مَن الخالق ومَن المخلوق؟! / علي حرب
2015-07-26
ما هي طبيعة العلاقة بين الانسان والله؟ هل الانسان هو عبد لله أم وارثه وخليفته؟ أم كلا الأمرين معاَ؟ ألا يوجد احتمال آخر؟ للدكتور عبد النور بيدار (فيلسوف فرنسي من أصل مغربي. وقد اعتمدت في مناقشتي لآرائه على نصّين له: الأول دراسة “الاسلام والحداثة ومستقبل الانسان”، مجلة اسبري (Esprit)، عدد آب/أيلول 2009. الثاني حوار “أن تحب البعيد كما تحب نفسك”، أجرته معه مجلة “العلوم الانسانية”، عدد كانون الثاني، 2015) قراءته في المسألة، تفسيراً وتأويلاً، مفادها أن الانسان هو خليفة لله ووارث لا عبد أو خادم. مستنده في ذلك مجموعة الآيات القرآنية التي تتحدث عن خلق آدم ومكانته ودوره، والتي وردت في صيغة حوار شهير جرى بين الله وملائكته. فقد اعترض هؤلاء على ربّهم، عندما أعلن مشيئته بجعل آدم “خليفة في الارض”، مع علمه انه “يُفسد فيها ويسفك الدماء”. لكن الله قمع ملائكته، أول الأمر، ثم عاد واحتج عليهم، بعدما علّم خليفته أسماء الأشياء كلها، بأن آدم أفضل منهم لأنه يعلم ما لا يعلمون. لذا أمرهم بالسجود له، فأذعنوا للقرار، إلا إبليس الذي أبى واستكبر، اذ شغّل عقله في مواجهة الأمر الإلهي، فتمّ لعنه وإقصاؤه. تلك هي المفارقة الفاضحة في رواية الخلق والنشأة. فالله يصطفي مَن يشاء ويؤتي المُلْك مَن يشاء، كما أنه يُعزّ مَن يشاء ويذلّ مَن يشاء.
يرتّب صاحب المقولة على تأويله نتائج فكرية عدة، أهمها أنه يعتبر أن مفهوم الخليفة يفتح الإمكان لمعالجة الكثير من المشكلات المزمنة التي تعاني منها المجتمعات الاسلامية، سواء ما اختص منها بعلاقة المسلمين بهويتهم، أو بالغرب والحداثة، أو ببقية الديانات التوحيدية، أو بالمشكلات المعاصرة التي تعاني منها المجتمعات البشرية عموماً.
التهويم النخبويالسؤال الذي تثيره مثل هذه الأطروحة: هل هي حقاً تفتح أمام الفكر، الإمكان الواسع لتركيب حلول لمشكلات وجودية، تاريخية أو راهنة، لا تزال البشرية عاجزة عن الوصول في شأنها الى إجابات مرضية أو حاسمة؟إن تاريخ الفكر البشري، بعقائده وفلسفاته، لا يجعلنا نتفاءل كثيراً، أن في إمكان أطروحة فلسفية، أو تأويل لنص ديني من جانب النخب المثقفة، أن يفتح المستغلق لحلّ المعضلات المستصعية على الحل.نحن نعرف أن كانط، فيلسوف التنوير، كتب في نهاية القرن الثامن عشر محاولته في بناء “السلام الأبدي” بين الأمم. بعد قرن ونصف قرن شهدت أوروبا، ومعها المانيا تحديداً، ما شهدته من الحروب المدمّرة التي راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر.واذا كانت اوروبا، قد عادت بعد ذلك الى رشدها، فليس بسبب عودتها الى كانط والى عقلانية عصر الأنوار، بل بسبب ما خلّفته الحروب من الدمار المتبادل، ومن الخسائر الفادحة في الأرواح والأرزاق. ثمة سبب آخر هو خوف الأوروبيين، يومئذ، من بروز قوى جديدة على المسرح العالمي، تمثلت في أميركا وروسيا كقطبين عالميين وقوتين عظميين.
لا أعتقد أن استثمار الآية القرآنية سيقدّم حلولاً سحرية للمجتمعات الاسلامية التي غرقت، منذ رحيل النبي، صاحب المشروع ومؤسسة الشريعة، بالحروب والانشقاقات. اليوم تبدو هذه الحروب أكثر شراسة من ذي قبل، بفعل الذاكرة المشحونة والهويات الموتورة.
هذا ولا أغفل، هنا، الفارق بين محاولة كانط فيلسوف النقد التنويري، وبين فيلسوف التنوير الإسلامي الدكتور بيدار. فالتنوير هو خروج المرء من قصوره واستخدامه لعقله، بكل جرأة فكرية وجدّة معرفية، بعيداً من أي وصاية، من أي سلطة أتت. لذا هو يعني إزاحة الله كلياً عن المسرح، بعدما أزاحه ديكارت نصف إزاحة، إذ هو استبعده ثم عاد إليه، عودة رجعية، تشبه عودة الرجل إلى زوجته، بعد تزويجها من رجل آخر، أي عاد إليه، بعد تمزيق رداء القداسة، وعذراً من النساء على الاستشهاد بحكم شرعي صادر عن عقلية الفحولة وعقدة الذكورة.
أما مقولة خليفة الله، فهي تبقي الخيمة اللاهوتية، لأن الخليفة والوارث، وإن غيّر وبدّل، إنما يحافظ على ما تركه المؤسس من إرث يتجسد في تعاليم الدين وأحكامه. بذلك نعود إلى ما قبل تنويرية كانط، بل إلى ما قبل تنويرية المعري.
الخطاب وما يحجبه
تثير أطروحة الخليفة إشكالية التعامل مع الخطاب الديني. هل نقرأه كما يقدّم نفسه؟ أم نحاول أن نقرأ فيه ما لم يقرأ؟
فالنص يقدم نفسه بوصفه كلاماً منزلاً من لدى كائن أسمى قادر على كل شيء، ويحيط علماً بكل شيء، هو الذي خلق العالم ونزّل الكتب على الأنبياء والرسائل بما تتضمنه من العقائد والشرائع لتنظيم شؤون الحياة على الأرض.
أكثر الفلاسفة لا يقتنعون بالأطروحة الدينية حول تفسير العالم. إذ هم يتعاملون مع الله كرمز وصورة، أو كمعنى وقيمة. حتى الفلاسفة القدامى، الذين سمّاهم الغزالي “الفلاسفة الإلهيين”، كأفلاطون وأرسطو والفارابي، لا يأخذون بفكرة الإله الخالق الذي هو أقرب إلى صورة الأب والربّ أو المعلّم والمرشد.
لذا، ليس الله، عندهم، سوى مبدأ عقلاني لتفسير العالم، كما تشهد مقولات الصانع، والمحرّك الأول، وواجب الوجود. في هذا المعنى، ليس الله سوى عبارة أو كلمة، ككلمة “التاريخ” أو “الدهر” أو “العقل” أو “الانسان”، أو حتى “الشيطان”. إنه شخص مفهومي أو كائن رمزي يلعب على المسرح إلى جانب الإنسان والشيطان.
وإذا كان هذا شأن الفلاسفة القدامى، في فهمهم الظاهرة الدينية، فكيف ونحن اليوم نفكر ونكتب أو ندرس ونحلل، بعد كل هذه الفتوحات الفكرية والثورات المنهجية التي أسفرت عن طرائق جديدة في تحليل النصوص وقراءة الخطابات، تتعدى منطوق النص ومقاصد المؤلف، كما تتعدى حقول الدلالة واحتمالات المعنى، إلى ما يتأسس عليه النص ويحجبه، في آن واحد، من البداهات والآليات أو الألاعيب والمخاتلات.
لذلك نتائجه الفكرية ومفاعيله الدلالية من غير وجه:
1 – أن يكون الله مجرد مبدأ للتفسير أو مجرد شخص مفهومي، معناه أنه غير موجود، أي أنه من خلق الإنسان واختراعه. بذلك تنقلب الآية، ويصبح الإنسان، ككائن موجود وحيّ، هو الخالق والصانع، فيما يمسي الله، كمرجع غائب، من مخلوقات الإنسان ومنتجاته من الرموز والصور أو المعاني والقيم أو الأحكام والقوانين. بذلك تنتفي الحاجة إلى الكلام على الخليفة والعبد معاً.
فعلاً، ما الحاجة إلى مقولة الخليفة، إذا كنا نريد الوصول في النهاية إلى عالم بلا إله، إلا إذا كنا لا نعرف معنى ما نقول، أو إذا كنا نقوم بتلفيقة نظرية تجمع بين اللاهوت الإسلامي والفضاء الحداثي.
لعبة السلطة
2- لهذا الاختراع اللاهوتي بالطبع دلالته ووظيفته. نحن إزاء صيغة لحكم البشر لا تمارَس بالأصالة وبصورة مباشرة، بل مداورةً وبالوكالة. وذلك بأن تعزى السلطة لله لا للبشر. فإنه أهون على الواحد، من الناس، كما أدرك ذلك ابن خلدون، أن يخضع لمرجعية غيبية، غير مرئية، تُخلع عليها صفات القدرة والعلم والكمال، ويُعزى إليها خلق الإنسان والعالم، من أن يخضع لنظيره أو لشبيهه ولو كان أخاً أو صديقاً.
ذلك هو سرّ المشروع الديني. نحن إزاء لعبة شيطانية فكّر فيها أول الأنبياء. وأنا أستخدم المفردة هنا بالمعنى الايجابي والعقلاني، إذ الشيطان يرمز إلى معارضة الأمر بالعقل. قوام هذه اللعبة إبقاء الورقة مستورة، بأن يُعزى حكمُ الواحد غيرَه إلى غائب سمّوه “الله”. هذا عند مَن آمن وصدّق، كما هو شأن معظم الناس في المجتمعات الدينية. إلاّ من اتّبع عقله، وليس هواه، ولم يصدع بالأمر، كما كان موقف الفلاسفة وأعلام الفكر النقدي، القدامى، كالمعري والرازي وابن الراوندي، وسواهم ممن أخضعوا الدعوة للنقد العقلاني، الجدّي أو الساخر.
خرافة العبد
3- النتيجة الأخرى للفكرة القائلة بأن الله هو مجرد شخص مفهومي اخترعه الانسان، أن الانسان لم يكن عبداً لله، كما نحسب بتأوّلنا للآيات التي تتكرر فيها مقولات العبد والعباد والعبيد. فالقرآن، كما هو معلوم، “حمّال أوجه”، كما قال القدماء، مما يجعله معرضاً لما التبس وتشابه أو تعارض وتناقض من السلع الفكرية والمنتجات الرمزية، كما تتمثل في العقائد والفرائض أو الأحكام والقواعد أو الرؤى والمواقف.
تعريب الله
هنا ايضاً لا يجدر بنا أن نؤخذ بالكلام كما يقدّم نفسه. فالخطاب مخادع، مخاتل، بقدر ما يتناسى ما يتكوّن منه من العناصر أو يحجب ما يتأسس عليه من البداهات. فما يقوله الخطاب هو أنه من ربّ العالمين الى عباده المتقين. ولكن ما يخفيه ولا يقوله، ومن فرط سطوعه بالذات، هو أنه خطاب بشري، نطق به عربي، باستخدام كل تقنيات البلاغة العربية وأساليبها البيانية والجمالية.
نحن إزاء تعريب للفكرة الدينية، الموروثة من الديانة الابرهيمية، تجلى في إعادة ابتكار فكرة الله، وفي صوغ مشروع ديني جديد، خرج به العرب الى العالم، الذي تمّ فتحه والسيطرة عليه باسم الله والقرآن.
مَن نطق بهذا الخطاب قد مارس دور الخليفة والوارث، منذ اللحظة الاولى، ولم نكن نحتاج الى مَن يأتي، بعد كل هذه القرون، لكي يقول لنا بأن المطلوب أن يلعب الانسان دور الخليفة والوارث. ذلك أن صاحب الرسالة ومَن نطق بالدعوة، لم يكن عبداً، البتة، بل كان خليفة بالمعنى الرمزي والمفهومي، بقدر ما كان خالقاً متألهاً بالمعنى الوجودي. هكذا، فما نحسبه جديداً هو قديم قدم القرآن نفسه.
مخاتلة النص
إذا كان النص يخفي حقيقته وسلطته، فمقولة القائل بأنه رسول الله أو خليفته أو حتى عبده، إنما تخفي حقيقتها وسلطتها، أي كون الخليفة أو العبد يتماهى مع الله ويقوم مقامه، هذا إذا شئنا أن نعرف مبنى الأقوال ومآلاتها.
هذا شأن صاحب كل دعوة، أكانت دينية أم علمانية. هذا شأن الماركسي الذي يدعو الناس الى التحرّر أو يدّعي بأنه يعمل لتحريرهم، لكي يستبدّ بهم، فيما هو يتصرف بوصفه أوْعى وأعرف وأوْلى منهم بأنفسهم. وإلاّ كيف نفسر المآلات الاستبدادية لمشاريع التنوير والتحرير؟!
هكذا لم نكن نحتاج الى تأويل آية السجود الى آدم من طرف الملائكة، لكي نبرهن الآن على أن الانسان ليس عبداً بل خليفة، وأن عليه أن يتصرف على هذا الأساس.
المخلوق الإلهي
إذا كان القرآن يتحدث عن البشر كعبيد، فهذا هو الوجه الظاهر والخادع، أي المَقُول والمنطوق به. لكن الوجه الآخر المنسي أو المستبعد، ربما من فرط وضوحه وبداهته، هو تعظيم الانسان وتمجيده أو تكريمه، كما تشهد آية السجود لآدم، وكما تشهد خصوصاً أحاديث الصلاة على النبي من لدن الله وملائكته أجمعين الى يوم الدين. وما ذلك سوى تعظيم الانسان لنفسه. وقديماً قال ابن عربي: “ما وصفناه بوصف إلا كنا نحن ذلك الوصف”، بمعنى أن أوصاف الله هي صفات الانسان وقد خلعها على مخلوقه الرمزي: الله.
لم يكن الكل آلهة، بالطبع، بل القلة ممن كانوا يسمّون الخاصة والصفوة. الشاهد أن المجتمعات الدينية، والاسلامية منها، بشكل خاص، كان يقودها مَن تألّه وقُدّس سرّه من الأنبياه والعلماء فضلاً عن الساسة، وكلهم حلّوا محلّ الله واستبدّوا باسمه أو ضربوا بسيفه أو مارسوا الإرهاب بدعوى تطبيق شريعته. بل هناك من ادّعى الحلول في الله، كما فعل المتألهة من الصوفية الذين كشفوا اللعبة وفضحوا الخديعة، لكي يقلبوا الآية ويصبحوا آلهة.
هذا ما يفعله اليوم الجهاديون، منذ ظهورهم على المسرح. لقد تماهوا مع الله وأنبيائه أو مع صحابته وخلفائه، وحلّوا محلّهم كآلهة جدد يبثّون الرعب ويسفكون الدماء أو ينشرون الخراب في العالم.
موت الانسان
أصل من ذلك الى فكرة “موت الله” التي يخشى منها ذوو النزعة الانسانية على إنسانيتهم. هل هذه الفكرة قاتلة، أم فكرة الخلافة الخادعة أم مقولة العبودية المقنّعة، أي ما أنتج كل هذه البربرية التي تصدم، اليوم، العالم، كما تفاجئ المسلمين الغرقى في سباتهم العقائدي، من فرط العمى والجهل والتعصب؟ فها هم خلفاء الله الذين حلّوا محلّه، يستخدمون أسماءه وصفاته، لينشروا الرعب والدمار في العالم (ها هي آثارهم البربرية قد وصلت الى باريس، حيث يقيم الدكتور بيدار ويعمل).
هكذا فإن مقولة الوارث تبدو فكرة قديمة استُهلكت وما عاد مجدياً إحياؤها بعدما سقط القناع وانكشفت اللعبة: استعباد أناس لآخرين باسم ربّ العالمين.
هذا ما أنجزته قبل قرنين الثورة الفرنسية، بكسرها سلطة الكنيسة على الدولة والمجتمع، وإقامة دولة مدنية علمانية. أعتقد أن المجتمعات العربية في طريقها لصنع حريتها. وما سقوط المرشد في مصر، وسقوطه في السودان، ثم في تونس، سوى شواهد هي آيات انسانية حقيقية للتحرر من الإرث اللاهوتي، بمؤسساته وسلطاته، سواء أكان ذلك بالأصالة أم بالوكالة.
الوحدانية والديموقراطية
من هنا تراجع الدكتور بيدار عن رأيه، كما قرأتُ الحوار الذي أجرته معه أخيراً، مجلة “العلوم الانسانية”، إذ هو لم يتطرق الى فكرة الخلافة أو الوراثة. لعله اكتشف هشاشتها وتهافتها. لذا تحدث عن “الانسان الخالق”، الذي يحلّ محلّ “الآلهة ذوي القدرة الفائقة”.
الكلام على “الآلهة” بالجمع له دلالته. إذ يعني خروج بيدار من فلك الديانات التوحيدية، باستخدام مصطلحات العالم الوثني. حسناً نفعل ذلك، اذا كنا ندرك معنى القول، لأن الوثنية، التعددية، أتاحت ولادة الديموقراطية في المدينة اليونانية. كما أن الوثنية الجاهلية التعددية، خلقت مساحة من الحرية في مجتمع مكة. هذا البعد التعددي هو ما أتت لجبّه عقيدة التوحيد، كما قضت الإيديولوجيات الشمولية على هامش الحرية الذي اكتسبته المجتمعات العربية من انخراطها في العالم الحديث. تلك هي المفارقة. فالوحدانية هي ضد الديموقراطية، وليس مصادفة أو جهلاً أن معظم الاسلاميين هم أعداء الفلسفة والديموقراطية والعلمانية، كما يعلنون ويؤكدون.
قد يتراجعون لأسباب سياسية فيقبلون بالديموقراطية للوصول الى السلطة والقبض عليها، ولكن لإلغائها أو استثمارها لمصلحة الحاكمية والخلافة والولاية الفقهية.
القداسة والسيادة
السؤال هنا: هل الانسان يهوى حقاً القداسة؟ وهل هو بحاجة الى صنعها أو توليدها من داخله بعد وراثته الله، أو بعد انسحاب الله من على المسرح، وبقاء الانسان وحده يحتل الواجهة على خط الكائن؟!
لا أعتقد ذلك. فالانسان يهوى حريته واستقلاليته كما يحب أصلاً نفسه. والمجتمع الذي سمّاه الاسلاميون “الجاهلي” يقدّم لنا الشاهد. فهو لم يكن يتعلق بالقداسة والتعالي. أعتقد أن “المروءة” كانت هي رأس القيم في العصر الجاهلي وليس القداسة. من هنا كان الجاهلي يصنع آلهة أصناماً ثم ينقلب عليها ويعمد الى تحطيمها.
في كل حال، القداسة هي مصدر لإنتاج العنف، كما تشهد الحروب البربرية بين أتباع الكتب والعقائد المقدسة، أكانت قديمة أم حديثة. من هنا كان الجاهليون وقبلهم البدائيون، أكثر اقتصادا في ممارسة العنف من المجتمعات الدينية التي أثبتت أنها أكثر توحشاً ممن كنا نسمّيهم “الشعوب الوحشية”.
في هذا المعنى، لست مع مارسيل غوشيه بقوله إن الانسان بات “سيد نفسه” من حيث موقفه من الشأن القدسي. ثمة خفة في هذا الرأي. فالقداسة هي أصلاً ضد السيادة. لأنها تبنى على الجهل والحجب في ما يخصّ علاقتنا بالواقع والعالم، بقدر ما تمارَس بوصفها خضوعاً أو عبادة تجاه ما نقدّس أو مَن نقدّس. بل أذهب الى العكس من ذلك، لأقول بأن أزمة العالم الحديث، إنما مصدرها أولاً قداسة الانسان، وثانياً تأليه العقل، وثالثاً عبادة الحداثة بمختلف شعاراتها.
هذا الثالوث هو الذي أفضى الى تلغيم المشروع الحداثي التنويري وبلوغه مأزقه الحضاري. لذا لا أعتقد أن ما تحتاج اليه البشرية هو معاني القداسة والتعالي بنقلها من المجال اللاهوتي الى المجال الناسوتي.
لنتأمل في النهايات: فالعقل يسفر عن خرافاته وأوهامه، والتنوير يتكشف عن سذاجته وعتماته، والتقدم أفضى الى مجتمع المخاطرة وإنتاج الكارثة، أما تقديس الانسان فهو أسّ المشكلة، لأن الانسان لا يحسن سوى انتهاك ما يدعو اليه. ولا عجب، فمَن يقدس شيئاً يقع ضحيته أو يستبد بواسطته.
هذا ما يتجسد اليوم في الأزمات المتناسلة التي تفاجئنا، من حيث لا نعقل ولا نحتسب، على غير مستوى وصعيد: من أزمة الديموقراطية الى الانهيارات المالية، ومن الفضائح الخلقية الى الكوارث البيئية، ومن انهيار المشاريع الإيديولوجية الى عجز الأحزاب السياسية.
فها هي أوروبا تغرق في مشكلاتها بعد أربعة عقود كانت عناوينها تباعاً هي العقل، والتنوير، والتقدم، والتحرّر. بل هي دخلت القرن الحادي والعشرين مع شيء من القلق على المصير.
ما يقال على أوروبا، يُقال أيضاً، وخصوصاً، على المجتمعات الاسلامية، التي لا تحتاج الى ربطها مجدداً بقضية “الله” من طريق استخلافه، ولكن مع إبقاء معاني الألوهة والقداسة. ما أراه هو العكس: إن المجتمعات الاسلامية تعاني من فائض قدسي بات مصدر عجزها وتخلّفها وخرابها. أياً يكن، ما يحدث في هذا العالم، الذي يزداد تشابكاً وتعقيداً وعولمة، يشهد على فقدان الانسان سيادته على نفسه وعلى أشيائه، بقدر ما يكشف عن هشاشته ويفضح عجزه عن السوس والتدبير، كما تشهد الأزمات المستعصية والمشكلات المتناسلة.
نهاية الانسان
الأمر الذي ينسف مقولة الانسان “سيد الطبيعة ومالكها”، كما ينسف مقولة الانسان المتأله الذي كرّمه الله وسخّر له كل شيء. بذلك نشهد نهاية الانسان، في وجهيه اللاهوتي والناسوتي، أي نهاية المشاريع الدينية والعلمانية.
هذا ما أدركه نيتشه في القرن التاسع عشر، عبر مقولته “موت الله”، محاولاً تشخيص أزمة الانسان اللاهوتي الذي انتهت به مشاريعه الى “العدمية”، ولا غرابة. فلا ينتهك المبادئ والقيم أكثر من حرّاسها. وهذا رأس الكنيسة الكاثوليكية، البابا فرنسوا، يشهد الآن لنيتشه بقوله إن الكنيسة، التي هي أهم مؤسسة روحية في العالم الغربي، باتت خاوية، مريضة، وبحاجة الى الإصلاح، اذا كانت لا تريد أن تتحول الى مجرد ديناصور عقائدي.
هذا ما أدركه، في القرن العشرين، ميشال فوكو، من جهته وعلى طريقته، عبر مقولته حول “موت الانسان”، حيث كشف في حفرياته وتحليلاته، المعرفية والأصولية، ما تنطوي عليه مقولات الأنا المتعالية والذات السيدة أو المالكة، من الحجب والخداع أو الوهم والزيف أو الجهل والنسيان.
حقق فوكو قفزة جديدة، بنقده الانسان مباشرة، بعيداً من “وهم الله”، فكان بذلك مفكراً استثنائياً جدّد في عالم الفكر، في الحقل والرؤية كما في المنهج والعدّة. والعجب وصفه بـ“المعلّم الصغير”، قياساً على سلفه نيتشه، وخصوصاً اذا كان الذين يستخدمون الوصف لم يأتوا بالجديد من بنات فكرهم، سواء تعلق الأمر بفكرة الخلافة التي هي فكرة قديمة، أو بفكرة الأخوة التي كانت أحد شعارات الثورة الفرنسية، والتي حاول إحياءها ريجيس دوبريه في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه: “الأخوة”.
السؤال الذي يطرح على دوبريه، قبل بيدار، كيف نفسر أنه بعد أكثر من قرنين على طرح شعار “الأخوة” تزداد الهوة بين الأغنياء والفقراء، وبالذات في فرنسا صاحبة الثالوث الشهير: أخوة، مساواة، حرية؟!
لنستفق من سباتنا الانسانوي. فما حدث ويحدث بعد نيتشه أو بعد فوكو، يعطي صدقية لموت الانسان. بالطبع لم يمت الانسان ككائن عيني يفسد ويخرّب، وإنما يطال الموت المعنى والقيمة، تماما كما أن موت الله، وبصرف النظر عن وجوده أو عدمه، إنما يقع على الصورة والرمز. في كلا الوجهين، ما يحدث يسجل موت الانسان القدسي والروحاني أو المتعالي والمثالي.
واذا كان نيتشه قال في زمنه “نحن نقتل الله، أنا وأنت”، فالله كاختراع بشري، يُقتَل الآن كل يوم، بل كل لحظة، مع كل بيت ينهدم على ساكنيه، ومع كل قذيفة تسقط على الأطفال لتمزق أجسادهم، ومع كل فتاة تسبى وتغتصَب باسم الله. هذا ما يعنيه موت الانسان، بعد موت الله: لا يحسن الانسان سوى انتهاك ما يدعو إليه، بقدر ما يصل الى خلاف ما يفكر فيه ويخطط له، أو الى عكس ما يريده ويسعى إليه.
المشكلة والحل
من السذاجة أن نعتبر أن إسلام التراث سوف يساهم في تغيير المعطى الوجودي لكي يفتح أفقاً للمعنى أمام الحداثة المأزومة، وذلك بأن ينفخ من روحه في القيم الحديثة بغية تجديد حيويتها.
من السذاجة أن نتوهم أن فكرة وراثة الله سوف تنقذ الانسانية المعاصرة من ازمتها الجذرية، عبر تحرير الإمكانات العليا للفرد، من نزواته البدائية، كما تتمثل في متعته الجنسية والاستهلاكية، بجعله يتعلق من جديد بقيم القداسة والعظمة أو السمو والمجد.
فالتاريخ الاسلامي يشهد بأن الناطقين باسم الله، عبيداً أكانوا أم أسياداً، كان همّهم أن يحيوا الحياة الدنيا كفردوس قبل اليوم الموعود، الذي هو بمثابة شيك بلا رصيد، عند مَن تعتريه الشكوك والوساوس التي لا يعرى منها احد. لذا، أقاموا أمبراطوريات للجواري وامبرياليات مالية، كما يشهد عصر هارون الرشيد الذي يتباهى به المسلمون. وها هم أحفادهم النجباء يشرّعون، اليوم “جهاد النكاح” الذي يمارسه الجهاديون والجهاديات، بما يشبه الفحش والعربدة، “نصرة للشريعة” السمحاء.
وهكذا، فإن ما نحسبه الحل هو المشكلة بالذات. فاذا كانت الحداثة تشكو من شيء، فإنها تشكو من إرثها اللاهوتي والديني الذي يشهد اليوم على اعتلاله وخرابه، في المسيحية وفي الاسلام. لذا، ما نحتاج اليه هو بناء علاقات مغايرة جديدة، بصوغ مفاهيم وقيم جديدة.
تترتب على هذا التشخيص للواقع البشري ثلاثة أمور:
الموقف التنويري
1 - أن نحمل المسؤولية عن أنفسنا عما نصنعه بعقولنا وايدينا، فلا ننسبه الى مرجع غيبي، خارجي. إن العالم لم يصنع من دون الانسان، ولا في يوم من الأيام، لأن الفرد هو صانع حياته واجتماعه وعالمه، وإن جهل وأنكر ذلك. مرة أخرى، هذه بداهة تنويرية محتجبة من فرط وضوحها، بسبب الوهم والجهل أو التعصب والتقليد الأعمى للسلف.
كفانا ممارسة للزيف الوجودي. فلا ننسب الى إرادة متعالية أو الى مشيئة مطلقة أفعال بشر مثلنا، لكي يتعالوا علينا ويستبدّوا بنا أو يستعبدوننا. استعباد الواحد للآخر موجود قبل الدين وبعده. ولكن مع ظهور الأديان جرى الالتفاف عليه، بخلق كائن أسطوري متعالٍ تمارَس تجاهه طقوس العبادة. لذا، فالانتقال من مقولة العبد الى مقولة الخليفة، لن يغيّر طبيعة الاجتماع البشري الذي لا يتوقف عن إنتاج طقوس العبادة وآليات الاستبداد.
لهذا الزيف الوجودي وجهه الآخر، كما يتمثل ذلك في النرجسية الدينية التي تجرّ أصحابها الى أن ينسبوا الى القرآن ما ينتجه الغربيون من العلوم والمعارف. فيا للفضيحة.
على ضوء ذلك، لا تعود المهمة أن نحاكم أقوالنا وأفعالنا، لكي نعرف اذا كانت تتطابق مع ما بناه أو قرّره الماضون من العقائد والنماذج أو الشرائع والقواعد. بل أن نتعامل مع ما أنتجوه بوصفه خبرات بشرية يمكن العمل عليها وتحويلها، لاستثمارها في صناعة الحضارة الراهنة، عبر الانخراط في ورشة الانتاج الثقافي والعلمي أو التقني والفني.
2- الثاني أن نعيد النظر في مفهومنا للانسان بالتحرر من تهويمات القداسة والعظمة والمفارقة والتعالي والنخبة. إذ هي مصدر ما نشكو منه من مساوئ وأخطار أو كوارث.
لنحسن القراءة والتشخيص. ما يحتاج اليه الانسان هو التحرر من المنازع القدسية والمتعالية، لممارسة التقى الفكري والتواضع الوجودي، بحيث يقرّ بأنه أدنى شأناً ومعنى، بكثير، من حيث علاقته بالقيم والمبادئ والحقوق.
واذا كنا نحرض على أحد مكتسبات العالم الحديث المتمثل في “استقلالية الفرد وحرية الأنا”، فالحرية على مستواها الوجودي، هي أن يفكر المرء ويعمل بحيث لا يستعبده اسم أو أصل وأن لا يأسره مذهب أو نموذج.
3- الثالث هو كسر إرادة القبض والتملّك. فلا أحد يملك العالم، كما لا أحد يمكنه القبض على الحقيقة، أو التحكم بالمآلات والمصائر. مما يعني أنه لا وجود ليقين قاطع أو لحقائق مطلقة أو لحقوق نهائية.
لعبة الخلق
لنحسن القراءة في هذه القضية المركزية: إن علاقتنا بالحقيقة هي علاقة خلق واختراع، بقدر ما هي علاقة صناعة وتحويل أو تركيب وبناء، وهي علاقة لعب واستمتاع بقدر ما هي علاقة حضور وازدهار (هذا ما أذهب اليه، منذ كتابي “النص والحقيقة”، بأجزائه الثلاثة: “نقد النص” 1993، “نقد الحقيقة” 1993، “نقد الذات المفكرة” 1994).
هذا التغير في مفهوم الحقيقة، يعيدنا الى مسألة الخلق. نعم نحن خالقون. لكن مفهوم الخلق ليس بجديد. لذا هو يحتاج الى النقد والتشريح، على سبيل التجديد والتطوير، ومن غير وجه:
- فالخلق شأنه شأن كل عمل أو نتاج بشري، إنما يُستخدم إيجاباً أو سلباً، نفعاً أو ضرراً.
لقد اخترع الانسان مفهوم الله الذي استُخدم إيجاباً، بمعاني الإيجاد والرحمة والتقى والحق، لكنه استُخدم في الأكثر، بمعاني التجبّر والانتقام أو الجزاء أو العذاب. في هذا، يتردد الاسم بين صفاته الحسنى وغير الحسنى، كما يستخدمه في هذا الزمن الجهاديون الإرهابيون، وفي ذلك مصداق لإعلان نيتشه عن موت الله.
لذا بات من المستحيل العودة الى الورقة الدينية، بعد احتراقها، لإحياء النموذج اللاهوتي واستخدامه بصورة إيجابية، من دون اللجوء الى تغيرات جذرية وبنيوية، نجد مثالها في ما يقوم به، الآن، البابا فرنسوا من إجراءات واصلاحات تكسر المحرمات وتخرق الثوابت الراسخة منذ قرون.
- كذلك استطاع الانسان بإبداعاته العلمية واختراعاته التقنية أن يحسّن شروط الحياة ومستوى العيش على الأرض للكثيرين. لكن لذلك مفاعيله السلبية والكارثية، كما تتمثل في تغيير المناخ والتفجيرات النووية والنفايات السامة والأسلحة الفتاكة. هذه حقائق سلبية أنتجها الانسان مقابل الحقائق الإيجابية التي صنعها.
نعم نحن خالقون: لقد اخترعنا الآلهة والجبابرة كما صنعنا الآلات الفائقة، وألّفنا الكتب والنصوص كما وضعنا العقائد والمذاهب، وأنشأنا الدول والمؤسسات كما جنّدنا الجيوش وأشعلنا الحروب، وأعلينا الصروح والبروج، كما نزلنا الى أعماق الأرض بحفرياتنا بحثاً عن الذهب الأصفر أو الأسود. ولكن لا ننسى بأن لأعمالنا واختراعاتنا مساوئها وأخطارها أو كوارثها على الحياة والأرض.
من هنا، نحن مع “الفرد الخلاّق”، المتواضع، الذي يحسن التواصل مع سواه، بقدر ما يستثمر فكره بصورة خارقة وبنّاءة، لكي يصنع مع نظرائه مساحات ولغات وقواعد للعمل المشترك وللعيش معاً (راجع في هذا الخصوص، كتابي “مُلاّك الله والأوطان”، المقدمة، الدار العربية للعلوم/ناشرون، 2014).
الأعلى والأدنى
مَن هذا شأنه، لا يبحث عن الانسان الأعلى، فقد غفل نيتشه عن أن “موت الله” يعني في النهاية نهاية مقولة الانسان الأعلى، وهي التي قادت نيتشه نفسه الى محنته. تلك مفاعيل رفع السقف الرمزي الى أعلى: إما انتهاك القيم على الأرض، وإما قود صاحبها الى الجنون. من هنا كانت مقولتي عن “الانسان الأدنى”.
هذا المصطلح لا يعني فقدان القيمة، بل يعني في الدرجة الأولى الاعتراف بدنيويتنا، كي نُحسن العيش معاً على هذه الأرض. أما رفع السقف الرمزي، نحو الروحانيات والمتعاليات والقدسيات، كما شهدت التجارب في عصر الحداثة، وما قبلها، فمآله إطاحة الدين والدنيا معاً، أي قتل الانسان ومعه آلهته.
من معاني الأدنى أيضاً أن لا نتخلى عن عيننا النقدية، ولو طرفة عين، بحيث لا نركن الى ما يقال ويعلن، وخصوصاً من جانب أصحاب الدعوات والمشاريع، على اختلاف منطلقاتهم واتجاهاتهم.
هذا هو الدرس المستفاد بعد كل هذه الانتهاكات والانهيارات من جانب حرّاس المقدسات أو من جانب حماة الحقوق والحريات. أن لا يثق الانسان بنفسه كثيراً. فالبشر ادّعوا أنهم ألغوا أنظمة العبودية السابقة، السياسية والدينية، لكنهم أنتجوا أشكالاً جديدة من العبودية وآليات السيطرة، كما تجسد ذلك في الأنظمة الشمولية (النازية والفاشية والستالينية والماوية والكاستروية والخمينية) التي جمعت بين تقديس النص وعبادة الشخصية، بين مساوئ الدين ومساوئ الحداثة.
في هذا المعنى، تجرّد فكرة الخلق ومثيلاتها، كالإبداع والابتكار والاختراع، من التهويمات النرجسية التي يغرق فيها المثقفون الذين يعدّون أنفسهم النخبة أو الصفوة أو الكوكبة... وسواها من المقولات التي تنبني على احتقار الناس. فلا أحد ينتج أو يبدع من غير حاجته الى غيره.
فكيف ونحن ندخل اليوم في عصر جديد ننتقل معه من طور العضلة الى طور المعلومة، ومن زمن الطبقة الى زمن الشبكة. هكذا، مع الدخول في العصر الرقمي فُتحت إمكانات هائلة أمام البشر للمعرفة والعمل أو للتواصل والتبادل، تتغير معها علاقتنا بمفردات وجودنا، من غير وجه، وأخصّها بالذكر في ما نحن في صدده، أمور ثلاثة:
- لم يعد الإبداع يقتصر على أهل القطاع الثقافي، من فنانين وشعراء وفلاسفة. فقد فُتحت الفرص أمام الجميع لتشغيل عقولهم واستثمار طاقتهم الفكرية على الابتكار والاختراع، كلٌّ في مجال عمله وحقل اختصاصه.
- لم يعد التغيير شأن قلة من الفلاسفة والعلماء ينتجون ما تحتاج اليه المجتمعات من الأفكار والنظريات أو النماذج والاستراتيجيات. فلا الفلاسفة يقبضون بنظرياتهم على الواقع، ولا الناس تتصرف دوماً وفقاً للحسابات العقلانية. إن أعمال التغيير والبناء هي شأن عام يخصّ جميع الفاعلين الاجتماعيين وكل اللاعبين على المسرح.
الأهم أن مفهوم الحقيقة قد تغيّر، مع ولادة الواقع الافتراضي. لم تعد علاقتنا بها علاقة كشف ومماهاة أو حفر وتنقيب، لما هو موجود، أو عمّا هو منسي أو مهمّش أو محتجب أو مستعصٍ... وإنما هي علاقة خلق وابتكار لأنماط وصعد ومستويات جديدة من الوجود. مما يجعلنا نتجاوز المقاربات السابقة، المعرفية الابستمولوجية، أو الأصولية الجينالوجية، أو الأثرية الأركيولوجية. في هذا المعنى نحن نتجاوز، اليوم، فوكو، أو نيتشه، أو باشلار، لا لكي نعود الى الوراء، بل لكي نحتفظ بما أنجزوه ونبني عليه أو به، بخلق وقائع تفتح سجلات جديدة لعلاقتنا بالحقيقة، بقدر ما تتيح لنا ممارسة هويتنا الوجودية بكل أبعادها العشقية والمعرفية والسياسية والخُلُقية والفنية.
* من كتاب يصدر للتو عن الدار العربية للعلوم/ناشرون، وقد كُتبت هذه المقالة قبل الهجمات الارهابية على باريس في كانون الثاني، 2015
عن جريدة النهار