ملامح الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الخروج الأميركي / حسن منيمنة
2015-07-29
مة من ينتظر سايكس بيكو جديداً، ومن يتوقع دايتون آخر، ومن يعد نفسه بحصة الأسد بعد تبدّل قطعي في تحالفات المنطقة، وثمة من يخشى هذا التبدّل. والكل ينتظر واشنطن، ويستقرئ في تلميحاتها إرهاصات سياسة تكتمل أو لربما اكتملت وإن لم يعلن عنها. والواقع، أن التعويل على استعادة الولايات المتحدة دورها الريادي في المنطقة ليس قائماً على معطيات. غير أن تراجع هذا الدور لا يلغي تأثير واشنطن في مستقبل المنطقة، بل يزيد من خطورته، إذ يرفع أهمية الاعتبارات الداخلية والمرحلية في صياغة الموقف، على حساب الرؤية الموزونة القائمة على تصوّر بعيد المدى.
ما لا شك فيه، أن لا عودة بسورية تحديداً، إلى ما قبل 15 آذار (مارس) 2011، فالنظام القائم أساساً على الترهيب غير قادر، لا بذاته ولا بحلفائه، على إعادة عامل الخوف كأساس لطاعة المواطنين. وهذه الحقيقة كانت واضحة منذ الأشهر الأولى للانتفاضة، قبل أن تنتقل نتيجة المنطق القمعي إلى طورها المسلّح. وعلى أساس هذه الحقيقة، وفي شكل فظّ، انتهج النظام سياسة القتل والتدمير الممنهجين واستدعى البدائل الأسوأ، كسبيل لطرح خيار بين استمراره، ولو إلى آن، وقيام ما يهدد الجوار والعالم. وهذه الخطة، التي اعتبرها من اجتهد في إيجاد الأعذار والتبريرات للنظام، دليل مهارة وذكاء، أكسبت النظام من دون شك بعض الوقت الإضافي، إنما بثمن باهظ ليس فقط من حيث حجم الأضرار الظاهرة في الأرواح والبنى، إنما أيضاً من حيث استنهاض الشروخ الطائفية والفئوية، بما ينفي إمكانية العودة إلى عيش مشترك في المستقبل المنظور.
والحل، إذا كان ثمة حلّ ممكن، هو إذاً في الشروع بتفكير يزعم أنه جديد، لإعادة النظر في سورية على أساس تقسيم يحمي الأقليات من شبح الأكثرية. ولا شك أن هذا الطرح التسطيحي يجد قبولاً في أوساط عدة في الولايات المتحدة، انطلاقاً من مبدئية قائمة ضمن النظام السياسي الأميركي، تنصّ على أهمية صون الأقلية من خطر طغيان الأكثرية، إذ يجري إسقاط هذا المبدأ المنطلق من التمايز السياسي والفكري في الداخل في صورة تلقائية، على التنوع العرقي والطائفي في الخارج. ثم إن الحل التقسيمي يسمح باستشفاف نهاية للصراع، أي صراع، وإن كانت هذه النهاية موقتة وغير واقعية. فالقضية الفلسطينية لها حلّ الدولتين، وإن تغاضى عن إصرار إسرائيل على الاحتفاظ باليهودية والسامرة، أي الضفة الغربية، بوصفها الصلب التاريخي، وفق تصوّرها، للحضور اليهودي في المنطقة، وعن استمرار اندراج المدن والقرى داخل الخط الأخضر في وعي الفلسطينيين الجماعي. والمسألة العراقية، أو ما انتهت إليه هذه المسألة بعد الأخطاء المتتالية، إفراطاً وتفريطاً، من الجانب الأميركي، لها صيغة اتحادية على طريق التقسيم، بأقاليم ينتظر منها أن تجسّد التوزيع المفروض قسراً على عراق أمسى ملتقىً لثلاثة مكونات، شيعي وسني وكردي، متجاهلاً خلافها، وناكراً التعدد ضمن كل منها، ونافياً التداخل العميق بينها. وكلما تراجع اهتمام واشنطن بموضوع ما، زاد التعامل مع الفصل والتقسيم بوصفهما الصيغة المقترحة لمقاربة الموضوع.
ثم إنه لا صعوبة في تسويق مقولة أخرى للبيت الأبيض، وهي التمييز بين «الإرهاب السني» و «الإرهاب الشيعي»: فالأول، وفق قناعة عبّر عنها الرئيس الأميركي في غير محفل، لا عنوان له ولا حدود، فيما الآخر له مرجعية سياسية هي إيران. وبطبيعة الحال، يغيب عن هذا التحليل الاختزالي الترابط العضوي بين الإرهابين، والطبيعة الاستفزازية لكل منهما في استدعاء الآخر. ففيما يطيب للبعض في طاقم الرئيس، الحديث عن حنكة في ضرب الإرهابين أحدهما بالآخر، أو الكلام عن تفويض إيران بمواجهة الإرهاب السني، بما يشغلها وينهكها، فالأقرب إلى الواقع أن الجمهورية الإسلامية والدولة الإسلامية تستمدان العزم والبقاء والتمدّد واحدتهما من وجود الأخرى.
إلا أن هذه القراءة تفرض مستويات من الاهتمام والتركيز وتخصيص الموارد تفوق بكثير ما هو متاح اليوم، وفق التوجه القاضي بالانسحاب التدريجي من الشرق الأوسط، فلا تجد بالتالي القبول. فالمنحى الفعلي في السياسة الأميركية اليوم إزاء المنطقة، هو تبني القراءات التي تتطلب أقل مقدار من الالتزام في كل مرحلة، مع إمكان تعديلها باتجاه رفع درجة الالتزام عند الضرورة وعلى مدى الضرورة، مع التأكيد المتواصل أن أية تطور إيجابي هو نتيجة هذه السياسة، وإن لم يكن الأمر بادياً بوضوح. فالعملية التي تقودها السعودية في اليمن، ساعة يبدو عليها النجاح، تصبح نتاجاً لدعوة الولايات المتحدة لقوى المنطقة إلى الإمساك بزمام أمورها، وإن تعثرت، تواجَه بالصمت وغضّ النظر. وقبلها، حين أمعنت حكومة الرئيس أوباما باللجوء في اليمن إلى قتل الإرهابيين (ومن صادف مروره بجوارهم من غير الإرهابيين) بالطائرات من دون طيار، كانت الإشادة باليمن كنموذج لشراكة بين قوات محلية والدولة العظمى، أما حين انحدرت اليمن بدورها إلى الحروب المتداخلة، فجرى الالتفات إلى غيرها في الإشارة والإشادة.
وليس الغرض من هذا الاستعراض مجرد الطعن بالسياسة الأميركية، بل توضيحها. فهي اليوم سياسة انسحاب، وبالتالي عرضة لدرجة متفاوتة طبعاً، لكنْ خطيرة حتى في أدناها، للتجاذب والمصالح الخارجة عن الموضوعية. ففي حال توافر الطرح الذي يتناغم مع القراءات التسطيحية في واشنطن، ولا يتعارض مع المصالح الآنية والمتوسطة المدى للولايات المتحدة في المنطقة، والذي يقدّم «إنجازات» إضافية للبيت الأبيض التوّاق إليها، فإن لهذا الطرح حظاً في التأييد والتبني أميركياً.
طهران، التي خصصت حكومة أوباما جهوداً مهمة في السعي إلى إيجاد السبيل لتبديل العلاقة بها، تدرك هشاشة الموقف الأميركي، وتسعى بالتالي إلى تقديم الطرح الناجع. وإذ، وخلافاً للتمجيد الاستجدائي لدى البعض للفطنة الإيرانية، لا تقدّم إيران اليوم مشروعاً مقنعاً يستطيع البيت الأبيض أن يتلقّفه، فإن البدائل لم تتشكل بعد، على رغم مرور الأعوام. وبانتظار أن يتشكل البديل، والمسؤولية هنا جماعية عربية وتركية من دون استثناء إيران الدولة، تبقى المنطقة عرضة للمزيد من التآكل والتناطح والأوهام.
عن جريدة الحياة