«الإسلام والحضارة العربية» ... كتاب محمد كرد علي / محمود مراد
2015-06-29
يعتمد محمد كُرد علي، في كتابه «الإسلام والحضارة العربية»، على جملة من الاقتباسات «الاستشراقية» عن علماء الغرب ليرد بها على كل من يحاول الانتقاص أو النيل من الإسلام وحضارته، من بينها ما نقله عن غوستاف لوبون، المؤرخ الفرنسي الشهير، صاحب كتابي «حضارة العرب»، و»سيكولوجية الجماهير»، والذي انتصر كثيراً للعرب والمسلمين بقوله «وذلك أنه كان للمدينة الإسلامية تأثير عظيم في العالم، وتم لها هذا التأثير بفضل العرب... وبنفوذهم الأدبي هذبوا الشعوب البربرية التي قضت على الإمبراطورية الرومانية، وبتأثيرهم العقلي فتحوا لأوروبا عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية، وهذا ما كانت تجهله، وعلى ذلك كان العرب ممدنينا وأساتذتنا مدة ستمئة سنة».
هكذا تتوالى اقتباسات كُرد علي بطول الجزء الأول من كتابه الذي يعتبر بحق «بانوراما» لعرض آراء المستشرقين في الحضارة الإسلامية، حتى أنه اقتبس من أرنست رينان، المستشرق الفرنسي، وزميله إلينا آلبرسيم، ما دافعا به عن العرب ضد الهجمة العنصرية الغربية التي اتهمتهم بحرق مكتبة الإسكندرية أثناء دخولهم مصر في عهد الخليفة عمر بن الخطّاب... «ولم تُحرق مكتبة الإسكندرية التي قال بعضهم إنه كان فيها نحو 700 ألف مجلد على يد الإمام عمر ولا بأمره، فأنّ هذه الدعوة من الأغلاط التاريخية العظيمة، إذ لم يكن أثر لهذه الخزانة عندما فتحت العرب مدينة الإسكندرية سنة 640 م».
يتطرق كرد علي إلى التاريخ متحدثاً عن الشعوبية في الماضي ليوصل بها الحاضر، ومن السهل طبعاً أن نتبين مغزاه من ذلك، إذ إن الشعوبية من وجهة نظره هي «لفظ يطلق على كل من ناهضوا العرب في القديم والحديث، وفي الشرق والغرب، وقاموا ينتقصون من قدر حضارتهم وتاريخهم»، وتعود اقتباسات كرد علي لينفي عن العرب اضطهادهم للأجناس والشعوب الأخرى، وكأنه يطالب المعاملة بالمثل، فينقل عن ليوتي، الأديب الفرنسي، قوله «وإذا كان فريق من ذوي الأغراض الملتوية يزعم أن الإسلام يبعث على التدمير والفوضى والتعصب، فإني بصفتي رجلاً قضيت بين المسلمين مدة من الزمان في الشرق والغرب ولم أكتفِ بما قرأته عن الإسلام في الكتب، أقول إن تلك المزاعم لا نصيب لها من الصحة».
ومثلما ربط تاريخ الشعوبية بحركة الحاضر، ينجح كرد علي في العودة مجدداً إلى الماضي، في حركة «بوندولية» ليس لها غرض إلا حشد أكبر عدد ممكن من الشواهد الدالة على عظمة الحضارة الإسلامية وتسامحها في مقابل الانغلاق العرقي والعنصرية القومية، فينقل عن مصادر التاريخ الإسلامي ما ذكرته من حسن معاملة المسلمين لغيرهم من أهل الملل والنحل، وأبرزها سلوك الخليفة عمر بن الخطاب مع عجائز اليهود وأمره بإعفائهم من دفع الجزية، فضلاً عن التراجم التي وضعها ابن أصيبعة في كتابه «طبقات الأطباء» وقيامه بذكر المخالفين وجهودهم العلمية من دون تعصب، ومثله فعل القفطي في أخبار الحكماء، ليخلص كرد علي من كل ذلك الى القول: «هكذا عامل المسلمون أهل ذمتهم وهكذا عاملهم الخلفاء من الراشدين والأمويين والعباسيين»، بل هناك من الخلفاء ممن «كانوا يبيحون لأبناء الذمة بأسرارهم، ويطلعونهم على خويصة أنفسهم، ويوسدون إليهم مهمات أمورهم، ويأتمنونهم على حركاتهم وحرمهم... وهل عاهدت مثل هذه المسامحة في بعض ممالك الغرب إلا بعد حروب طويلة وثورات مستديمة؟».
هجوم كرد علي على النزعة الشعوبية لن يقف عند هذا الحد، بل سيمتد إلى تفنيد مزاعم الشعوبيين حول النبي محمد (صلعم)، والرسالة الإسلامية، من دون أن يحيد عن المنهج الذي اتخذه منذ البداية، أقصد طريقته «وشهد شاهد من أهلها»، ويتجلى ذلك في الاقتباس الذي نقله عن برنارد شو، أكبر كتّاب الإنكليز، عندما قال «لا يمضي 100 عام حتى تكون أوروبا، ولا سيما انكلترا، قد أيقنت بملاءمة الإسلام للحضارة العربية».
ويبدو كرد علي متسقاً مع قناعاته الرافضة للهجوم على الأديان أو التقليل من شأن أتباعها، ويرى أن «الأديان في جوهرها واحدة تأمر بالخير، وتدعو إلى مكارم الأخلاق، وتدفع الناس بعضهم عن بعض في هذه الحياة، ليقوم نظام اجتماعهم على ما ينزع من صدورهم الأحقاد والتعادي، وحب القتل والسلب وهتك العرض، وتشعر قلوبهم بالرحمة والعطف على الأسير العاني، والشيخ الفاني، واليتيم، والبائس...وتذكرهم أن لهم ميعاداً ثانياً يُثاب فيه المؤمن المحسن، ويُعاقب فيه من يجترح شيئاً من السيئات». على كل حال يملك الإسلام منظومة أخلاقية تمكنه من أن يجد معنىً مشتركاً مع أرباب الملل الأخرى، ولعل بفضل هذه الأخلاق فإنّ الخليفة عمر بن الخطاب تدركه الصلاة في كنيسة القيامة في القدس فيقول لبطركها «صفرونيوس» أريد أن أصلي، فيقول له صلِ يا أمير المؤمنين موضعك، فيأبى عمر، ثمّ يخرجه إلى كنيسة قسطنطين فيأبى، ويصلي وحده على بابها، ويقول للبطرك إن سبب امتناعه من الصلاة في الكنيسة لئلا تخرج من يده (يد البطرك) ويأخذها المسلمون منه ويقولون ها هنا صلى عمر، ويكتب عمر سجلاً للبطرك ألا يصلي المسلمون على الدرج (سلالم الكنيسة، بعد أن منع الصلاة داخلها) إلا فرادى، ولا تُجمع فيها صلاة، ولا يُؤذن عليها، ويعلق كرد علي على هذه الواقعة بقوله «إنّ خليفة يعمل هذا، وهو في قمة عز الإسلام، جدير بإعجاب العدو والصديق».
تسامح المسلمين مع مخالفيهم في العقيدة سيكون له أثر إيجابي آخر، وفق ما رصده كرد علي في كتابه «الإسلام والحضارة العربية»، إذ إنّ عدم فرض المسلمين دينهم بالقوة على الشعوب المغلوبة كان السبب وراء عدم هوجة هذه الشعوب ضد الفاتحين الجدد، بخاصة أن الخلفاء الأوائل أدركوا بعبقريتهم السياسية أن الأديان لا تُفرض على الناس بالقوة، «وما عرفت الشعوب فاتحاً بهذا القدر من المسامحة، ولا ديناً حوى في مطاويه هذه الرقة واللطف»، وكان من أثر ذلك أن النصارى والمجوس كلما رأوا تساهل العرب ومحاسنتهم زادوا ثقةً بهم، وإقبالا على دعوتهم، ورجوا لأيامهم طول البقاء، لأنهم كانوا يتركون لهم حريتهم في إقامة شعائرهم، ويرعون عهودهم، ويحافظون على بِيعهم وكنائسهم.
نجح كرد علي في توضيح أثر العرب في الثقافة العالمية، ونقل اقتباساً عن أحد علماء الغرب قال فيه «إنه لو حُذف العرب من التاريخ لتأخرت نهضة الآداب قروناً عدة في الغرب»، وعقد الرجل فصلاً ممتعاً عن أثر اللغة كـ «قوة ناعمة» ووسيلة ناجعة في التواصل الحضاري، وراح يعدد من مزايا اللغة العربية ومرونتها وقدرتها على استيعاب الأمم الأعجمية التي على رغم أنها لم تكن عربية الأصل، إلا أنها صارت بعد ذلك عربية الثقافة، وأرجع ذلك إلى ما تمتع به العرب من قوة في هذا الوقت، ما دعا الأمم المغلوبة إلى محاكاة الفاتحين، وهي النظرية نفسها التي سيعمقها بعد ذلك سوردل، عالم الاجتماع الفرنسي، عن علاقة التابع بمتبوعه، ومحاولة تقليده ومحاكاته نتيجة الإحساس تجاهه بالنقص، وهي العقدة التي سترتد لتصيب الشعوب العربية بعد أفول مجد حضارتهم، وتمكُن الاستعمار منهم في القرن التاسع عشر.
تأثير العرب في الغرب من الناحية العلمية شغل جزءاً من كتاب كرد علي، واتبع فيه أسلوبه نفسه «وشهد شاهد»، وفي هذا راح ينقل عن «درابر» قوله «من موجب الأسف أن الأدب الأوروبي حاول أن ينسينا واجباتنا العلمية نحو المسلمين، فقد حان الوقت الذي ينبغي لنا أن نعرفهم»، وفي قائمة طويلة سيعدد كرد علي إنجازات العلماء المسلمين في شتى ضروب المعرفة، من بينهم الأدريسي الذي قال عنه غوته، الشاعر الألماني الكبير، «إنه كان أستاذ الجغرافيا الذي علّم أوروبا هذا العلم، لا بطليموس»، وسيذكر كرد علي محاولة عباس بن فرناس الطيران، ورسالة ابن خاتمة في الوباء، واكتشاف أبو بكر القدسي آلة الطباعة قبل غوتنبرغ الألماني، وفضل العرب على أوروبا في تعريفها بصناعة الورق، وفق ما يؤكده كرد علي الذي يكرر النقل عن غوته قوله «وللعرب في باب الاختراعات شيء لا بأس به بالنسبة الى عصورهم»، وقول داربر «ومن عادة العرب أن يراقبوا ويمتحنوا (أي لديهم نزعة تجريبية لا تكتفي بالمجردات)، وقد حسبوا الهندسة، وعينوا الكسوف والخسوف، ولهم باب عظيم في قضايا الهندسة وحساب الجبر والمثلثات، ورسم خرائط النجوم، واختراع الآلات الفلكية، وأنشأوا العلوم الكيميائية مثل الكبرتيك وحامض الفضة، وهم أول من نشر تركيب الأدوية، وأصلحوا في علم البصريات».
في القسم الثاني سينتقل كرد علي إلى الإسلام من الداخل، وسيتفرغ للحديث عن الإنجاز المعرفي الذي قام به علماء الإسلام في مجالات المعرفة الدينية، وعلى رغم أنه لم يأتِ بجديد، إذ اقتصر في مجمله على النقل، سواء من مطولات التاريخ، أم مما اعتمد على ما كتبه الأستاذ المرحوم أحمد أمين صاحب فجر الإسلام وضحاه وظهره، إلا أنه من السهل على القارئ أن يلاحظ في هذا الجزء خفوت اللهجة اليقينية التي غلبت على كرد علي في الجزء الأول من كتابه، ويبدو أن النبرة التمجيدية تتراجع لمصلحة القراءة الناقدة لإسهامات المسلمين في علمي الكلام والفلسفة اللذين يرجع كرد علي انحسارهما إلى تنامي نفوذ سلطة المحدثين على حساب الفلاسفة والمتكلمين، والحرب التي اشتعلت ضد العقل والإبداع، وكان من نتيجتها «نكبة العلم، وإفلاس العقل، وشلّ حركة البحث والنظر»، وذلك قبل أن ينتقل إلى عرض «بانورامي» لأساليب الحكم والإدارة في الإسلام، ومدى تأثير الفرس في بناء الهيكل الإداري للدولة العباسية بالذات.
من الواضح أنّ محمد كرد علي قسّم كتابه تقسيماً واعياً، يعكس همّه الفكري الذي انصب على محاربة أعداء الإسلام، سواء من الداخل، أم من الخارج، كما رأينا في هذه العجالة، وتركزت جهوده على إبراز العناصر الحضارية للأمة الإسلامية باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من سياق الحضارة الإنسانية في شكل عام، إلا أن كل هذه الحماسة الصادقة من الرجل لا ينبغي أن تمنعنا من أن نؤكد أن كتاب كرد علي جاء استجابة دفاعية نحو القضية الرئيسية التي شغلت عصره، والتي نستطيع تلخيصها في علاقة الأنا بالآخر، شأنه في ذلك شأن غالبية كُتّاب النهضة العربية ومفكريها في ذلك الوقت، وقد عبّر هو عن هذا التوجه في مقدمة كتابه كما أشرنا من قبل، ونحن إذ نرى أنه لا غضاضة في هذه الإجراء الدفاعي، إلا أننا في الوقت نفسه نود أن ننبه إلى ضرورة توخي الحذر من الوقوع في الفخ الذي سار إليه معظم مفكري النهضة في ذاك الوقت، عندما ظنّوا، تحت تأثير الهجمة الفكرية الغربية، أن سبب تخلفهم إنما يكمن في وجود الدين في حياتهم، وأن تقدمهم مرهون بتنحية الدين بعيداً عن شؤون حياتهم، بينما التقدم والتخلف في حقيقة الأمر لهما شروط، من المؤكد أن الدين ليس من بينها.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |