قرى الضيف/ ج2 عبدالله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس
خاص ألف
2015-06-30
الباب الثاني 1في ذكر سيف الدولة أبي الحسن علي بن عبد الله بن حمدان وسياق قطعة من أخباره وملح من أشعاره
كان بنو حمدان ملوكا وأمراء أوجههم للصباحة وألسنتهم للفصاحة وأيديهم للسماحة وعقولهم للرجاحة وسيف الدولة مشهور بسيادتهم وواسطة قلادتهم وكان رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مأواه غرة الزمان وعماد الإسلام ومن به سداد الثغور وسداد الأمور وكانت وقائعه في عصاة العرب تكف بأسها وتنزع لباسها وتفل أنيابها وتذل صعابها وتكفي الرعية سوء آدابها وغزواته تدرك من طاغية الروم الثأر وتحسم شرهم المثار وتحسن في الإسلام الآثار وحضرته مقصد الوفود ومطلع الجود وقبلة الآمال ومحط الرحال وموسم الأدباء وحلبة الشعراء ويقال إنه لم يجتمع قط بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر ونجوم الدهر وإنما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها وكان أديبا شاعرا محبا لجيد الشعر شديد الاهتزاز لما يمدح به
فلو أدرك ابن الرومي زمانه لما احتاج إلى أن يقول - من الكامل -
( ذهب الذين تهزهم مداحهم ... هز الكماة عوالي المران )
( كانوا إذا امتدحوا رأوا ما فيهم ... ملأريحية منهم بمكان )
وكان كل من أبي محمد عبد الله بن محمد الفياض الكاتب وأبي الحسن علي بن محمد الشمشاطي قد اختار من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت كقول أبي الطيب المتنبي - من الطويل -
( خليلي إني لا أرى غير شاعر ... فلم منهم الدعوى ومني القصائد )
( فلا تعجبا إن السيوف كثيرة ... ولكن سيف الدولة اليوم واحد )
( له من كريم الطبع في الحرب منتض ... ومن عادة الإحسان والصفح عامد )
( ولما رأيت الناس دون محله ... تيقنت أن الدهر للناس ناقد )
ومن القصيدة المرقومة
( فلم يبق إلا من حماها من الظبا ... لمى شفتيها والثدي النواهد )
( تبكي عليهن الباطريق في الدجى ... وهن لدينا ملقيات كواسد )
( بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد )
( ومن شرف الإقدام أنك فيهم ... على القتل مرموق كأنك شاكد )
( وأن دما أجريته بك فاخر ... وأن فؤادا رعته لك حامد )
( وكل يرى طرق الشجاعة والندى ... ولكن طبع النفس للنفس قائد )
( نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنئت الدنيا بأنك خالد )
( فأنت حسام الملك والله ضارب ... وأنت لواء الدين والله عاقد )
( أحبك يا شمس الزمان وبدره ... وإن لامني فيك السهى والفراقد )
( وذاك لأن الفضل عندك باهر ... وليس لأن العيش عندك بارد )
وكقول السري بن أحمد الموصلي - من الوافر -
( أعزمتك الشهاب أم النهار ... أراحتك السحاب أم البحار )
( خلقت منية ومنى فأضحت ... تمور بك البسيطة أو تمار )
( تحلي الدين أو تحمي حماه ... فأنت عليه سور أو سوار )
( سيوفك من شكاة الثغر برء ... ولكن للعدى فيها بوار )
( وكفاك الغمام الجون يسري ... وفي أحشائه ماء ونار )
( يمين من سجيتها المنايا ... ويسري من عطيتها اليسار )
( حضرنا والملوك له قيام ... تغض نواظرا فيها انكسار )
( وزرنا منه ليث الغاب طلقا ... ولم نر قبله ليثا يزار )
( فكان لجوهر المجد انتظام ... وكان لجوهر المدح انتثار )
( فعشت مخيرا لك في الأماني ... وكان على العدو لك الخيار )
( فضيفك للحيا المنهل ضيف ... وجارك للربيع الطلق جار )
وكقول أبي فراس الحارث بن سعيد - البسيط -
( أشدة ما أراه فيك أم كرم ... تجود بالنفس والأرواح تصطلم )
( يا باذل النفس والأموال مبتسما ... أما يهولك لا موت ولا عدم )
( لقد ظننتك بين الجحفلين ترى ... أن السلامة من وقع القنا تصم )
( نشدتك الله لا تسمح بنفس علا ... حياة صاحبها تحيا بها أمم )
( إذا لقيت رقاق البيض منفردا ... تحت العجاج فلم تستكثر الخدم )
( تفدي بنفسك أقواما صنعتهمو ... وكان حقهم أن يفتدوك هم )
( من ذا يقاتل من تلقى القتال به ... وليس يفضل عنك الخيل والبهم )
( تضن بالطعن عنا ضن ذي بخل ... ومنك في كل حال يعرف الكرم )
( لا تبخلن على قوم إذا قتلوا ... أثنى عليك بنو الهيجاء دونهم )
( ألبست ما لبسوا أركبت ما ركبوا ... عرفت ما عرفوا علمت ما علموا )
( هم الفوارس في أيديهم أسل ... فإن رأوك فأسد والقنا أجم )
وكقول أبي العباس بن محمد النامي
( خلقت كما أرادتك المعالي ... فأنت لمن رجاك كما يريد )
( عجيب أن سيفك ليس يروى ... وسيفك في الوريد له ورود )
( وأعجب منه رمحك حين يسقى ... فيصحو وهو نشوان يميد ) - من الوافر -
وكقول أبي الفرج الببغاء
( نداك إذا ضن الغمام غمام ... وعزمك إن فل الحسام حسام )
( فهذا ينيل الرزق وهو ممنع ... وذاك يرد الجيش وهو لهام )
( ومن طلب الأعداء بالمال والظبا ... وبالسعد لم يبعد عليه مرام ) - من الطويل -
وكقول أبي الفرج الوأواء
( من قاس جدواك بالسحاب فما ... أنصف بالحكم بين شكلين )
( أنت إذا جدت ضاحك أبدا ... وهو إذا جاد دامع العين ) - من المنسرح -
وكقول أبي نصر بن نباتة وهو من شعراء العراق
( حاشاك أن تدعيك العرب واحدها ... يا من ثرى قدميه طينة العرب )
( فإن يكن لك وجه مثل أوجههم ... عند العيان فليس الصفر كالذهب )
( وإن يكن لك نطق مثل نطقهم ... فليس مثل كلام الله في الكتب ) - من البسيط -
وكانت غمائم جوده تفيض ومآثر كرمه تستفيض فتؤرخ بها أيام المجد وتخلد في صحائف حسن الذكر
فصل في انفجار ينابيع جوده على الشعراء
حدثني أبو الحسن علي بن محمد العلوي الحسيني الهمداني الوصي قال كنت واقفا في السماطين بين يدي سيف الدولة بحلب والشعراء ينشدونه فتقدم إليه أعرابي رث الهيئة فاستأذن الحجاب في الإنشاد فأذنوا له فأنشد
( أنت علي وهذه حلب ... قد نفذ الزاد وانتهى الطلب )
( بهذه تفخر البلاد ... وبالأمير تزهى على الورى العرب )
( وعبدك الدهر قد أضر بنا ... إليك من جور عبدك الهرب ) - من المنسرح -
فقال سيف الدولة أحسنت ولله أنت وأمر له بمائتي دينار
وحكى ابن لبيب غلام أبي الفرج الببغاء أن سيف الدولة كان قد أمر بضرب دنانير للصلات في كل دينار منها عشرة مثاقيل وعليه اسمه وصورته فأمر يوما لأبي الفرج منها بعشرة دنانير فقال ارتجالا
( نحن بجود الأمير في حرم ... نرتع بين السعود والنعم )
( أبدع من هذه الدنانير لم ... يجر قديما في خاطر الكرم )
( فقد غدت باسمه وصورته ... في دهرنا عوذة من العدم ) - من المنسرح -
فزاده عشرة أخرى
وكان أبو فراس يوما بين يديه في نفر من ندمائه فقال لهم سيف الدولة
أيكم يجيز قولي وليس له إلا سيدي يعني أبا فراس
( لك جسمي تعله ... فدمي لم تحله )
( لك من قلبي المكان ... فلم لا تحله ) - من الخفيف -
فارتجل أبو فراس وقال
( أنا إن كنت مالكا ... فلي الأمر كله )
فاستحسنه وأعطاه ضيعة بمنبج تغل ألفي دينار
واستنشد سيف الدولة يوما أبا الطيب المتنبي قصيدته التي أولها
( على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم ) - من الطويل -
وكان معجبا بها كثير الاستعادة لها فاندفع أبو الطيب المتنبي ينشدها فلما بلغ قوله فيها
( وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم )
( تمر بك الأبطال كلمي هزيمة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم )
قال قد انتقدنا عليك هذين البيتين كما انتقد على امرئ القيس بيتاه
( كأني لم أركب جوادا للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال )
( ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال ) - من الطويل
وبيتاك لا يلتئم شطراهما كما ليس يلتئم شطرا هذين البيتين وكان ينبغي لامرئ القيس أن يقول
( كأني لم أركب جوادا ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال )
( ولم أسبأ الزق الروي للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال )
ولك أن تقول
( وقفت وما في الموت شك لواقف ... ووجهك وضاح وثغرك باسم )
( تمر بك الأبطال كلمي هزيمة ... كأنك في جفن الردى وهو نائم )
فقال أيد الله مولانا إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا كان أعلم بالشعر منه فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا ومولانا يعلم أن الثوب لا يعرفه البزاز معرفة الحائك لأن البزاز يعرف جملته والحائك يعرف جميلته وتفاريقه لأنه هو الذي أخرجه من الغزلية إلى الثوبية وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء وأنا لما ذكرت الموت في أول البيت أتبعته بذكر الردى وهو الموت ليجانسه ولما كان وجه الجريح المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوسا وعينه من أن تكون باكية قلت ( ووجهك وضاح وثغرك باسم ... ) لأجمع بين الأضداد في المعنى وإن لم يتسع اللفظ لجميعها
فأعجب سيف الدولة بقوله ووصله بخمسين دينارا من دنانير الصلات وفيها خمسمائة دينار
وكان أبو بكر وأبو عثمان الخالديان من خواص شعراء سيف الدولة فبعث إليهما مرة وصيفة ووصيفا ومع كل واحد منهما بدرة وتخت من ثياب مصر فقال أحدهما من قصيدة طويلة وهي
( لم يغد شكرك في الخلائق مطلقا ... إلا ومالك في النوال حبيس )
( خولتنا شمسا وبدرا أشرقت ... بهما لدينا الظلمة الحنديس )
( رشأ أتانا وهو حسنا يوسف ... وغزالة هي بهجة بلقيس )
( هذا ولم تقنع بذاك وهذه ... حتى بعثت المال وهو نفيس )
( أتت الوصيفة وهي تحمل بدرة ... وأتى على ظهر الوصيف الكيس )
( وبررتنا مما أجادت حوكه ... مصر وزادت حسنه تنيس )
( فغدا لنا من جودك المأكول ... والمشروب والمنكوح والملبوس ) - من الكامل -
فقال له سيف الدولة أحسنت إلا في لفظة المنكوح فليست مما يخاطب بها الملوك وهذا من عجيب نقده
حكى أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي قال طلب مني رسول سيف الدولة وكان قد قدم إلى الحضرة شيئا من شعري وذكر أن صاحبه رسم له ذلك فدافعته أياما ثم ألح علي وقت الخروج فأعطيته هذه الثلاثة الأبيات وهي
( إن كنت خنتك في الأمانة ساعة ... فذممت سيف الدولة المحمودا )
( وزعمت أن له شريكا في العلا ... وجحدته في فضله التوحيدا )
( قسما لو أني حالف بغموسها ... لغريم دين ما أراد مزيدا ) - من الكامل -
وقال فلما عاد الرسول إلى الحضرة ودخلت عليه مسلما أخرج لي كيسا بختم سيف الدولة مكتوبا عليه اسمي وفيه ثلاثمائة دينار
نبذ من ذكر وقائعه وغزواته
حدث أبو عبد الله الحسين بن خالويه قال لما كانت الشام بيد الإخشيد محمد محمد بن طغج سار إليها سيف الدولة فافتتحها وهزم عساكره عن صفين فقال له المتنبي
( يا سيف دولة ذي الجلال ومن له ... خير الخلائف والأنام سمي )
( أو ما ترى صفين كيف أتيتها ... فانجاب عنها العسكر الغربي )
( فكأنه جيش ابن حرب رعته ... حتى كأنك يا علي علي ) - من الكامل -
وقال أبو فراس من قصيدة طويلة
( أتى الشام لما استذأب البهم واغتدت ... بها أذؤب البيداء وهي قساور )
( فثقف منآد وأصلح فاسد ... وذلل جبار وأذعر ذاعر ) - من الطويل -
وكان ظهر رجل في الغرب يعرف بالمبرقع يدعو الناس إلى نفسه والتفت عليه القبائل وافتتح مدائن من أطراف الشام وأسر أبا وائل تغلب بن داود بن حمدان وهو خليفة سيف الدولة على حمص وألزمه شراء نفسه بعدد من الخيل وجملة من المال فأسرع سيف الدولة من حلب يغذ السير حتى لحقه في اليوم الثالث بنواحي دمشق فأوقع به وقتله ووضع السيف في أصحابه فلم ينج إلا من سبق فرسه وعاد سيف الدولة إلى حلب ومعه أبو وائل وبين يديه رأس
الخارجي على رمح فقال أبو فراس يذكر ذلك
( وأنقذ من مس الحديد وثقله ... أبا وائل والدهر أجدع صاغر )
( وآب ورأس القرمطي أمامه ... له جسد من أكعب الرمح ضامر ) - من الطويل -
وهذا من أحسن ما قيل في الرأس المصلوب على الرمح
ولبعضهم في مثل ذلك
( وعاد لكنه رأس بلا جسد ... يسري ولكن على ساق بلا قدم ) - من البسيط -
وقال أبو الطيب في خلاص أبي وائل
( ولو كنت في أسر غير الهوى ... ضمنت ضمان أبي وائل )
( فدى نفسه بضمان النضار ... وأعطى صدور القنا الذابل )
( ومناهم الخيل مجنوبة ... فجئن بكل فتى باسل )
( كأن خلاص أبي وائل ... معاودة القمر الآفل )
( دعا فسمعت وكم ساكت ... على البعد عندك كالقائل )
( فلبيته بك في جحفل ... له ضامن وبه كافل )
( وعدت إلى حلب ظافرا ... كعود الحلي إلى العاطل ) - من المتقارب –
***
نهاية الجزء الثاني
ألف / خاص ألف/
يتبع ...
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |