رؤية نقدية لأدب الإثارة الجنسية / د. محمد سالم
د. محمد سالم
رؤية نقدية لأدب الإثارة الجنسية
تجد بعض النصوص المعاصرة أن الحديث عن فنون الإثارة الجنسية ووضعها في قالب أدبي متنوع بين قصة ورواية وقصيدة ... ونحو ذلك ، أمر متعلق بتجاوز المسكوت عنه في النصوص الإبداعية ، فضلا عن الرغبة في ولوج مساحات كتابية تكتنفها حُجُب عدة تبدأ مع الدين ولا تنتهي عند الأعراف ، وفي اقتحام ميدان النصوصية بما ألفته ـ زمناً ممتداً ـ خارج الذاكرة المكشوفة .
إن المتأمل في نماذج من نصوص الإثارة الجنسية التي يُطلق عليها أحياناً ( الكتابة الآيروتيكية ) أو الكتابات المنتمية إلى ميدان ( البونوغراف ) ، يجد ملحوظات عدة ، منها ما ينتمي للفن الكتابي نفسه بوصفه إبداعاً ، ومنها ما ينتمي إلى هذه الظاهرة بشكل عام بوصفها موضة جديدة في الخط البياني المتنامي عربياً ، وهو ليس بالضرورة خطاً ذا سمات إيجابية ، فالنماء في ظاهرة ما لا يشير مطلقاً إلى كونها ظاهرة تسير بشكل متزن دون تعرج في المنهج ، أو عوق في الأسلوب ، أو سطحية في المعنى .
تأخذ الرؤية النقدية لهذه الظاهرة ( الموضة ) جوانب تتعلق ـ كما نرى ـ بتوجهات نفسية بالدرجة الأولى متجهة نحو مسلكين قد لا يكونا متلازمين : الأول البحث عن الشهرة ، والثاني الكبت الشعوري والحرمان الذي يعانيه الناص .
ويضفي كلا المسلكين على النص رؤية تصطبغ بمعالجات انزياحية خارجة عن المألوف ، تقرب من الحصن الأخلاقي الذي تتمتع به كل منظومة فردية ، محاولة العزف على وتر الغرائز الدفينة ، ومثيرة في الوقت نفسه مجسات الشهوة المستعدة في الأوقات كلها للتأثر المباشر نظراً لطبيعة البنية الشعورية لدى الجسد .
وانطلاقاً من ذلك يجد القارئ نفسه أمام زخم من المعاني التي تدغدغ ما سُكِتَ عنه ، وتستنهض فيه الرغبة بالمتابعة والانجذاب نحو هذه النصوص ، دون مراعاة النتائج المتوخاة من الاستمرار في طريق هذه الخواطر والمحفزات التي قُدِمت بوصفها إبداعاً فنياً !! .
ويجد الناقد في نص الإثارة الجنسية انحيازاً واضحاً للمضمون على حساب الشكل ، وتوجهاً مباشراً نحو المعنى على حساب العناصر الفنية ، ويجد أن الجسد قد تحول مع هذه النصوص إلى أيقونة فقدت قدسيتها ، وغابت عنها دلالتها ، وتشرنقت بأسئلة الدهشة والمتعة والجرأة والاقتحام والتجاوز ، والإسهام ـ بشكل أو بآخر ـ بنزع أقنعة الفرد التي يرتديها أمام المجتمع ليظهر بوجه حقيقي عارٍ أمام نفسه في مواجهة المغريات .
إن محاولة هذه النصوص العربية من تمثيل الكتابة بالجسد أو بالكتابة حول فعاليات الجسد وعلاقته بالأجساد الأخرى ، وتصوير العلاقات بين الأفراد في حدود الجنس وحسب دون حدود فاصلة بينهم ، ودون مراعاة التوجهات الاجتماعية القاضية بحفظ خصوصية هذه العلاقات الإنسانية وسريتها ، واحترام خفائها وعدم إشاعتها ، هي محاولات لا تستقيم مع المسارات العربية والإسلامية في التلقي والاستقبال ، وتبقى ـ أي هذه المحاولات ـ أصواتاً لا تحمل صدى نظراً لمحاولتها سحب العلاقات الإنسانية التي تكتسب جمال الكون ، وتحفظ دورة الحياة فيه ، سحبها من الإطار المقدس المتزن في الأسرة الواحدة إلى الميدان المشاع من العلاقات المحرمة المتجاوزة لكل ( التابوات ) ، ولكل ما ألفته الإنسانية من نبل وودّ ومشاعر صادقة غير قاصرة على ممارسة جنسية جسدية تستغرق دقائق معدودة !! .
ويشير التحليل البنيوي لهذه النصوص إلى أن البؤرة التي تنطلق منها هي الجسد وما يتعلق به من ممارسات ، وما يرتبط به من فعاليات ونشاطات ، وأن الأنساق المتشكلة منها تتجه جميعاً إلى نُظُمٍ نمطية تتحدث عن التداخلات الشخصية ورؤية كل منها للأمر ، وفي ذلك التحليل ربط جوهري بين التحيز الكامل للمعنى المعلن عنه وبين النظام النصي المشكل ، وكأننا ـ وانطلاقاً من الرؤية السابقة ـ نرجع إلى عقود خلت من الرؤية التحليلية للإبداع النصي وتحديداً مع معطيات ( فرويد ) حول ربط الإبداع بالشهوة ، وحول كون ( اللبيدو ) عنصراً محفزاً لإطلاق الإبداع الفني والأدبي !! .
إن محاولة ربط الإبداع بالمحفز الجنسي وحسب ، هي قضية عفا عنها الزمن ، ولم تستقم مع التحليل النقدي المعاصر ـ النصي منه والسياقي ـ بتنوع مدارسه واتجاهاته ، لأن الإبداع وبشكل أساسي هو منظومة تشكل خبرات الناص وتلاقحها مع مجمل النشاطات والفعاليات المعيشة المتنوعة دون مكاشفات عينية مباشرة ، وليست قاصرة على جوانب نفسية محددة بعنصر الجنس وحسب .
يهدف النص الآيروتيكي ـ كما يصور أصحابه ـ إلى تقديم عنصر ( التثاقف ) للمجموع من خلال تجاوز المضمرات أولاً ، وتحويل هوامش أبنية السؤال إلى متون المعرفة التي يسعى الآخر إليها ثانياً ، وتنبني هذه العملية على مولد فكري ذي قصدية ، وأعني هنا تحديداً قصدية الاختراق ، الذي ينطلق من قاعدة ( تسويق المنتج الفكري ) القائمة على أساس وضعه في قالب فني ليكون أكثر قبولاً وتشويقاً وتأثيراً .
ويمكن القول إنّ نص الإثارة الجنسية ( النص الآيروتيكي ) قد تجاوز وبشكل واضح ظاهرة ( الأدب المكشوف ) التي عالجها النقاد خلال عقـود خلت من المسيرة النقدية ، إذ تناولت نصوص الأدب المكشوف الحديث عن فنون العلاقة مع الآخر بتلميح دون تصريح ، وبترميز دون تجريح ، دون اللجوء إلى الوصف الدقيق ، والحوار الشبقي المنفلت من سطوة الرقيب .
إن الباحث عن الإبداع لن يجد في بضاعة النص المثير للجنس ـ في الغالب ـ سوى حديث عن فنون التعري والتقرب جسدياً من الآخر ، وطرائق كسب المتعة واللذة ، وكيفيات تصريف النزوة ، وإشباع الشهوة ، وحديث عن الخبرات والممارسات الجنسية والشاذة التي عايشها أبطال الحدث ، فضلا عن الأوصاف المتعلقة بالأعضاء الذكرية والأنثوية التي تصل في بعض الأحيان إلى درجة من التشخيص الدقيق الذي يقودك إلى التقزز والاشمئزاز ، ولنا في هذا المقام شواهد من هذه النصوص العربية ( ثلاث روايات وسيرة ذاتية ) ، نتجنب التصريح بعنواناتها خشية التسويق المجاني لها .
والسؤال المطروح الآن : هل وصل النص الفني المنتمي إلى ميدان الأدب العربي الحديث إلى مرحلة الإدمان على البونوغراف في فضاء الكتابة ، أم أن هذه المحاولات لا يمكنها أن تشكل ظاهرة فنية يُشار إليها نقدياً ؟
إن الإجابة عن هذا التساؤل يكتنفها التأمل ... ، إذ بعد متابعة بعض الأعمال الإبداعية العربية ـ النثرية تحديداً ـ تبين لنا وجود عدد من النصوص التي تحمل هذا الطابع الكتابي ، وتتبنى هموم المعنى المتعلقة بمعاني الإثارة الجنسية فضلاً عن الشذوذية ، لا سيما وأن التجارب الأنثوية في هذا الإطار أكثر وضوحاً ونتاجاً وإفصاحاً من التجارب النصية الذكورية ، مع إيماننا النقدي بعدم وجود فاصل إبداعي بين ما يُسمى ( الكتابة الأنثوية ) و ( الكتابة الذكورية ) ، ولا يعدو الفرق بينهما ـ كما نرى ـ اختلافاً في التجارب والرؤى .
يُعدّ نص الإثارة الجنسية ظاهرة كتابية تستدعي الوقوف عندها وتحليل أسبابها ، وبيان طبيعتها ، لكنها مع ذلك لم تصل على مرحلة الشيوع الفني نظراً لانحسار هذا اللون في مقاهٍ أدبية ونوادٍ إلكترونية ، وبعض النصوص المنشورة هنا وهناك ، فضلاً عن أن الذائقة الأدبية الإبداعية عند جمهور التلقي ـ بشكل عام ـ ما زالت تتمتع بخاصية تنقيح هذه النصوص وعزلها عن أرشيف الذاكرة ، وإبعادها عن تلويث ما تمّ تحصيله من الإبداع الراقي والمثالي ذي الجلال والجمال .
لا شك إن للجسد ميولاً جنسية تتصف بالفوران والهيجان ، لكن في المقابل أيضاً .. للجسد حاجات ورغبات ومكونات لا يشكل الجنس منها سوى جزء من مجموعة أجزاء ، وإذا ما مُنِحت الميولُ محفزاتٍ للاشتغال فإنها ستعمل على تلوين كل فعاليات الجسد بالإثارة ، وستكون جزءاً مهيمناً على توجهات الفرد وسلوكياته ومنجزاته ، وليس ذلك وحسب ، بل ستسعى جاهدة نحو نقل الممارسة من الواقع الكتابي إلى الواقع العيني ، وهنا يقع المحظور !! .
ما نريد قوله : إن التعبير عن هذه الميول من خلال الكتابة الآيروتيكية يضفي ظلالاً على النصوص ، ويطلق غريزتها ، لتحقيق وظيفة التواصل مع المسكوت عنه عند المتلقي ، وقد يجر ذلك إلى تحقيق قصدية هذه النصوص في نشر الرذيلة والإباحية ، والقفز على حصون الدين والأعراف ، وتجاوز السُّنن المنظمة لسلوك الإنسانية ، وستحمل هذه النصوص جريرة الفُحش ، وخدش اتزان الفرد كلما توالت القراءات ، وتنوعت التأثيرات .