رسالة مفتوحة إلى الشاعر أدونيس / رؤوف قبيسي
2015-06-30
عزيزي أدونيس، تعقيباً على الحوار الشائق الذي أجرته “السفير” معك في بيروت، يروق لي أن أوافقك على كثير مما جاء فيه، وخصوصاً قولك إن الديموقراطية في بلداننا لن تتحقق ما دام الدين مرجع القيم. أعرف أن الكثيرين من القراء لن يقرّوا كلامك، وقد جاءت ردود أكثرهم مصداقاً على ذلك، وأعرف أن من المثقفين والسياسيين، من سوف ينال منك بجريرة السياسىة وينتقدك إلى حدود التهكم والتجني والتخوين. هؤلاء ينتقدونك مشافهةً، وكم أود لو يردّون عليك كتابةً، ليكون الحوار عاماً يفيد منه الجميع، ولكن ما حيلتنا وبعضهم “أصحاب أختام”، يصنّفون الناس على هواهم، كأنهم سدنة الحرم وقضاة المجتمع!
أنا لا أعرف شاعراَ يريد الخير لبلاده أكثر منك، ولا أعرف شاعراً يريد الحرية لبلاده أكثر منك، ولا أعرف شاعرا أجرأ منك، وأكثر منك فهماً للتاريخ، وقولي هذا مبني على قراءتي كثيراً من أفكارك، وعلى جلسات بيننا في لندن، ولا أراك بين قومك إلا كالمتنبي القائل: ما مقامي بأرض نخلة/ إلا كمقام المسيح بين اليهود.
أخاطبك شاعراً ومفكراُ وإنسانا ومواطناً يطمح إلى دولة مدنية، المتدينون فيها والملحدون والاأدريون متساوون كلهم أمام القانون، هذا مع علمي أن هناك من يعتبرك عميلاً وزنديقاً وهرطوقاً، لا لشيء إلا لأنك تأبى أن تمتطي جواد الشعارات القومية والدينية. حين تقول إنك ترفض أن يكون الدين مرجع القيم، معناه أنك ترفض المؤسسات الدينية التي ما انفكت تذكي نار الفتن بين أبناء الشعب المتعدد الأديان والمذاهب. هذه المؤسسات هي نفسها التي دفعت شيخاً جليلاً مثل ابرهيم اليازجي، لأن يقول يوماً قولته المشهورة: الشر كل الشر ما بين العمائم والقلانس/ والخير كل الخير في هدم الجوامع والكنائس
لا ندعو إلى هدم المساجد والكنائس، لكننا نتفهم السبب الذي حمل شيخ الطهارة اللغوية على أن يقول قوله ذاك، يوم كان الصراع على أشده، بين من كانوا يسمّون أنفسهم “مسلمين”، ومن كانوا يسمّون أنفسهم “مسيحيين”. مهما يكن، فالقيم على هذه الأرض موجودة مذ كان الإنسان، وقبل أن توجد “الأديان السموية” التي حوّلها المتدينون طقوساً تصادر القيم وتحصرها في مفاهيمها. هكذا أصبحت المرأة المحجبة في نظر هؤلاء وحدها الفاضلة، والذين يدخلون المعابد، ويؤدون الشعائر وحدهم الأفاضل، ومن لا يؤدي هذه الشعائر فخارج عن الدين، زنديقي هرطوقي يستحق الطرد والقتل.
هكذا يفعل الغلاة من حفظة الكتب، يستخدمون اسم “الله” ليظهروا بمظهر الأتقياء. هم باختصار، دعاة ثقافة “التلقيم”، وأبعد ما يكونون عن القرآن الذي تقول اياته: “من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، والذي يقول للنبي: “فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب”، ويقول للبشر في مكان آخر “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”. هم أيضاَ أبعد من يكونون عن “المسيح” القائل “إن الله يريد رحمة ولا يريد ذبيحة”، وعن معنى قوله للسامرية عند بئر يعقوب عندما قالت له: “آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي يجب أن يسجد فيه” فأجابها: “لا يا إمرأة، لا في هذا الجبل، ولا في أروشليم، الله روح والذين يسجدون له، فبالحق والروح ينبغي أن يسجدوا”.
* * *
لا أريد أن أحاسنك أو أداجنك لأرضيك أيها العزيز أدونيس. ولا يهمني ما يقول الناس عنك وعني، ما دام هدفنا الخير والحقيقة ولا شيء غير الخير والحقيقة. بوحي من هذه الحقيقة أكتب إليك، وأريد أن أعلّق على ما جاء على لسانك في ذلك في الحوار. قلت إن الإسلام لم ينشأ كتبشير غير عنفي، بل نشأ منذ البداية عنفياً، وأن السيدة خديجة كانت تاجرة، والنبي كان تاجراً، وأن الخلفاء الثلاثة الأول، أبا بكر وعمر وعثمان، كانوا أيضاَ تجاراَ، واستثنيت الخليفة الرابع علي بن أبي طالب. هكذا وقعت في المحظور من حيث لا تدري يا أدونيس، وعززت ظنون من يظنون بك الظنون، ويتهمونك بالمذهبية التي أنت منها براء.
ألا ترى يا أدونيس أنكَ فعلتَ ما يفعله الآخرون، حين يبنون حججهم على قصص في السيرة لا أساس تاريخيا وعلمياً لها، ودُوِّنت بعد وفاة البني بمئات السنين، وهي قصص يجب ألاّ يعتدّ بها الدارس العاقل، ولا يأخذ منها إلا ما يتوافق مع نص القرآن. أقول القرآن لأنه الكتاب الوحيد المجمع عليه بين المسلمين، الذي يجب أن يكون منارة الإيمان الوحيدة. إذا لجأنا إلى السيرة، فسوف يطلع من يقول لك إن الإمام علي لم يكن يحتاج إلى أن يكون تاجراً لأنه كان من الأثرياء الكبار، وأنه أخذ من قصر كسرى بساطاً باعه بخمسين ألف دينار (وفي رواية أخرى عشرين الف دينار!) وأنه أخذ إحدى بنات كسرى زوجة لابنه الإمام الحسين، التي تقول لنا السيرة إنها ولدت له الإمام زين العابدين.
السيرة هي المشكلة الكبرى في تاريخ الإسلام، بل هي مصدر المشاكل كلها، ومنها يأخذ الذي يسيئون إلى الأسلام حججهم وأدلتهم. وأنت تعرف يا أدونيس أن ابن هشام كان اول من كتب السيرة وكتبها نقلاً عن سيرة ابن اسحق، وبعد أكثر من مئة وخمسين عاماً من وفاة النبي، وهو ما يعادل اليوم ألف عام! لقد اعترف ابن هشام أنه شذّب سيرة ابن اسحق وهذّبها، وسيرة هذا الأخير مفقودة، ولا نعرف عنها شيئاً، كما أننا لا نملك صفحة أصلية واحدة من سيرة ابن هشام، والعرب المعاصرون لم يسمعوا بسيرة ابن هشام، إلا يوم طبعها الباحث الألماني ووستنفلد، في مدينة غوتنغن في ألمانيا في العام 1858، فكيف نركن إلى سيرة لعبت فيها المصالح المادية والأهواء المذهبية والسياسية كل مذهب؟
* * *
لجأتَ إلى هذه السيرة يا أدونيس، وأنت تعرف أن للسنّة كتبهم الخاصة بالسيرة، وللشيعة كتبهم الخاصة بالسيرة، وهذا يدخلنا في غرفة مظلمة لن نهتدي فيها إلى نور الحقيقة. لذلك على المسلمين أن يعودوا إلى القرآن، وإلى القرآن وحده، ويقرأونه قراءة إيمانية، لا قراءة دينية، ويتصالحون به مع أنفسهم، ويقبلون العالم ويقبلهم العالم. حين أقول قراءة إيمانية، أقصد القراءة التي يقبل الإسلام فيها الملحد واليهودي والمسيحي والصابئي، وكل أصناف البشر، لأن القرآن يقول للنبي في سورة هود “ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين”، وقال للبشر في مكان آخر من سورة المائدة “ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة”، هذا معناه أن الكتاب يقبل بالتعددية واختلاف الآراء، ويرفض أن يحاسب مؤمن مؤمناً آخر.
أعرف يا أدونيس، وأنت تعرف أن من السهل على أي امرئ يريد تشويه الإسلام وخدش صورة نبيه، أن يلجأ إلى السيرة، لأنه سيجد فيها ضالته المنشودة، مثل القصص التي تروى عن النبي أنه تزوج عائشة وهي بنت تسع سنين، وانه تكلم بالعربية مع حماره يعفور، وكانت له قدرة جنسية تعادل قدرة أربعة الآف رجل، وأنه صعد إلى الجبل يوماً وكاد أن ينتحر، وطائفة كثيرة من الأحاديث، ومنها المدوّن في “صحيح البخاري” و“صحيح مسلم” التي يجلّها المسلمون، ويعتبرونها الكتب الثانية بعد القرآن!
أما قولك يا أدونيس إن الإسلام بدأ عنفياً فلا سند تاريخياً له على الإطلاق، إلاّ ما جاء في السيرة التي على العاقل ألا يعتدّ بها وإلا وقع في المحظور، وأوقع غيره في المحظور. أعرف أن في تاريخ الإسلام الكثير من التعسف، وأعرف أن بعض الحكام والملوك والأباطرة، أقروا الأديان والمذاهب، عندما وجدوا لهم مصلحة في ذلك. هكذا صارت المسيحية ديناً رسمياً في روسيا على يد الأمير فلاديمير قبل ألف عام، وصارت روما مسيحية على يد الأمبراطور قسطنطين قبل 1700، وهذا ما حدث في إنكلترا عندما فصل الملك هنري الثامن مملكته عن بابوية روما الكاثوليكية، ليتسنى له أن يتخذ زوجة جديدة!
صحيح أن الاشكال الدينية تتغير بفعل المكان والزمان، وصحيح أيضاً أنه كان على ديانة مثل المسيحية أن تصبح رومانية قبل أن تدعو الرومان ليكونوا مسيحيين، كما يقول فيليب حتي في مؤلفه “تاريخ الشرق الأدنى”، لكن من الخطأ، بل من الخطأ الكبير أن نقول إن الأديان انتشرت بحد السيف، وبحد السيف فقط، وأنها سادت ودخلت قلوب الناس بقرارات الحكام والملوك.
ليس صحيحاً إن الإسلام انتشر بحد السيف، وليست صحيحة الروايات التي تروى عن الفتوحات، وما كتبه مؤرخ مثل الواقدي وضع للتسلية ولا أساس له على الإطلاق. هناك من الفقهاء من لا يعتدّ بما أورده الواقدي من قصص ومن أحاديث، ويقول أحدهم عنه إنه “خلط الغث بالسمين والخرز بالدر الثمين”. لست من الغلو بحيث أغيّب دور السيف من المعادلة في أمكنة وأزمنة محددة، لكني أعتقد وأستطيع أن أثبت هذا الأعتقاد أن الإسلام “الحق” انتشر بالهجرات وحرارة الإيمان، ولو لم يكن فيه شيء يرضي “حاجة عضوية” لدى البشر في طريق بحثهم عن “الله”، لما وصل إلى الهند والصين وأندونيسيا وجزر المندناو في الفيليبين.
من الخطأ أن نسيء إلى كتب يؤمن بها الملايين حول العالم، ومهما اجتهدنا لن نستطيع أن نزيل الكتب من بيوت الناس، ونمحو من صدورهم ما هو “مغروز” فيها منذ مئات السنين، لكن ما نستطيع أن نفعله، أو ما يتعيّن علينا أن نفعله، هو أن نفرض قراءة إيمانية للكتب بحيث يخرج المسلم من الطقوس الجامدة إلى رحاب الإيمان الطلق، فلا يعود هناك شيعي أو سني أو درزي أو علوي، بل مسلم مؤمن متصالح مع نفسه، لا يكفّر اليهودي والمسيحي والبوذي، بل يعتبره أخاه في الإنسانية، ويقبل العيش معه في دولة مدنية علمانية هي “دولة الله” الوحيدة على الأرض.
على الإسلام أن يتكيف ليكون رسالة لكل زمان ومكان، وفي القرآن ما يدعو إلى هذا التكيف. هذا ما حصل للمسيحية في الغرب التي يقول تي أس إليوت إنها ما “انفكت تكيف نفسها لتبقى عقيدة جديرة بأن يؤمن الناس بها على الدوام”.
Christianity is always adapting itself into something which can be believed“
* * *
وجدت في كلامك ايضاَ يا أدونيس تجاوزاً للحقيقة مثل قولك إن السياسة الأميركية لم تقف يوماً إلى جانب الشعوب المستضعفة أو المرتهنة وحررتها أو ساعدت على تحريرها وقولك إن”الثوار“العرب مغرمون بأميركا!
أفهم أن يقول رجل عادي هذا الكلام، أما أن يصدر عنك فأمر مستهجن حقاً، إلا إذا كان ما نُقل عنك بطريق الخطأ. لست ضد أميركا في المطلق، ولست مع أميركا في المطلق، وأعتقد أن خطايا أميركا كثيرة، خصوصاً في المنطقة العربية، لكن من غير المنطقي أن نقول إن أميركا لم تقف يوماً إلى جانب الشعوب المستضعفة أو المرتهنة، وإنها لم تحرر أو تساعد على تحريرها. ألم تحرر أميركا الكويت من حراب صدام حسين؟ ألم تحرر شعب البوسنة من حراب ميلوسيفيتش وأحلامه في صربيا الكبرى؟ ألم تحرر الفيليبين من اليابانيين، ألم تحرر دوقية مثل لوكسمبورغ، ودولاً مثل بلجيكا وفرنسا وإيطاليا من فاشية النازيين؟
تجاوزتَ الحقيقة أيضاً عندما قلت إن الإسلام كله سلطة ومال وإنه ليس ثقافة. هذا نكر من القول أربأ بشاعر ومفكر مثلك أن يقوله، بغض النظر ما اذا كانت هذه الثقاقة ترضيك أو لا ترضيك. إذا لم يكن الإسلام ثقافة وكتباً وأشعاراً وفنوناً وآثاراً فما هو إذاً؟ أهو ضرب من الغيب أم أضغاث أحلام؟!
من الخطأ أيضاً تساؤلك: كيف لا نجد شاعراً عربياً واحداً كان مؤمناً؟ هذا معناه في نظر من يقرأ كلامك أن المؤمن هو من يدين بالإسلام فقط! أعرف أن هذا ليس قصدك، لكن كان من الأولى أن تقول إنه لم يوجد شاعر عربي واحد كان متديناً، لأن هناك فرقاً بين أن يكون المرء متديناً وبين أن يكون مؤمناً. بهذا المعنى يكون شاعر”ملحد“مثل أبي العلاء شديد الإيمان، وماذا تقول في هذا الشاعر الضرير العظيم الذي لم يجن على أحد في حياته كما يقول شعره، ولم يأكل اللحم، وكان يخشى على النحل أن يُشتار عسله؟ أنعدّه غير مؤمن، ونحسب الداعشي الذي يقتل باسم الله مؤمناً؟!
إذا أردنا أن نصلح شأن الإسلام والمسلمين، فعلينا ألا”نفجّر الكتاب من الداخل“كما يفعل بعض العلمانيين والدارسين، لأن الإسلام ثقافة موجودة منذ 1400 سنة، وليس هناك ما يدل على أنها سوف تذوي أو تزول. كل ما علينا أن نفعله هو أن نترك السيرة، ونأخد منها ما يتوافق مع القرآن، ونحث الناس على أن يكونوا متسامحين، وأن يقرأوا الكتاب قراءة إيمانية ويعملوا لبناء دولة مدنية، وعلى ألاّ يكثروا من الإنجاب الذي”يأكل" معدلات التنمية التي تحققها بلادهم كل عام. إذا لم نفعل ذلك، فسيبقى صراعنا قائماً في الدين ومع كل دين، وسنبقى في ديجور طويل مظلم، أوله جحيم في الأرض وآخره جحيم في السماء!
عن جريدة النهار