من داعش إلى الوثنية / محمد أمير ناشر النعم
2015-07-23
كنا نقرأ في كتب التراث أن أعرابياً قرأ سورة النصر أمام الحجاج فقال: ورأيت الناس “يخرجون” من دين الله أفواجاً، فقال له الحجاج: ويحك يدخلون في دين الله أفواجاً! فقال الرجل: ذلك في عهد من سبقك، أما في عهدكم أنتم فيخرجون من دين الله أفواجاً.
ولو تأملنا أفعال الحجاج وقارنّاها بأفعال داعش اليوم لحكمنا أن هذه القصة إنما سيقت على سبيل التندّر والفكاهة، فعلى الرغم من بطش الحجاج وسفكه للدماء فإنه لم يقتل باسم الله، ولم يذبح نصرةً للدين، ولم يصلب تمكيناً للشرع القويم، ولم يرجم إحياء لسنة سيد المرسلين، ولكنه فعل بعض ذلك باسم الحكم والملك والسياسة فرضاً للطاعة، وبسطاً للإذعان. أما داعش فكان شعارها ودثارها وهي تقوم بكل موبقاتها: (لله وبالله)، ومن هنا فقد كانت بحق أولى وأجدر أن تُخرِج الناس من دين الله أفواجاً، بعد أن باتت تفهق عنتاً وإصراً واعوجاجاً، في تمدد شبيه بتمدد الإعصار الذي يضرب بلا شفقة ولا هوادة، فلا يخلف وراءه على المستوى المادي سوى خليط من التقويض والتدمير والتهشيم، وعلى المستوى المعنوي سوى الحيرة والذهول واليأس وفقدان الرجاء. إعصار يضرب كل ما في طريقه: التنوع والتعدد والمرأة والطفولة والطبيعة والفنون والآثار، وبكلمة مختصرة: الحياة. ويكفي ههنا أن نذكر أنه منذ إعلان هذا التنظيم عن خلافته في 28/6/ 2014 وحتى 28/5/2015 تم توثيق إعدام 1511 مواطناً مدنياً بينهم 23 طفلاً، و32 امرأة. ناهيكم عمن جُلد وقُطع وسُجن وعُذِّب.
لكن وسط كل هذا الركام كان هنالك أثر يفعل فعله ويفرض نفسه ... بدأنا نلمس بوادره ومظاهره هنا وهناك، ولعل هذا الأثر هو أهم آثار داعش المعنوية حيث حفزت الأذهان للتفكير وإعادة النظر في ممارسات المسلمين في عصر الإسلام الأول، وبمقايستها وفهمها بناء على ما يقوم به الداعشيون، وبما يمدوننا به من إيحاءات وظلال. ولعل أول ما يتبادر للذهن في إعادة النظر الآنفة الذكر مقولتا: (جئتكم بالذبح)، و(نُصرت بالرعب) اللتين قالهما النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
ورغم الفارق الهائل في الممارسة بين ما قام به النبي الكريم وبين ما تقوم به داعش فإن تأكيد داعش المستمر بأنها متأسية ومقتدية وملتزمة بالنهج المحمدي الأصيل يمحي هذا الفارق ويمحقه، ويجعل البحث فيه والحديث عنه لا جدوى منهما، لأن الدماء التي تراق إعداماً وذبحاً وحرقاً ورجماً وجلداً ستبقى أمضى أثراً، وأقوى دلالةً، من كلماتنا الباحثة عن هذا الفارق، ومن تفسيراتنا المتلهفة لاقتناصه.
من هنا لم يكن ليستوقفنا أن تعلن ثُلات من الناس ولا سيما من العراقيين والسوريين كفرانهم بكل دين، ورفضهم كل إله، وازدراءهم كل لحية، لكن ما استوقفنا فعلاً هو تلك التعليقات التي بتنا نقرأها في مواقع التواصل الاجتماعي لأناس عاديين يكشفون فيها عن حنينهم للوثنية، وتطلعهم لعودة أيامها، وسأقبس نماذج منها، ممن أقدِّر فعلاً أنها كانت ردات فعل على داعش، وليست سابقة عليه.
يكتب أحد الشباب من سورية: (ما أجمل الكعبة وحولها 360 صنماً يعبد من دون الله، أو يُعبد مع الله، من دون أن ينكر أو يعيّر أو يتعالى أحد على أحد)!!
ونقرأ عند آخر: (هلكوا ديننا... لعنوا سمانا... دمروا أرضنا... أحتقرهم... وأحتقر ربهم.. وأعلن حبي وولهي بآلهة الحب والجمال والخصب والعطاء).
ويكتب آخر من العراق: (إن كان ربك يأمرك بقتل الآخرين فاذهب أنت وربك إلى الجحيم، وإن كان يأمرك باحترام الآخرين فأهلاً بربك ولو كان حجراً).
ونجد رابعاً يسمي نفسه نكاية بداعش (عبد عشتار)، ونقرأ عند خامس: (“لا تشتم إلهاً لا تعبده”. كُتبت هذه العبارة على أحد المعابد في تدمر السورية باللغة الآرامية التدمرية. هذه العبارة التي كُتبت قبل ألفين وخمسمئة عام تقريباً، لم يكتبها عبثاً أجدادنا التدمريون الذين تباهوا بتعدد آلهتهم، بل إنهم عندما حفروها على الصخر أرادوها رسالة لتقرأها كل الأجيال التي كانت ستولد على أرض سورية الجميلة الملونة).
ويشارك سادس: (“حطّم سيفك، وتناول معولك، واتبعني لنزرع المحبة والسلام”. هذه المقولة المذهلة هي جزء من التعاليم السورية التي وجدت في أوغاريت. إنها نموذج لعقل السوريين الذين يؤمنون بالمحبة والتسامح، بنفس لوح الفخار الذي كُتب عليه: “لا تحتقر إلهاً لا تعبده”).
إنّ هذا التوق إلى الوثنية ورموزها، وتصويرها حامل رسالة البِشر إلى البشر، يحقق عدة غايات:
فأمام اضطهاد المرأة الفظيع (الرجم... الجلد... السبي... الاغتصاب... ) يلبي الحنين إلى الوثنية رد اعتبار للمرأة، لأنها تغدو في ذلك العالم الوثني آلهة جنباً إلى جنب مع الإله...
وأمام تصحر الذوق الفني ومعاداة كل شكل من أشكال الفن (تصاوير، منحوتات، زخارف) يغدو الحنين إلى الوثنية تعبيراً عن تقدير عال للذوق الفني، وإعادة اعتبار لما تمّ تحطيمه ونسفه وذروه مع الرياح.
وأمام العبث بموارد الطبيعة، والتهتك في استخدامها يعني الحنين إلى الوثنية تدعيم الوعي البيئي، حيث يُنظر إلى “الطبيعة” و“الأرض” باعتبارهما إلهاً حياً وقوة حياتية.
وأمام احتقار الآخرين، وازدراء أديانهم تغدو الوثنية منجاةً من الإيغال في اقتحام خيارات الناس، وتأكيداً على الاستقلال الشخصي، فما يؤمن به المرء ويمارسه بوصفه وثنياً يعود إليه وحده على المستوى الفردي.
إذن: هنيئاً لداعش.. وهنيئاً لتمددها... ومرحى لشدوها الذي حفز الناس على الرقص بطرق كلاسيكية وأخرى مبتكرة.
عن صحيفة ضوضاء