للدهشة ) باحترام كبير كما هو الحال في الانكليزية، و’’ con ‘‘ في الفرنسية تكاد لا تكون أفضل من ’’cunt ‘‘ في الانكليزية. كتابة قصة ايروتيكية بالانكليزية، أو ترجمة قصة الى الانكليزية، تتطلب من الكاتب طرقا جديدة وبارعة لإستخدام الوسيلة، كي يكون القارئ مقادا، ضد نوع من المعنى أو عبْر مخيلة مفصولة بالكامل عن اللغة، داخل تجربة كان المجتمع قضى فيها أن تبقى غير منطوقة. ((نحن وضعنا الجنس،)) قال مونتاين الحكيم، ((في حدود الصمت.))
لكن لماذا قررنا أنه يجب على سايكي أن تنتظر ايروس؟
في العالم اليهودي- المسيحي، حظْر ايروس يلاقي قبولا في صوت القديس اوغسطين، صوت تردد عبْر العصور الوسطى بكاملها وما زال يرنّ، محرَّفاً، في غرف هيئات الرقابة في يومنا هذا. بعد فترة شباب من فسوق وعربدة (بإستخدام هذه الكلمات الوعظية الدقيقة)، مفكراً في البحث عن حياة سعيدة، يصل اوغسطين الى إستنتاج أن السعادة النهائية، eudaemonia ، لا يمكن بلوغها ما لم نُخضِع الجسد الى الروح، والى روح الرب. الحب الجسدي، الايروس، هو شائن، و’الآمور‘، الحب الروحي فقط، يمكن أن يهدي الى الاستمتاع بالرب، الى الأغابي(10)، المتعة البالغة للحب نفسه التي تسمو فوق الجسد والروح البشريين معا. بعد قرنين من اوغسطين، عبّر القديس ماكسيموس القسطنطيني عن ذلك بهذه الكلمات: ((الحب هو تلك النزعة الخيِّرة للروح التي لا تؤثر فيها شيئا سوى الوجود لمعرفة الله. لكن ما من إنسان يمكنه بلوغ حالة كهذه من الحب إن كان مرتبطا بأي شيء دنيوي. الحب،)) يختتم القديس ماكسيموس، ((مولود من النقص في الهوى الايروتيكي.)) هذا بعيد جدا عن معاصري افلاطون، الذين رأوا أيروس قوةً مُلْزِمة (بإحساس جسدي، حقيقي) تجمع الكون.
إدانة الهوى الايروتيكي، الجسد نفسه، تسمح لأغلب المجتمعات البطريركية بوسم المرأة بالإغواء، كما الأم حواء، المذنبة بسقوط آدم اليومي. لأنها محطّ لوم، للرجل حق طبيعي في السيطرة عليها، وأي إنحراف عن هذه القاعدة – من قبل المرأة أو من قبل الرجل – هو قابل للعقاب كفعل غدر وخطيئة. أداة كاملة للرقابة موجهة لحماية الطرز البدئية للجنسانية الطبيعية كما حددها الرجل وكنتيجة، حين يكون كره النساء والهوموفوبيا(11) معا مسوّغين ويُشجَّع عليهما، يُخصص للنساء واللوطيين قواعدا مقيِّدة ومنتقِصة. (الأطفال: نحن نستأصل جنسيانية الأطفال من الحياة الاجتماعية، بينما نسمح بظهورها، في هيئات غير ضارّة كما تبدو، على الشاشة وفي صفحات مجلات الموضة – كما لاحظ غراهام غرين حين كتب نقدا عن أفلام شيرلي تمبل.)
البورنوغراف (12) يحتاج هذا المعيار المزدوج. في البورنوغراف، لا يجب أن تكون الايروتيكا جزءً متمما لعالم يسعى فيه كلا الرجال والنساء، اللواطيون ومشتهو الجنس الآخر، الى فهم أعمق لنفسهم وللآخر. كي تكون اباحية، يجب أن تكون الايروتيكا مبتورة من محيطها ومقيَّدة بتعريفات سريرية لذاك الذي هو محلّ إدانة. يجب أن يشمل البورنوغراف بأمانة حالة سويّة رسمية كي لا تتعارض مع أي غرض سوى الإثارة المباشرة. البورنوغراف – أو ’’ الفسق ‘‘ كما أعتيد تسميته – لا يمكن أن يوجد من دون هذه المعايير الرسمية. كلمة ’’ licentious ‘‘ (’’فاسق‘‘)، التي تعني ’’غير أخلاقي جنسيا‘‘، جاءت من ’’ license ‘‘، ’’ترخيص ممنوح‘‘ (في أن يحيد عن القواعد)، وذلك هو السبب في أن مجتمعاتنا تسمح للبورنوغراف، هي التي تحتضن مفاهيم رسمية عن السلوك ’’السوي‘‘ أو ’’المحترم‘‘، بأن يوجد في بيئات محددة لكنها تضايق بحماسة التعابير الايروتيكية الفنية التي يعتبرها أصحاب السلطة محل ريبة. يمكن أن تُباع المجلات الجنسية ذات الصفحات البنية الناعمة في العلن بينما كانت "اوليسيس" عرضة للإتهام بالفحش؛ كانت تُعرَض أفلام الجنس الفاضحة، مثل "كيف تمارس الحب مع زنجي"، في دور السينما على بعد خطوات من دور أخرى محمية من الهجوم عليها تعرض " الإغواء الأخير للمسيح ".
الأدب الايروتيكي هو هدّام؛ البورنوغراف ليس كذلك. البورنوغراف هو، في الواقع، رجعي، مضاد للتغيير. ((في الروايات الاباحية،)) يقول فلاديمير نابوكوف في نص ملحق برواية "لوليتا"، ((يجب أن تُحدَّد الأحداث بجِماع من الكليشيهات. الاسلوب، البناء، الاستعارة لا يجب أن تلهي القارئ أبدا عن شهوته الفاترة.)) يتبع البورنوغراف تقاليد كل الأدب الدوغماتي – الكرّاسات الدينية، الكلام السياسي الطنّان، الاعلانات التجارية. الأدب الايروتيكي، إن كان ناجحا، يجب أن يؤسس تقاليد جديدة، يضفي على الكلمات التي يدينها المجتمع معانٍ جديدة، ويمدّ القارئ بمعلومات عن معرفة هي بطبيعتها ذاتها يجب أن تبقى حميمية. هذا الاستكشاف للعالم من مكان مركزي وخصوصي صرف يمنح الأدب الايروتيكي قوته الهائلة.
عند الصوفيين، الكون برمته هو شيء ايروتيكي، والجسد برمته (بما فيه العقل والروح) هو موضوع لمتعة ايروتيكية. الأمر نفسه يمكن أن يقال عن كل كائن بشري يكتشف أن ليس القضيب والبَظْر هما مكان المتعة بل أيضا اليدين، الإست، الفم، الشَعر، اخمصي القدمين، كل إنج من أجسادنا المذهلة. ذاك الذي يثير جسديا وعقليا الحواس ويفتح لنا ما دعاه وليام بليك ((أبواب الفردوس)) هو دائما شيء غامض، و، كما نكتشف جميعا في النهاية، شكله أملته قوانين لا نعرف عنها شيئا. نحن نعترف بحبنا امرأة، رجل، طفل. لِمَ لا غزالة، حجر، حذاء، السماء في الليل؟
في رواية دي أتش لورانس "امرأة عاشقة"، مادة رَبرت بيركن للرغبة هي عالم النبات: ((تضطجع وتتمرّغ في زهر الزنبق الغض البارد، الدبِق، تضطجع على بطنك وتغطي ظهرك بحفنات من عشب ندي جميل، ناعم كما النَفَس، ناعم وأكثر رقة وأكثر جمالا من لمسة أي امرأة؛ ومن ثم يخزّ فخذك الهلّب الأسود الحي لأغصان التَّنُّوب؛ ومن ثم تشعر بلسعة السَوْط الخفيف لشجرة البندق على كتفيك؛ ومن ثم تضغط بصدرك على جذع البتولا الفضي، تحس بنعومته، بخشونته، بعقداته وضلوعه الحيّة – هذا كان حسنا، كان كله حسنا جدا، سارّا جدا. ))
في رواية "زوجته القردة" لجون كوليمير، ايروس هو قردة شيمبانزي تدعى اميلي، يعشقها بجنون مدرس انكليزي، مستر فانيغاي: (( ’ اميلي! ‘ قال. ’ ملاكي! هواي! حبي! ‘ عند هذه الكلمة الأخيرة، رفعت اميلي عينيها، ومدت له يدها. تحت شعرها الطويل والضئيل لمح بشرة ارجوانية مزرقّة. داخل أعماق تينك العينين السوداوين الشهوانيتين، إنزلقت روحه بلا صوت ترشاش. أطلقت بضع كلمات فاتنة، بعجلة، بلغتها الخاصة. كانت الشمعة، المذابة جنب السرير، تختنق بمسكة من قدمها الملتفة، وإستقبلت الظلمة، مثل تموّج في مخمل، آخر آهة سعيدة. ))
في " حاخام باغان " لسينثيا اوزيك، يكون ايروس شجرة: ((عبثت أصابعي في صدوع اللحاء الاسفيني. ثم بسطتُ جبهتي على الشجرة، عانقتها بذراعيّ كي أقيسها. إتحدت يداي في الجانب الآخر. كانت نبتة رفيعة نامية، لم أعرف من أي فصيلة. بلغت الفرع الأسفل فقطعت ورقة وجعلت لساني يجوس خلال سطحها كي أعيّن شكلها: سنديانة. كان الطعم دبقا ومرّا بكثافة. ثم وضعت إحدى يداي (الأخرى أبقيتها حول خصر الشجرة، اذا جاز القول) في تشعُّب (المسمى أيضا على نحو مقزز ما بين الفخذين) ذاك الغصن الكبير السفلي والجذع الأنيق والصلب جدا، داعبت ذاك المفصل الاعجازي بتراخٍ، راح ينشط شيئا فشيئا. ))
هذا هو وصف ماريان أنجل للقاء حبي بين امرأة و’’دب‘‘:
لَعَقَ، جَسَّ. ربما كانت هي برغوثا يبحث هو عنه. لعق تصلب حلمتيها وفرك سرّتها. حرّكته متأوهة الى الأسفل.
أدارت وركها كي يسهل الأمر عليه.
(( يا دب، يا دب، )) همست، تلاعب أذنه. لسانه الذي كان قادرا على إطالة نفسه كسمكة انكليس عثر على كل مواضعها السرّية. ولا يشبه أي بشر عرفته من قبل، ثابر على متعتها. حين بلغت ذروة نشوتها، نشجت، فلعق دموعها.
والكاتب الانكليزي جَي آر آكيرلي يصف بهذه الكلمات حبه لكلبته، تيوليب: ((ذهبت الى فراشي مبكرا كي أتخلّص من هذا اليوم الكئيب، لكنها جلست فورا بجانبي، منتصبة قبالة الوسادة، متحركة بسرعة، لاعقة، لاهثة، منتقلة، تنعم النظر في وجهي: تشدّ على يدي. أيها المخلوق العذب، ما أنا فاعل بك؟ بسطت يديّ في العتمة وبلغت الحلمات الصغيرة... تجلس بإعتدال بينما تداعبها يداي، تسطّحت أذنيها، ورأسها ينخفض، محدقة بعينين فارغتين في الليل خلف النافذة. شيئا فشيئا، تسترخي، تهمد. شيئا فشيئا، ويداي فوقها، تنام. ))
حتى رأس الحبيب المقطوع يمكن أن يصبح موضوعا ايروتيكيا، حين يجعل ستاندال ماتيلدا، في "الأحمر والأسود"، تبحث عن بقايا جوليان: ((يسمع ماتيلدا تتحرك بعجل في أرجاء الغرفة. أوقدت عددا من الشموع. حين إستجمع فوكيه ما يكفي من قوة للنظر صوبها، رأى انها وضعت أمامها، فوق طاولة صغيرة من المرمر، رأس جوليان، وراحت تقبل جبينه. ))
مواجهاً مهمة صنع فن من تنوّع مذهل من مواد ومواضيع، تصرّفات وإنحرافات، مشاعر ومخاوف؛ محدَّدا بمفردات مصمَمة خصيصا لأغراض أخرى؛ ماشياً على الحافة الخطرة بين البورنوغراف والعاطفية المفرطة، البيولوجيا واللغة الشبِقة، الحياء والافراط في التضمين؛ مهدَّدا من قبل مجتمعات مصمِمة على الحفاظ على ارستقراطية السلطة المثبّتة عبْر القوى الرقابية للسياسة، التعليم، والدين، وكل هذا من العجب أن الأدب الايروتيكي لم يبق فقط حيا فترة طويلة بل غدا أكثر شجاعة، أكثر ألقا، أكثر ثقة، منهمكا في عدد لامتناهٍ ومتعدد الألوان من مواضيع الرغبة.
إستدراك: أنا أعتقد أن تجربة القراءة، شانها شأن تجربة الايروتيكا، يجب أن تكون في النهاية مجهولة. يجب أن نكون قادرين على الدخول الى الكتاب أو الى الفراش كما دخلت آليس الى غابة المرآة، لانعود نحمل معنا أحكاما مسبقة عن ماضينا ومتخلين من أجل تلك اللحظة من الإتصال(13) عن حيلنا الاجتماعية. قارئين أو ممارسين الحب، علينا أن نكون قادرين على فقد أنفسنا في الآخر، في – بإستعارة صورة القديس يوحنا – ما تحولنا اليه: قارئ في كاتب في قارئ، عاشق في معشوق في عاشق. (( Jouir de la lecture ))، ((التمتع بالقراءة ))، يقول الفرنسيون، الذين عندهم بلوغ ذروة النشوة والمتعة معبَّر عنها بكلمة شائعة وحيدة.
__________________
الهوامش:
(1) إله الحب عند الاغريق؛ يرد أيضا بمعنى الغرام أو الحب الجسدي.
(2) سايكي أو بْسِيشه: اميرة فاتنة الجمال أحبها كيوبيد ( ميثولوجيا ). [المورد]
(3) رواية لكاتلين ونسور( 1944 )، حوِّلت الى فيلم عام 1947 أخرجه اوتو بريمنغر وقامت ببطولته ليندا دارنيل.
(4) رواية لغريس ميتاليوس ( 1956 )، تتحدث عن حياة ثلاث نساء، حولت الى فيلم عام 1957 والى مسلسل تلفزيوني عام 1964.
(5) الرواية الأولى للكاتب الفرنسي بيريفيت ( 1944 )، حوِّلت الى فيلم عام 1964.
(6) المجتلد: الجزء المتوسط (الخاص بالمتصارعين) من مدرج روماني. [المورد]
(7) نص هندي قديم وضعه الفيلسوف فاتسيايانا يتناول السلوك الجنسي وأوضاع ممارسة الحب.
(8) هو كتيب الـ"انانغا رانغا" ("مرحلة الحب") لمؤلفه كاليانا مالا وهو شاعر وكاتب هندي من القرن 15 أو 16.
(9) خارطة لبلاد خيالية تدعى تاندر. تمثل الخارطة الطرق صوب الحب وفقا لأدب الحذلقة الذي كان سائد في القرن17.
(10) الحب المسيحي، المميّز عن الحب الايروتيكي أو الهوى البسيط. [ اوكسفورد ]
(11) بغض شديد ومتطرف ضد الجنسية المثلية والناس اللوطيين.
(12) الأدب أو الفن الأباحي.
(13): intercourse تَرِد هذه الكلمة في المعجم أيضا بمعنى ’’جِماع‘‘.